ملخص الدراسة
نسلط في هذا البحث الضوء على موقع المواطنة في بناء الدولة وضرورتها، وما يمكن أن تواجهها من تحديات، وما تحتاجه من أدوات لتحقيقها، وأين تلتقي وأين تفترق مع ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ ومفهومها في أدبيات بعض حركات الإسلام السياسي في ضوء ما تشهده المنطقة من صراع واضح بين تيارين الأول يدعو لاعتماد نموذج الدولة الغربية الحديثة، والثاني يدعو إلى الحفاظ على هوية الأمة وثوابت دينها من خلال التزاوج مع ما أنتجته الحضارة الغربية.
المقدمة
أولاً: المواطنة كضرورة وحاجة لبناء الدولة المدنية “الحديثة”.
ثانياً: العقبات التي تقف في وجه تحقيق المواطنة.
ثالثاً: المواطنة في فكر بعض الحركات أو الأحزاب الإسلامية “الإخوان المسلمين في سورية – حركة النهضة في تونس – العدالة والتنمية في تركيا”.
رابعاً: قراءة مقارنة بين مفهوم المواطنة في الإسلام، وما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
خامساً: أدوات تحقيق المواطنة ووسائلها.
خاتمة
المراجع
المقدمة
انكب المسلمون في وقت مبكر على كتب اليونان وترجمتها ودراستها، وكانت تلك الكتب كافية لأن تغريهم بعلم السياسة ومواضيعه وتحببه إليهم، إلا أن حظ العلوم السياسية في حركتهم العلمية تلك كان قليلاً، إذا ما قورن بغيرها من العلوم، فلم يقفوا كثيراً عند كتاب “الجمهورية” لأفلاطون؛ أو كتاب “السياسة” لأرسطو(1) بينما مزجوا علوم الدين بما وجد في فلسفة اليونان من خير وشر، خاصة أن الإغريق أول من توصلوا إلى مفهوم المواطنة، وحق الفرد في المشاركة السياسية في مجتمع دولة “المدينة” التي تُعد الممارسة الديمقراطية لأثينا نموذجاً عنها.
أدت التحولات الاجتماعية والسياسية منذ عهد الإغريق وصولاً إلى ولادة الدولة الحديثة في القرن الثامن عشر، وحتى التاريخ المعاصر إلى تطور تدريجي لمفهوم المواطنة وآليات تطبيقه، وتَطور كماً ونوعاً من خلال ارتباطه بالتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية، والظروف المحيطة لجهتي “الزمان والمكان” بكل أبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأيديولوجية والتربوية، ونظراً لآثارها الإيجابية المتمثلة في التفاعل الإيجابي بين المواطنين بسبب الشعور بالإنصاف والمشاركة الفعلية. أجمع كل من دائرة المعارف البريطانية وموسوعة الكتاب الدولي وموسوعة كولير الأمريكية على تعريف المواطنة بأنها:
عضوية كاملة تنشأ من علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات كدفع الضرائب والدفاع عن البلد وبما تمنحه من حقوق كحق التصويت وحق تولي المناصب العامة في الدولة (2).
ويتجلى تعريف المواطنة في الفكر العربي المعاصر فيما ذكره د. برهان غليون في كتابه “نقد السياسة والدين والدولة” بأنها تحالف يقوم على رفض التمييز بين أناس أحرار وممارسة حقوقهم المواطنية بصرف النظر عن درجة إيمانهم. وفي مؤلفات أخرى مثل “مواطنون لا رعايا” لمؤلِفه خالد محمد، و”مواطنون لا ذميون” لفهمي هويدي.
بما أن الفيلسوف الألماني كارل شميت، عدَّ أن مدخل شعوب الغرب إلى الحداثة قد أعطى ثمارها العلمية والسياسية كالمواطنة والديمقراطية، فإن سبيل المسلمين إلى ذلك هو الإسلام لا غيره بسبب جمعه في منظومة واحدة متماسكة بين ضمير الإنسان ونظامه الاجتماعي، بين المادي والروحي وما هو في الدنيا وفي الآخرة.(3)
أولا: المواطنة ضرورة وحاجة لبناء الدولة المدنية “الحديثة”
تعد المواطنة قيمة عليا تُرتب على الفرد حقوقاً وواجبات في إطار علاقة تبادلية يحددها العقد الاجتماعي أو القانون (الدستور) الذي يربط الفرد بوطنه رهينةً لقدرة البناء السياسي على الاستجابة للبناء الاجتماعي الاقتصادي، ومن ثم توافر القدرة لدى المواطن على ممارستها وبالتالي تعزيزها في المجتمع، ويرتبط ذلك بقدرة وسائل الإعلام الحديثة على الاقتراب من قضايا المجتمع وتمثيلها من وجهة نظر الجماهير وليس عبر منظور النظام القائم(4)، لتحقيق تحول المجتمعات نحو الحداثة والديمقراطية الحقيقية، لأن الوعي بمقومات المواطنة، وما يتبعه من إحساس بالمسؤولية والتزام بالواجبات نحو الوطن، يكتسب بالتأهيل الاجتماعي، الأسري، وبتدخل المجتمع المدني والمؤسسات السياسية ووسائل الإعلام، و بالمناهج المدرسية، إذ يُعَدُّ الطفل من المهد، مواطناً قادراً على المشاركة الفاعلة، في خدمة وطنه، قادراً على تحمل مسؤوليات هذه المشاركة اجتماعياً وسياسياً وثقافياً وبيئياً.
تتجلى أهمية المواطنة وتتبلور كضرورة وحاجة لبناء الدولة الحديثة نظرا لـ:
- ارتباطها بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنين وتشمل الحقوق المدنية والسياسية كل ما يهدف إلى تأمين سلامة الإنسان المادية والمعنوية، والحماية من التمييز، والمشاركة في ممارسة السلطة كمرشح أو ناخب، وتَوفر الرقابة والمساءلة المتبادلة بين مؤسسات النظام السياسي، بينما تضم الحقوق الاقتصادية حق المواطن في مستوى معيشة لائق، والحق في الضمان الاجتماعي، أما الحقوق الثقافية والاجتماعية فتعني المشاركة في حياة المجتمع وهويته الثقافية والاجتماعية، وهي تؤثر على الجوانب الحياتية المختلفة للفرد، وتطويره لقدراته وتحقيقه لذاته، وتعدُّ الحقوق القانونية الضمانة الحقة لتنمية الممارسة السياسية السلمية البعيدة عن العنف، وإدارة أوجه الخلاف ديمقراطيا(5)، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن العملية السياسية والمشاركة فيها لا يمكن أن تتحقق مالم تكن مسبوقة بتأمين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والقانونية.
- ونظراً لعلاقتها الوثيقة بالنظام الديمقراطي الذي يستمد شرعيته من المواطنين، وتكون المواطنة الحقة مقدمة له على أنَّ الديمقراطية طريقة للحياة يستطيع كل فرد أن يتمتع بتكافؤ الفرص عندما يشارك في الحياة الاجتماعية.
- وأصبحت المواطنة هي الآلية للحد من الصراعات الإثنية، والعرقية، والاجتماعية، على قاعدة مبدأي عدم التميز والمساواة، وأصبح من غير الغريب أن تجد مجتمعاً متعدد الأعراق والأصول كفئة موحدة وفق منظومة من البنى القانونية، والمفاهيم الاجتماعية والقيمية التي تشترط عدم التميز والمساواة في الحقوق والواجبات، ما أدى إلى إنهاء مفهوم العنصرية الذي أصبح مفهوماً مثيراً للاشمئزاز للإنسان، وتعزز من خلال كفاح الشعوب ضد أنظمة الاستعمار من أجل إزالة نظام التمييز العنصري كما حصل في كفاح شعب جنوب إفريقيا، وكذلك عبر حركة الحقوق المدنية التي عبر عنها مارتن لوثر كنج في الولايات المتحدة الأمريكية، التي أفضت إلى إلغاء كل القوانين العنصرية بحق السود الذين كان يتم التعامل معهم بوصفهم كائنات إنسانية من الدرجة الثانية أو الثالثة (6).
- وفي سبيل تحقيق المواطنة أُلغي العديد من القوانين والإجراءات التمييزية بحق النساء، وأصبح الكثير منهن يتبوأن مراكز قيادية في الكثير من الأحزاب أو النقابات، أو يصبحن أعضاء برلمان، وحتى رؤساء دول؛ واستطاعت الحركة النسوية العالمية تحقيق إنجازات رائعة على هذا الصعيد، كما حققت فئات اجتماعية كانت محرومة ومقهورة كثيراً من الإنجازات على صعيد حقوقها ومنها الحركة العمالية على سبيل المثال؛ وقد تعزز ذلك عن طريق المواثيق الدولية الكثيرة التي ضمنت حقوق العمال(7) إذ انتصر الزعيم “لولا” في البرازيل، وهو قائد عمالي ونقابي سابق، وأصبح رئيساً للدولة البرازيلية.
بناء على ما سبق نرى العلاقة الوثيقة بين المواطنة والدولة الحديثة، ولذلك فإن النخب السياسية في منطقتنا إنْ أرادت الاستقرار لا بد لها من الشروع بالإصلاحات السياسية الشاملة التي ترسي دعائم المواطنة، والدولة الملتحمة في خياراتها وقراراتها الاستراتيجية مع خيارات مجتمعها، لأنَّ “المواطنة” هي قاعدة التضامن والتماهي الجماعي ومصدر الحرية، كقيمة مؤسِسة وغاية للجميع، وكل فرد معاً.
ثانيا: العقبات التي تقف في وجه تحقيق المواطنة
أدى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، وكذلك العهدين الحقوقيين الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وكذلك السياسي والمدني، اللذين صدرا عن الأمم المتحدة عام 1966، إلى ترسيخ قيم ومفاهيم جديدة تستند إلى منطق المواطنة، وعدم التمييز والمساواة في كل التعاملات المجتمعية في نفس الدولة، وجعلت ما يميز دور الفرد هو فاعليته في تقدم المجتمع من خلال الأحزاب السياسية أو النقابات المهنية أو المنظمات الأهلية التي يمارس بها المواطن دوره وفاعليته ونشاطه ومشاركته في الحياة الاجتماعية الوطنية العامة على قدم المساواة مع الآخرين، إن تحقيق المواطنة الحقة ، المبنية على احترام حرية المواطن وحقوقه، وتأمين العدالة الاجتماعية للجميع، وسبل بناء التناغم بين أبناء الشعب الواحد يعترضها جملة من التحديات.
يعتبر الوعي الديمقراطي والإلمام بالثقافة الديمقراطية واحداً من أهم مظاهر الفعالية السياسية، ويلعب دوراً هاماً في النشاط السياسي والاجتماعي للأفراد، وتأثير المواطنين في صياغة السياسة العامة، إذ يعدُّ علماء الاجتماع أن الثقافة السياسية من أهم وسائل التأثير في الفعل الاجتماعي وتحقيق المواطنة، وفي الموقف السياسي الذي يتخذه الأفراد تجاه القضايا العامة والمواقف المتعلقة بما ينبغي أن تقوم به الحكومة، وكيف تقوم به وطبيعة العلاقة بين المواطن والدولة، ويرتبط تطور الوعي الديمقراطي عموماً بتطور الممارسة الديمقراطية.. ففي المجتمعات الغربية تطورت الممارسة الديمقراطية التي تشمل التمسك بحق الانتساب الحر لمختلف المنظمات والهيئات السياسية والاجتماعية، والاشتراك بفعالية في مختلف آليات الديمقراطية بدءاً من المدرسة وصولاً إلى التصويت في البرلمان ومنصب رئيس الدولة، وممارسة منظمات المجتمع المدني للديمقراطية في هياكلها الداخلية؛ وهو الأمر الذي يؤثر في السلوك الحياتي لأغلب الأفراد. (8)
ودون تحقيق ذلك نكون أمام حالة استئثار بالسلطة التي تكون مدخلاً للتمييز بين المواطنين، ومدى نيلهم حقوقهم الفردية والسياسية، وتسبب انخفاض ميول المجتمع نحو العمل الاجتماعي عموماً، والعمل السياسي على وجه الخصوص، تداعيات اجتماعية خطيرة تكون في مقدمتها ضرب التجانس الوطني بين أفراد الشعب ومكوناته.
يقول الفيلسوف السياسي سلافوج جيجيك في كتابه “دليل المنحرفين للإيديولوجيا” “إن الدولة المستبدة تخلق عدواً داخلياً وخارجياً وتبدأ بتخويف مواطنيها منه، وتعطي قناعة بأن النسيج الاجتماعي لن يتناغم إلا إذا تم إقصاء هذا العدو المتخيل من خلالها “الدولة المستبدة” وتعمل جاهدة لإقناع الشعب بأن المشاكل المتأصلة في المجتمع تحدث نتيجة وجود ذلك العدو الدخيل، ويصل الأمر إلى تصوير الآخر على أنه منحرف يحاول أن يسرق ثرواتنا ويحتل أرضنا ويعكر حياتنا..”
وعليه فإن النظام السوري استثمر في إسرائيل كعدو خارجي كغيره من الأنظمة العربية، ورفع شعار التحرير من دون تلبية متطلبات عناصر القوة (الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، الثقافية، العسكرية) وصدّر نفسه بوصفه ضامنًا لأمن المجتمع، ومرجعًا يهرع إليه الجميع. (9)
كذلك فرق بين العرب والأكراد؛ واستشعر الأكراد بأن العرب أصحاب حظوة وسارقو حقوقهم في الوطن، وهو ما ظهر بوضوح في العام 2004م عندما انتفض الأكراد في مدينة القامشلي فتشكلت مجموعات من العرب وتسلحت وزجّ بها لتكون رأس حربة في قمع الانتفاضة الكرديّة وعُبئت ضد شركائها في الوطن تحت زعم خطر تقسيم سورية وإقامة دولة خاصة بهم وطرد العرب والاستيلاء على أراضيهم. وسخّر إعلامه الرّسمي في العام 2000م لتكريس صورة مفادها بأنّ ما يجري في السويداء هو أحداث شغب بين البدو وأهل السويداء، حتى صار الإعلام المحلي والدولي يطلق عليها اسم “أحداث البدو”، كل ذلك أدى إلى تعميق الشروخ بين القوميات والإثنيات العرقية والدينية والطائفية.. وانعكس هذا التمزيق والتّدمير الممنهج للنّسيج الاجتماعي على مكوّنات المجتمع السوري بشكل عام وبروز الانتماءات ما قبل الوطنية “الطائفية والمناطقية والعشائرية” حتى فقد الجميع فيها الثّقة بالجميع.
ويعدُّ انعدام الاهتمام بالتربية ومناهج التعليم وتجاهل التنوع داخل الوطن، وعدم تقديم قراءة شاملة للتاريخ الوطني والذاكرة الجمعية، واستخدام العنف بأشكاله المعنوية والمادية وإيصاله إلى حروب أهلية، إضافة إلى ضعف ثقافة الحوار والانغلاق على الانتماءات الضيقة تحديات تواجه تحقيق المواطنة والمساواة الفعلية بين المواطنين.
ثالثا: المواطنة في فكر بعض الحركات أو الأحزاب الإسلامية “الإخوان المسلمين في سورية – حركة النهضة في تونس – العدالة والتنمية في تركيا”
تُعد صحيفة المدينة التي كتبها النبي محمد صلى الله عليه وسلم دستوراً تاريخياً، وبموجبها أصبحت المدينة دولة وفاقية، وكفلت جميع الحقوق الإنسانية كحق الاعتقاد والمساواة والحياة، وأسست بشكل واقعي للمجتمع المدني كعقد اجتماعي مدني تم تاريخياً بين النبي وأهل المدينة بجميع مكوناتها الاجتماعية والعقدية، ولم تقم أي اعتبار للفوارق العرقية أو الاجتماعية ولم تضع الإسلام معياراً للانتماء للدولة بل الالتزام بشروط العقد الاجتماعي(10)، ومع صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م ونشوء الدول الوطنية، وظهور الحركات السياسية التي يحمل بعضها توجهاً إسلامياً.. وسنعرض فيما يأتي، كيف تنظر تلك الحركات لمفهوم المواطنة من خلال الفكر السياسي الذي تخص نفسها به وفق ما جاء في أدبياتها أو آراء منظريها.
ففي سوريا كتب الداعية منير محمد الغضبان تحت عنوان “مبدأ المواطنة عند الدكتور مصطفى السباعي” يقول فيه: “على الرغم من كل ما كتب في المواطنة، فلا يزال الحديث عنها بحاجة إلى تأصيل وتعميق شرعي، والدكتور السباعي رحمه الله رائد من رواد هذا المبدأ، وفي الشأن السوري عاد فتثبّت في مؤتمر رابطة العلماء الذي عُقد في العام 1939م كان للسباعي الدور الكبير في صياغة بيانه، وضمن قراراته إذاعة بيان من أعمال المؤتمر وفي مقدّمته إعلان المبادئ الإسلامية بين المسلمين وبقيّة المواطنين وشجب الدعايات المشوّهة لسمعة الإسلام، وبهذه المادة مع غيرها من المواد أصبح عقد غير المسلمين مع المسلمين على أساس المواطنة والتساوي في الحقوق والواجبات، وإنهاء عقد الذمّة الذي قام في الأصل على المقاتلة بين المسلمين وغيرهم، قائماً فالمواطنون من غير المسلمين ممّن لم يحاربوا الدولة لا تُفرَض عليهم الجزية، وهو ما فعله عمر بن الخطّاب مع نصارى تغلب” (11).
بينما يعدُّ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية أن مواطنة غير المسلم تظل ذات خصوصية لا ترتفع إلا بدخوله الإسلام؟! أي يظل متمتعاً بحرية منقوصة؛ تتعلق بحياته الشخصية المعاشية محروماً من حقوق يتمتع بها المسلم كتولي مواقع رئيسة في الدولة، وهنا ترسم حقوق غير المسلم حدوداً واضحة لأي طموح سياسي كبير له في الدولة(12)، مخالفاً بذلك ما تتطلع إليه الدول والشعوب، كما عدَّ الارتباط بين الدولة القومية والعلمانية والديمقراطية من جهة، ودولة المواطنة من جهة أخرى مجرد حدث غربي، وأن الغرب اعتاد في بحثه للظواهر الاجتماعية أن ينطلق من مسلّمة مركزيته الكونية، فما يصح في تاريخه ومجتمعاته يصح قانوناً للبشرية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، علماً أن المواطنة إذا كانت قد تحققت في التجربة الغربية فتلك واقعة وليست قانوناً، لأنها قد تحققت قبل ذلك على نحو أو آخر في سياق التجربة الإسلامية(13).
وعرض الكتاب المعنون بـ”التجربة النهضوية التركية” للكاتب التركي محمد زاهد جول، كيف اعتمد الحزب الحاكم النهج الفكري البراغماتي والمرن في المواءمة بين المرجعية الدينية وقواعد الدولة الحديثة على قاعدة رؤية شمولية وجذرية تضع الإنسان في صلب العملية التنموية، بوصفه محركها الحيوي، وهدفها في الآن ذاته جاعلاً من العلمانية حرية ومساواة، ومن المواطنة انتماء وعطاء، ومن الاجماع دستوراً، دون أن يجعل من العلمانية الأوروبية مرجعاً قطعياً، وإنما عدها دعوة إلى العلم وتحرير تفكير الإنسان وعقله ورفض الأفكار التي تلغي حريته وتحرمه من عقله وتمنعه من اتباع العلم واكتشاف الحياة وتسخيرها لمصلحته (14). لكن بقي السلوك الإسلاموي واضحاً في خطابه وسياسته مما أفقده مصداقيته.
يمكن القول على نحو عام إن مفهوم المواطنة لم يأخذ حظه من الاهتمام كأولية فكرية وسياسية واجتماعية لدى معظم الحركات الإسلامية، وبذا خسر الإسلام السياسي معركته في مضمار المواطنة.
رابعا: قراءة مقارنة بين مفهوم المواطنة في الإسلام وما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
على الرغم من أن الإسلام أقر منذ بداياته بحقوق الإنسان ما جعله يُشكل ثورة في تاريخ النظم الاجتماعية، إذ نادى بالمساواة بين الناس في القيمة المشتركة وذلك خلافاً لما كان سائداً في البيئة التي انطلق منها، أو الأمم والشرائع المحيطة به أو السابقة له، إلا أن الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتمدت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر1948م، وعُدّ منذ ذلك التاريخ معياراً يجب أن تبلغه الشعوب والدول كافة لتحقيق التقدم والتنمية في جو من السلم والتعايش والمساواة ووحدة المصير الإنساني نظراً لولادة جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق وفقاً للمادة الأولى من الإعلان، ونقف هنا على نقاط الاختلاف بين الجانبين، إذ ساوى الإعلان في مادته الثانية جميع الناس أمام القانون على اختلاف أديانهم وجنسياتهم وألوانهم وعنصرهم.
وأتى رد الفعل الإسلاموي على تلك المبادئ الهادفة إلى الاعتراف والتوفيق بين الطرفين وفق صور متعددة منها ما هو رسمي تمثلت بـ: “البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام” في العام 1981م عن المجلس الإسلامي الدولي للعالم، وهو منظمة غير دولية تعمل في أوروبا، وتتخذ من باريس مقراً لها، وقد عدَّ المفكر محمد أركون البيان ومبادئه توضيحاً للكيفية التي يتوسل المسلمون قرآنهم، وكيف يطلبون منه تلبية حاجاتهم، ويفسرونه ويستخدمونه بالشكل الذي يتناسب مع متطلباتهم لأجل توليد حقوق إنسان إسلامية تقابل حقوق الإنسان الأوروبية والغربية، كما أعلنتها الثورة الفرنسية، وهذا الطموح لتأكيد الذات مفهوم ضمن ظروف الصراعات الدولية الراهنة، فهم يحاكون ويقلدون الأشياء الإيجابية في الثقافة والحضارة الأوروبية، ولكنهم ضمن السياق الصراعي والإيديولوجي الحالي يأنفون من القيام بمجرد التقليد والمحاكاة. لهذا السبب يجدون أنفسهم مدعوين للبحث عن أصول أو جذور إسلامية خالصة لقيم مشابهة أو متطابقة مع قيم الحضارة الغربية(15).
ورأى فريق آخر الانطلاق من علم مقاصد الشريعة الذي يرمي إلى تحقيق الأهداف العامة الساعية إلى تحقيق شريعة لحياة الناس عبر نوعين من الأهداف: الأهداف الخاصة، والأهداف العامة. ويعدُّ الشيخ محمد الخضر الحسين رائداً في هذا المجال إذ عدَّ الحرية مقصداً خامساً من مقاصد الشريعة وأفرد لها كتاباً خاصاً عنونه بـ: “الحرية في الإسلام”(16)
خامسا: أدوات تحقيق المواطنة ووسائلها.
رأى الدكتور علي الصلابي في كتابه “المواطنة والوطن في الدولة الحديثة المسلمة” أن أهمية العمل على تأصيل مبدأ المواطنة نظراً لما شكلته من أساس للنقاشات الاجتماعية والسياسية والنداءات الشعبية بعد النجاح المبدئي للربيع العربي في بلدان تونس وليبيا ومصر عام 2011م، وبدء تبلور مفهومها من خلال حركة المجتمع الحقيقية وتطوراته الدستورية والسياسية، ولكي نضمن النجاح في اعتماد الثقافة السياسية الوطنية الجامعة، المبنية على مبدأ المواطنة، من أجل تفعيل المواطنة الحقيقية في الواقع العربي، نجد أنفسنا أمام ثلاثة محاور لا بد من العمل من خلالها للانتقال بمفهوم المواطنة من حيز التنظير إلى واقع التطبيق.
يبدأ المحور الأول من العمل ببناء نظام تعليمي يهيئ للطالب ممارسة حقوق المواطنة وواجباتها وجعلها هدفاً لنظام مدرسي كامل، إذ تتمثل وظيفة المدرسة الحديثة بإعداد الطلبة لأدوار المواطنة المختلفة انطلاقاً من كون المواطنة مهارات وقيماً مكتسبة بالممارسة، ويدعم الدور التربوي وجود نظام إعلام يساهم في التوعية المستمرة بمستلزمات المواطنة ويبتعد عن كل ما يجرح مفاهيم المواطنة، والعمل من خلاله على الارتقاء بالرؤى والتصورات التي تساعد الأفراد على أن يصبحوا قيمة مضافة في عملية التنمية، نظراً لدور الإعلام كوسيلة مهمة للتعبير عن آراء المواطن ومشكلاته، وعرض قضاياه، والاستثمار ما أمكن في وسائل الإعلام الحديثة في ضوء حرية تدفق المعلومات التي أصبحت من أبرز الأدوات لتبادل الثقافات والخبرات بين مواطني البلد الواحد، وصولاً إلى منظمات المجتمع المدني ودورها في توجيه طاقات المواطنين نحو المشاركة البناءة في العمل داخل المجتمع المحلي، وتدريب القيادات، وتقوية الإحساس لدى التلاميذ والمواطنين بالمشكلات والقضايا الإنسانية، وتدعيم الثقة في النظم السياسية النظامية، نظراً لقدرتها على التأثير في القرارات الاجتماعية والسياسية، مروراً بالمحور الثاني في ممارسة قيم المواطنة الذي يتمثل بممارسة قيم المواطنة المتضمنة حقوق الإنسان في المساواة بكل أشكالها وصورها، وإلغاء التمييز بكل أشكاله، وتطبيق العدالة، للوصول من خلال ذلك إلى المحور الثالث من خلال المشاركة في الحياة السياسية والثقافية المعترف بها في المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان بدءاً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينصُّ على المشاركة في الحكومة، والانتخابات الحرة، والمشاركة في الحياة الثقافية للمجتمع، والتجمع السلمي، وتكوين الجمعيات، وتعكس بذلك المشاركة كشرط أساسي للمواطنة الفعالة لجميع الناس في المجتمع. وبالتالي تؤدي المحاور الثلاثة، إن تمت ممارستها، إلى إصلاحات تراكمية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
خاتمة
يعد الوصول إلى المواطنة الصالحة هدفاً تسعى لتحقيقه الدولة والمجتمع، وعدّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المثل الأعلى لجميع الدول لتقر بما جاء فيه فكراً ونهجاً، ولا بد من الإشارة هنا إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي صدر خلالها، وما هدفت إليه السلطة التي أصدرته لتمكين الناس من ممارسة حقوقهم الطبيعية تفادياً للصراع الاجتماعي وإقرار للسلم الداخلي وحماية المجتمع من الانهيار، وفي المقابل فإن الدين الإسلامي بما احتواه من تمييز وخاصة بين الرجل والمرأة هو ليس تفضيلاً مطلقاً للرجل، وإنما هو مسؤولية يترتب عليها حقوق وواجبات على كل طرف.
المراجع
(1) كتاب الإسلام وأصول الحكم؛ بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام تأليف “علي عبد الرازق” طبعة مصرية.
(2) الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والاستراتيجية، المواطنة: (المفهوم، الأسس، الأهداف) جزء1
(3) الصفحة الرسمية لراشد الغنوشي على موقع الفيسبوك – الإسلام والمواطنة محاضرة ألقاها في مؤتمر الوحدة الوطنية والعيش المشترك.
(4) مركز جيل البحث العلمي – د. بن عمروش فريدة، جامعة الجزائر – توظيف شبكات التواصل الاجتماعي”الفيسبوك” من قبل منظمات حقوق الإنسان لترقية المواطنة بالجزائر دراسة تحليلية
(5) مفهوم المواطنة في الفكر السياسي المعاصر – د. ناهد محمد زبون – دراسة في المفهوم والأبعاد
(6) الحرة – مارتن لوثر كينغ.. رجل ألهم أمة
(7) الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والاستراتيجية – المواطنة ( المفهوم، الأسس، الأهداف…) – الجزء الرابع
(8) مجلة مركز بابل للدراسات الإنسانية: المجلد 4. العدد1. التطور التاريخي لمفهوم حقوق الإنسان في أوربا ص367 – د. حيدر سعد الإبراهيمي.
(9) الجزيرة مباشر – محمد خير موسى – كيف نجح النّظام في تمزيق النّسيج الاجتماعي في سوريا؟!
(10) موقع الحوار اليوم – مقال د. محمد عثمان الخشت: المجتمع المدني والتعددية والتسامح في سياق الحضارة الإسلامية
(11) ويكيبيديا الإخوان المسلمون – د. منير الغضبان – مبدأ (المواطنة) عند الدكتور مصطفى السباعي مؤسّس الإخوان المسلمين في سورية
(12) موقع حفريات – إسلام سعد – مفهوم المواطنة في دولة الإسلام السياسي
(13) الجزيرة نت – راشد الغنوشي – الإسلام والمواطنة
(14) الجزيرة نت – نزار الفراوي – التجربة النهضوية التركية
(15) موقع معابر – محمد عيد دياب – حقوق الإنسان بين إعلان الأمم المتحدة والإسلام – الجزء الأول [1]
(16) عرض موجز لكتاب الحرية في الاسلام، العلامة محمد الخضر الحسين – فيسبووك- https://www.facebook.com/MohamedKhiderHussein/photos/a.375622912465768/375623102465749/?type=1&theater
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.