لم تكن فكرة وجود النساء المقاتلات مخالفة لما توارثته الأجيال محاكاً على نول الأساطير، ولا تسجّل مخالفة لما يجري اعتماده حالياً من عسكرة للنساء في العديد من بلدان العالم، ولكنها تبقى مساحة هامشية في أدوار المرأة الخاضعة للجدل بين القضاء على التمييز الجندري وتقمّص الذكورة، وبين الضرورة لحمل السلاح والفلسفة الذرائعية للَجم المرأة وتقييدها إلى المنزل والسرير اللذين يتبناهما الشرق بمنسوجاته الفكرية كافة التي تدخله في مفارقات لا يمكن حصرها، ليسمح أو يتسامح مع دخول المرأة معترك القتال. والقتل كاستثناء لا بوصفه الحافّة التي يجب أن يعاد فيها النظر في تاريخية وضع الأقفاص حول النساء وداخلهنّ والتمكن منهنّ على النواحي كافة، فالدائرة المُحكمة لدونية المرأة لا تنظر بعين واسعة إلى أنها قدّمت أوراق اعتمادها كمقاتلة بالتساوي مع الرجل، بل إلى أنها صنعة أخرى تخضع للقوننة الذكورية.
مسار البحث
مقدمة
- تاريخ المرأة المقاتلة
- النساء وقبّة العسكرة
نظرة عامة
النساء في الجيوش العربية
- العسكرية المؤنثة في مساحات للجدل
- الإرهاب النسوي ميليشيات الرعب
النساء المقاتلات (سورية مثالاً)
- المقاتلات استعادة للقوة أم استلاب آخر
خاتمة
مقدمة:
منذ البدائية الأولى توجب على المرأة القتال ضد المكونات والمكنونات في الطبيعة كافة، وضمن معادلة حرب البقاء للأقوى، وحرب كل إنسان ضد كل إنسان آخر. وخلال التكوين الأول للمجتمعات الزراعية لم تفقد المرأة عنصر القوة كموازٍ لوجود كلا الجنسين واستمرارهما. ورغم تلاشي البدائية أمام التطور البشري وتحوّلها لموضوع إنثربيولوجي لا يتعدى البحث والتحقيق حول جثة هامدة لمجتمع يقوم به أعضاء مجتمع آخر، فإن الجديد لم يلغِ كلياً دور النساء المقاتلات. فالمخزون الثقافي وارتباطه بالأسطرة جعل المرأة تعيش أوجه وجودها كافة، قبل أن تجري قولبتها وتدجينها لصالح انتصار الذكورة في مجتمعات بطريركية أبوية، جعلت دورها كمقاتلة انتقائياً ومحدوداً يدخل في إطار السيطرة على القوة لكلا الجنسين، وتنظيمها ضمن أطر مدنية تفرض نمطاً ثقافياً مغايراً يجعل دور المرأة كمقاتلة خاضعاً لمنظومات معقدة من القوننة، بدءاً من قوانين الذكورة ومفارقاتها الكثيرة واحتمالات الجدل فيها، وانتهاءً بقوانين القتال ووجود المقاتلات على الجبهات وفي الميليشيات المسلّحة، لا كقوة فاعلة بل كقوّة مُفعّلة.
تاريخ المرأة المقاتلة
خلال إحلال الحضارة محل غياب السلطة وقوننتها للسائد في المجتمعات البدائية، صار تنظيم حياة البشر شأناً متعلقاً بالآلهة في إدارتها للسلم والحرب، حينذاك اعتلت عشتار عرش الآلهة لتجمع في ألوهيتها الحب والحرب، الأنوثة والقوة، الوئام والدمار. كانت الأمازونيات في نوميديا القديمة تقطّعن أثداءهنّ لتسديد رمياتهنّ بالسهم، وفي بلاد الغال كانت تُنتَقى للحرب العذراوات واليائسات “من دخلن سن اليأس” وتبقى الولّادات للبيوت، ولم ينطوِ تاريخ المحاربات والقادة النساء، حتى بعد أن استكانت البشرية تحت فكرة التمييز التفاضلي بين الذكر والأنثى واعتلى الذكور عرش القيادة. استمرت المرأة في معاكسة ناموس التمييز لدى إزاحتها عن أدوار العنف وإلباسها ثوب الرقة. ففي كل عصر كانت هناك من تقاتل وتحارب أو تعطي أوامرها للذكور. وقد برزت العديد من الأسماء من قائدات الحروب والملكات، فكان منهن الملكة تومريس، زعيمة قبيلة البدو “ماساجيتاي” بآسيا الوسطى، التي هزمت الملك الفارسي كورش الكبير عام 530 ق. م وآرتميس الأولى 480 ق. م ملكة هاليكارناسوس القائدة البحرية في معركة سلاميس في بلاد الإغريق(1)، وكليوباترا في عام 323 ق. م التي حافظت بنفوذها وممارستها استراتيجيات القوة على مصر كاملة ومستقّلة في وقت حافل بالاضطرابات، واعتلت زنوبيا عرش تدمر في 266م وقادت جيوشها بنفسها، وحققت انتصارات كثيرة على الإمبراطور الروماني أورليانوس.
ولم يختلف الأمر في الجاهلية كمجتمع بداوة محكوم بنظام قبلي يتداخل فيه دور الفرد “الذكر والأنثى” ودور الجماعة، استمرّت مساهمة المرأة النابعة منها كعنصر اجتماعي غير مشروط بالجنس، فقد تتصدّر حركة أو تحكم جماعة دون أن ينعكس ذلك على الوضع التشريعي والشرعي لكلا الجنسين، فهذا المجتمع غير معزول عن حضارة الشرق ككل التي عرفت النظامين الأمومي والأبوي، وعرف بحرية المرأة مقابل غياب الحقوق، وهو ما يمكن تبيُّنه بوجود آلهة أنثوية كـ “اللات” إلهة بني ثقيف وكانت تبسط سيطرتها على مدينتهم الطائف، وكانت “مناة” معبودة الأوس والخزرج اللتين تشكلان غالبية سكان المدينة، والعزّى إلهة القريشيين وتسيطر على مدينتهم مكة، وهذه الآلهة الأنثوية لها دورها في الحروب فكل إله يحارب مع قبيلته في حربها، لهذا حمل أبو سفيان “اللات” و”العزّى” في معركة أُحد ضد محمد (ص) (2)، ورغم ما يقال حول مشاعّية النساء، وممارسة بعض القبائل لوأد البنات وقلة المحاربات أو القادة النساء وقيام بعض الحروب بسبب النساء، لكن وجود نساء في المعارك مع المقاتلين كان أمراً ضرورياً لدعمهم ومنع فرارهم وتركهم النساء للغزاة.
وفي صدر الإسلام بما يمثّله من امتداد للجاهلية ومعالجة لمشكلة غياب الحقوق والواجبات، فإن قتال النساء في الحروب كان شيئاً طبيعياً امتد إلى ما بعد عصر الخلفاء الراشدين، إذ كنّ يقاتلن أو يصدرن الأوامر ويردُدنَ الجنود إلى المعارك. وقد جرى تسليط الضوء على العديد من النساء، كأم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية الصحابية التي دافعت عن الرسول في غزوة أُحد، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام التي كانت تسقي الجنود وقاتلت في معركة اليرموك أمام الروم، ولكنه لم يشهد ملكات أو حاكمات من النساء أو قائدات جند، لتكون بداية المنعطف الكبير في التوجه نحو المجتمعات الذكورية مع نهاية العصر الأموي ثم العباسي، إذ تغيّرت كثير من المعطيات في ميولها نحو قيمومة الرجل على المرأة، ومن لوازمها عدم صلاحية المرأة للرئاسة “ما أفلح قوم وَلّوا أمرهم امرأة” (3)، وصارت الجندية “مهنة” الرجال خلال عهود الإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة.
ومع تخطي البدايات لم ينقطع تاريخ المقاتلات، فقد لعبت شجرة الدر دوراً نافذاً في إدراة مصر عقب وفاة زوجها السلطان نجم الدين أيوب عام 1249 آخر السلاطين الأيوبيين وكان لاتخاذها إجراءات سياسية وعسكرية صائبة أثراً كبيراً في إبعاد الهزيمة عن مصر إبان الحروب الصليبية، والتأسيس لقيام دولة المماليك. ولم تكن شجرة الدر أول امرأة تحكم في العالم الإسلامي، فقد سبق أن تولت أروى بنت أحمد الصليحي اليمن من تاريخ (1098 إلى 1138 م).
فقادت جان دارك الملقبة بعذراء أورليان عام 1412م، التي ادّعت الإلهام الإلهي وقادت الجيش الفرنسي إلى عدة انتصارات مهمّة خلال حرب المئة عام، وكاثرين الثانية إمبراطورة روسيا عام 1762م وأبرز حُكَّامها في التاريخ الحديث، التي وسعت حدود الإمبراطورية الروسية وازدادت قوّتها العسكرية حتى اضطرت الدُول الأوروبية الغربية إلى الاعتراف بها كقوة عُظمى، وغيرهنّ (4).
ولكن إن زادت الأعداد أو نقصت، فهي لا تشكّل إمساكاً لعصا التمييز بين الجنسين من المنتصف، فالتقدير الذي نِلنَه كان لأنهنّ شغلن مناصب الرجال، والشذوذ عن قاعدة لا يشكل قاعدة. فنيل بعض النساء مكانة خاصة، لا يعني بالضرورة أنه يمكن لجميع النساء اكتساب القوة وممارستها، نظراً إلى أن الساحة يحكمها الذكور بما يشكّلونه من معادل للقوة والنفوذ، تبقى النساء المقاتلات إن كان تحت قبةّ الجيوش النظامية أو غير النظامية خاضعة للتمييز كوظيفة أنثوية وقابلة للجدل على المستويات كافة.
النساء وقبّة العسكرة
نظرة عامة: افتتحت الحربان العالميتان أبواب إشراك الجميع ذكوراً وإناثاً في معتركهما، وكانت أدوار النساء في الحرب العالمية الثانية أكثر اتساعاً مما كانت عليه في الحرب العالمية الأولى، حيث جنّدت جميع الدول المشاركة الآلاف من النساء من الممرضات العاملات في الخطوط الأمامية، والمقاتلات في الميليشيات الدفاعية، ولا سيما في الاتحاد السوفييتي “الجيش الأحمر”، وفي أمريكا تأسست قوات الجيش النسائي (WAC-women’s army corps) عام 1942، واعترف بهن رسمياً كجزء دائم من القوات المسلّحة الأمريكية بعد الحرب وقانون دمج المرأة لعام 1948، دون إشراكهنّ في القتال لأن الرأي العام لن يتسامح في ذلك. وشكّل فيلق المرأة الكندية عام 1941، وسلاح الجو النسائي المساعد الكندي عام 1942، مكاناً مناسباً لتجنيد المراهقات الأمريكيات لأن الولايات المتحدة لا تسمح للنساء اللاتي تحت السن21 بالانضمام إلى الجيش، كما شكلّت الصعوبات التي تواجهها ألمانيا في الحرب والأجور المرتفعة في الصناعات الحربية وقوات الأمن الخاص وميليشيات القتال عامل جذب للآلاف من النساء (5). وقد بات عدد النساء في جيوش بعض دول الغرب قريباً من عدد الرجال، وتختلف النسب المئوية لعدد النساء بالنسبة لعدد الرجال بين دولة وأخرى وفقاً للحاجة والقوانين والحوافز التي ترعى تطوّعهن في القوات المسلحة، وعلى الرغم من تسلّمهن مهمات مختلفة في العديد من جيوش العالم، وبلوغ بعضهن أعلى الرتب العسكرية، فإن خدمة النساء في الجبهات النشطة اقتصرت على عدد من الدول وهي (روسيا وأستراليا ونيوزيلندا وكندا والدنمارك وفنلندا وفرنسا وألمانيا والنروج والهند والباكستان وسويسرا و”إسرائيل” وأمريكا)، وفي 2016 تمّ رفع جميع القيود التي تمنع المرأة الأميركية من الانتساب إلى جميع صفوف القوات العسكرية، وشمل القرار الوحدات المقاتلة وقوات المارينز والوحدات الخاصة، وغيرها من الفروع التي كانت حكراً على الرجال فقط (6).
وتجدر الإشارة أن أربع دول فقط هي من تطبّق إلزامية التجنيد للنساء وهي (إسرائيل والنرويج وبوليفيا وكوريا الشمالية).
المرأة في الجيوش العربية
كان الاستعمار محرّضاً لقيام النساء بدور المقاتلات، خاصة مع بروز النزعات الوطنية والقومية التي حلّلت الخروج عن الغشاء المعياري في جعل الدفاع عن الوطن اختصاصاً ذكورياً، وقد شهدت العديد من البلدان اشتراكاً كبيراً للمرأة في القتال أخذت فيها الجزائر مركز الصدارة، في تسليط الضوء على النساء المقاومات وظهرت فاطمة نسومر ابنة شيخ الطريقة الرحمانية الصوفية التي كوّنت جيشاً من مريديها، قوامه 7 آلاف مقاتل، ولُقبَت “جان دارك جرجرة” أو “خولة جرجرة” نسبة لخولة بنت الأزور، وكذلك جميلة بوحيرد، وفي فلسطين تصدر اسم دلال المغربي، عضو منظمة التحرير الفلسطينية، وفي مصر ظهرت درية شفيق، ونازك العابد في سورية. وهي تنخرط اليوم في جيوش عدد من الدول، مثل الإمارات وسورية والأردن والمغرب ولبنان، والجزائر التي عمدت إلى ترقية المرأة إلى مراتب عليا في الجيش منذ حرب الاستقلال (1954-1962)، وأعلن الجيش الوطني الشعبي الجزائري المساواة بين الذكور والإناث في العام 2006 ووضع إطاراً لتكافؤ الفرص ما جعلها تشهد ارتفاعاً في عدد النساء الملتحقات (7). ووضعت الأردن استراتيجية بناء القدرات للمرأة من خلال تجنيد وتدريب المزيد من النساء في العقد بين العامين 2006 و2016، يُمكن للنساء التسجيل كموظفات مدنيات أو كجنديات متساويات مع الرجال في الرتبة والراتب وطول المدة (8)، وفي تونس ولبنان وضعت قيادة الجيش سياسة جندرية لدمج مزيد من النساء ووضعهنّ في الخطوط الأمامية مع نظرائهنّ الرجال.
وقد صرّح وزير الدفاع التونسي فرحات الحرشاني في نهاية 2018 أن على تونس النظر في إمكانية فرض إلزامية الخدمة العسكرية على النساء، وكانت المغرب قد صادقت على مشروع قانون لاستئناف العمل بالخدمة العسكرية الإلزامية للرجال والنساء على السواء، في آب/أغسطس 2018 (9) وأعلنت كل من وزارتي الدفاع والداخلية العراقية في عام 2015 عن تشكيل جيش عراقي نسوي، يضمّ أكثر من 10 آلاف فتاة للقتال في صفوف الجيش العراقي والشرطة الاتحادية، ومساندة الحشد الشعبي (10). وفي سورية أُنشِئَت كتيبة المغاوير الأولى في الحرس الجمهوري عام 2013 بقرار من الرئيس لتعويض النقص في العناصر المقاتلة وتضم 800 عنصر ودخلت في مواجهة مجموعات مقاتلة معارضة في مناطق عديدة (11).
كما فتحت السعودية في شباط/ فبراير 2018 باب التجنيد الاختياري أمام النساء بدءاً من رتبة مجند ومن عمر الـ 25 عاماً إلى 35 عاماً(12). لكن التجنيد الإجباري بقي مقتصراً على دولة الباكستان وحدها، وذلك منذ تأسيس باكستان عام 1947. وتأتي المفارقة أن رئيس ليبيا الراحل “معمر القذافي” في أوائل الثمانينات، بعد تنصيب نفسه المرشد الأول للثورة، ولّى حمايته للنساء “الراهبات الثوريات، أو الأمازونيات” الاسم الشائع لهن، رغم رأيه بأن دور المرأة يقتصر على التدبير المنزلي والأمومة الذي تتبناه ليبيا في دستورها(13). وتجدر الاشارة إلى أن وجود المقاتلات لم يقتصر على الجيوش النظامية بل امتد إلى الميليشيات، فإبان الحرب الأهلية اللبنانية، ودخول الفلسطينيين إلى لبنان وتشكيلهم منظمات للقتال ضد إسرائيل، اشتعل سباق الميليشيات المسلحة الطائفية والأيديولوجية التي لعبت أدوار متعددة في الحروب والسياسة اللبنانية وفي مقاومة الاحتلال وبرز اسم “سناء محيدلي” مقاتلة من الحزب القومي الاجتماعي كأول إمرأة تنفذ عملية فدائية في جنوب لبنان ضد قوات الإحتلال الإسرائيلي، مؤسسة لظاهرة الانتحارايات النساء التي تبنتها الجماعات المسلحة ذات المرجعيات والخلفيات الدينية والطائفية، “السنية أو الشيعية” لاحقاً. كما لا يمكننا إغفال موجة العمليات التي نفذتها 67 امرأة فلسطينية ما بين 2002 و2006.
العسكرية النسوية في مساحات الجدل والتمييز
بعد أن باتت قضية تحرّر نساء المشرق جزءاً ونقطة إدانة تجاه الشرق في قضايا تعامله مع النساء وحالتيْ التمييز والاستلاب اللتين يخضعن لهما، اتجهت الحكومات العربية إلى فتح باب التجنيد للنساء وإعطائهن دوراً في الخدمة العسكرية، لكنه لم يكن باباً للحدّ من التمييز القائم على الأصعدة كافة، ليكون وجودهن ّمجرد حالة من الاستعراض التحرري يعادل وجودهن في أدوار سياسية فاعلة. فوجود المرأة في السلك العسكري في ست دول عربية ومطالبة بعض الفتيات الالتحاق بصفوف جيوش بلدانهنّ، لم يقلّص مساحات الجدل في البلدان العربية، ولم يلغِ التمييز، حتى وإن أقرت في دساتيرها مبدأ المساواة بين الجنسين في التعليم وفي العمل وفي تولّي المهام. فمسألة جندية النساء وتولي مهام قتالية، تفتح العديد من السجالات على المستويين الاجتماعي والسياسي، وذلك لما تحمله من مضامين تتنافى ومكنونات المجتمعات العربية ونظرتها للنساء وأدوارهن التقليدية المحكومة بالاختلافات الجسدية والعقلية بين الرجل والمرأة وحصرية القتال والقوة والسلطة بالذكورة ليكون دخولهن “معترك الرجال” (14) منافياً للقيم الاجتماعية السائدة ومعادلاً لانكسار هوامش التفوق الجسدي الذكوري من جهة، ومن جهة أخرى لانعدام الثقة في قدرة المرأة بأن تكون في مواقع صنع القرار، فما بالك في موقع صنع القرار العسكري الذي هو حكر على الرجال، ما يفسر أسباب اقتصار دور المرأة على مناصب إدارية أو مناصب طبيّة وابتعادها عموماً عن الأدوار القتالية، إضافة إلى أن تجنيد النساء وتدريبهن، وبناء المنشآت، وتطوير رأس المال البشري، وتغطية النفقات المتعلقة بدمج المرأة وإجازة الأمومة، تشكّل عبئاً مالياً على كاهل المؤسسة العسكرية.
وظيفة غير مناسبة
تنظر غالبية النساء في المجتمعات العربية إلى خيار الجندية كوظيفة لا تناسبهن من ناحية التكوين الفيزيولوجي والبيولوجي، وأكثر منه من ناحية البرمجة المجتمعية التي حولت ميول النساء نحو الاختصاصات والوظائف المريحة نسبياً (مدرّسة، طبيبة، صيدلانية..)، التي تخدم حصص العمل وساعاته غير المحتسبة في دورها كامرأة وأُمّ وربّة بيت ووجه مجتمعي عليه واجبات متعدّدة، واختيار الجندية سيلقي على كاهلها أعباء مضافة في القيام بالأعمال السابقة كافة وتحدي المجتمع ووجودها المقونن فيه، وهي ليست مضطرة إليه. فبحسب النظرة المجتمعية تعدُّ المرأة المقاتلة “مسترجلة” وهذا يعادل نفياً من منظومة التكوين الأنثوي وما يرافقها من مشمولات جهدت واجتهدت المجتمعات الشرقية لإلباسها المرأة كجزء أصيل من أنوثتها، فأنوثة المرأة لا تكتفي بتكوينها الفيزيولوجي، بل تتجلى في صفات بعينها (الدلال، الرقة، والتزيّن، إلخ)، ومن تخرج عن مراعاة موارد التفنن في إثبات الأنثوية تنضمّ نوعاّ ما لهامش الذكورة لكنها ذكورة “مخصية” أو لا تجد لها تعريفاً، ليس بنظر المجتمع الذكوري بل بنظر غالبية أقرانها من النساء.
زي عسكري نسوي وتمييز ذكوري: رغم أن نساء كثيرات ضربن بالمعيقات المجتمعية كافة عرض الحائط، واخترن التجنيد كوظيفة ومهنة خصوصاً بعد التطور المتزايد لتكنولوجيا الحرب الحديثة ومفاهيمها ولتغيّر طبيعة الأعمال القتالية وأنماطها التقليدية، إلا أنهن ما زلن يعانين التمييز ضمن بنية الجيوش العربية. فالجندية لا تقتصر على الزي وحده إنما على الإعداد والتنظيم والتدريب لاكتساب الخبرة القتالية، وهذا جعل من الصعب عليهن الترقية حيث تكون فيها الخبرة القتالية شرطاً أساسياً، فغالبيتهن يمارسن أدواراً تقليدية ونمطية لنوع جنسهن كسكرتيرات ومترجمات وممرضات ومهندسات تقنيات وغيرها، بحيث يبقين بعيدات عن الرتب العسكرية العليا، وعن الاندماج الجندري، فالجندية مازالت ملاذاً للذكور لا يمكن معه عدُّ المرأة جندية كاملة كالرجل، وهذا لا يلغى بمجرد زيادة عدد الإناث في القوات المسلحة، بل في “جعل اهتمامات النساء وخبراتهن كما الرجال بُعداً متكاملاً في تصميم السياسات والبرامج وتنفيذها ومراقبتها وتقييمها في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية” حسب ما بيّنه المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة (15). إضافة إلى أن كلا الجنسين لم يتخلص من التراتبية القديمة في علاقة التسلط والرضوخ مهما تغيرت حلّة النساء أو محاولتهن للخروج عن الأدوار التقليدية، وانتهاج أسلوب جديد لا يبدل العلاقة إلى علاقة زمالة بقدر ما يحيلها إلى علاقة تقابل حاد وإشكالي مشوب بهواجس العدائية بدل القبول.
الإرهاب النسوي ميليشيات الرعب
تشكّل الحروب والنزاعات المسلحة عامل تعبئة وشحن للأفراد كافة، فتخرج المرأة بوصفها موضوعاً للحماية ويصير لها حضورها بين صفوف المقاتلين، خصوصاً في المناطق التي يأخذ فيها الصراع شكل حروب أهلية، ويقاتل فيها إلى جانب الجيوش الرسمية ميليشيات مسلحة مختلفة تزيد من حالات العنف. ومع انتشار الجماعات الإرهابية، تم التركيز على النساء المقاتلات بسبب التناقض بشأن قضايا النساء ككل، فالانتقال من التوظيف الناعم الذي بدأته حركة الإخوان المسلمين في العام 1932، بإنشائها أول فرقة للأخوات المسلمات ترأسها حسن البنا لتطوير دور النساء في الجانب الدّعوي والاجتماعي والسياسي، والانتقال به عام 1944 لتأسيس أول لجنة تنفيذية للأخوات المسلمات، تنوعت فيها أدوار الأخوات تبعاً لمتطلبات المرحلة وحاجة الجماعة، شكّل تأسيساً تصاعدياً في انخراط المرأة في ممارسة أقصى العنف، ورغم تردد حركة “القاعدة وطالبان” في توظيف النساء والخلاف عليه، جرى توظيف الطاقات النسوية في العام 2003 ضمن منحيي الدّعوي لنشر السلفية في العالم، والقتالي لمكافحة الحضور الغربي بتجلياته كافة في العالم الإسلامي.
ومع تأسيس الدولة الإسلامية التي تُعدّ الأكثر وحشية واستخداماً لأساليب غير سوية في إعداد أعضائها والتعامل مع خصومها، تأسس الجهاد داخل منظومة الدولة، وصار العدو إلى كل من يعادي بقاء الخلافة وتأسيسها، وتحول الجهاد النسائي من ممارسة دينية تطوعيّة، إلى عملية توظيف رسميّ تقوم بها أجهزة التّنظيم في المناطق التي تحتلها، بعد أن أدركت داعش البعد الاستراتيجي لوجود المقاتلات، وما يشكّل من عامل تحريض وجذب للمقاتلين، وسهولة توظيفها في العمليات الانتحارية على أنها أقصر الطرق إلى الجنة (16). وكذلك فعّلت جماعة أهل “السنة للدعوة والجهاد” في نيجيريا التي بايعت داعش وغيَّرت اسمها إلى “بوكو حرام” التي استخدمت النساء قنابلَ بشرية، وسجل ما يعادل 56% من أصل 244 عملية تفجير بين عامي 2011 و2017 استهدفت تجّمعات عسكرية ومساجد ومواقف حافلات، وذلك استغلالاً لعدم تفتيش النساء في النقاط الأمنية وسهولة إخفاء القنابل تحت الملابس أو الحقائب أو حتى مع الأطفال الرضّع، وكانت أول عملية استخدام للفتيات الصغيرات لقنابل في تموز (يوليو) 2014 (17).
النساء المقاتلات (سورية مثالاً)
شهدت سورية في حربها ازدحاماً واختلاطاً كبيرين في تصوير واقع النساء ووجودهنّ كمستضعفات تائهات ونساء يستغللن جسدياً وأخريات مقاتلات، هناك الكثير من الاختلاف الذي أنتجته الحرب وقد برز العديد من فرق قتالية نسائية ومنها:
– “وحدات حماية المرأة” إحدى فرق المقاتلات التي شكلتها البشمركة الكردية لمحاربة تنظيم “داعش” كنظير لوحدات حماية الشعب الكردي وحقّقن العديد من الانتصارات (18).
– “وحدات حماية بيث نهرين” المؤلفة من الفتيات السريانيات أُسّست بهدف حماية مناطق وجودهن (19)، وتتبع لقوات المجلس السرياني العسكري “السوتور” كجزء من قوات سورية الديمقراطية.
– كتيبة الخنساء أسّسها تنظيم داعش، تتألف من مئات النساء الأجنبيات والسوريات، توكل إليهنَّ مهمّة مراقبة سلوك الفتيات والسيدات في المنطقة التي يوجدن فيها، وفرض العقاب عليهن، إضافة للقتال إن اضطر الأمر والتفجير الانتحاري (20).
المقاتلات استعادة للقوة أم استلاب آخر
لفَتْت النساء المقاتلات خارج إطار الجندية في سورية أنظار العالم، وسُلِّط الضوء عليهنّ كمَعْلم لقدرة المرأة على ممارسة القوة، ما بدا وكأن عصراً جديداً انفتح أمام النساء، وأنهنّ مع دوامة العنف خلعن ثوب الاستضعاف وامتلكن زمام المعركة ككل، وذلك دون البحث في مختلف أوجه وجودهن مقاتلاتٍ أو الدخول في عملية استقصائية تحيط بمشمولات انتقال المرأة من حبيسة القوننة المجتمعية، وفروضها إلى مقاتلة منخرطة في صفوف القتال والقتل بجانب الرجل، وعادةً ما تكون أشدّ بأساً منه في المعركة نتيجة مخاوفها من الأسر والتعذيب الذي يصل حدّ الاغتصاب والتمثيل بالجثة كمَعْلم انتصار، ما يجعل منها أكثر عنفاً في القتال والقتل حتى النهاية.
قد لا يبدو هيّناً أن نحيط بالمعطيات والدلالات كافة لوجود المقاتلات في سورية، فالتباين بين مقاتلات داعش والمقاتلات الكرديات – كأكثر عنصرين خضعا لمفاعيل الضجيج الإعلامي- يبدو كبيراً، فعلى كلا الطرفين تختلف التجربة والأهداف وآلية التبّني لخطاب العنف والقوة، فامتزاج الرغبة بالتحرر والمساواة رافقها التأثّر بالحدث العام بالنسبة للمقاتلات الكرديات، قابلها دفاع نسوي عن منظومة بطريركية تحرم المرأة حقوقها لدى نساء داعش لتكون جزءاً من زيادة التطرّف النسوي الديني وأثره اللاحق، وليبقى المشترك العام هو حالة انغماس النساء في أتون الحرب ومعطياتها، أي إنها لم تكن نتيجة قناعات تحرّرية مطلقة تأسّست على شعور المرأة بوجودها، وحقوقها، وقدرتها على الفعل، ولم تقترن بزيادة استقلالية المرأة، بل ارتبطت بالحاجة لهذا الدور إمّا لسدّ النقص الحاصل في عدد القوات أو لرغبة بعضهنّ في دخول رمزية القوة، كما لو أن القوة منتجاً متفوقاً ومتكبراً عليهنّ اختراقه أو للتعبير عن الشحن الديني والإثني والتعبئة بالثأر لمظلوميات مختلفة، وهو ما يحدث غالباً في الحروب والنزاعات. فالمرأة تشكّل أحد عناصر الحروب القديمة والحديثة لكنه عنصر متأرجح بين الضعف والقوة وما بينهما تكمن معطيات كثيرة ومتراكبة داخل منظومة التمييز الجندري، فاشتراك النساء في القتال يمثل إذلالاً لمفاهيم الفحولة التي يتغنّى بها معظم رجال الشرق بأمثلتها الكثيرة (الأمريكيات وسجن أبو غريب في العراق – خشية رجال داعش أن يُقتلوا على أيدي المقاتلات الكرديات)، وعامل إغراء لاستجرار عناصر جدد. فرمزية العنف الأنثوي له جاذبية وإثارة في مخيلة العامة، وهذا ما أبرز عبر منظومة إعلامية تروّج استهلاكياً لوجود المقاتلات، وكذلك استخدام النساء يمثّل عامل جذب واستقطاب للمقاتلين عبر اللعب على منظومة قيمية مجتمعية وأخلاقية تعكس الأدوار المعتادة وتشكل إهانة للذكورة، ليضاف لهذا كله سهولة توظيفهنّ في الدفاع عن أي أيديولوجيا دينية أو إثنية(21)، ولتكون المحصلة النهائية أنه مهما كان الدافع وراء اندفاع النساء للقتال، فإنهنّ لم يقدن المعركة إنما خضعن لاستلاب آخر، بسبب انغماسهنّ في مفاهيم العنف المفروضة قسراً على الجميع، وأنهنّ حالة عابرة بتبعيات آنية لن تبدل الواقع الكلي لبقاء النساء كحبيسات المنظومة المجتمعية المتحيزة للذكورة عموماً.
خاتمة
وجود المقاتلات لم ينقطع عبر التاريخ، لكن هذا الوجود لم يتعدّ محاولة ملء الفجوات التمييزية الهائلة بين الذكر والأنثى في مناطق الشرق وقوننته، الذي يجعل تحديده كمياً وذهنياً كمفهوم يتراوح بين سعيها لإثبات سلطتها وجموح القوة فيها وتعميقها، وبين مدٍّ عنفي خاضع لشروط القتال. فتبقى المرأة المقاتلة بوصفها الابنة للمجتمعات الأبوية التي امتشقت سلاحها دون أن تقتل رمزية الأب، وانتقلت انفعالياً من انصياعها للقوننة الذكورية إلى قوننة أخرى وأدوار مختلفة تبنّتها خلف العديد من الشعارات التي لا تبعدنا عن الاختلافات والصراعات القيمية وكيفية تجسيدها والتعبير عنها، ليكنّ هنّ ممثّلاتها وهنّ ضحاياها كمستقبلات بإفراط للعنف ويحاولن عكسه، إذ لا يشكّل وجودهنّ خلف السلاح علامة فارقة تبتكر مفرداتها للتساوي الحقوقي والوجودي، إنما حدثاً عابراً ناتجاً عن التعبئة والتماهي مع الحروب، وجعلها سلعة وأداة لها أدوارها الرمزية في تعزيز وظيفة غائية العنف وإعادة تركيبها، مع صفات عنفية ممأسسة ذكورياً ومشرعنة إلى حين.
المراجع:
- انظر ويكيبديا https://ar.wikipedia.org › wiki › تومريس https://ar.wikipedia.org › wiki › أرتميس
- المرأة في العصر الجاهلي .. والوجوه الخفيّة والأدوار المتناقضة – جمعية الآوان – بقلم ريتا فرح 16 أغسطس 2017.. https://www.alawan.org › 2017/08/16 › المرأة-في-العص…
- هادي العلوي – فصول عن المرأة هادي العلوي- دار الكنوز الأدبية بيروت – الطبعة الأولى 1996 / صفحة 39 .
- ويكيبيديا https://ar.wikipedia.org/wiki/جان_دارك https://ar.wikipedia.org › wiki › كاترين_الثانية
- المرأة في الحرب العالمية الثانية. https://ar.wikipedia.org › wiki › المرأة_في_الحرب_العالم…
- المرأة في القوات المسلّحة – الموقع الرسمي للجيش اللبناني. https://www.lebarmy.gov.lb › content › المرأة-في-القوا…
- PDF المرأة في معترك الرجال: الطريق نحو المساواة في الجيش الجزائري- مركز كارنيغي للشرق الأوسط – بقلم دالية غانم. https://carnegie-mec.org › 2015/11/04 › ar-pub-61816
- نساء يتقلدن السلاح – مركز كارنيغي للشرق الأوسط- بقلم دالية غانم. https://carnegie-mec.org › diwan
- تاء التأنيث تهزّ الجيوش العربية ولكن – أسواق العرب – بقلم دالية غانم. https://www.asswak-alarab.com › منوعات › عالم المرأة
- الجمال الخطير: لماذا النساء العربيات يذهبن إلى الجيش – رصد عسكري موقع سبوتنيك. https://arabic.sputniknews.com › military › 2017051410.
- دنيا الوطن بشار الأسد يدفع بكتيبة ” فاتنات سورية المغاوير ” للصفوف الأولى – دنيا الوطن. https://www.alwatanvoice.com › news › 2015/03/28
- السعودية تفتح باب القبول للوظائف العسكرية أمام الفتيات – بي بي سي. www.bbc.com › arabic › middleeast-43193392
- التجنيد الإجباري للمرأة .. وجهة نظر ثقافية – ميدل ايست أون لاين. https://middle-east-online.com › التجنيد-الإجباري-للمرأ…
- مرجع سابق- المرأة في معترك الرجال.
- مرجع سابق – نساء يتقلدن السلاح.
- المرأة في الفكر الجهادي تعري بشاعة الجماعات الإرهابية – صحيفة العرب – بقلم: هوازن خداج. https://alarab.co.uk › المرأة-في-الفكر-الجهادي-تعري-بش..
- بوكو حرام توكل إلى نساء تنفيذ 56 في المئة من عملياتها الإرهابية- صحيفة الحياة – بقلم: منيرة الهديب. www.alhayat.com › Articles ›
- «نساء.. حياة.. حرية».. تعرف إلى الوجه الآخر للمقاتلات الكرديات – ساسة بوست –ترجمة فريق العمل ساسة بوست. https://www.sasapost.com › kurdish-female-fighters
- “وحدات حماية بيث نهرين”: مقاتلاتٌ على الأرض في مواجهة “داعش” – موقع النشرة – بقلم: غانم شرف الدين. https://www.elnashra.com › news › show › وحدات-حماية-…
- “كتيبة الخنساء”.. ذراع «داعش» النسائية – الشرق الأوسط- بقلم: كارولين عاكوم. https://aawsat.com › home › article › «كتيبة-الخنساء»-…
- مرجع سابق- المرأة في الفكر الجهادي.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.