هيئة التحرير
منذ أن خاطب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، نظيره التركي رجب طيب أردوغان، بلغة المعلم للتلميذ حين قال له «لا تكن متصلباً… لا تكن أحمقاً» والأخير يحاول جاهداً أن يكون عكس ذلك، إلا أن جميع المعطيات على الأرض تؤكد أن محاولاته في تحسين صورته لدى العالم الغربي وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ساءت أكثر، والمليارات التي تصرف تركياً من أجل تبييض وجه أردوغان، لم تغير من المعادلة شيء، إذ تكشف بين الفترة والأخرى فضائح الفساد والرشوة التي قام بها خلال سنوات حكمه، ولم يعد اقتصاده ذاك الاقتصاد الذي كان يتباهى به، حيث نسمع حالات الانتحار بسبب الفقر بعد أن فقدت الليرة التركية قيمتها، وزاد وباء كورونا من الأزمة المالية والاقتصادية، فهذه التي كان يعتبرها أهم الأسباب الرئيسة لشعبية حزبه الحاكم في الداخل لم تعد موجودة، وبالتالي لم يعد يمتلك تلك الشعارات التي كان يدعو من خلالها لإحياء «الإرث العثماني»، لذلك بات واضحاً أن المفرّ الوحيد أمامه عنف وانتهاك واعتقال في الداخل لكل صوت معارض له، واتفاق وعلاقات مع جماعات الإسلام السياسي في بلاد العربية والإسلامية، عبر جماعة الإخوان المسلمين، للتآمر على الدول العربية بشكل خاص وهذا ما بدا واضحاً في سوريا وليبيا.
ومن المضحك أن يصدقه البعض حين يبرر تبنيه للميليشيات والإخوان، من أن «إرث أجداده» يتوزع جغرافياً في معظم هذه الدول، هذا التبنيّ الذي في حقيقته ليس إلا تصدير للعنف عبر تمويل الجماعات الإرهابية بالسلاح والطائرات المسيّرة وفتح الحدود لهم، وما تدخله في ليبيا مثلاً إلا للضغط على مصر التي تتداخل معها في الحدود والقومية الواحدة، بينما حدود تركيا تبعد عن ليبيا أكثر من 1500 كم!
عسكرة السياسة الخارجية
عند البحث في عمق السياسة الخارجية، والأسباب التي تجعلها تتحرك أو تتدخل في أكثر من بلد عربي في التوقيت ذاته، لا يمكن الوقوف سوى على الموقف الأمريكي، الصامت عن كل هذه التدخلات، والذي يؤثر أوتوماتيكياً على موقف دول حلف الشمال الأطلسي باستثناء فرنسا التي صعدت من لهجتها في الأيام الأخيرة ضد أنقرة وطلبت منها الانسحاب فوراً، وإن كان أردوغان عملياً هو الفاعل الرئيس في الهجمات والتدخلات التركية في عملياتها بكردستان العراق وليبيا، فإن المحرض له قد يكون ترامب الذي لم يضغط إلا من خلال بعض العقوبات من دون إيقافه عن أعماله العدوانية. ومن حق الشعوب العربية أن تكون في حيرةٍ من أمرها سواء من موقف الولايات المتحدة؛ أو من موقف بعض الدول الغربية من تهديدات تركيا المستمرّة لهم.
يقول أحد كتاب الأعمدة في الموقع الإخباري الإلكتروني، «دوفار» الكاتب «إلهان أوزغل» في تحليله لعسكرة السياسة الخارجية التركية: «لم يعد سراً أن سياسة حكومة حزب (العدالة والتنمية) العثمانية المتطلعة إلى فرض الهيمنة الإقليمية، والتي يُفترض أنها تعتمد على تعاون مختلف فروع الإخوان المسلمين، قد انهارت. وبعد فاصل زمني اضطرت الحكومة خلاله للتعامل مع احتجاجات غيزي وفضائح الفساد التي أثارتها حركة غولن، وجدت حكومة أردوغان أنه من الملائم إقامة تحالف مع القوميين من أجل إطالة فترة حكمها وأيضاً لانتهاز الفرصة لفرض الهيمنة الإقليمية، هذه المرة من خلال اتباع وسائل أخرى».
وفي قراءته لما كتبه «أوزغل» يقول المحلل التركي الآخر، «ياوز بيدر» في موقع «أحوال تركية» إن ما يجب على أولئك الذين يراقبون تركيا اليوم أن يأخذوه في الاعتبار، من منظور ما يتصوره الثنائي أردوغان والقومي دولت بهجلي، المدعومان من قبل بعض الضباط المتطرفين التوسعيين، للبلاد في عام 2023، وهي الذكرى المئوية للجمهورية.
وهنا تتوضح أكثر ما يريد أردوغان تحقيقه من الآن فصاعداً؛ وصولاً لهذا التاريخ، أيّ الاستمرار في سياسة الابتزاز تجاه الاتحاد الأوروبي، واستخدام اللاجئين كورقة مساومة، وتحقيق التوازن بين روسيا والولايات المتحدة، والتدخل في جميع النزاعات تقريباً مهما كانت بعيدة عن حدودها بهدف التوسع حتى لو ارتكب جرائم وفظائع في تلك البلاد، وما نراه خير دليل.
استخدام المتطرفين
يأتي تحالف حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحزب الحركة القومية المتطرف، أساساً للعسكرة واستخدام المتطرفين منذ 2015 بشكل أوسع وأكبر، وشكلا بتحالفهما عقيدة واحدة داخلياً للعمل ضد الأحزاب المعارضة كافة، وخارجياً لوضع سياسة خارجية أكثر حزماً وأشمل عسكرة. وكان هدف القوميين من هذا التحالف لإدراكهم أن أردوغان بتاريخه هو الوحيد الذي سيحقق لهم ما يتمنونه، وذلك باستخدام «الإسلاميين» المتطرفين كوكيل لهم في سوريا وليبيا، وضرب مصالح الشعبين، وإقامة علاقات مشبوهة مع قطر والصومال، عبر بوابة الإخوان المسلمين، لتوزيع وإدخال قواتها إلى المناطق المنكوبة بسبب الحروب والعراق وسوريا وليبيا أنموذجاً لهذا التدخل السافر، تمهيداً منها لإنشاء القواعد العسكرية، ونشر القوات في قبرص وقطر والصومال وكردستان العراق وليبيا، مستفيدة من وجودها كعضو في حلف الشمال الأطلسي وأن هذه المناطق تهديد لها، علماً هي التي من تدخل إليها سواء كغازية أو محتلة أو تدخل عسكري مباشر على لسان أردوغان ذاته.
ويمكن أن يكون تجاهل الرئيس التركي، لكل النداءات المطالبة سواء بوقف لإطلاق النار في ليبيا، أو بوقف عملياته العسكرية في كردستان العراق، للاستمرار أكثر في تحقيق طموحاته مع «بهجلي» إلى أقصى الحدود الممكنة من مكاسب، ولن يبخلا في الاستفادة من الذكرى الرابعة لمحاولة الانقلاب كرمز لإطلاق سلسلة من الخطط والأعمال التي تهدف إلى تعزيز سلطته، واعتقال المزيد بالتهمة عينها.
إلى متى؟
بات الجميع على يقين أن أنقرة تتدخل بشكل متزايد في السياسة المحلية في جميع أنحاء أوروبا عبر اللوبي التركي، الذي بدأ من مدخل الاقتصاد في الانتقال إلى تخريب المؤسسات الديمقراطية ومحاكمة الصحفيين والنقاد والمعارضين والأقليات، إذ يؤكد «سيث ج. فرانتزمان» الكاتب في صحيفة «جيروزاليم بوست»، أن هناك عشرات التقارير، حول سعي أنقرة لتسليم صحفيين من أوروبا، كما تراقب أيّ شخص ينتقد الرئيس التركي ونظامه، وتشجع «البلطجيين» اليمينيين المتطرفين على مهاجمة المتظاهرين الأكراد. وأخر تلك المضايقات حين هاجم بعض المتطرفين قبل أيام في العاصمة النمساوية، فيينا، مظاهرتين قامت بهما الجماعات الكردية احتجاجاً على الغزو العسكري التركي الجديد لشمال العراق. أما في صفحات التواصل الاجتماعي، فلا تتوانى تركيا باتهام أيّ شخص يحتج أو ينتقد سياساتها بالإرهاب تارةً، والمشاركة بالانقلاب تارة أخرى، كما تناولت تقارير إعلامية الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية (ديتيب)، الذي تم إنشاؤه كفرع من أكبر هيئة دينية في تركيا، «ديانت»، والذي يتجسس نيابة عن منظمة المخابرات الوطنية التركية «ميت» وخاصة في هولندا وألمانيا، لذلك فإن كل المتضررين من سياسات أردوغان يتساءلون إلى متى سيسمح له الاتحاد الأوروبي بارتكاب جميع هذه التجاوزات؟