تكتيك تمويلي لـ (هيئة تحرير الشام)
عملت (هيئة تحرير الشام) مع سياستها التوسعية في محافظة إدلب، وحربها على باقي الفصائل المسلحة وتفردها في إدارة المنطقة اقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، على زيادة منافذها الاقتصاديّة التمويليّة، ظهر ذلك جليّاً من خلال صراعها مع الفصائل الكبرى على إدارة المعابر الحدوديّة وأخرى التي تحد المناطق المحررة مع جهات أخرى (النظام، الميلشيات الكرديّة) وغيرها، ولم تقف سياستها الاقتصادية عند هذا الحدّ، إّنما ذهبت باتجاه تشكيل (كيانات) لتهيمن على كامل الموارد المتداولة في المناطق التي تخضع لسيطرتها، بطريقة مؤسساتيّة، كانت البداية من المنظمات الإنسانيّة التي حاولت (تحرير الشام) بشتى الوسائل الهيمنة على مشروعاتها ونشاطها والتضييق عليها من خلال فرض الأتاوات والسياسات غير المتوافقة مع سياسات المنظمات الدوليّة، وغيرها من أشكال التضييق سنحاول تسليط الضوء عليها من خلال هذا التقرير.
إعداد البيئة الملائمة لتسهيل الهيمنة على المنظمات
كانت أذرع (تحرير الشام) في أوساط منظمات المجتمع المدني، تعيش تهميشاً كاملاً في ظل تفرد (حركة أحرار الشام الإسلاميّة) وإدارتها المسمّاة (هيئة إدارة الخدمات) في إدارة عمل المنظمات والمشروعات الخدميّة والتنمويّة في مناطق الشمال السوريّ، والمخيمات الحدوديّة، في ظل النفوذ العسكري الواسع للحركة في تلك المدّة التي سبقت حربها مع (تحرير الشام) على إدارة المعبر والسيطرة على ريف إدلب الشمالي كاملاً والمنطقة الحدوديّة، الأمر الذي رحّبت به إدارات المنظمات وأبدت تجاوباً كاملاً مع (إدارة الخدمات) التابعة لـ (أحرار الشام) ونسّقت معها سنوات، ويعود ذلك إلى أسباب عدّة، أبرزها مدنيّة الإدارة بشكل كامل وإبعاد العنصر العسكري عنها وإقحام أصحاب الخبرات وحملة الشهادات فيها، بحسب ما يحدثنا (محمد الأحمد) أحد العاملين في مخيمات أطمة، وممن كان له تجربة عمل معها، إضافة إلى كونها إدارة منظّمة، وعلى علاقة طيّبة مع الأتراك، ما يسهّل عمل المنظمات وبخاصة الأجنبيّة منها، كان ذلك إلى أن نشبت الحرب بين (أحرار الشام) و(تحرير الشام) وسيطرة الأخيرة على معبر باب الهوى وكامل المنطقة الحدوديّة وإقصاء (أحرار الشام) والإدارة التابعة لها عن كامل المنطقة وتوّقف عمل (هيئة إدارة الخدمات)، حتى لمع نجم (إدارة شؤون المهجّرين) المشكلة من قبل (تحرير الشام) وسيطرت على مفاصل العمل الخدمي في المناطق الخاضعة لسيطرتها، وفقاً لسياسات نفعيّة بحتة هدفها ابتلاع المشروعات الإنسانيّة المقدمة من المنظمات الإنسانيّة باسمها والتضييق على نشاط المنظمات الأجنبية وحتى الجمعيات الصغيرة.
يوضح (الأحمد) في حديث لـ(مينا) أنّ الهيئة عملت منذ تولّيها إدارة المخيمات الحدوديّة والعمل الخدمي فيها، على تغيير الإدارات القديمة كافة واستبدال إدارات جديدة بها تتبع لها وتبدي ولاءها المطلق للجماعة، حتى تسهّل عمليّة استلام زمام الأمور في المخيمات وتسيطر عليها بشكل كامل، وأتبعت الإدارة في ما بعد لما يسمّى (مديرية شؤون المهجرين) التابعة لحكومة الإنقاذ المُشكّلة بمباركة من (تحرير الشام)، إلا أنّ نفوذها شكلي وغير فاعل ضمن الإدارة التي يهمين عليها شخوص (تحرير الشام) بالمطلق، ولا صلاحية لغيرهم في القرارات الصادرة.
فرض قرارات على المنظمات
اتّجهت (هيئة شؤون المهجرين) ومكتب شؤون المنظمات التابع له، إلى فرض قرارات لا تتوافق مع السياسات الخارجية للمنظمات الأجنبية، منها التدخل في شروط المشروعات وبُنيتها ومحاولة تغييرها أو تبديلها بما يتوافق مع أهوائها، كما حدث مع منظمة (الأكتد) التي تنشط في المناطق الحدودية والمخيمات والمضايقات المستمرة الممارسة لها، أو من خلال فرض نفسها جهة منفذة للمشروعات وإقصاء مندوبي المنظمة وموظفيها كما حاولت أن تفعل حكومة الإنقاذ مع منظمة (جول) العالميّة في مشروع المخابز في ريف إدلب، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، فقد باتت تفرض موظفين من قبلها وبأعداد كبيرة، وهي جملة من المضايقات التي تستدعي من المنظمات إغلاق مكاتبها وإيقاف نشاطها في المحافظة عموماً، وتلجأ إلى تأسيس منظمات وجمعيات صغيرة تتبع لها وتجبر المنظمات الأجنبية على عقد شراكة معها.
احتكار مُناقصات المشروعات
سعت (تحرير الشام) إلى كسب المناقصات كافة المقدمة من قبل المنظمات الإنسانية واحتكارها لتنفيذ مشروعاتها في الشمال السوريّ، نظراً إلى ما تدره من أموال طائلة وأرباح مخالفةً في ذلك الشفافيّة والنزاهة في فضّ العروض للمناقصات ورؤية المنظمة في ذلك، وهو ما تتمتع به كثير من المنظمات التي تخضع لمعايير دوليّة في سياستها، إلّا أن جل اهتمام (تحرير الشام) وإدارتها صبّ على المشروعات الكبيرة، إذ يصل تمويل كل واحد منها إلى 300 ألف دولار، وربما يجنى منه أرباح تتجاوز 100 ألف دولار، وتتلخص ممارسة (تحرير الشام) في التعاطي مع المنظمات بشأن مناقصات المشروعات في أشكال عدة، وفقاً لمصادر خاصة تحدثت لـ (مينا)، أولها: الضغط على المنظمة حتى تكلف هيئة شؤون المهجرين في تنفيذ المشروع كاملاً، وبذلك تكون نسبة الأرباح أكبر تتجاوز ربع التكلفة وربما الثلث، وفي مرحلة أخرى تلجأ إلى ترشيح أسماء تابعة لها ومحسوبة عليها لتنفيذ المشروعات وبذلك تعود الأرباح إليها لكن بطريقة غير معلنة، تحاول من خلالها إبعاد الشبهات والنقد عنها، وأخيراً في حال لم تنجح في الأمرين السابقين، تفرض أتاوة (نسبة) من أرباح المشروع على متعهده تتراوح بين الـ 10 و20 في المئة.
مصادرنا ذاتها أكدت أنّ هيئة شؤون المهجرين قد تلجأ إلى القوة في حال لم تركُن المنظمة لشروطها، أو تذهب إلى إغلاق مكاتبها وإبعادها عن منطقة العمل، وتوقف نشاطها كاملاً باعتبارها القوة الأكبر في المنطقة ومتفردة في قرارها، وقد شهدت مخيمات الشمال حوادث شبيهة منها إيقاف مشروعات لشبكة (وطن) و(الأكتد) لعدم تنسيقهما مع الإدارة التابعة لـ (تحرير الشام) تهرباً من شروطها العبثيّة، وأفادت المصادر لـ (مينا) أنّ تركيز (تحرير الشام) يصب على المشروعات الضخمة تحديداً، متجاهلة المشروعات محدودة التمويل بهدف تخفيف حدة الغضب الشعبي تجاهها.
فرض نسب على (الحصص) الإغاثية
تنشط المنظمات الإنسانيّة إلى جانب مشروعاتها الخدميّة، بمشروعات إغاثيّة توزع من خلالها سلالاً وحصصاً غذائية ومنظفات وأثاث منزلي لقاطني المخيمات والعائلات الفقيرة في مناطق مختلفة من إدلب، إلا أّنّ هذه المنح الإنسانية لم تسلم أيضاً من ممارسات (شؤون المهجرين) من خلال فرضها على المنظمات الإنسانية شروطاً مجحفة تتدخل في وضع نسبة خاصة لها من كل توزيع تصل إلى 20 في المئة من السلال والحصص الإنسانية، وتتدخل أحياناً في مناطق التوزيع وتفرض تمايزاً بين المناطق بحسب ولاءاتها للفصيل وغيره، وتذهب أعداد ضخمة من السلال إلى شخصيات وعناصر تابعة لـ(تحرير الشام) أو محسوبة عليه وذلك رغماً من المنظمات.
وفي إطار التضييق على المنظمات، أصدرت المديرية العامة لشؤون المهجرين التابعة لـ “حكومة الإنقاذ”، قبل شهرين بياناً توقف فيه عمل منظمة هيئة الإغاثة الإنسانية (IHH) بعد جملة من المضايقات بما يتعلّق بتحديد نسب خاصة بها من المشروعات الإغاثية التي تقدمها المنظمة في المخيمات، وفرض أتاوات عليها، وهي من المنظمات القلائل التي أبقت على مشروعاتها في الشمال السوريّ، بعد أن انسحبت منظمات أجنبية كبيرة من العمل ضمن المناطق الخاضعة لسيطرة (تحرير الشام).
خُلاصة
التضييق المستمر الذي تمارسه (تحرير الشام) على عمل المنظمات، قد يودي إلى كارثة إنسانيّة في حال اضطرت المنظمات وبخاصة الأجنبية منها، إلى إغلاق مكاتبها وسحب مشروعاتها من محافظة إدلب، في ظل انعدام أي جهة أو حكومة راعية للعمل الخدمي والإنساني في المحافظة، وأغلب الموارد الماديّة تسيطر عليها الفصائل العسكريّة من دون وجود أي مساءلة لها.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.