أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية أن موسكو “تحافظ على اتصالات مع جميع القوى السياسية الموجودة حاليًا في سوريا”، وذلك عقب سيطرة المعارضة على الحكم بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد. وقبيل فرار الأسد من دمشق، كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لا يزال يتبنى خطابه التقليدي، محذرًا من “عدم السماح للإرهابيين بالسيطرة على الأراضي السورية”. لكن بعد يومين فقط، غيرت موسكو لهجتها، مشيرة إلى “المعارضة المسلحة”، في تحول واضح في الموقف الروسي.
وراء هذا التغيير تكمن المصالح الاستراتيجية لروسيا، وعلى رأسها الحفاظ على قاعدتيها العسكريتين في طرطوس وحميميم الواقعتين في محافظة اللاذقية على البحر المتوسط. وأعلن المتحدث باسم الكرملين أن موسكو ستجري محادثات مع “الحكومة الجديدة” حول استمرار وجود قواتها بعد “استقرار الأوضاع”، مشددًا على أن أمن هذه القواعد، إلى جانب أمن السفارة الروسية في دمشق، يمثل أولوية قصوى.
وسعت موسكو إلى التأكيد على أن السلطات الجديدة ضمنت أمن منشآتها العسكرية، رغم أن قاعدة حميميم أنشئت عام 2015 بهدف محاربة الفصائل التي باتت اليوم في السلطة. فقد استخدمت القوات الجوية الروسية القاعدة لدعم النظام السوري وإبطاء تقدم المعارضة، مع إعلانها المتكرر عن “القضاء” على “الإرهابيين” بأعداد كبيرة. أما مستقبل القواعد العسكرية الروسية، فسيكون محل تفاوض وفقًا لـ”مصالح الشعب السوري والمصالح الروسية”.
تمثل القواعد الروسية في سوريا ركيزة أساسية لنفوذ موسكو في الشرق الأوسط والبحر المتوسط، كما تمنحها القدرة على تهديد الجناح الجنوبي الشرقي لحلف الناتو، ودعم عملياتها العسكرية في أفريقيا. وتعد هذه القواعد نقطة إمداد رئيسية لما يعرف بـ”فيلق أفريقيا”، الذي حل محل مجموعة فاغنر كذراع لوزارة الدفاع الروسية في القارة.
وعلى الرغم من مقتل زعيم فاغنر السابق، يفغيني بريغوجين، عام 2023، لا تزال قواته تشكل العمود الفقري للوجود الروسي في أفريقيا. ويتم نقل المقاتلين والمدربين والذخيرة والمعدات العسكرية عبر القواعد الروسية في سوريا، نظرًا لصعوبة تسيير رحلات مباشرة بين روسيا ودول غرب ووسط أفريقيا. وتمر طائرات النقل الروسية عبر قاعدة حميميم للتزود بالوقود قبل مواصلة رحلاتها إلى شرق ليبيا، ومنها إلى دول مثل مالي، بوركينا فاسو، جمهورية أفريقيا الوسطى، والسودان. كما تصل شحنات إضافية عبر ميناء طرطوس، ليتم توزيعها جوًا إلى وجهاتها النهائية.
في البداية، ركزت موسكو عملياتها العسكرية في ليبيا، السودان، وجمهورية أفريقيا الوسطى، لكنها وسعت نفوذها بعد سلسلة الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل، حيث سعت الحكومات الجديدة إلى روسيا بعد تراجع النفوذ الفرنسي. ومع انسحاب القوات الفرنسية وبعثة حفظ السلام الأممية، أنهت الولايات المتحدة أيضًا وجودها العسكري في النيجر.
إلا أن اعتماد روسيا على قواعدها في سوريا يشكل نقطة ضعف استراتيجية، إذ تفتقر موسكو إلى بدائل واضحة في المنطقة. فالاتفاقات مع القائد الليبي خليفة حفتر تواجه تحديات، والطريق إلى ليبيا يتطلب رحلات طويلة مكلفة. أما السودان، الذي كان يمكن أن يكون خيارًا بديلاً، فيغرق في صراع داخلي. هذه العوامل تطرح تساؤلات حول قدرة الدول الأفريقية على الاستمرار في تمويل وجود القوات الروسية، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية، كما هو الحال في مالي، التي تسعى لزيادة إيراداتها من الذهب عبر اتخاذ إجراءات صارمة ضد الشركات الغربية.
مع سقوط نظام الأسد، يسعى بوتين إلى النأي بنفسه عن الحليف الخاسر. ورغم أن مراجعة الأخطاء ليست جزءًا من نهج القيادة الروسية، فإن ارتباط موسكو الوثيق بالأسد بات يشكل عبئًا، لا سيما في ظل الاستنزاف العسكري الروسي بسبب الحرب في أوكرانيا.
وكان بوتين قد صرح من قاعدة حميميم عام 2017 قائلاً: “إذا رفع الإرهابيون رؤوسهم مرة أخرى، فسنوجه لهم ضربات لم يروها من قبل”. لكن قبل سقوط الأسد، أشارت تقديرات إلى أن عدد الطائرات الحربية الروسية في حميميم انخفض من 80 إلى ما بين 15 و20 طائرة فقط.
وبحسب تقارير بلومبرغ، اضطر المسؤولون الروس إلى نقل الأسد إلى القاعدة لإجلائه، بعد فشلهم في توقع سقوطه الوشيك. وعلى منصات التواصل الاجتماعي، أعرب المدونون العسكريون الروس عن غضبهم من إرسال الجنرالات الذين فشلوا في أوكرانيا إلى سوريا.
وعندما سُئل المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف عن تأثير “العملية الخاصة” في أوكرانيا على النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، قال: “لقد ساعدنا سوريا في مواجهة الإرهاب وأدينا مهمتنا”، قبل أن يضيف أن “قيادة الأسد” هي التي دفعت البلاد إلى ما وصلت إليه اليوم.