بقلم كريستيان هيتزر، برلين
في برلين، العاصمة الألمانية، ثمة حانة ثقافية تُعنى بتنظيم فعاليات مسائية تشمل محاضرات نقدية حول موضوعات مثل الإسلاموية ومعاداة السامية. وفي وقت تتزايد فيه هاتان الظاهرتان، يبدو أن هذه المنصة الثقافية تحظى بتقدير البعض، ولكنها تثير غضب أطراف معينة.
قبل السابع من أكتوبر 2023 بفترة طويلة، تعرضت هذه الحانة لسلسلة من التهديدات والحوادث المتكررة. فقد شهدت جدرانها تشويهًا بشعارات مؤيدة لفلسطين ورموز مثلثات حمراء، مستوحاة من جماعة حماس الإسلاموية، للإشارة إلى “أهداف مشروعة”.
في سبتمبر الماضي، أفاد مالكو الحانة بتعرضهم لثلاث هجمات، كان أبرزها محاولة إحراق المكان في ليلة السابع والعشرين من الشهر نفسه، وتقع الحانة في الطابق الأرضي لمبنى سكني، مما جعل الحادث يشكل تهديدًا خطيرًا.
وثّقت وسائل التواصل الاجتماعي الهجوم الليلي بلقطات تضمنت إشادة بكتائب القسام، الميليشيا الإسلاموية التي لعبت دورًا مركزيًا في أحداث السابع من أكتوبر. كما تضمنت المنشورات تمجيدًا “للمقاومة” وإعلانات دعم لحماس باللغة العربية.
لم تكن هذه الحوادث محصورة في ألمانيا وحدها؛ ففي فيينا، عاصمة النمسا، تم رصد شعارات معادية للسامية على واجهة مبنى يضم مكاتب الجمعية النمساوية-الإسرائيلية هذا الأسبوع.
واجهة مبني الجمعية النمساوية-الإسرائيلية
وراء هذه التحركات تبرز تحالفات غريبة. بعض البيانات موقعة باسم “مجتمعات فلسطينية”، بينما تتخذ بيانات أخرى طابعًا يساريًا يعيد إلى الأذهان حركات اليسار الجذري في السبعينيات. في الوقت ذاته، تُلاحظ تأثيرات إسلامية، مثل عرض أوقات الصلاة في مخيمات الاحتجاج. كثير من الشعارات التي تُردّد في التظاهرات أو تُكتب على الجدران تأتي باللغة الإنجليزية، مستهدفة الجمهور العالمي عبر منصات مثل تيك توك أكثر من المجتمعات المحلية.
هذه التشكيلة المتنوعة تعكس تطورات تاريخية. فقد تلاشت الحركة الأصلية المناهضة للصهيونية التي كانت وليدة الستالينية الممزوجة بعناصر معادية للسامية. انتقلت هذه الحركة لاحقًا تحت راية “النضال التحرري المناهض للإمبريالية” إلى القومية العربية الجديدة واليسار الجديد. اليوم، يتركز الصراع حول إسرائيل وجماعات إسلاموية مثل حماس وحزب الله، اللذين تستخدمهما إيران لتعزيز نفوذها الإقليمي. ومع ذلك، لا تزال الشعارات والصور القديمة قائمة. ففي حين تُظهر مقاطع فيديو حماس وحزب الله كمقاتلين حديثين مجهزين جيدًا، ويطلق الإسلامويون اليمنيون الصواريخ على إسرائيل من مسافة تتجاوز 2000 كيلومتر، تواصل شبكات التضامن الترويج لصورة الأطفال الفلسطينيين وهم يرمون الحجارة.
تتعقد الصورة أكثر بسبب التداخل مع بيئات أخرى، الأعلام الملونة التي تظهر الآن في التظاهرات حول الشرق الأوسط شوهدت أيضًا في تجمعات مؤيدة لروسيا. ومن هناك، يبدو الانتقال إلى حركة “Querdenker” (حركة مناهضة الإغلاق في ألمانيا) قريبًا. في ألمانيا والنمسا، شارك عناصر من معسكر “منتقدي كورونا” بالفعل في مظاهرات العام الماضي دعماً لـ”فلسطين الحرة”. أواخر سبتمبر الماضي، نظم فنانون من هذا التيار حفلاً خيريًا بعنوان “أصوات من أجل غزة” في برلين.
أما صحيفة “المقاومة الديمقراطية”، وهي منشور رئيسي لمعارضي اللقاحات، استخدمت عبارات مثل “معسكرات الاعتقال” و”حرب التوسع الإسرائيلية”، ووصفت أحداث السابع من أكتوبر بأنها “هجمات من مقاتلي المقاومة الفلسطينية”، بل وانتقدت حملة تطعيم شلل الأطفال التي تفاوضت عليها منظمة الصحة العالمية في غزة، واعتبرت السكان “مطعمين بالكامل”. في هذا الصراع، يبدو أن كل أجندة تجد مكانها.
أما اليمين المتطرف، الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحركة مناهضي اللقاحات، فيظل متحفظًا بشكل ملحوظ. بالنظر إلى منشوراته ونقاشاته تكتشف أن رؤيته للعالم تتماشى غالبًا مع رؤية المتظاهرين. من الناحية الجيوسياسية، يميل الكثير من اليمين المتطرف إلى ما يسمى بـ”محور المقاومة”. يُعرف إعجاب بعض الجماعات اليمينية المتطرفة بموسكو وبكين، لكن الكثير منها ينظر أيضًا إلى طهران ودمشق بإيجابية.
طالما لم تتبنَ الولايات المتحدة سياسة انعزالية، فإن القلق الأساسي لليمين المتطرف يظل متركزاً على “التأثيرات الغريبة” التي يُلحقها ما يسمى بـ”الأطلسيين”. بعضهم يعجب بإسرائيل بسبب موقفها الحازم وصعود القوى القومية المتطرفة فيها، ويعتبرها حليفًا في مواجهة التوسع الإسلامي. ومع ذلك، يرى العديد، بناءً على قوالب معادية للسامية، أن إسرائيل أداة “للتلاعب العالمي”. وسائل الإعلام اليمينية المتطرفة تزعم أن إسرائيل ترهب جيرانها وتدير تدفقات الهجرة إلى أوروبا لتدمير الثقافة الغربية. تتقاطع الروايات الإسلاموية والمناهضة للإمبريالية حول الهولوكوست مع هذه الرؤى. ومع ذلك، وعلى عكس نظرائهم، يفضل اليمين المتطرف مناقشة هذه الموضوعات داخليًا، وبالتالي كلما زاد انتقادهم للمعاداة السامية الواضحة في الأوساط الإسلامية، قل ظهور معاداتهم الخاصة للسامية.
هذا التطور يصب في مصلحة اليمين المتطرف. فهم يدركون أن كل احتجاج غاضب أو اعتداء جسدي أو شعار معادٍ للسامية من دوائر المسلمين أو اليسار يجذب الانتباه أكثر من أزمات برلمانية محلية في تورينغيا. ألم يحذروا دائمًا من أن المجتمع متعدد الثقافات سينتهي به الحال إلى الفوضى؟ ألم يحذروا منذ زمن طويل—متأثرين بالنقاشات الفرنسية حول “الإسلامو-يسارية”—من تحالف اليسار مع الإسلاميين؟ هذه الرسالة تطغى الآن على موقفهم من صراع الشرق الأوسط، مما يجعل توافقهم مع المواقف المناهضة لإسرائيل غير ذي أهمية كبيرة. الوضع مفيد للغاية بالنسبة لهم؛ كل ما عليهم فعله هو الانتظار، إذ إن أجندتهم تتقدم بشكل تلقائي.