نقد ومراجعات
يعمل مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (مينا) من خلال مركز التنمية الثقافية والفكرية والسياسية التابع له -بوساطة باحثين وكتّاب ومتخصصين- على نشر مجموعة دراسات تتعلق بمراجعات نقدية للتجارب الأيديولوجية المتعددة في المجتمع السوري خصوصاً والعربي عموماً لعلنا نتجاوز أخطاءنا ومآسينا التي نعيشها اليوم ونستفيد من تجارب السابقين للوصول إلى مجتمع يجمع النقاط البيضاء من كل طرف حتى تنهض مجتمعاتنا من تخلفها وتدخل معترك الحضارة.
يقدم الكاتب في هذه الورقة دراسة نقدية للفكر اليساري بشقيه الماركسي والقومي ويُظهر تعري هذا الفكر من خلال موقفه من الحراك الثوري ضد الاستبداد في سوريا من خلال ما يأتي:
- اليسار أزمة بينة وتكوين.
- انفصال اليسار الماركسي والقومي عن الواقع الاجتماعي.
- اغتراب اليسار عن هموم المجتمع وقضاياه.
- موقف اليسار البائس من القضية الفلسطينية.
- موقف اليسار من الوحدة مع مصر.
- التحولات الاجتماعية والاقتصادية يتجاهلها اليسار السوري.
- اليسار القومي والماركسي وتحالفه مع الأسد الأب والابن.
- أزمة الهوية العميقة التي يعانيها يسار اليوم.
- بؤس اليسار في موقفه من الديمقراطية وحقوق الإنسان.
مقدمة
لا تخرج أزمة اليسار السوري بشتى تلويناته (القومي التحرري – الاشتراكي – الشيوعي) على صعيد بنيته أو هويته أو ممارسته السياسية عن أزمة المجتمع السوري عبر مراحل تطوره بعد استقلال البلاد عام 1946 وحتى المرحلة الراهنة، فالتطور السياسي والاقتصادي في سوريا ما بين عامي (1946 و1970) قطعته سلسلة انقلابات عسكرية، منعته من سيرورة تطوره الاجتماعي، وكان اليسار في هذه المرحلة يمارس سياسة (ردّة فعل) على مجريات هذه الأحداث، أو يتبنى كما حدث لليسار الماركسي التقليدي مواقف تابعة للآخر البعيد (الاتحاد السوفياتي)، باعتباره جزءاً من الأممية الثالثة التي يقودها السوفيات. لم يكن موقف اليسار الماركسي السوري من قضية تقسيم فلسطين، وقضية الوحدة السورية المصرية، وقضية التحولات السياسية والاقتصادية في البلاد موقفاً نابعاً من فهمه لدرجة تطور البلاد، أو من علاقته الحقيقية بالبنى الاجتماعية السورية، ولهذا كانت الكتلة الشعبية الكبرى بعيدةً وغريبةً عن هذا اليسار الذي لم ينبت في تربة المجتمع وإنما جرى ارتداء ثيابه الآتية من خارج الحدود. وحين نقول عن تيار سياسي إنه يساري، نفكّر مباشرةً بأن هناك تياراً سياسياً آخر (يميني)، ومصطلحا (يساري – يميني) هما مصطلحان أتيا وتحدّرا من تجربة أول برلمان فرنسي في عهد الثورة الفرنسية(1).
فهل كان يسارنا السوري يساراً يشتق برامجه السياسية وأهدافه من بنيته المرتكزة على الطبقات الشعبية (عمال وفلاحين فقراء)؟ أم كان يرتكز على قاعدة وعي فكري في وقت يكون منبته الطبقي يناقض وعيه؟ هذا ما سنحاول إضاءته عبر هذه الدراسة.
أزمة بنية وتكوين
لا يمكن تشكيل تياراتٍ وأحزابٍ سياسية ذات رؤية أيديولوجية خارج سياق تطور البنية المجتمعية (سياسياً واقتصادياً واجتماعياً)، فالأحزاب السياسية تتشكل كأدوات نضال وعمل سياسية لفئات اجتماعية، تعبّر هذه الأحزاب عن مصالحها الملموسة التي تحتاج إلى ممارسة سياسية فاعلة، سواءً عبر مفهوم نضال اقتصادي (نقابات – إضرابات من أجل تحسين شروط العمل والأجر)، أم نضال سياسي (انتخابات برلمانية – أو ثورة شعبية ).
وإذا درسنا تكوين المجتمع السوري منذ عام 1920 وحتى وقتنا الراهن، يمكن تقسيم هذه المرحلة التي تمتد إلى قرابة مئة عام إلى ثلاث مراحل رئيسة هي مرحلة الاحتلال الفرنسي للبلاد التي يتسم فيها المجتمع السوري بكونه مجتمعاً زراعياً متخلّفاً، كانت الطبقة العمالية فيه طبقةً ضعيفة بسبب غياب التطور الصناعي عن البلاد، فهذه المرحلة لا تحتمل تشكيل أحزاب سياسية يسارية سواءً كانت ماركسية أم غير ماركسية لسبب عدم تبلور وعي اجتماعي بمصالح الفئات المحددة والناتجة من التطور الاجتماعي والاقتصادي العام.
كان اليسار السوري في هذه المرحلة حديث التكوين ضعيف البنى وغريباً عن الطبقات الاجتماعية التي يدعي تمثيلها وكانت في طور النشوء الأولي، فهذا التفارق بين وجود أداة سياسية يسبق وجود فئات اجتماعية تعبّر عنها هذه الأداة خلق أزمة حقيقية، فالخطاب السياسي الذي يحمله اليسار السوري آنذاك كان خطاباً يمثّل بنية فكرية موجودة في الدراسات المترجمة ولا يمثل بنى اجتماعية حقيقية جرت دراسة بنيتها وتطورها وحقوقها (إنّ الأزمة التي نتكلم عنها لا تأتي بسبب الأخطاء السياسية أو التنظيمية الآنية لليسار، بل لديها جذورها في الإرث السياسي والأيديولوجي والتنظيمي لهذا اليسار، أي إرث الاستراتيجيات والأفكار والقرارات الماضية الذي يعود مجدداً ليفرض نفسه في نمطٍ من العلاقات السياسية والعمل السياسي لهذا اليسار في الواقع الحاضر)(2).
اليسار القومي والماركسي ومشكلة الانفصال عن الواقع المجتمعي
يمكننا القول إن اليسار التقليدي (الستاليني والقومي) ما يزال في رؤاه النظرية السياسية يعتمد على مقولات لم يستنبطها بنفسه من السياق التطوري للمجتمع وإنما كان يأتي بها من الرؤية النظرية السياسية للمركز الاشتراكي العالمي آنذاك (السوفيات). وهذا يكشف عدم وجود مقدرة نظرية لدى هذا اليسار يستطيع من خلالها تبيان درجة التطور الاجتماعي والاقتصادي ومن ثم اشتقاق الأهداف السياسية المرحلية والاستراتيجية وفق علاقة جدلية تستند إلى التحليل الملموس للواقع الاجتماعي السوري، ويمكن الاعتقاد أن التبعية السياسية والأيديولوجية لهذا التيار للمركز اليساري الدولي آنذاك (السوفيات)، جعل العلاقة بين الطرفين علاقة جزءٍ بكلٍ، أي علاقة تبعية فكرية وسياسية.
من هنا يأتي تبني اليسار السوري لمفهومات الستالينية حول الصراعات السياسية، والتحولات الاجتماعية، ولذلك ثمة اغتراب بين الخطاب النظري المحمول لدى اليسار السوري وحركة واقع لا تقبل تفسير هذا المحمول الغريب وشرحه، فالمحمول الفكري الستاليني كان يعمّم مفهوم الأحلاف وصراعها على كل أجزاء التبعية السياسية لها في بلدانها بغضّ النظر عن طبيعة سيرورة التطور واتجاهاتها في هذه البلدان، وهذا يعني أن اليسار السوري لم ينبثق من بنية انحدرت من درجة تطور فعلية في الواقع الاجتماعي والاقتصادي، وإنما انحدر من بنية معرفية حملت فئات من الطبقة الوسطى التي لا تنتمي اجتماعياً إلى مطالب الفئات الشعبية المهمشة ومصالحها التي ينبغي أن يمثلها اليسار السوري في بلاده.
إذاً نحن أمام أزمة بنيوية تفضح التفارق بين خطاب نظري مستورد وبنية اجتماعية لا تقدر على حمل خطاب يمثّل الفئات المهمشة في البلاد. لهذا نجد أن اليسار السوري (الستاليني والقومي) (اعتمد موقفاً مبهماً بشكل أساسي على قراءة إمكان التغيير في موازين القوى من خلال الكتل البورجوازية القائمة من دون أي قراءة للتحولات الطبقية والتاريخية في النسيج الاجتماعي للدول التي يتكلمون عنها فيتمّ تصوير الصراع على أنه صراع أحلاف)(3).
قضايا في الميزان
اغتراب اليسار عن المجتمع
واجه اليسار السوري منذ نشأته الأولى حالة اغتراب بنيوي عن مجتمعه (ما قبل الرأسمالي)، في وقت حمل فيه هذا اليسار أيديولوجيا تخصّ فئات اجتماعية يولّدها التطور الاقتصادي الرأسمالي، فهو في هذه الحالة يحمل فكراً سياسياً يتحدث عن طبقات اجتماعية لم تولد بعد بصورتها التي تناقشها أفكار الاشتراكية، فكيف نتحدث عن اشتراكية يمكن الانتقال إليها من مجتمع ما قبل رأسمالي، في وقت تحتاج فيه الاشتراكية لكي تتحقق إلى درجة متقدمة من التطور الرأسمالي والتبلور الاجتماعي من ثم من الصراع السياسي بين القوتين. اليسار السوري ارتدى قميص الآخرين الفكري ولم ينتبه إلى البنى الاجتماعية ودرجة تطورها في بلاده.
موقف اليسار البائس من القضية الفلسطينية
كانت أولى القضايا التي وجد اليسار السوري نفسه مغترباً عنها قضية (فلسطين)، فهذا اليسار لم يكلّف نفسه دراسة الصراع الدولي آنذاك، ولم يفهم لماذا تدفقت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ولم يدرك أبعاد هذه العملية في سياق الصراع الدولي.
لقد (ذهب الشيوعيون السوريون وهم (اليسار السوري آنذاك) إلى قبول قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين)(4).
وهذا يعني عدم إدراك طبيعة الصراع في المنطقة العربية، وطبيعة المشروعات الدولية حولها، ولهذا وبسبب فقره المعرفي (النظري السياسي) واغترابه السياسي عن البنى المشكّلة للمجتمعات العربية، وباعتباره جزءاً من (الأممية الثالثة) التي كان يقودها آنذاك (الاتحاد السوفياتي)، وجد الشيوعيون السوريون أنفسهم مرآة لهذا الموقف السوفياتي الذي لم يكن أصلاً يعبّر عن معرفة حقيقية لدى القيادات السوفياتية آنذاك بجوهر القضية الفلسطينية.
موقف اليسار من الوحدة مع مصر
الموقف الثاني هو موقف الشيوعيين من الوحدة السورية المصرية، وعدم إدراك العلاقة القائمة بين السوفيات وما يسمى (حركة التحرر الوطني العربية) التي كان النظام الناصري في مصر يقودها. موقف الشيوعيين الملتبس من الوحدة عبر الشروط التي وضعوها أمام عبد الناصر، وقبولهم بفكرة الاتحاد ضمن نقاط برنامجية تنصّ على (أن يؤخذ بعين الاعتبار في الحكم والإدارة الظروف الموضوعية في كل من سوريا ومصر، وذلك عن طريق إنشاء برلمان وحكومة للإقليم السوري، وبرلمان وحكومة للإقليم المصري، إلى جانب برلمان مركزي وحكومة مركزية تهتم بقضايا الدفاع الوطني والسياسة الخارجية وغيرها من القضايا المشتركة)(5). هذا الموقف جاء مخالفاً لموقف الجيش السوري والحكومة السورية التي طالبت بوحدة اندماجية، وهو ما وسم اليسار الشيوعي آنذاك بـ(العدمية القومية) ومعاداة الوحدة.
موقف اليسار من التحولات الاجتماعية والاقتصادية
ولكنّ الأخطر في الأمور كلها كان موقف اليسار السوري من مسألة التحولات الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، وتحديداً بعد قطع صيرورة التطور الاقتصادي والاجتماعي التي كانت تجري في البلاد من عام (1954 – 1963)، وقيام الدولة بالسيطرة على وسائل الإنتاج الصناعي والزراعي، وتحوّلها إلى رب عمل بمفهوم (رأسمالية الدولة)، وهي مقولة سوفياتية لا تعبّر عن حقائق تطورية في الواقع.
الموقف من تحوّل الدولة إلى رب عمل، والسيطرة على وسائل الإنتاج، جعل فكرة بناء الاشتراكية والعدالة الاجتماعية فكرةً مقبولةً تجري من خلال فئات سياسية تنحدر أساساً من صُلب البورجوازية، فكيف تبني القوى البورجوازية نظاماً معادياً لملكيتها وتحت شعارات فضفاضة لا واقعية لها (دولة العمال والفلاحين)؟، في وقت تهيمن على القرار السياسي والاقتصادي فئة بورجوازية صغيرة ذات طبيعة عسكرية. كان الشعار (عمال وفلاحون) ضرورة للعسكر آنذاك من أجل تثبيت حكمهم السياسي، ثم السيطرة على الاقتصاد الوطني، والتحكم في توزيع الدخل الوطني.
هنا تظهر أزمة اليسار ظهوراً صريحاً، وهي (انصياع الجزء الأكبر من اليسار الستاليني والقومي) لهذه الاستراتيجية، والتنقل ما بين أطيافها من دون نقدها. فبدلاً من أن يدفع اليسار السوري نحو إنشاء قيادة عملية للصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي كان يفعل العكس، كان يدعم كتلة بورجوازية ضدّ كتلة أخرى، وهذا دليل على أنه لا يمثّل الطبقات المهمشة ذات المصلحة الحقيقية بنضالات وطنية ضدّ سلطة (رأسمالية الدولة) ولذلك انتقل ليصبح شريكاً لهذه البورجوازية التي بدأ دورها الاقتصادي يتضخّم من خلال نهب قطاعات الدولة.
شركاء الحيتان
اليسار القومي والماركسي يتحالف مع الأسد الأب والابن
بعد سيطرة الجنرال حافظ الأسد على الحكم بانقلاب 16 نوفمبر 1970، ودعوته إلى إنشاء ما أسماه (جبهة وطنية تقدمية) بقيادة حزب البعث، وافقت قوى اليسار السوري بعمومها على الانضمام إلى هذا التحالف. ويمكن فهم انضمام قوى اليسار القومية إلى هذه الجبهة وتفهّمه، ولكن لا يمكن فهم موقف الشيوعيين منها، فقد سلّموا فعلياً لحكمٍ عسكريٍ بمسمى (حزب البعث) بقيادة مرحلة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، وبناء الاشتراكية، في وقت هم يدركون نظرياً أن هذا الحكم لا يمثّل فعلياً مصالح الطبقات الشعبية.
لقد حوّلت (الجبهة الوطنية) اليسار السوري إلى قوى إصلاحية تبحث في تحقيق مكتسبات سياسية صغيرة، وأبعدته عن تسلم دوره التاريخي في حمل قضايا التحول الاجتماعي (نظرياً)، باعتباره ممثلاً للقوى الشعبية المهمشة. وللتغطية على دوره الوطني المتخاذل بقي اليسار السوري يرفع شعار معاداة الامبريالية منسجماً بذلك مع (اليسار العالمي الذي جعل من شعار معاداة الإمبريالية غطاءً سميكاً يحول دون رؤية حال سلطة تمارس مختلف أنواع القتل والتدمير ضد الشعب السوري الذي تحاول أن تستمر في حكمه وليس ضد قوى الإمبريالية أو قوى الاحتلال)(6).
لذلك لا يمكن فهم انتقال اليسار الماركسي والقومي الذي ما يزال شريكاً في المأساة السورية إلى موقع المدافع عن سلطة دكتاتورية تعيد إنتاج الاستبداد والقهر بشعارات زائفة تدّعي فيها أنها أنظمة (صمود ومقاومة)، ومن خلال فكرة يروجون لها تدّعي أن النظام علماني، بل أن الأمر يتعدى إلى شراكة سياسية واقتصادية تجمع هذا اليسار مع النظام الحاكم في البلاد.
اليسار السوري الذي يصنّف نفسه يساراً ضد الإميريالية العالمية ويناهضها، هو لا يفهم مطلقاً أن النظام الحاكم وكيل اقتصادي مشوه للاقتصاد الرأسمالي الاحتكاري الدولي، ولهذا تذهب تحليلاته إلى المركز الرأسمالي العالمي ومعاداته (الولايات المتحدة وأوربا) وينسى الأذرع الصغيرة لهذا المركز والفاعلة بضراوة ضدّ مصالح الشعب السوري عموماً. وهناك أوهام تُروَّج من قوى تصنّف نفسها ضمن نطاق معاداة الإمبريالية ولا تريد أن ترى التدخل الدولي (الروسي والإيراني) الذي ما يزال يقوم بدوره لمصلحة النظام ولمنعه من السقوط، هذه القوى تطرح مقولات متخيلة وليس وقائع ملموسة، فالوجود الأجنبي الداعم عسكرياً واقتصادياً للنظام في البلاد منع هذا اليسار أن يرى الحقيقة كما هي، فأحال الأمور الصراعية على مستوى آخر، لذلك رأى (أن السلطة السورية هي الوحيدة التي لم تسقط، أو يسقط رئيسها، ليس هذا ناتجاً أساساً من عامل خارجي، بل من الامتداد الاجتماعي للسلطة السورية التي اعتمدت منذ يوم وصول الفريق حافظ الأسد إلى السلطة في 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1970، وما زالت على تحالف ثلاثي (جهاز السلطة – التجار والصناعيين – مؤسسة ال‘سلام الرسمي))(7).
هذا جزء من الحقيقة، جزء تبريري يغفل ما لعبه اليسار السوري وتحديداً الستاليني من دور كابح ومضلّل لاتجاهات الصراع مع سلطة حوّلت الدولة إلى قطاع خاص بها تمارس من خلاله عميات النهب الاقتصادي والقمع وقهر الإنسان. ويمكن فهم طبيعة هذا الانحدار في الموقف النظري والسياسي لقوى اليسار السوري المنضوية تحت مظلة النظام من خلال فهم ما ترتب أساساً على تطور بنية هذا اليسار غير الأصيل موضوعياً (وعلى أزمته الموضوعية وهي ظاهرة انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، إضافة إلى ظاهرة جموده الفكري وظاهرة القيادات التي نشأت على قاعدة التلقين وليس التفكير)(8).
أزمة هوية عميقة يعانيها يسار اليوم
الصراعات الدامية التي شهدها (الربيع العربي) في ساحاته الرئيسة، وتحديداً في الساحة السورية، كشفت أزمة هوية عميقة لهذا اليسار، تتمثل في التناقض الرئيس بين أيديولوجيته المدافعة عن حقوق الطبقات الشعبية، ودفاعه عن أنظمة تستغل هذه الشعوب وتقهرها بمسميات كاذبة منها (علمانيتها)، ومنها أنها أنظمة مقاومة.
هذا التناقض يرتكز أساساً كما أسلفنا على تناقض بنيوي عميق بين فكر يحتاج إلى قوى حقيقية ذات مصلحة مباشرة معه، وأقصد (جوهر اليسار الاجتماعي)، ويسار يلتحق بأنظمة تقهر شعوبها وتدعي مقاومة الإمبريالية. هذا التناقض يتطلب مراجعة شاملة لا تتوقف عند حدود الممارسة السياسية، وإنما تتعداه إلى مراجعة البنية النظرية لجوهر هذا اليسار، فليس مفهوماً أن تكون (يساراً) مع قوى دولية، وتكون (يميناً) ضدّ مصالح شعبك (ولعلّ المهمة الأولى التي تواجه اليسار في المنطقة تتمثل في مراجعته لتجربته في سياق تحديد موقعه ومسار فعله إزاء التحولات الكبرى التي ولجتها المنطقة في السنوات القليلة الماضية وما زالت تعيش في خضمها)(9).
والمشكلة الكبرى هي في الذهنية اليسارية المبنية على أوهام أيديولوجيا تستقي معرفتها من مصطلحات غير حقيقية وغير واقعية. فليس معقولاً أن يقف اليسار ضدّ مطالب قوى شعبية واسعة تطالب بالحريات والديمقراطية، ولا يتقدم صفوفها، ليقودها وهو المعني الأول بذلك، لكنه يمارس غير ذلك تماماً، (إذ إن أغلب التيار اليساري متفق على أن ما يحدث اليوم من صراعات في الوطن العربي لا علاقة له بقضية الحرية والتقدم)(10).
إذاً نحن أمام أزمة هوية عميقة، تكشف بالممارسة العملية التفارق بين البنية الحقيقية لليسار السوري الذي ينحدر من صلب طبقات بورجوازية متوسطة ذات بنية متذبذبة، ودوره المعادي لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية خارج حدود الاستبداد واحتكار السلطة وقهر الشعب.
الثورة بوابة تحطيم البنى القديمة
بؤس اليسار في موقفه من الديمقراطية وحقوق الإنسان
التفكير بتعريف الثورة سيقود إلى ضرورة معرفة أن مفهوم الثورة يمسّ عميقاً أنساق الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبناها القائمة كلها التي باتت بصورتها عند حدوث الثورة عائقاً حقيقياً أمام تطور المجتمع ببناه ومجالاته كلها، ولهذا تأتي الثورة بوصفها تعبيراً رداً على مأزق سدّ طريق التطور، فهناك أزمة تضرب المجتمع وأجهزته الفكرية والسياسية والثقافية، وتعبّر عن التناقضات العميقة القابلة للانفجار في أحشاء هذا المجتمع الذي لم تعد سلطاته السياسية والأيديولوجية والاجتماعية الحاكمة قادرةً على إحداث تغيير في المسار العام. اليسار بنى رؤيته للثورة وفق أدبياته السياسية القديمة ومفهوماته التي لم يطورها على الرغم من تطور الحياة، فهو ما يزال يفهم (البروليتاريا) كما عرّفها مؤسس الماركسية (كارل ماركس) منذ مئة وأربعين عاماً، في وقت تغيّرت فيه هذه المفهومات، وتغيّر الناس ومواقعهم من عمليات الإنتاج في بلدانهم، ومن عمليات النهب وطرائقه التي تقرّها قوانين رسمية.
المشكلة لدى اليسار السوري ليست نتيجةً موقفٍ سياسيٍ خاطئٍ فحسب، بل هي نتيجة لرؤية فكرية بائسة تعود في جذورها إلى الحقبة الستالينية، التي ترفض أساساً كلّ ما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان. ولهذا فإن الثورة السورية شكّلت بحراكها وفعلها التاريخي بوابةً لتحطيم البنى القديمة، وفتحت الباب لتشكل بنى سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة. بنى تعتمد على فهم نظري جديد يرفض ثبات المقولات النظرية، ويعتمد على الجدل وقوانينه، ويمتلك قدرة نقد نفسه علمياً وقدرة نقد التاريخ.
إن اليسار السوري بصيغته التنظيمية والسياسية والفكرية السابقة وضع نفسه تحت عجلات التغيير الثوري بأنساقه كلها. فنمط تفكيره انتهى مع أول صرخة للحرية، ومع أول تأييد أصدره لمصلحة نظامٍ سياسي يدمر البلاد ويقتلع العباد ويشرّدهم. (فالدكتاتورية جزء مكوّن لتركيبة اليسار العربي والعالمي التابع للسوفيات، وهي نتيجة مرحلةٍ سياسية تاريخية عاشتها الحركات السياسية العربية)(11).
المراجع
- marefa.org يسارية – مصطلح.
- المنتدى الاشتراكي org باسم الشيت 28/4/2014 يسار الأسد ويسار الملك.
- المصدر السابق.
- aljazeera.net . نص قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.
- syrcomparty.com الحزب الشيوعي السوري وقضية الوحدة.
- ساسة بوست sasapost.com 6 مايو أيار 2016 – سلامة كيلة اليسار وسوريا تراجيديا تسكن العالم.
- alhayat.com محمد سيد رصاص 21 مارس آذار 2018.
- raialyoum.com نبيل عودة – اليسار العربي – أزمة قيادات وأزمة فكر16 نوفمبر2013.
- أمد amad.ps/ar/details جميل هلال في توصيف اليسار في الشرق العربي.
- com عربي 21 30 سبتمبر 2015 بسام ناصر (الدكتور توفيق شومر).
- alraafed.com منصور الأتاسي 26/9/2016.
هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.