القامشلي: خاص بمينا
سكن اليهود في منطقة الجزيرة السورية وتجمعوا في عشائر تمركزت في المناطق الرئيسة ليمتهنوا التجارة والصناعة والأعمال الحرفية، وكان لهم الفضل في تنشيط الحركة التجارية في القامشلي ليبنوا فيه سوقاً يسمى حتى الآن بسوق اليهود أو سوق (عزرا) الذي ما تزال اللافتة مكتوبة باسمه وبطلبٍ منه عندما باعها -بحسب رواية بعض سكان أبناء القامشلي- بني هذا السوق عام 1927، وكغيرهم من شعوب المنطقة فقد هاجر اليهود ليتركوا هذه الممتلكات من محال تجارية وبيوت وأراضٍ من ورائهم تديرها (جمعية حماية أملاك اليهود) بفرعها في القامشلي، لتحول حساباتهم إلى البنوك المركزية في العاصمة السورية دمشق لترسلها ويستلموها في أوروبا، وكانت آخر دفعة قد هجرت مدينة القامشلي من اليهود عام 1998.
من أين جاء اليهود إلى مدينة القامشلي؟
من المعروف أن اليهود من الشعوب السامية التي سكنت بلاد ما بين النهرين، منذ الزمن القديم عندما سباهم البابليون، وتؤكد الوثائق التاريخية أنهم عاشوا كغيرهم من الشعوب على ضفاف الأنهار ليتخذوا من ضفاف نهر الخابور قرب تل حلف (غوزانا) ويقع تل حلف في منطقة شرق شمال سوريا غرب مدينة رأس العين، وذلك في منطقة ينابيع نهر الخابور في محافظة الحسكة بسوريا، وتل حلف هو الاسم المعاصر للموقع الذي كان يدعى باسم (غوزانا) في الألف الأولى ق. م، وقد ظلوا مواطنين من أبناء الدول المتعاقبة على حكم هذه البلاد حتى الاحتلال العثماني للبلاد العربية، ولقلتهم سكنوا دائماً في المدن واتخذوا من التجارة مهناً لهم، ومن تلك المدن التي سكنها اليهود في سوريا وعاشوا فيها وبقيت معالم كثيرة تتغنى بوجودهم فيها (دمشق وحلب والقامشلي) وفي كل مدينة يقطنونها كانوا يتجمعون في حي واحد يسمى بـ (حارة اليهود) أينما وجدوا.
أما وجودهم في مدينة القامشلي فهو قديم يعود إلى بدايات تأسيس هذه المدينة في العشرينات من القرن العشرين في عهد الاحتلال الفرنسي، فقد جاء اليهود إلى القامشلي على شكل قبائل وعشائر الجزيرة السورية 1928م، وكانوا قد جاؤوا منذ خمسمئة عام إلى نصيبين من الموصل وزاخو وجزيرة بن عمرو، ومن نصيبين هجروا نتيجة الأوضاع والحروب والإبادة العثمانية ليمكثوا في قرى عدة ما تزال مووجدة وتتبع إدارياً لريف القامشلي كقرية (العوجة وتل شعير) وباتت ملكاً لهم، وعند بدء بناء مدينة القامشلي جاؤوا وبنوا لهم دورا فمنهم التاجر ومنهم الصائغ، ومنهم الصانع، وكان عدد أسرهم في القامشلي أكثر من 300 أسرة، ليهاجروا في ما بعد عبر هجرات عدة إلى إسرائيل عن طريق تركيا، ومن ثم إلى أوروبا وأمريكا.
الأسر اليهودية التي سكنت القامشلي
كان السيد جميل مراد -من سكان مدينة القامشلي في العقد الثامن من عمره- يعمل أجيراً في أحد (الدكاكاين) المحال التجارية التي تركها اليهود، تحدث لنا عن تلك الحقبة من الزمن، ووفقاً لما أخبرنا به فقد قُدر عدد عائلات اليهود في مدينة القامشلي ما بين 250 و300 عائلة عام 1933، وأغلب بيوتهم من الطين، كما باقي بيوت سكان مدينة القامشلي، ومن أهم الأسر اليهودية، أسرة المختار سيمح ياهو وكان مختار حارة البشيرية وله علاقات طيبة مع الكرد في عدد من القرى التي كان يتردد إليها كقرية (نافكوري) و(روتكو)، وأسرة ألبير ناحوم عزرا وهو من أكبر تجار القامشلي، وهو من أسس سوقاً خاصاً باليهود إلى يومنا هذا، وأسرة بيت ناحوم وكان حلاقاً، وأسرة موشي ناحوم، وأسرة سليمان ناحوم، وأسرة مردو موشي، ومختار يهودي اسمه فرج مردوخ وصبري موشي، إضافة إلى العطار المشهور عزرا الذي بنى محله عام 1927م.
ممارسة الطقوس الدينية لليهود
لليهود كنيس (كنيسة) تقع قرب مخفر للشرطة قرب مقهى كربيس في مركز مدينة القامشلي بني منذ عام 1938م وكان يديرها ويرعاها المختار (سامح الياهو)، وكانوا يقيمون فيه صلاتهم قبل شروق الشمس متجهين إلى بيت المقدس وما يزال هذا المعبد قائماً في وسط المدينة لا يتردد إليه أحد، وكانوا قد تقدموا بطلب لمديرية المعارف لإنشاء مدرسة لأبنائهم، فأنشأت لهم مدرسة دينية عام 1947-1948 كان مديرها الأستاذ أنيس حنا مديواية.
العادات الاجتماعية التي أحياها اليهود في القامشلي
أكد السيد مراد أن اليهود كانوا حاضرين دائما في المناسبات الاجتماعية من أفراح وأعراس للجيران من سريان ومسيحية وإسلام في القامشلي، وكذلك في الأحزان المناسبات العامة والخاصة تسهر عائلاتهم وبناتهم ونساؤهم مع بنات الجيران من دون تكلف، وكأنهم أسرة واحدة، ومن عاداتهم التي استفسرنا عنها قال السيد مراد بأنه:” إذا تزوج أحدهم، فإن العريس يبقى الليلة الأولى مع عروسته، ثم يعتزلها لمدة شهر (ثلاثين يوماً). وتعتزل المرأة أعمال البيت جميعها حتى الطبخ ولا تمتد يدها إلى أي عمل يخص جماعة المنزل حينما يأتيها الحيض، فهم يتطهرون من ذلك، وبقيت هذه العادات معهم إلى سنوات طويلة واندثرت شيئاً فشيئاً، ومن عاداتهم وطبائعهم أيضاً كانوا لا يشعلون ناراً أو إنارة قنديل أو شمعة أو ضوء ليلة الجمعة أو السبت، كانوا يستعينون بأحدٍ ما وكثيراً ما كنتُ أوقد لهم النار، ومن عاداتهم الجميلة أنهم يجددون مع قدوم رأس السنة الجديدة كانوا مؤونتهم في المنزل ويبيعون القديمة إيماناً منهم بأنه طقس من طقوس اليهود مع السنة الجديدة لتأتي لهم بكل ما هو الخير مع المقتنيات الجديدة كرمز للعطاء المتجدد والبركة.
اليهود من رواد الحركة التجارية في القامشلي ومؤسسيها
أسس سوق القامشلي عام 1927 على يد اليهودي ألبير ناحوم عزرا، وسمي بسوق اليهود حتى اليوم، واشتهر ببيع التوابل والتمر والتبغ وكل ما يختص بالطب العربي وأحياناً الشعوذة، وسمي بهذا الاسم نسبة إلى اليهود الذين نزحوا من تركيا إلى القامشلي وامتهنوا التجارة.
بالنسبة إلى المحال التجارية التابع ملكيتها لليهود، فقد اختلفت الروايات حول ملكيتها وحتى بيوت اليهود في القامشلي، فهناك رواية تقول بأنه يمنع بيع هذه المحال والبيوت لأي جهة، وم ازالت المحال باسم أصحابها اليهود، وما زالت حوانيتهم الصغيرة ذات الطراز القديم بأسقفها المدعومة بـ(الصام) وهو ذلك العامود الخشبي الذي يستند إليه السقف، وما تزال محتفظة بأبوابها الخشبية التي تخللتها مسامير حديدية تتحدث عن حقبة زمنية جميلة باقية حتى اليوم كمعلم من معالم وجودهم لتنشيط القامشلي تجارياً مع بناء ذلك السوق، وما تزال معروفة بأسمائهم ضمن المصالح العقارية أيضاً بالعودة إلى السجلات، وكذلك بيوتهم في حي البشيرية والأشورية وما تزال بعض البيوت الطينية ثابتة وسط المباني الحديثة ذات الطوابق في حي الوسطى الذي يسكنه أبناء الطائفة المسيحية، ويسكن تلك البيوت أبناء المكون المسيحي وبمبالغ زهيدة جداً لا تذكر، وهناك رواية أخرى تقول عندما غادر عزرا مدينة القامشلي إلى أمريكا باع حانوته بمبلغ ثمين آنذاك في الثمانينات من القرن العشرين، واشترط على المشتري (السيد باسل حنا) مالكه الحالي بأن يبقى اسمه (عزرا) على باب المحل، وكان له ما أراد حتى اليوم.
أسباب الهجرة اليهودية من القامشلي
يؤكد كثيرون من سكان القامشلي بأنه لا يوجد يهود في القامشلي على الإطلاق حالياً، وبأن آخر دفعة هجرت القامشلي كانت عام 1998م، وبقي منهم أفراد أبوا ترك القامشلي لتوافيهم المنية بعد ذلك بأعوام ولا يبقى لليهود أثر، ومن الأسباب الرئيسة التي جعلت اليهود يهاجرون القامشلي التقلبات في الأحوال السياسية والحروب التي كان لها أثر كبير في هجرة اليهود من مناطق إلى أخرى كغيرهم من شعوب، وكان لمعاهدات السلام بين اليهود والعرب الأثر الأكبر لهجرتهم.
إدارة أملاك اليهود في القامشلي
تعود ملكية ما تركه اليهود في القامشلي إلى (جمعية حماية أملاك اليهود) التي توجد حالياً في مدينة قامشلي، وتتولى مهمة جمع الإيجارات من كافة المحال التجارية والبيوت والأراضي وكل ما يتعلق بالعقارات، وترسلها إلى حسابات اليهود القاطنين سابقاً في مدينة القامشلي ومن ثم إلى أوروبا ومكان وجودهم لاستلامها عن طريق (جمعية حماية أملاك اليهود) التي تقوم بتحويل المبالغ المالية العائد إلى الإيجارات إلى دمشق وهي بدورها تحولها إلى أرقام حسابات اليهود في مختلف المدن التي ذهبوا إليها، وتتفاوت أسعار إيجار المحال في سوق اليهود ما بين 18 ألف وخمسة عشر ألف ليرة سورياً، بعد أن كانت لا تتجاوز ثلاثة آلاف ليرة سورية قبل اندلاع بالثورة السورية، ويبلغ عدد المحال حوالى 250 محلاً تجارياً، أما المنازل اليهودية التي يقطنها أبناء المكون المسيحي ما تزال الإيجارات على ما هي عليه مبالغ رمزية مقارنة بأسعار العملة حالياً.
ختاماً
كان هذا كل شيء عن اليهود الذين قطنوا مدينة القامشلي ممن كان لهم أثر كبير ما يزال يعبق بوجودهم في سوق القامشلي ومنازلها الطينية التي يسكنها مكونات المنطقة ولا يمكنهم تغير شيء فيها لأن ملكيتها تعود إلى اليهود الذي هجروها منذ تسعينات القرن الماضي.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.