أصدرت محكمة استئناف بيروت، يوم أمس الخميس، قرارًا بكف يد قاضي التحقيق بقضية انفجار المرفأ، “طارق البيطار”، إلى حين البت في الطلب المقدم من الوزير السابق “يوسف فنيانوس” أمامها لرد المحقق العدلي، ما يعني أن “البيطار” سيتوقف عن متابعة تحقيقاته إلى حين صدور القرار النهائي لمحكمة الاستئناف، كما سيتم إرجاء الجلسة المقررة للنائب “غازي زعيتر” في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.
ويرى مراقبون أن قرار المحكمة الذي جاء بعد سنة ونحو ثلاثة أشهر على ما وصفوه بـ”المجزرة”، أعاد التحقيق في انفجار المرفأ إلى “نقطة الصفر، إلى حيث لم يبدأ، إلى حيث كان اللبنانيون لا يزالون يرفعون الركام ويلملمون الأشلاء من تحتها”، مشيرين إلى أن قرار كفّ يد القاضي “بيطار”، ولو أنه مؤقّت، إلا أنه “تعطيلي بالكامل وحتى النفس الأخير. هو تعطيل التحقيق إلى أجل غير مسمّى”.
يشار إلى أن هي المرة الرابعة التي يتم فيها تجميد التحقيق، وتعود الأولى إلى ديسمبر/ كانون الأول 2020 عندما علقه المحقق العدلي السابق” فادي صوان”، لمدة 10 أيام، قبل تنحيته، إثر شكاوى قضائية تقدم بها أيضا نائبان عن حركة “أمل” و”حزب الله”.
وكان “بيطار” أصدر في أيلول / سبتمبر الماضي، مذكرة توقيف بحق “فنيانوس” بعد امتناعه عن المثول أمامه لاستجوابه، بيد أن الدعوى الأخيرة المقدمة من وزير الأشغال السابق، واحدة من أصل 15 دعوى تقدم بها سياسيون ادعى عليهم بيطار مطالبين بكف يده عن قضية الانفجار الذي أودى بحياة 215 شخصاً على الأقل وأدى إلى إصابة أكثر من 6500 آخرين بجروح.
ومنذ ادعائه على رئيس الحكومة السابق حسان دياب وطلبه ملاحقة نواب ووزراء سابقين وأمنيين، تنتقد قوى سياسية عدة مسار التحقيق، لكن “حزب الله” وحليفته “حركة أمل” التي ينتمي إليها وزيران مدعى عليهما، يُشكلان رأس الحربة في الحملة على بيطار.
قاض جديد لـ”قبع” البيطار..
في 4 تشرين الأول الفائت، ردت محكمة الاستئناف شكلا، دعاوى الرد التي قدمها الوزراء السابقون “غازي زعيتر” و”علي حسن خليل” و”نهاد المشنوق” بحق “طارق البيطار”، كما صدرت القرارات بالإجماع عن الغرفة الثانية عشرة برئاسة القاضي “نسيب إيليا” وعضوية المستشارتين القاضيتين “روزين حجيلي” و”ميريام شمس الدين”.
حينها، عللت الغرفة الثانية عشرة، وهي المكلفة البتّ بدعاوى رد القضاة، قراراتها بعدم الاختصاص النوعي، لكن بعد شهر على تلك القرارات، وتحديداً في 4 تشرين الثاني، سجلت لدى الغرفة الثانية عشرة في محكمة استئناف بيروت دعوى رد جديدة بحق “البيطار” تقدم بها هذه المرة وزير الأشغال السابق “يوسف فنيانوس”، غير أنه تبيّن أن هناك ثغرة قانونية تتمثل في تكليف قاض جديد للبت في طلب الرد.
المحامي اللبناني، “عبد الرحمن الطرابلسي”، يقول إن الفارق الوحيد بين دعاوى تشرين الأول ودعوى تشرين الثاني، هو تغيير رئيس الغرفة الثانية عشرة في محكمة الاستئناف، مشيرا إلى أن الرئيس الأول للمحكمة القاضي “حبيب رزق الله”، انتدب عضو مجلس القضاء الأعلى القاضي “حبيب مزهر” لرئاسة الغرفة الثانية عشرة، بدلاً من القاضي “إيليا” الذي قدم بحقه وكيل “فنيانوس” المحامي “أنطوني” فرنجية دعوى رد.
كما يرى “الطرابلسي” أن تغييراً كهذا على صعيد رئاسة المحكمة قد يجعل مخطط “قبع” البيطار الذي عبّر عنه الوزير “محمد مرتضى” على طاولة مجلس الوزراء وباسم حزب الله وحركة أمل، قريباً جداً من دائرة التنفيذ، خاصة أن القاضي مزهر معروف بقربه من الثنائي الشيعي، ولأن اجتماعات مجلس القضاء الأعلى الأخيرة التي عقدت للبحث بملف البيطار، لا تزال شاهدةً على مواقفه الرافضة لبقاء المحقق العدلي في منصبه، بحسب تعبيره.
وحول تمكن المستشارتين “حجيلي” و”شمس الدين” من الموافقة هذه المرة على رد “البيطار”، رغم مشاركتهما سابقاً الرئيس “إيليا” بقرارات رد دعاوى شكلاً ولعدم الاختصاص النوعي، يقول “الطرابلسي” إنه “لو كانت قرارات محكمة الاستئناف التي اتخذتها غرفة ايليا-حجيلي-شمس الدين سابقاً بملف البيطار بالأساس لا بالشكل فقط، أي بمعنى آخر، لو نظرت المحكمة بمضمون الدعاوى ومدى مطابقتها للقوانين، كان يمكن للجواب على السؤال أن يكون نعم، وكان يمكن للقاضيتين حجيلي وشمس الدين أن تصوتا مع القاضي مزهر على رد القاضي البيطار، ولكن، بما أن قرار المستشارتين صدر سابقاً وبأكثر من دعوى، برد دعوى رد البيطار شكلاً، يصبح من شبه المستحيل قانوناً التصويت بعكس القرار السابق خاصة عند الحديث عن سبب عدم الاختصاص النوعي.
محاولة لـ”تطيير” التحقيقات
بينما يتوقع مراقبون أن يكون تكليف القاضي “مزهر” النظر في طلب رد “البيطار” نتيجة لتسوية سياسية عقدها الرئيس “نبيه بري” مع البطريرك “بشارة الراعي” بعدما اقترح الأخير “ضبضبة” ملف أحداث الطيونة، يقول آخرون إن إقالة “البيطار” ستشعل الشارع اللبناني، مشيرين إلى أن “مزهر” لن يستطيع إعاقة عمل “البيطار” لكنه قد يستطيع إعاقة التحقيقات في انفجار المرفأ، وهذا ما يريده الحلف الثنائي، بحسب تعبيرهم.
الباحثة والمستشارة القانونية، “ميريلا أبو صعب” ترى أن ما حصل بالأمس من كفّ يدٍ “مؤقت” للمحقق العدلي في جريمة انفجار المرفأ القاضي طارق البيطار، “ليس أخطر ما شهده ملف تحقيقات جريمة العصر منذ زلزال 4 آب 2020″، معتبرة أن ما كتبه “مزهر” من قرار تمهيدي أولي فور تسلمه مهامه، هو في غاية الخطورة، وإن دلّ على شيء، فإنما يدل على نية واضحة بتطيير تحقيقات المرفأ برمتها لا القاضي طارق البيطار فقط.
وتقول “أبو صعب”: بمجرد أن طلب القاضي مزهر ضمّ كامل ملف تحقيقات جريمة المرفأ الى طلب الرد المقدم من فنيانوس، فذلك يعني عملياً انتهاك سرية التحقيق قبل صدور القرار الظني، وكشف ما لا يجب كشفه من معلومات، وهو ما تنص عليه المادة 53 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
وتؤكد “أبو صعب”، أن ضم ملف التحقيقات الى دعوى الرد يعني أن أفرقاء الدعوى سيصبح بإمكانهم الاطلاع عليه والحصول على نسخ منه وخرق سريته وتسريبه.
بالإضافة الى ذلك، تشير أبو صعب إلى أنه أصبح من الممكن أن يطلب القاضي “مزهر” بقراره الشهير وتحديداً في البند الثالث منه، من قلم المحقق العدلي إيداعه كامل ملف التحقيقات للاطلاع عليه كل ذلك قبل أن يستمع الى القاضي البيطار وقبل أن يوافق الأخير على تسليمه الملف، وقبل مناقشة مسألة اختصاص محكمة الاستئناف بردّه، ما يعني أن التحقيقات بقضية انفجار المرفأ ستدخل نفقا مظلما قد يستمر لسنوات.
أما فيما يتعلق بمصير القاضي “طارق البيطار”، ترى أبو صعب أنه أصبح بين أيادي الرئيستين “ميريام شمس الدين” و”روزين حجيلي”، فإما أن يصدقّا قراراتهما السابقة من خلال التصويت على رد الدعوى شكلاً، عندها لن يقدم او يؤخر صوت القاضي “مزهر”، وإما أن يتراجعا عن تصويتهما السابق ويشاركا بـ”قبع” البيطار من منصبه، وإذا قررتا التخلص من كرة النار هذه، قد يكون خيارهما الثالث التنحي.
وقد يكون الحل الوحيد لإزاحة القاضي “مزهر” عن غرفة محكمة الاستئناف المكلفة البت بدعوى رد البيطار، هو الرد عليه بدعوى رد بحقه تقدم لمحكمة الاستئناف المدنية، وعند تبلغه إياها يوقف إجراءاته ويصبح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف القاضي حبيب رزق الله مضطراً الى انتداب قاض أخر بدلاً منه في الغرفة الثانية عشرة، بحسب الباحثة.