تتناول هذه الورقة نقداً ومراجعات لفكر البعث؛ وتوضح عملية استيلاء حافظ الأسد على الحزب والسلطة؛ وموقف حركة 23 شباط؛ وتتحدث عن العاملين اللذين ساعدا في ذلك وهما هزيمة حزيران والعامل الخارجي، من خلال المحاور الآتية:
- حزيران هزيمة أم نكسة؟.
- رفض الحزب الاعتراف بهزيمة حزيران.
- تغيير القيادة العسكرية ونتائجه.
- العامل الخارجي.
- الأسد وانقلابه.
- قرار مواجهة انقلاب الأسد وفشله.
- المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي والانقلاب.
- الأسد ومدى التزامه بالبعث.
- تنظيم 23 شباط.
المدخل
هزيمة حزيران
بقدر ما كانت هزيمة حزيران قاسية بالمقاييس كلها كشفت جوانب القصور، وصدّرت أزمة كبيرة للنظام البعثي الحاكم، إذ إن مسار الحرب، ووقائع القتال، وجملة القرارات الخطرة التي اتخذت (الخرق في القطاع الشمالي الذي يعتبر الأكثر تحصيناً وهرب قائد اللواء والفوضى التي حدثت. إعلان احتلال القنيطرة قبل احتلالها “البيان 66”. قرار الانسحاب الكيفي وإيقاف الهجوم المعاكس الذي كان مقرراً ليلة التاسع/ العاشر من حزيران بقرار من وزير الدفاع) الذي كان مناقضاً للشعارات الصاخبة المرفوعة كلها التي كانت توحي بأن تحرير فلسطين قادم في القريب، وأنه في المتناول، وأن سوريا ستقاوم بشراسة وستخوض حرباً شعبية ضروساً، ثم الخطاب الإعلامي التهييجي، بينما كانت الوقائع على الأرض مخالفة تماماً وعدد الشهداء لم يتجاوز 128 وهو رقم هزيل يدلل على أن الجيش السوري لم يقاتل، وأنه ترك الجبهة الحصينة وسلّمها من دون قتال يذكر، الأمر الذي أثار التشكيك والاتهام بالخيانة، وعملية تسليم الجولان والقنيطرة بالتحديد “مفروشة” وكثير من الاتهامات ركّزت على وزير الدفاع. قائد سلاح الطيران والدفاع الجوي باعتباره القائد المباشر، والمسؤول الأول عن صدور تلك البلاغات العسكرية، وعن مسارات الحرب، وهناك من كان ينبش في تاريخ الأسد ويتهمه بالخيانة والتعامل مع الاستخبارات البريطانية، وارتباطه بها منذ عام 1964. (وتلك حكاية طويلة).
رفض الاعتراف بهزيمة حزيران
رفض النظام المرتبك من النتائج الاعتراف بالهزيمة، وأطلق عليها مصطلح النكسة، بينما خرج خطاب يحاول أن يعتبر ما جرى فشلاً للعدوان في تحقيق أهدافه الرئيسة المتمثلة في إسقاط النظامين الوطنيين في سوريا ومصر، وبدا الخطاب كأنه يستخف بقيمة احتلال الأرض، وموقع التوسع في بنية الكيان الصهيوني، والسيطرة على كامل فلسطين التاريخية وعلى سيناء والجولان. وأصرّ على نهج التفرّد والأحادية برفض إقامة جبهة وطنية تقدمية مع القوى السياسية، واعتبار المرحلة مرحلة تحرر وطني تقتضي تغيير الخطاب السائد، والانفتاح على الشعب والقوى السياسية (اقترح ذلك المناضل الشهير مصطفى رستم في مؤتمرات الحزب المتلاحقة، وقوبل بالرفض)، وبدلاً من ذلك جرى الهرب إلى الأمام عبر طرح شعارات نارية ترفض قرار مجلس الأمن الشهير /242/ وتدعو إلى “حرب شعبية طويلة الأمد” وإلى الكفاح المسلح، ودعم العمل الفدائي وإلزام الحزبيين بممارسة دورات خاصة، في حين كان وضع الجيش على حاله، ولم تستطع القيادة السياسية القيام بأي تغييرات فيه نتيجة حماية وزير الدفاع للمتخاذلين والهاربين معظمهم الذين كان من الضروري محاسبتهم، أو على الأقل مساءلتهم عن الأداء، وهنا تحضر “قصة” اقتراح تغيير القيادة العسكرية ونتائجها.
اقتراح تغيير القيادة العسكرية ونتائجه
من المعروف في جيوش العالم جميعها إجراء تغيير في القيادات العسكرية في حالتي النصر والهزيمة لأسباب موضوعية متداخلة، وهو الأمر الذي جرت المحاولة لتنفيذه عبر اقتراح قدّم إلى “الاجتماع المشترك” (ونعني به القيادتين القومية والقطرية، وكان يعتبر السلطة العليا) لتغيير كل من وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان، وسقط الاقتراح بفارق صوت واحد، وقد أثار ذلك مزيداً الأسئلة والتفسيرات، ورتّب نتائج بالغة الخطورة ظهرت خلال بضعة أشهر عبر بروز التكتل العسكري الذي قاده الأسد ضد القيادة الحزبية. السياسية.
انصبت الأسئلة على عدم التحضير المسبق لمثل هذا الاقتراح، كما جرت العادة ضمن ما يعرف بـ”قيادة القيادة” التي كانت تحضّر لإنجاح القرارات بتوفير نصاب التصويت، بينما قيل إن هذا الاقتراح الخطر طُرح في وقته ولم تجرِ التهيّئة له، وشرح موجباته وضروراته، ما أدى إلى سقوطه بفارق صوت واحد، غالباً ما استثمر الأمر لاحقاً في الصراعات الداخلية بالتركيز على اسم معيّن، أو غيره وكأنه كان السبب في الإفشال.. بينما تقول الوقائع إن البلبلة التي حصلت نتيجة الهزيمة الشاملة كانت تنمّي مشاعر التوحّد والتضامن داخل القيادة، وتعزز الروح الجماعية في تحمل المسؤولية لدى بعضهم، وأنهم من هذا المنطلق لم يصوتوا بالموافقة.
الأهم من ذلك كله، ووفق الروايات المتواترة، أن الأسد بالذات شعر أنه مُستهدف بشخصه، وأن “بعضهم” يريد تحميله وحده ورئيس الأركان مسؤولية الهزيمة، وتقديمه كبش فداء له، وأنه من ذلك التاريخ بدأ إنشاء تكتل عسكري مطعّم ببعض المدنيين لحماية نفسه وتشكيل قوة موازية، وهو التكتل الذي ضمّ أغلب الضباط المتهمين بالتخاذل والهرب، وعدم القتال، إلى جانب “جماعة عمران” القوية، وعناصر عسكرية ومدنية متضررة من خطّ القيادة وسلوكها معهم، وبخاصة من اللواء صلاح جديد/ الأمين العام المساعد للحزب.
هناك رأي آخر يقول إن الأسد كان يعدّ نفسه منذ وقت طويل ليكون الرقم الأول في الحكم، وأنه كان يخاتل ويناور ويتدرْوَش للوصول إلى مبتغاه، وأن كثيراً من الصراعات الداخلية، ومحاولات الانقلابات الفاشلة كان على علم بها وعلاقة معها، وكان يضع قدماً معها، وقدماً أخرى مع القيادة السياسية بانتظار النتائج، هكذا مثلاً ظهر متردداً بعد نجاح حركة 23 شباط وأصرّ على أن يكون وزيراً للدفاع بالوكالة، لكنه في الوقت نفسه ظلّ متمسكاً بمنصبه قائداً للطيران والدفاع الجوي، واستمر في المنصبين حتى الانقلاب الذي قام به /في تشرين الثاني 1970/، وكثير من المؤشرات كانت تؤكد علاقته بسليم حاطوم ومحاولته الانقلابية مع بعض الضباط المحسوبين على “البعث القومي” حتى إذا ما فشلت المحاولة هدد الرائد حاطوم بتدمير مدينة السويداء بالطيران ما لم يطلق سراح رئيس الدولة. الأمين العام للحزب، واللواء صلاح جديد اللذين كان يحتجزهما، ولا شكّ في أنه استثمر الضغوط الكثيفة التي كانت تُمارس على النظام من جهات مختلفة لفرض القبول بالقرار /242/ وتوظيفه لمصلحة مشروعه الخاص.
العامل الثاني: الدور الخارجي
بغض النظر عن منسوب الوعي، وعن الأخطاء والفجوات، ومصادرة الحريات الديمقراطية لمصلحة نظام أحادي شبه مستنسخ من التجربة السوفياتية، فمما لا شكّ فيه أن تلك القيادة كانت وطنية، نظيفة الذهن واليد، وكانت تحمل مشروع بناء حزب ثوري تصوّرت أنه الطريق لتحقيق الأهداف، وكانت معادية في الجوهر للصهيونية والإمبريالية ولو بكثير من المغالاة والشعارات النارية التي لم يتجسّد كثيرها، وكان خطها الوطني العام وشعاراتها ومواقفها واعتبار الإمبريالية والصهيونية والرجعية حلفاً واحداً معادياً لأماني الأمة يجلب لها مزيداً من العداء، ويضعها في بؤرة الضغوط والتآمر لإسقاطها، وقد خرجت تصريحات قبل عدوان حزيران من مسؤولين كبار في الإدارة الأمريكية، ومن الإسرائيليين تدعو إلى “إسقاط الرؤوس الحامية في دمشق”.
صدر القرار الأممي رقم /242/ في إثر هزيمة حزيران بصياغة بريطانية خبيثة، كان ثمرة للانتصار الإسرائيلي، وتكريساً لمشروعية إسرائيل في فلسطين بدعوته الصريحة إلى الاعتراف بإسرائيل وحدودها الآمنة، وإلى تسوية سياسية تقتصر على استعادة “أراض عربية احتلت” (كانت تلك هي الصياغة البريطانية، بينما كان النص الفرنسي يضع أل التعريف، أي الأراضي التي احتلت) من دون أي ذكر للقضية الفلسطينية سوى كلام عام عن اللاجئين، وقد رفضت القيادة السورية ذلك القرار، ومعها منظمة التحرير الفلسطينية، وبعض الدول العربية كالجزائر وليبيا والعراق، بينما قبله عبد الناصر لأسبابه الخاصة التي شرحها، وقد صعّد النظام السوري من لهجته الرافضة للقرار، متحدّياً الضغوط والنصائح السوفياتية والمجتمع الدولي.
كان الدعم الكثيف للعمل الفدائي -الذي وصل أوجه بدخول قوات سورية إلى الأردن لنجدة المقاومة الفلسطينية إبّان أحداث “أيلول الأسود عام 1970”- تجاوزاً للخطوط الحمراء، وبمنزلة اتخاذ قرار من دوائر خارجية بإسقاط ذلك النظام من داخله، وكان الأسد جاهزاً، وكانت الوفاة الفجائية للزعيم عبد الناصر بمنزلة ضوء أخضر للأسد كي ينجز انقلابه الأبيض في 13 تشرين الثاني 1970 والمؤتمر القومي العاشر الاستثنائي أعلى سلطة حزبية في يومه الأخير وقد اتخذ قرارات حاسمة بفصل حافظ الأسد ومصطفى طلاس.
الأسد والانقلاب
حين التطرق إلى ظاهرة حافظ الأسد لا بدّ من المرور، ولو بسرعة، على تركيبة الجيش وموقعه، وكنا أشرنا في الدراسة الأولى إلى موقع اللجنة العسكرية ودورها، ومن ثم المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، وتدخلها المباشر والحاسم في الأحداث الانعطافية والصراعات الداخلية، وقصة “الجيش العقائدي” المنقول من التجربة السوفياتية، أيضاً التي تعني تبعيث الجيش بالكامل، والاعتماد على الواقع الحزبي في الفروع.
الحقيقة التي يجب تأكيدها هنا أن الجيش وعبر التسريحات والتصفيات التي حدثت منذ حركة 8 آذار 1963 التي استهدفت في البداية الضباط المحسوبين على الانفصال، استهدفت أبناء المدن والسنة خصوصاً، وتوالت التصفيات عبر إخراج المستقلين الذين شاركوا في الحركة الانقلابية، ثم في انفجار الصراع مع الناصريين، ولتعويض ذلك النقص الكبير جرى استدعاء مئات ضباط الاحتياط وتثبيتهم، وكانت نسبة “العلويين” فيهم كبيرة، بل طاغية، وقد ازدادت تلك النسبة مع حركة 23 شباط 1966 التي سُرّحَ فيها عدد كبير من الضباط السنة ومن سلمية وأبعِدوا، ثم تتابعت التسريحات مع حركة الرائد سليم حاطوم بإخراج عدد من الضباط الدروز، وتواصلت مع اتهام اللواء أحمد سويداني رئيس هيئة الأركان السابق. بمحاولة الانقلاب وتسريح عدد من الأقرباء والمقرّبين، بينما لم يسرّح سوى نذر يسير من المحسوبين على اللواء محمد عمران بعد إبعاده، ما أحدث خلخلة واضحة داخل الجيش، وعدم توازن ينسجم ومكونات الشعب السوري، بل حتى مع واقع الحزب في المحافظات، وأصبح الضباط العلويون القوة الضاربة في الجيش، وفي المفاصل المهمة، وبرزوا في التكتل الذي تحلّق حول الأسد وأطلّ برأسه في المؤتمر القطري الرابع /أيلول 1968/ ومحاولته تجويف الخط السياسي السائد بطروحات مغايرة، بعضها ملتبس ويحمل تفسيرات مختلفة، وبما يفهم منه معارضة المواقف البارزة للقيادة والعمل على تهشيمها بوسائل مختلفة.
واعتباراً من هذا المؤتمر بدأت مرحلة ما يعرف بـ”الازدواجية” التي صار فيها الأسد قوة منافسة يتجاوز قرارات القيادة خصوصاً ما يتعلق بنقل الضباط وتغيير مواقعهم لتمكين التابعين له ووضعهم في المواقع المهمة، وإبعاد الضباط الذين يشكّ في ولائهم، والمحسوبين على القيادة، أو على اللواء صلاح جديد.
قرار المواجهة وفشله
قيل كثير عن أوضاع اتخاذ ذلك القرار الذي كان يقضي بتعبئة الحزب لمواجهة التكتل العسكري، وهناك من أراد أن ينفي وجوده، لكن الأكيد أن القيادة -وأمام استفحال ظاهرة الأسد وتمرده اليومي عليها، وتصرفات أخيه رفعت الأسد، قائد سرايا الدفاع، وتغيير واقع قيادات الألوية والقطعات العسكرية المهمة، وحتى ممارسة نشاط سياسي مختلف- اتخذت قراراً بالمواجهة كان يُفهم منه حسم هذه الظاهرة بالقوة الحزبية والعسكرية، وردّ عليه الأسد بانقلاب شبه كامل إذ احتل مبنى الإذاعة والتلفزيون، وحلّ قيادة فرع اللاذقية وعيّن قيادة فرع جديدة، وحدثت اشتباكات بين الحزبيين وعناصر الأمن العسكري في عدد من المدن والمناطق كدير الزور والرقة ودمشق، والتحرّش المقصود بعناصر مكتب الأمن القومي الذي يرأسه عبد الكريم الجندي
وقيل كثير عن أسباب عدم تنفيذ القرار، وأكثر ما انتشر ما نسب إلى لقاء العقيد عبد الكريم الجندي باللواء صلاح جديد والطلب منه توجيه الأمر إلى قائد اللواء سبعين؛ العقيد عزت جديد للتحرك معه لاعتقال حافظ الأسد وتصفية هذه الظاهرة، وتردد اللواء ورفض ذلك لأسباب قيلت روايات مختلفة بشأنها، وانتحار عبد الكريم الجندي في تلك الليلة أو مقتله، وهو الأشرس والأشجع والأكثر التزاماً بتنفيذ القرار. ثم عقد المؤتمر القطري الرابع الاستثنائي الذي بدأ بمكاشفات ومواجهات صريحة تناولت الظواهر المريضة والفاقعة في الحزب كالطائفية، والانتهازية، والمصالح الشخصية، وفتح ملف حرب حزيران وسط اتهامات من النوع الثقيل، ومطالبة الأسد بشطب وصية عبد الكريم الجندي وسحبها من التداول إذ اتهم فيها صراحة حافظ الأسد بأنه مرتبط ومشبوه، وسيدمر نفسه ويدمر الحزب والبلد، ثم انتصار خط المصالحة في تسوية رأى كثير من الحزبيين أنها لمصلحة الأسد، وجائزة ترضية له، بينما أرادت بعض أوساط القيادة تبرير ما جرى بالإعداد الجيد لمواجهة التكتل، وهو الأمر الذي لم يحدث، على العكس فالتطورات الداخلية والخارجية جميعها كانت تخدم الأسد، وهو يخترق الفرق الحزبية من قبل أجهزته الأمنية، وبخاصة استخبارات القوى الجوية والاستخبارات العسكرية، ويوسع قاعدة المؤيدين له من العسكريين والمدنيين، ويفرض نفسه حاكماً منافساً للقيادة، بينما ازداد وضع القيادة إرباكاً وخلخلة وأحاديث عن مبرر استمرار تلك الظاهرة من دون إيجاد حلول لها.
المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي والانقلاب
كثرت التأويلات في عقد المؤتمر القومي وسط تلك الأوضاع إذ كان وضع القيادة يتهلهل، وتكثر فيه موجات اليأس، ودعوات بعضهم إلى حسم هذا الصراع الذي لم يعد محتملاً، وبعض الهمس والغمز من قناة الطائفية. فجرت الدعوة إلى عقد المؤتمر، من دون وجود حالة تحمي قراراته، ما أوجد مجالاً خصباً للتأويلات.
هناك من قال إن الضباط المحسوبين على الحزب طلبوا عقد المؤتمر واتخاذ قرار من أعلى مؤسسة حزبية كي يتحركوا ضد الأسد وتكتله. وكان هذا تفسيراً غير مقنع، إذ يُفترض بهؤلاء الضباط أن يلتزموا بقرارات القيادة من دون حاجة إلى عقد مؤتمر قومي قد يزيد الأمور تعقيداً.
وهناك من رأى أن ثقل الضغوط الخارجية، ومحاولات فرض التسوية السياسية المستندة إلى القرار /242/ لا يمكن تحملها، ولا الموافقة عليها، إذ ستتهم من يُقدم عليها بالخيانة، وربما ظن البعض أن التسوية قريبة، ومن الأجدى الهرب منها، وتحميلها للأسد بنتائجها كلها، ثم العودة كالأبطال إلى الحكم.
وهناك من اعتبر أن أوضاع القيادة المخلخلة لم تعد تحتمل التعايش مع الأسد، وتجاوزات سرايا الدفاع، فآثر الدعوة إلى المؤتمر مهما كانت العواقب، ومن دون وجود تحضيرات تكفل تنفيذ ما سيتخذ من قرارات
ومن المعروف، ووفود المؤتمر(من العرب) لم تغادر بعد سورية أن الأسد قام بانقلابه الجاهز، واعتقل عدداً من قيادة الحزب في اليوم الأول (اللواء صلاح جديد. الأستاذ فوزي رضا. الأستاذ محمد عيد عشاوي. الدكتور يوسف زعين. الأستاذ مصطفى رستم) وأطلق سراح الأخيرين على أمل أن يحاورهم، وأن يتعاونوا معه، بينما تواصل اعتقال الثلاثة ما يقرب ربع قرن، وجرت تصفية اللواء صلاح جديد وهو في المعتقل، وأضيف إلى هؤلاء أعضاء القيادة جميعهم، سوى اثنين هربا وأقاما في الجزائر. وثلاثة من أعضاء القيادة القومية (العرب)، وعرف التنظيم الحزبي خلخلة متلاحقة، إذ التحقت الأغلبية بالانقلاب بمبررات مختلفة، وجاءت الدعوة الخبيثة من البعض “بالعمل من الداخل” لتجتاح كثيراً من الذين اتخذوا موقفاً معارضا في البداية ثم التحقوا بالانقلاب، ومعظمهم انغمس في التحولات التي عرفها ذلك الحزب في ظلّ حكم الأسد التي جوّفته، ووسعت المنتسبين إليه بمئات آلاف البعثيين الجدد ليصبح مزرعة للانتهازية وبوقاً للنظام، وغطاء مثقوباً لممارساته المريبة.
الأسد ومدى التزامه بالبعث
الضباط الذين حُسبوا على البعث في مرحلة ما قبل السلطة معظمهم لم يعيشوا في مدرسة حزبية تقولبهم وتنمي وعياً حزبياً مدنياً فيهم، إذ انتسبوا إلى البعث وهم في المرحلة الثانوية، وغالباً ما كان الانتساب شكلياً، ولم يكن هناك تنظيم بالمعنى الدقيق، ثم التحقوا بالكلية الحربية التي كوّنتهم على شاكلتها بتعزيز نهج القوة والتراتبية ومنطقهما، وضعف احترام السياسيين والقادة الحزبيين وبالتالي النظام الداخلي للحزب، وكانت هذه الظواهر بارزة في شخصية حافظ الأسد الذي بقدر ما كان يبدي التزاماً شكلياً بالحزب كان يناقض مبادئه في سلوكه، وفي تجميع المؤيدين حوله مستخدماً وجوده وزيراً للدفاع بما يملك من قدرات مالية ضخمة لتقريب عدد من الضباط إليه بصفة شخصية، وتلبية طلباتهم. وأذكر قصة بالغة الدلالة أنه حين قام بانقلابه شبه الشامل /في مطلع عام 1969/ توجه إلى اللقاء به -بناء على إيعاز من القيادة القطرية- وفد يمثل قيادات “المنظمات الشعبية” وكانت مرحلة المواجهة في أوجها، والجهاز الحزبي مستنفر، وكثيرون يحملون السلاح، قيل إنه راح يسخر من هؤلاء بالقول “عودوا إلى بيوتكم.. لأنكم لا تقدرون على مواجهة دبابة واحدة” وكلام طويل بهذه الروح.
انقلاب الأسد كان درساً صريحاً لأعلى مؤسسة حزبية، واستهتاراً بها، ولمزيد من الاحتقار جعل القيادة القطرية المؤقتة التي شكّلها مفتوحة لمدة ستة أشهر، أما القيادة القومية التي عيّنها فلم يجتمع بها مرة واحدة، وهناك قصص واقعية كثيرة تدلل على احتقاره للحزب، والعمل على مسخه وتحويله إلى ممسحة، ومستنقع للانتهازيين والمخبرين. وعلى سبيل المثال: أطلق الأسد في بداية حكمه شعار “الحزب هو الشعب والشعب هو الحزب” وأطلق العنان لعمليات التبعيث الكبرى التي جعلت ذلك الحزب مليوني العدد، وجهازاً لخدمة النظام تنخره أجهزة الاستخبارات، واللصوصية، والمنافع.
الأسد بتركيبته لم يكن يهمه شيء سوى البقاء في السلطة، لذلك كان مقايضاً بالقضايا الوطنية والقومية كلها، وعاملاً على تفكيك الوحدة الوطنية بمزيد من التموضعات الطائفية، وعمليات التفتيت التي أنهت عملياً بقايا المشروع النهضوي، وإمكان أن يكون البعث قوة فاعلة في حركات التحرر العربي الوطني والقومي. وقد أكّد إصراره على التوريث احتقاره للحزب وعدم الإيمان به وبدوره إلا توظيفاً واستخداماً.
تنظيم “23 شباط”
بداية؛ ليس المصطلح دقيقاً فقد شاع نوعاً من التوصيف، أو للتمايز عن البعث الحاكم، وهناك من كان يطلق عليه اسمّ “جماعة صلاح جديد” بما في ذلك من دلالات تقزيم. وهذا الجناح، أو الحزب، أو التنظيم بدّل الاسم في المؤتمر القومي الحادي عشر الذي عقده في صيف عام 1980 وأصبح “البعث الديمقراطي الاشتراكي العربي”.
ويجب تأكيد أن نسبة الذين اتخذوا موقفاً معارضاً للانقلاب كانت ضئيلة، قياساً بعدد المنظمين في الحزب، ولم يكونوا على موقف واحد، ويمكن تلمّس اتجاهين واضحين:
الأول: كان يعتبر نفسه الحزب الشرعي، وينظر إلى حافظ أسد بوصفه مغتصباً، ومتآمراً، وأن سقوط السلطة، وليس الحزب جاء بفعل تآمر خارجي قومي بسبب المواقف القومية والخط الثوري، من دون أن يعترف كثيرون فيه بدور الأزمة البنيوية والممارسة، وكان جلّ همّه العمل على العودة إلى الحكم عبر انقلاب عسكري بدا حلماً بعيداً، على الرغم من كثير من الحكايا والنيات، وكان يتمسّك بقوة بالخطاب السياسي الذي أكدت الأحداث بعده عن الواقع، وعدم قابليته على التحقيق بفعل مستوى قدرة الأداة، وطبيعة المتغيرات المحلية والدولية.
الثاني، وعلى العموم: كان يرى أن ما جرى سقوط للحزب، وكشف لأزمته البنيوية، وللفجوة الكبيرة بين الشعارات والواقع، وبين الأمنيات والقدرات ومستوى وضع الأداة، وأنه لا بدّ من التغيير الشامل، وكانت الماركسية موجة قوية بعد هزيمة حزيران رأى فيها كثير من القوميين وغيرهم المخرج، فركزوا على الجانب النظري، وأهمية وجود نظرية ثورية، فأخذت تتبلور لدى أغلب هؤلاء توجهات يسارية ممتلئة بالحماس، والاندفاع والإلحاح على نقد التجربة مدخلاً، وبدءاً لأي عمل تنظيمي، ورفض المراهنة على انقلاب عسكري من دون أن يكون التنظيم هو القائد، والمُقرر، وأن تتبع المؤسسة العسكرية للحزب وليس العكس.
أمور كثيرة كانت مثار خلاف وصراع داخلي تماوج حتى درجة الانشقاق، أو اليأس من قابلية ذلك التنظيم على فعل شيء مهم، وعلى إعادة الثقة التي فقدت بالحزب، وكثير من مسائل خلافية بما فيها الطائفية ولوثتها، ومسؤولية الحزب عنها، وعجزه عن التصدي لها ومعالجتها علنياً، وفي حينها ترافقت كثير من الظواهر المرضية مع تلك التجربة في الحكم، وهزيمة حزيران ومفعولاتها ونتائجها، وعدد من القضايا التي تحتاج إلى إعادة النظر في وضع صعب يواصل فيه النظام مطاردة أي عمل تنظيمي، ويقوم بحملات اعتقال متواصلة، وضمن وضع مالي صعب.
هنا يجب تسجيل حقيقة تتعلق بالرهانات الكلية على النظرية الثورية، وخوض صراعات عنيفة لأجل تكريسها، وذلك الاندفاع المختلط بالعواطف والتبسيط والأطوار التي مرّت بها تلك التجربة، ووعي قيادة القطر التي تحمّلت مسؤولية التنظيم، وواجهت الاعتقالات والمطاردة، والمتمثلة في حالة أقرب إلى الانبهار منها إلى امتلاك المنهج، على الرغم من كثير من الكلام عن الخصوصية، وتعريب الماركسية التي كانت هاجساً، ومحاولة التمايز عن الحزب الشيوعي التقليدي، والعمل على تكوين العقل العربي، وكانت فكرة “التحول” من حزب بورجوازي صغير إلى حزب ماركسي تأخذ جلّ الوقت والاهتمام، ويُخاض لأجلها كثير من الصراعات، وقد كتب كثير في فحواها، ومراحلها ضمن صيغة “استمرار. تجاوز. تحوّل”. فقد كانت الماركسية. وفق النظام السوفياتي وملحقاته في المنظومة الاشتراكية. تعاني أزمة تتفاقم، ويمكن القول إنها تأسيسية تبدأ من أخطاء بنيوية في صلب الرؤية الماركسية حول المراحل الخمس، والمستقبل ودكتاتورية البروليتاريا، وتجاهل أنماط الإنتاج الآسيوي تأثراً بالنمط الأوروبي، عدا مسائل نظرية عدة. احتاج الأمر إلى سنوات لوعيها من قيادة التنظيم، ولعل الأهم من ذلك الفعل اللينيني الذي أدخل تغييرات جوهرية على صلب الماركسية بفعل الأوضاع الروسية، وانتصار الثورة البلشفية وما عرفته من تحولات وأطوار. فماركس بنى أساس النظرية على فكرة المتغير الموضوعي ومدى تطوره حين تصبح الطبقة العاملة القوة المهيمنة في مجتمع صناعي متقدم، فتفرز طبيعياً ثورتها ودكتاتوريتها، في حين إن أوضاع روسيا ألزمت لينين بعملية استبدالية خطرة تقتضي بإحلال العامل الذاتي مكان الموضوعي الذي اختصر بالحزب، وبناء على ذلك صيغت الأفكار والسياسات جميعها كتراكب الثورتين، والأحادية في القيادة، وتضخيم دور الحزب بوصفه قائداً كلياً، وحرق المراحل عبر تلك الآلية، وموقع البنى الفوقية من التحتية التي عرفت نكوصاً وتجويفا في المرحلة الستالينية قادت إلى الدكتاتورية، وإلى تقديس النص، والفرد القائد شبه المعصوم وإلى استخدام “العنف الثوري” المفرط في مواجهة المعارضين، وإعدام الحريات العامة…إلخ.
في أواخر عام 1980 عُقد المؤتمر القومي الحادي عشر الذي انتظره كثيرون ليكون مؤتمر التحول، و”النقلة ىالنوعية” بحضور وتمثيل هزيلين، وبواقع انحسار جلّ التنظيمات القومية والارتكاز على تنظيم القطر السوري الذي برزت فيه لاحقاً خلافات متدنية الخلفية ولا علاقة لها بألف باء الحزب الثوري، فحملات اعتقالات متتالية أنهكت التنظيم، وعمقت الخلافات فيه، وصولاً إلى ما يشبه الانشقاق الكبير في أواخر عام 1983.
تبنى ذلك المؤتمر النظرية الثورية، وبدّل اسم الحزب، ثم أنجزت القيادة المنبثقة منه برنامجاً سياسياً شاملاً كان يعاني الأرشفة كبقية البرامج لدى أحزاب المعارضة والبعد عن الواقع والتجسيد، وجرى الخلاف حول مضمون مشروع نقد التجربة، والتباين في التناول والمضامين. ذلك كله قاد إلى الافتراق.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.