بعد عقود من الهدوء النسبي، شهد العام 2020 اشتعال المعارك مجدداً في إقليم ناغورو قره باغ، المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، ليفتح الباب على فصل تاريخي جديد في حياة الإقليم، الذي أطلقت أول رصاصة بسبب النزاع عليه، في عام 1992.
من البداية..
بداية الصراع على الأقليم كانت مع دخول القوات الأرمينية إليه عام 1993، بدعوى وجود أغلبية أرمينية تعيش فيه، وبالتالي ضمه إلى أراضيها، على الرغم من عدم وجود حدود برية بين الإقليم وأرمينيا، وهو ما اعتبرته أذربيجان بمثابة اعتداء على أراضيها وشرارة حرب مع جارتها.
وبحسب مصادر تاريخية، فإن أزمة الإقليم بدأت تماماً مطلع القرن العشرين، بعد أن عمدت السلطات السوفياتية، برئاسة “جوزيف ستالين” إلى تقسيم المنطقة بشكل عرقي، وحشد عدد كبير من الأرمن في الإقليم، بحيث يحيط بهم الأذريون من كل جهة، دون أن يرتبطوا بحدود مع أرمينية، وذلك ضمن متغيرات ديمغرافية طالت العديد من العرقيات في تلك الحقبة، التي كان يسيطر فيها السوفيات على المنطقة، بعد انهيار الدولة العثمانية.
التحول إلى الصراع المسلح والمواجهات العسكرية بين الطرفين، بدأ عام 1988، حيث أقر الاتحاد السوفياتي طلباً من سلطة الإقليم بالانضمام إلى الأراضي الأرمينية بشكل رسمي، وهو ما تم في العام ذاته، على الرغم من معارضة الأذريين.
مع تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1992، شهد الصراع تطوراً كبيراً، حيث أقدمت القوات الأرمينية على التوسع في الإقليم والسيطرة على 20 بالمئة إضافية من الأراضي الأذرية، إلى جانب الشريط الحدودي، حيث اتخذت روسيا حينها موقفاً داعماً لأرمينيا، إلى حين التوصل إلى اتفاقية وقف إطلاق النار عام 1994، والانتقال إلى المفاوضات السلمية.
تجدد الصراع وانقلاب في الموازين
بقيت حالة النزاع بين الطرفين في حالة هدوء نسبي، لمدة 26 عاماً، إلى أن أعلنت أذربيجان عام 2020، الحرب على إرمينيا، وإطلاق عملية عسكرية، بدعم من تركيا، لدخول أراضي الإقليم، لتستمر العمليات العسكرية ستة أسابيع، حتى تم التوصل في 10 تشرين الثاني الماضي، إلى اتفاق بين الطرفين برعاية روسية، تم خلاله الاعتراف بسيادة أذربيجان على المناطق التي سيطرت عليها خلال المواجهات العسكرية، بالإضافة إلى انسحاب الجيش الأرميني من مناطق إضافية من الإقليم.
شكل الاتفاق المذكور خيبة أمل بالنسبة للأرمن، الذين رأوا فيه هزيمة أمام أذربيجان، ما دفعهم إلى المطالبة بإستقالة الحكومة ومحاسبتها، لا سيما وأن الأرمن نزحوا عن الإقليم، باتجاه الأراضي الأرمينية.
الدور التركي .. وحدة العرق وعداء التاريخ
المميز في الصراع الأخير حول الإقليم، كان دخول تركيا بشكل قوي ومباشر إلى جانب الجيش الأذري، ما طرح عدة تساؤلات عن المصالح التركية في الإقليم.
وفقاً للمصادر التاريخية، فإن الأذريين يرتبطون بوحدة العرق مع الأتراك، فهم ينحدرون من أصول تركية، وتربطهم صلات دم وثيقة، بالإضافة إلى نظرة تركيا لتلك المنطقة على انها حديقتها الخلفية، وتركة من بقايا الدولة العثمانية، التي انهارت بعد الحرب العالمية الأولى.
بالإضافة إلى وحدة الدم مع الأذريين، لعب العداء التاريخي بين تركيا وأرمينيا، دوراً كبيراً في دخول الحكومة التركية على خط المواجهات في الإقليم، خاصة في ظل مطاردة الأرمن للأتراك في القضية الدولية المعروفة باسم “إبادة الأرمن”، التي يتهم فيه الأرمن، الجيش العثماني بارتكاب مجارز ضدهم مطلع القرن الماضي، والتي ذهب ضحيتها الآلاف، على حد قولهم.
إيران.. قلق من خارج الحدود وتخلٍ عن الشيعة
المفاجآت بالنسبة لغير المتعمقين في قضية الإقليم، امتدت أيضاً إلى الموقف الإيراني، الذي دعم بشكل ضمني وسري الجيش الأرميني، على الرغم من أذربيجان ذات غالبية شيعية، حيث يشكل المسلمين الشيعة 85 بالمئة من الشعب الأذري، مقابل 15 بالمئة من المسلمين السنة.
موقف إيران وفقاً لمحللين سياسيين، يرتبط بعاملين، الأول أن أذربيجان تتجه نحو العلمانية، كما أن الشعب الأذري يتأثر بانتمائه العرقي إلى الأتراك أكثر من انتمائه الطائفي لإيران ومرجعياتها، خلافاً للوضع في عدد من الدول العربية والدول في شرق أسيا، كباكستان وأفغانستان.
أما العامل الثاني، فيرتبط بمخاوف أمنية، على اعتبار أن الأذريين المنتشرين في محافظات إقليم أذربيجان الشرقية، التابعة لإيران، يحملون نزعات إنفصالية وتوجهات قومية أكثر قرباً للانضمام إلى أذربيجان من البقاء تحت السيادة الإيرانية، خاصة وأن عددهم في تلك المناطق قد يصل إلى 20 مليون نسمة، ما فجر حالة من القلق لدى السلطات الإيرانية من أن يذكي تقدم القوات الأذرية في قره باغ النزعة الانفصالية للأذريين في إيران ويدفعهم للقيام بثورة على النظام والوضع القائمين حالياً.