شكّل مقتل قاسم سليماني صدمة مزدوجة، بل صدمة ثلاثية أحاطت بكل من نظام الملالي، كما نظام الأسد بدمشق، وكانت صدمة كبيرة لحزب الله، وكان سليماني واحدًا من قهرمانته الكبار خصوصًا وأنه كان ينظر إليه باعتباره محصّنًا من الموت، دون نسيان سلطاته غير المحدودة سواء في ايران أو لبنان أو في سوريا، حتى بلغ الامر بسلطته أن امتدت إلى إحضار الرئيس “بشار الأسد” إلى طهران لحضور اجتماعات دون حتى التشاور أو إبلاغ وزير خارجيتها جواد ظريف ما أدى يومها لتقديم ظريف للاستقالة وقد تراجع عنها.
سليماني كان مادة لتقرير موسّع لمعهد أبحاث الشرق الأوسط، حيث قام بالتحقيق “داني ماكي” وهو كبير محققي المعهد، ليقول فيما قاله بأنه “بينما كان يُنظر إلى سليماني على أنه خصم مخيف من قبل أعدائه، جرى تصميم صورة “سليماني” العامة، وخاصة في سوريا، لرسمه وكأنه شخص متواضع ومسالم، وإحدى تلك الحكايات تصوره وهو يترك رسالة شكر مكتوبة بخط اليد وبعض المال مقابل المنزل الذي استولى عليه في البوكمال قبل مغادرة صاحبه”. ويتابع داني ماكي تداعيات موت سليماني ليعرض ردود الأفعال التي وقعت أعقاب مقتله، حيث تدفق المسؤولون السوريون بأعداد كبيرة إلى السفارة الإيرانية في “دمشق”، تم تنظيم تجمعات شعبية صغيرة ومنسقة بإحكام في اللاذقية وحلب وحمص لإدانة الهجوم الذي أدى إلى مقتل “سليماني”، كما حصل أيضًا على “وسام البطل” في الجمهورية العربية السورية، وهو أعلى وسام سوري يُمنح لمواطن غير سوري.
وبسبب دوره في المساعدة في سحق التمرد المسلح المناهض لـ”الأسد”، أثارت وفاة “سليماني” موجة من الحزن في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في سوريا. وعلى الرغم من الطبيعة المثيرة للجدل لوجود إيران في سوريا والاختلافات الإيديولوجية والسياسية بين المناطق التي يسيطر عليها الموالون في البلاد والجماعات المدعومة من إيران، فقد كان الموالون له يعبرون عن حزنهم لوفاته عالميًا، كدليل على تقديرهم لمساعدته العسكرية خلال الأوقات الصعبة، وليس كدعم لأهدافه وأهداف إيران في سوريا والمنطقة”.
زار رئيس مكتب المخابرات الوطنية السورية علي مملوك العاصمة الإيرانية “طهران” وحضر جنازة “سليماني” كنوع من إظهار للتضامن، وكذلك كعلامة واضحة على حقيقة أن قائد فيلق القدس الذي جرى اغتياله تعامل بشكل أساسي مع المخابرات السورية والجهاز العسكري. بعد أيام، قام وفد رفيع المستوى برئاسة رئيس الوزراء عماد خميس بزيارة إيران في 12 يناير/كانون الثاني لتقديم التعازي الرسمية لإيران بعد وفاة “سليماني”، لكن عدم وجود ممثل رسمي “غير أمني” في الجنازة، يشير إلى رغبة خفية من الجانب السوري في الإبقاء على “سليماني” خارج السياسة السورية بشكل حازم.
• سليماني وقد أنقذ بشار الأسد من مصير القذافي
في حين كان يعتقد في البداية أن “سليماني” قد شارك لأول مرة في العمليات العسكرية في سوريا خلال المعركة الاستراتيجية على القصير بالقرب من حمص في عام 2013، ظهرت معلومات جديدة تشير إلى أن إيران و”سليماني” على وجه الخصوص لعبا دورًا أكبر بكثير في الصراع، بل دورا بدأ قبل ذلك بكثير. وكشف وزير الدفاع السوري اللواء علي أيوب مؤخرًا أنه التقى “سليماني” لأول مرة في حمص في عام 2011 خلال السنة الأولى من الصراع، وأن “المعركة الأولى التي خططنا ونفذناها كانت في باب عمرو في حمص”. وهذا يوحي بأن إيران بدأت المشاركة العسكرية في سوريا منذ اليوم الأول للصراع وأن علاقتها مع قيادة الجهاز العسكري والأمني في سوريا كانت متداخلة بشكل لا ينفصم من حيث الاستراتيجية والتخطيط لبقاء النظام.
كجزء من المجهود الحربي، جندت إيران العديد من القوات المحلية في كل من سوريا والعراق لخدمة أغراضها، مثل فرقة “فاطميون”، والتي يقال إنها كانت طليعة مليشيات “سليماني” في سوريا، وإنها قد وصلت إلى 20 ألف جندي في ذروتها، في حين تشير مصادر أخرى إلى أن الجماعة لديها ما لا يقل عن 10000 مقاتل في سوريا وحدها. انضم السوريون من بلدات مثل نبل وزهراء في حلب وكفريا والفوعة في إدلب مع خلفية شيعية تقليدية إلى مجموعات “سليماني” خلال الحرب، لأغراض عسكرية ومالية وإيديولوجية. ومع تدهور الوضع الاقتصادي، كان الرجال في سن الخدمة العسكرية يفتقرون إلى فرص عمل مستقرة ورأوا في القتال حلاً سريعًا -وهو الوضع الذي أفاد الإيرانيين بشدة.
بحسب نيكولاس هيراس المحلل المختص بالشؤون السورية في معهد دراسات الحرب، فإن “قاسم سليماني هو الرجل الذي أنقذ بشار الأسد من مصير مثل القذافي”. وكان “سليماني” مهندس استراتيجية “الدفاع الداخلي الأجنبي” في عام 2012 التي أدت إلى استقرار وضع الأمن الداخلي للحكومة السورية في وقت كانت فيه “دمشق”، إما تخسر أو تتنازل عن الأراضي للمتمردين في جميع أنحاء البلاد”.
• رحل سليماني وميليشياته باقية
يؤكد تقرير المعهد، بأن قرار الولايات المتحدة بالقضاء على “سليماني” كان ضربة قاسية لإيران وشبكتها الإقليمية من الوكلاء والحلفاء والجماعات المسلحة؛ ومع ذلك، لن يترجم ذلك بالضرورة إلى تراجع في تأثير إيران أو وجودها العسكري في سوريا. على العكس من ذلك، لم يمنع “سليماني” سقوط الحكومة السورية فحسب، بل بنى جيشًا من المليشيات والمؤيدين الذين سيتفوقون عليه، ربما عبر عقود.
كان دور “سليماني” في النزاع السوري مثيراً للجدل. وبالنسبة للبعض، كان ينظر إليه على أنه العقل المدبر وراء النجاحات العسكرية للحكومة السورية، في حين رأى آخرون أنه مجرم حرب خطير وخطير.
وقال روان رجولي، المحلل الذي يغطي الصراع: “بالنسبة للسوريين المعادين للأسد، كان مجرم حرب وأول شخص مسؤول عن التغييرات الديمغرافية في العديد من الأماكن في سوريا، بما في ذلك دمشق وحمص”.
وفي حين أن موت “سليماني” سيكون له بالتأكيد تأثير على جهود إيران في المنطقة، فإن قوتها ونفوذها لن يتلاشيا بين عشية وضحاها. “من المحتمل أنه قد يخلق بعض التشويش على المستوى التكتيكي ويضعف القدرة على السيطرة على شبكة الميليشيات التي يعززها سليماني، [لكن] الميليشيات الشيعية في إيران ستظل مصدراً لزعزعة الاستقرار في المنطقة”.
الصراع في سوريا لم ينته بعد وستكون الجماعات المدعومة من إيران موجودة وقائمة في البلاد في المستقبل المنظور. بعد أقل من أسبوع من مقتل “سليماني”، ضربت غارات جوية إسرائيلية مشتبه بها على القوات المدعومة من إيران في البوكمال في دير الزور في 10 يناير/كانون الثاني، حيث ذكرت وكالة “أسوشيتيد برس” أن ثمانية مقاتلين قتلوا، تلتها غارات على قاعدة T4 العسكرية الجوية بالقرب من تدمر في شرق حمص في 14 يناير، عندما قتل ثلاثة آخرون. وعلى الرغم من استمرار الغارات الجوية، ألمح “المصري” إلى أن الميليشيات التي تدعمها إيران من المرجح أن تبقى في البلاد لبعض الوقت في المستقبل: “هذه التشكيلات العسكرية [الإيرانية] ستبقى موجودة في مختلف المناطق السورية، ودعمها لم ولن يتوقف باستشهاد أي قائد”.
• هل ثمة تورط سوري في اغتياله؟
وبينما يبدو أن تركة “سليماني” راسخة في سوريا، فقد برزت أزمة أخرى في تقارير إعلامية تشير إلى احتمال تورط سوري في اغتياله. يجري السوريون تحقيقهم الدقيق بشأن أي تسريبات استخباراتية محتملة من الجواسيس الذين ربما يكونون قد أطلقوا معلومات عن موقع “سليماني” أثناء سفره من دمشق إلى بغداد. وفقًا لوكالة “رويترز”: “يخضع اثنان من موظفي شركة شام وينجز (شركة طيران سورية) للتحقيق من قبل المخابرات السورية”.
ربما كان “سليماني” عدوًا للولايات المتحدة لعقود، لكن موته لن يحدد نهاية أهدافه وطموحاته بالنسبة لسوريا والمنطقة. لا يزال هناك عشرات الآلاف من المقاتلين وعدد هائل من القادة في سوريا الذين ساعدوا في تدريبهم، وقد يواصلون عمله بعد ذلك لتوسيع نفوذ إيران وهيمنتها في الشرق الأوسط.