فجر اعتذار “سعد الحريري” عن تشكيل الحكومة اللبنانية، أزمة سياسية واقتصادية جديدة في البلاد التي تعاني أصلا من أزمات مركبة، إذ تخطى الدولار الأمريكي عتبة الـ 22 ألف ليرة، بعد ساعات من الاستقالة، فيما شهدت البلاد احتجاجات ومواجهات مع قوات الأمن التي استخدمت الرصاص لتفريق المظاهرات.
ويرى مراقبون أن اعتذار الحريري يضع البلاد أمام المجهول، كما ينذر بإطالة أمد الفراغ الحكومي، ما سيتسبب بمزيد من الانهيار الاقتصادي والمعيشي، فيما يعتقد آخرون ان الأمر لن يتبقى عند هذا الحد، مشيرين إلى سيناريوهات تنتظر البلاد، يتصدرها سيناريو الفوضى العارمة، كما يطمح السيناريو الأكثر تفاؤلا في تشكيل حكومة مؤقتة تدير البلاد ريثما يأتي موعد الانتخابات النيابية المقبلة.
ويوم أمس الخميس، أعلن “الحريري” في مؤتمر صحفي اعتذاره عن تشكيل الحكومة عقب لقائه “عون” في قصر الرئاسة شرق العاصمة بيروت، لمناقشة الحكومة المقترحة، مؤكدا أن موقف الأخير لم يتغير، وأن التعديلات التي طلبها جوهرية وتطال تسمية الوزراء، لا سيما المسيحيين منهم، مضيفاً أنه من الصعب الوصول إلى توافق.
يشار إلى أن هذه هي المرة الثانية التي يقدم فيها “الحريري” تشكيلة وزارية، إلا أن عون رفضها وطلب إدخال تعديلات عليها، كما رفض قبل أشهر التشكيلة الأولى وطلب حينذاك أيضاً إدخال تعديلات عليها.
وتتركز الخلافات بينهما حول حق تسمية الوزراء المسيحيين، مع اتهام من “الحريري” ينفيه عون بالإصرار على الحصول لفريقه السياسي على “الثلث المعطل”، وهو عدد وزراء يسمح بالتحكم في قرارات الحكومة.
سيناريو كارثي ينتظر البلاد
في تعليقه على استقالة “الحريري”، يشير المحلل السياسي “نزار الحلبي” إلى أن كل المعطيات كانت تؤكد استقالته عند أي مواجهة مع الرئيس “عون”، وذلك كنتيجة حتمية لإصرار الاثنين على مواقفهما من اختيار أعضاء الحكومة، لكن “الحلبي” يرى أن المشكلة لا تكمن في اعتذار “الحريري”، إنما بحال لبنان بعد ذلك، معتبرا أن المؤشرات توحي إلى أن هناك سيناريو كارثي ينتظر لبنان، حيث سيكون هناك المزيد من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وارتفاع في سعر صرف الدولار، وأزمة سياسية حادة بين اللبنانيين، وانقسام عمودي في البلاد، ما سيزيد المشهد تعقيدا سيدفع الشعب للنزول إلى الشوارع مرة أخرى وبزخم أكبر.
ويتوقع “الحلبي” أن يشهد لبنان المزيد من عمليات الشغب والفوضى لبعض الأطراف الحزبية والقوى السياسية التي ستحاول تأجيج الخلافات السياسية والأمنية، ما سيضاعف الضغوط على الشارع اللبناني، في ظل زيادة جشع التجار، وزيادة الطلب على الدولار، وانقطاع المواد الغذائية الأساسية والأدوية، وأزمة المحروقات وعودة الطوابير، حيث سيدفع الجميع الثمن.
وفيما يشدد “الحلبي” على أن “لبنان بات في مهب الريح بسبب تعنت فريق رئيس الجمهورية وتمسكه بمواقفه، يؤكد على ضرورة أن يوقع الاتحاد الأوروبي ودول الغرب العقوبات التي وعدت بها على السياسيين اللبنانيين، ودفعهم للمحاكمة ومحاسبتهم على هدر أموال الشعب واللعب بمصيره”.
نفق مظلم ينتظر لبنان
الناشطة والباحثة في الشأن اللبناني، “دينا أبو وردة” تتفق مع ما جاء به “الحلبي”، مشددة على أن اللبنانيين قد يشهدون في الأيام القليلة المقبلة تداعيات ما بعد الاعتذار، “وستطال كل الجوانب، لا سيما الاقتصادية والاجتماعية، وترى “أبو وردة” أنه لا بد من التوقف حول ما قاله “الحريري” في ختام إعلان اعتذاره، مشيرة إلى أنه قال “الله يعين البلد”، لأنه يدرك تماما أن لا شخصية بديلة عنه متفق عليها من جانب الأطراف السياسية، ما قد ينذر بالأسوأ على مختلف الصعد.
وفي دليل على بدء تأثير “الاعتذار”، تخطى سعر صرف الدولار للمرة الأولى في تاريخ لبنان عتبة الـ 20 ألف ليرة لبنانية، بعدما كان يبلغ 19 ألف قبيل دقائق قليلة من إعلان الحريري اعتذاره، كما وصل سعر الدولار في السوق الموازية (السوداء) إلى أكثر من 22 ألف ليرة اليوم الجمعة.
بالتزامن مع ذلك، شهدت مناطق متفرقة من لبنان احتجاجات عارمة كما حدثت مواجهات بين المحتجين وعناصر الأمن اللبناني، أسفرت عن سقوط إصابات. وحسبما أكد ناشطون ومصادر محلية، فإن الاحتجاجات ستتواصل إلى حين الانتهاء من الأزمات التي تعصف بالبلد.
في هذا السياق، تتوقع “أبو وردة” أن تشهد مناطق لبنانية عدة حركات اعتراضية متنقلة، قد يجري استغلالها سياسياً، ما قد يعزز الدخول في المجهول وربما في الفوضى.
وبحسب “أبو وردة” فإن البلاد تتجه نحو مرحلة صعبة من شد الحبال بين الفرقاء السياسيين، وهذا ما سينعكس على الوضع الاقتصادي.
ويزيد عدم تأليف حكومة من معاناة هذا البلد العربي الذي يرزح تحت وطأة أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه، ما أدى إلى انهيار مالي ومعيشي وارتفاع معدلات الفقر وشح في الوقود والأدوية وسلع أساسية أخرى.
تحركات لاختيار بديل
على عكس نسبة كبيرة من المراقبين، ينظر المحلل السياسي “خليل حريك” إلى استقالة “الحريري” باعتبارها فرصة لإنقاذ لبنان، إذ يرى أن اعتذار “الحريري” كان متوقعا، وأنهى حقبة الإدارة بالفراغ والمراوحة في المكان، وتبادل الاتهامات، وفتحت استقالته البلاد عل خيارات متعددة.
كما يكشف “حريك” عن دعوة وجهها رئيس الجمهورية “ميشال عون” لجلسة حوار وطني لرؤساء الكتل النيابية في قصر بعبدا، لعقد مشاورات واستشارات ملزمة، بغية الاتفاق على شخصية تكون بديل للحريري.
ويرجح “حريك” أن تفضي هذه الاستشارات إلى اختيار مرشح يشبه “حسان دياب” عمليا، وربما تتفق أركان المنظومة السياسية على تشكيل حكومة تكون مهمتها إدارة البلاد والأزمة إلى حين قدوم موعد استحقاق الانتخابات النيابية.
يشار إلى أن “سعد الحريري”، كان اعتبر في تصريحات تلفزيونية، انه باعتذاره عن تشكيل الحكومة، ضحّى بنفسه من أجل البلاد، بعدما وجد أن الطريق مسدود، مؤكدا بعد ساعات من تقديم اعتذاره أنه لن يسمي أحداً لرئاسة الحكومة اللبنانية.
يذكر ان الحكومة الفرنسية، حثت اليوم الجمعة، لبنان على اختيار رئيس وزراء جديد في أقرب وقت ممكن، معلنة عن مؤتمرا دوليا جديدا لتلبية احتياجات اللبنانيين سيعقد في الرابع من أغسطس/ آب بمبادرة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والأمم المتحدة.
رغم اقراره بأن تصريحات “الحريري” وتأكيده على أنه لن يسمي أحد لرئاسة الحكومة، تبدو مؤشرات أنه “عون” يتوجه لاختيار بديل له، يرى الكاتب والمحلل السياسي “خالد منيف”، انه لن يكون هناك توافق سياسي على اختيار بديل عن “الحريري” حالياً، معتبرا أن هذا الأمر سيطول انتظاره، ما سينعكس سلباً على الوضعين السياسي والاقتصادي في لبنان.
وبحسب “منيف” فإن سبب عدم التوافق هو أن رؤساء حكومات سابقين وهم “فؤاد السنيورة”، “تمام سلام”، “نجيب ميقاتي”، بالإضافة الى “سعد الحريري”، يرفضون تسمية ودعم أي شخصية “سنية” أخرى لتولي رئاسة الحكومة، كما يلفت منيف إلى أن روساء الحكومات السابقين يفضلون في هذه المرحلة الحساسة، أن يقوم “حزب الله” وحليفه “التيار الوطني الحر” حزب عون بتسمية رئيس جديد للحكومة، وهذا ما يحاول الحليفين السياسيين تجنبه حالياً، خشية انفجار الوضع.
الجدير بالذكر أن “الحريري”، كان قد تقدم بتشكيلة حكومية من 24 وزيرا، الأربعاء، وقال إنه ينتظر جوابا من الرئيس اللبناني حلول اليوم الخميس.
وأضاف “الحريري”، “قدمت للرئيس عون حكومة من 24 وزيرا من الاختصاصيين حسب المبادرة الفرنسية وحسب مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري، وبالنسبة لي هذه الحكومة قادرة على أن تقوم بالبلد وتبدأ بالعمل على وقف الانهيار”.
ويواجه لبنان حاليا ما يصفه البنك الدولي بأنه أسوأ أزمة اقتصادية يشهدها العالم منذ قرن ونصف القرن؛ حيث تدهور الوضع المالي منذ خريف العام 2019، وانخفضت قيمة العملة الوطنية أكثر من 10 مرات مقابل الدولار الأميركي، ما أدى إلى ارتفاع أسعار المنتجات غير المدعومة بنسبة تتجاوزمن 400 بالمئة.