تمكن اليمين المتطرف ذي الجذور الفاشية من الفوز بالانتخابات التشريعية في إيطاليا التي جرت الأسبوع الماضي، لتكون البلد الأوروبي الثاني بعد السويد خلال هذا الشهر الذي يترأس السلطة فيها أطراف ذات توجهات يمينية متطرفة، والرابع بعد المجر والنمسا خلال السنوات الأخيرة.
وحقق اليمين الإيطالي بزعامة جورجيا ميلوني فوزا تاريخيا في الانتخابات التي نظمت الأحد الماضي، الأمر الذي يحيي هواجس الأوروبيين بمدى ضمان سلامة منظومة حقوق الإنسان، والتي تدخل ضمنها هواجس تتعلق بالإسلاموفوبيا ووضعية المهاجرين واللاجئين خاصة من العرب والأفارقة الذين يدخلون إيطاليا بالآلاف سنويا عابرين البحر المتوسط خلسة.
وبعد تأكد حصول التحالف اليميني أغلبية قوية في البرلمان، أعلنت ميلوني أنها ستترأس الحكومة المقبلة وأن حزبها سيحكم “لجميع” الإيطاليين لـ”توحيد الشعب”، بينما أعلن الحزب الديمقراطي الذي يمثل يسار الوسط انضمامه لصف المعارضة في البرلمان.
وبحسب المركز الإيطالي للدراسات الانتخابية فإن حزب “إخوان إيطاليا” بزعامة ميلوني والرابطة اليمينية المتطرفة بقيادة ماتيو سالفيني سيحصلان على “أعلى نسبة من الأصوات التي سجلتها أحزاب اليمين المتطرف على الإطلاق في تاريخ أوروبا الغربية منذ عام 1945”.
وبدأت ميلوني في الأيام الماضية مفاوضات لتشكيل حكومة يرجح أن تكون الأكثر يمينية في تاريخ إيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو أمر يزعج الكثيرين خصوصا من المهاجرين واللاجئين داخل إيطاليا، كما يثير فوز ميلوني (التي تكن إعجابات كبيرا بأفكار موسوليني ومارين لوبان وفيكتور أوربان) قلقا داخل الأوساط السياسية الأوروبية.
ولا تخفي التيارات اليمينية المتطرفة مشاريعها التي تركز على مسألة القومية الضيقة وبالتالي تقصي المهاجرين خاصة من غير الأوروبيين وتدعو إلى دول أوروبية وطنية متجانسة اجتماعيا وثقافيا ودينيا، الأمر الذي يحيل على معاداة المسلمين في المشروع اليميني المتطرف.
وتكمن المفارقة حسب استطلاعات الرأي في أن نسبة كبيرة من مسلمي إيطاليا صوتوا لصالح اليمين المتطرف، إذ يعتبر الكثير منهم أن تصريحات اليمينيين ضد المهاجرين مجرد دعاية انتخابية، متمسكين بفكرة أن الأجانب يمثلون رقما صعبا في التوازن الاجتماعي وفي الدورة الاقتصادية بإيطاليا التي تفتقر بالأساس للقوة العاملة، وتعاني من ظاهرة ارتفاع متوسط عمر السكان، التي يُعبر عنها بالتهرم السكاني.
والمفارقة الأخرى في الانتخابات الإيطالية هي أن اليمين المعادي للأجانب وللمسلمين وضع على قائمة مرشحيه امرأتين مسلمتين، هما سعاد سباعي عن حزب سالفيني، وسارة كيلاني عن حزب ميلوني.
حكومة تعارض الهجرة بشدة
والحكومة الجديدة لإيطاليا التي يتوقع أن تتشكل في غضون أسابيع قليلة، تضع مسألة الهجرة على رأس أولوياتها، إذ تؤكد الأحزاب التي تشكل الائتلاف اليميني معارضة شرسة للهجرة لاسيما حزب ميلوني.
وتعد مسألة الهجرة بمثابة وتر حساس لدى العديد من الناخبين ذوي الميول اليمينية في إيطاليا، الذين يشعرون أن بلادهم لم تتلق سوى القليل من المساعدة من أوروبا في التعامل مع عبء استيعاب الوافدين الجدد ودمجهم في المجتمع.
وخلال السنوات الماضية، انتقدت ميلوني سياسات الهجرة الإيطالية، واصفة إياها بأنها “متساهلة للغاية” وأن تلك السياسات تخاطر بتحويل البلاد إلى “مخيم للاجئين في أوروبا”.
لكن بعد أن أصبحت ميلوني قاب قوسين أو أدنى من قيادة الحكومة الإيطالية، فإن الهجرة باتت واحدة من المجالات التي يمكن لها أن تحقق فيها تغييرا شاملا بسهولة، خاصة وأنها وحلفاؤها يريدون الوفاء بوعودهم للناخبين.
وكانت ميلوني قد دعت مرارا إلى فرض “حصار بحري” على البحر المتوسط. وفي مقابلتها مع صحيفة “ذا بوست” ، قالت خلالها: “يجب العمل على إدارة تدفقات المهاجرين ويجب الدفاع عن الحدود”.
وأضافت أن إيطاليا كانت تمنح المهاجرين بعض المسارات القانونية القليلة لكنها سمحت في الوقت ذاته للهجرة بأن يهيمن عليها “المهربون” و”تجار البشر”.
حركة نزوج للمهاجرين نحو فرنسا
وتسبب وصول اليمين المتطرف في قلق كبير لدى المهاجرين واللاجئين في إيطاليا، لاسيما أن الوعود لدى تلك الأحزب هو التضييق عليهم ومنع دخول أي مهاجر جديد للبلاد.
في هذا السياق، يقول “جهاد بريرمي” وهو ناشط تونسي يعمل في أحد جمعيات الإنقاذ البحري بإيطاليا، إن”هناك حالة من الخوف والهلع انتشرت بين المهاجرين واللاجئين من مختلف الجنسيات داخل إيطاليا بعد إعلان فوز اليمين المتطرف بالانتخابات”.
وأضاف في تصريحات لتلفزيون ( DW) الألماني أنه لاحظ وجود حركة نزوح من عدة مدن إيطالية في اتجاه فرنسا، مؤكدا في هذا السياق بالقول إنه هو شخصيا بدأ في بحث أمر انتقاله إلى فرنسا بعد تصاعد القلق من احتمال تجريم عمل المنظمات الإنسانية التي يعمل معها.
وأشار إلى أن فرنسا بدورها بدأت في تكثيف عمليات تأمين الحدود بشكل غير مسبوق خوفا من قوافل المهاجرين واللاجئين التي قد تأتي من إيطاليا، خاصة مع تناقل الأخبار بين المهاجرين القادمين من مصر وتونس وليبيا عن إغلاق محتمل للحدود الإيطالية.
وذكر الناشط التونسي في هذا الإطار أن عمليات رقابة مشددة بدأت من جانب السلطات الإيطالية مؤخرا، شملت حتى تفتيش سيارات المواطنين الأوروبيين القادمين إلى إيطاليا، مشيرا إلى انتشار الكلاب البوليسية في محطات القطارات الرئيسية.
وقال إن عمليات التفتيش شملت هواتف المهاجرين القادمين مؤخرا إلى إيطاليا، وتحدث نقلا عن عدد من المهاجرين عن عمليات تفتيش لهواتفهم النقالة بحثا عن أرقام هواتف ليبية، إذ تعتقد قوات الأمن الإيطالية أنها إشارة محتملة لارتباط الشخص الذي يحتفظ برقم ليبي في هاتفه بشبكات الإتجار في البشر داخل ليبيا، مؤكدا أن هذا الأمر قد يعرض حتى القائمين بعمليات الإنقاذ على متن السفن لمشكلات كبيرة.
إغلاق حدود إيطاليا ؟
تقول منظمات غير حكومية إن هناك خشية جدية، من أن يؤدي وصول الفاشيين الجدد بزعامة ميلوني إلى السلطة إلى إغلاق حدود ايطالياـ الذي يقصد سواحله سنويا عشرات آلاف المهاجرين غير النظاميين القادمين من الضفة الجنوبية للبحر المتوس بحثا عن حياة كريمة لم تتوفر لهم في بعض بلدان إفريقيا البائسة.
وكانت ميلوني قد غردت على تويتر بُعيد فوزها بالانتخابات قائلة:”في أوروبا، إنهم قلقون جميعا لرؤية ميلوني في الحكومة.. انتهى العيد، ستبدأ إيطاليا بالدفاع عن مصالحها القومية”.
كذلك، هتفت ميلوني في يونيو/ حزيران الماضي في إطار الإعلان عن مشروعها بالقول:”نعم للعائلة الطبيعية، لا للوبي مجتمع الميم، نعم للهوية الجنسية، لا لأيديولوجيا الجندر، ولا للهجرة الجماعية والعنف الإسلامي. تحيا إيطاليا، وتحيا أوروبا للوطنيين”.
كذلك، فإن المسلمين في إيطاليا يتذكرون جيدا سالفيني المتحالف مع ميلوني عندما أعلن في انتخابات 2018 عن نيته ترحيل نصف مليون مهاجر غير نظامي، فضلا عن ذكره الإسلام بسوء في مناسبات عديدة أبرزها تعليقه بأن “التطرف الوحيد الذي ينبغي التفطن إليه هو التطرف الإسلامي”، وذلك تعليقا على مذبحة المسجدين في نيوزيلندا عام 2019.
ومع تنامي المخاوف من أن”تعبث”التيارات اليمينية المتطرفة بالقيم الأوروبية، قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إن لدى الاتحاد الأوروبي “أدوات لمعاقبة الدول الأعضاء التي تنتهك سيادة القانون وقيمه المشتركة”.
تجريم عمل السفن الإنسانية في المتوسط
يتفق مراقبون ومحللون كثر على أن ميلوني ستعمل على إغلاق أبواب الهجرة إلى بلادها واحدا تلو الآخر وخصوصا أمام المهاجرين غير النظاميين عبر البحر المتوسط، فيما يرى آخرون أن إيطاليا ربما لا تصبح مع الوقت خيارا مفضلا للمهاجرين واللاجئين بسبب التشدد المتوقع في سياساتها مع هؤلاء الأشخاص.
في هذا السياق، يقول الباحث “محمد الكاشف”من مؤسسة ( Watch the Med )، إن “إيطاليا تعد واحدة من دول المواجهة وتعتبر المرفأ الأول الذي يصله مهاجرون خصوصا من المسار الأوسط للبحر المتوسط، والذي يشمل دولا تونس وليبيا ومصر، إلى جانب القوارب التي بدأت تنطلق مؤخرا من لبنان باتجاه إيطاليا”.
وأضاف “الكاشف” وهو متخصص في قضايا اللجوء والهجرة من ألمانيا، في تصريحات للتلفزيون الألماني، أن الدولة الايطالية حاولت كثيرا في السنوات الماضية الاعتراض على ما رأته معاملة غير لائقة من قبل الاتحاد الأوروبي من حيث الاكتفاء بدورها كدولة استقبال لاجئين كاليونان وإسبانيا دون وجود توزيع عادل لهؤلاء الأشخاص على باقي دول الاتحاد.
ويرى الخبير أن “هذا الأمر مرشح بشدة لأن يتغير” مع الحكومة اليمينية القادمة ونبرة أحزابها “الاستعلائية والعنصرية ناحية كل ما هو غير إيطالي وغير أوروبي، متخذة في ذلك مسار بعض دول شمال أوروبا من حيث الخطاب الشعبوي، لذا من المتوقع أن نرى الكثير من الجدل والمناقشات حول تعديل الدور الإيطالي في مجال استقبال اللاجئين والمهاجرين”.
وذكر أنه “في الوقت الحالي نرى ممارسات السلطات البحرية الإيطالية من حرس حدود وخفر السواحل تجاه قوارب وسفن الإنقاذ التي تحاول إنقاذ المهاجرين واللاجئين قبل غرقهم في البحر.. اعتقد أن هذا التشدد الحالي سيزيد عما هو عليه وقد يكون مصحوبا برد فعل عنيف تجاه تلك العمليات الإنسانية في إنقاذ الأشخاص”.
كما توقع أن”يتم التشدد في إغلاق الحدود خصوصا البحرية وقد يكون ذلك مصحوبا بإطلاق يد وكالة حماية الحدود الأوروبية (فيرونتكس) لمواجهة تدفق المهاجرين واللاجئين إلى السواحل الإيطالية”.
أزمات قانونية
وبحسب منظمات حقوقية فإن منع جهود سفن الإنقاذ التابعة للمنظمات الخيرية من الرسو في الموانئ الإيطالية قد يؤدي إلى اندلاع أزمات قانونية متعددة على مستوى أوروبا.
وتقول المنظمات الحقوقية إنه إذا ما أغلقت الحكومة الإيطالية كافة الطرق المؤدية إلى إيطاليا، فمن المحتمل أن ينفجر الوضع في دول أخرى، إذ سيزداد حجم المعابر إلى دول جنوب البحر المتوسط الأخرى مثل إسبانيا، وهو ما حدث بالفعل قبل ثلاث سنوات عندما قادت إيطاليا لفترة وجيزة حكومة شعبوية مناهضة للهجرة.
بقي أن نقول إن الأحزاب اليمينية من المجر إلى النمسا والسويد وصولا إلى إيطاليا أخيرا وجدت في موجات الهجرة والاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية وتراجع القدرة الشرائية وأزمة الطاقة نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، بيئة خصبة للتقدم والنمو في ظل التراجع التاريخي لأحزاب اليسار وكذلك بقية الأحزاب الوسطية الأوروبية.
وفيما يشبه “متحورات كورونا” السريعة العدوى والانتشار، انتقلت عدوى التحالفات اليمينية المتطرفة في عدة بلدان أوروبية بسرعة خلال الفترة الماضية، وانتشرت كالنار في الهشيم محققة “حركية” كبيرة، لتراكم النجاح تلو الآخر، حتى أن دولة مثل فرنسا كاد اليمين أن يصل لسدة الحكم الربيع الماضي، لكنه تمكن في الانتخابات البرلمانية من تحقيق قفزة لم يحققها في تاريخه على الإطلاق بعد حصول على أكثر من 100 معقد في البرلمان بعدما كان لديه 14 معقدا فقط في انتخابات عام 2017.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.