مع الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية في العراق، والتي أكدت تقدم التيار الصدري على منافسيه، بدأت ملامح الحكومة الجديدة تتشكل، رغم تجديد المعترضين على نتائجها رفضهم للإعلان النهائي، لاسيما الفصائل الموالية لإيران.
وبإعلان النتائج النهائية، تكون المفوضية العليا للانتخابات قد رمت الكرة في ملعب المحكمة الاتحادية، التي يفترض أن تصادق على النتائج بعد حسم جميع الطعون.
وفيما يرى مراقبون أن النتائج النهائية التي أعلنتها المفوضية مساء الثلاثاء، شكلت مفاجئة من العيار الثقيل للكتل والأحزاب المهيمنة على المشهد السياسي بعد الاحتلال الأمريكي، ما سيفقدها تحكمها بإدارة الدولة، يطرح آخرون أسئلة حول ما إذا كان سينعكس ذلك سلبيا على فترة اختيار رئيس الحكومة وأعضائها، أو احتمالية أن تتسبب تلك النتائج ببدء صراع سياسي جديد، خاصة مع رفض الأحزاب الشيعية التقليدية للنتائج النهائية.
حكومة أغلبية لا توافقية
أعلنت مفوضية الانتخابات أمس الثلاثاء، النتائج النهائية، بعد الانتهاء من مراجعة الطعون والاعتراضات وإجراء عمليات عد وفرز يدوي للمراكز الانتخابية التي قدمت فيها الطعون.
النتائج المعلنة لم تحمل تغييرا كبيرا عن النتائج الأولية، إذ ما يزال التيار الصدري متقدما بـ73 مقعدا، يليه تحالف “تقدم”، الذي يقوده “محمد الحلبوسي” بـ37 مقعدا، ثم ائتلاف دولة القانون “نوري المالكي” بـ33 مقعدا، ثم الحزب الديمقراطي الكردستاني “مسعود بارزاني” بـ31 مقعدا، وتحالف كوردستان (الاتحاد الوطني الكردستاني “طالباني” بـ17 مقعدا ومثلها لتحالف الفتح “هادي العامري” المكون من تآلف من المجموعات العراقية الشيعية المسلحة مثل حركة بدر وعصائب أهل الحق “قيس الخزعلي” وغيرها.
وفقا للنتائج الحالية، يرى الباحث السياسي “عبد المنعم السعدون”، أن الجهة الأقرب لتشكيل الحكومة هي تحالف يضم التيار الصدري وحزب تقدم والحزب الديمقراطي الكردستاني مع بعض المستقلين، والذين يشكلون مجتمعين أكثر من 140 مقعداً في البرلمان، ما يمنحهم أفضلية إعلان حكومة “أغلبية وطنية” كما أرادها “مقتدى الصدر”، لكنه في الوقت ذاته يحذر من بعض المصاعب أو “العراقيل القانونية” التي قد تستخدمها الفصائل الخاسرة لتعطيل عملية تشكيل الحكومة.
وكان زعيم التيار الصدري، الذي لا يتمتع بعلاقة جيدة مع الأحزاب والفصائل المسلحة الشيعية المقربة من إيران، قد أعلن منذ اليوم الأول لإعلان انتصاره، أن حزبه ينوي تشكيل الحكومة بشكل منفرد على أن تكون حكومة أغلبية لا توافقية.
يشار إلى أنه، منذ عام 2005، أي بعد صياغة الدستور العراقي الحديث، وكقانون غير مكتوب، تم تقاسم السلطة في النظام السياسي الحديث حينها، بشكل يرضي جميع الأطراف الفاعلة والهامة، بغض النظر عن الخاسر والفائز في الانتخابات البرلمانية، فكل حزب أو فصيل كان يحتفظ بنصيبه من السلطة في كل حكومة عراقية، تحت اسم تشكيل حكومة توافقية، لا يعارضها أحد، ولا يتحمل حزب واحد مسؤولية أفعالها، وبهذا الدستور غير المكتوب، حافظت كل القوى السياسية المهيمنة على نفوذها داخل العراق.
ويقول “السعدون”، إن الصدر جاء ليهدد كل هذا، ويمزق هذا القانون، مشددا على أن “الحكومات التوافقية هي سبب خراب العراق”.
وحول إمكانية عرقلة ذلك من قبل الفصائل المدعومة من إيران، يشدد السعدون على أنه وفق نتائج الانتخابات الحالية، لا يمكن للقوى المجتمعة داخل الإطار التنسيقي الشيعي جمع أكثر من 85 مقعداً، في وقت تحول تفاهمات ما قبل الانتخابات على الإطار التنسيقي دون عقد اتفاقات مع كتلة “تقدم” بزعامة “الحلبوسي”، والديمقراطي الكردستاني بقيادة “مسعود برزاني”.
كما يتوقع الباحث السياسي العراقي، أن تشهد مباحثات تشكيل الحكومة مصاعب عدة، منوها إلى أن الكتل والأحزاب الخاسرة قد تلجأ إلى إثارة ملف حسم التفسير القانوني ومن ثم السياسي للكتلة الكبرى التي يُفترض أن توكل إليها مهمة تشكيل الحكومة، بآلياتها المتعارف والمتفق عليها.
وظهر الخلاف حول التفسير القانوني للكتلة الكبرى بعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات، ويكمن بحسب خبراء قانونيين حول المادة 45 من قانون الانتخابات الجديد (رقم 9) الصادر عام 2020، حيث تنص على أنه “لا يحق لأي نائب أو حزب أو كتلة مسجلة ضمن قائمة مفتوحة فائزة بالانتخابات، الانتقال إلى ائتلاف أو حزب أو كتلة أو قائمة أخرى إلا بعد تشكيل الحكومة بعد الانتخابات مباشرة، دون أن يخل ذلك بحق القوائم المفتوحة أو المنفردة المسجلة قبل إجراء الانتخابات من الائتلاف مع قوائم أخرى بعد اجراء الانتخابات”.
يذكر أنه بحسب المادة (76) من الدستور العراقي، يحق للكتلة الأكبر في البرلمان تشكيل الحكومة، بتكليف من رئيس الجمهورية خلال 15 يوماً من تاريخ انتخاب الرئيس، ما يعني وفقاً للنتائج النهائية للانتخابات، أن الكتلة الصدرية هي الأوفر حظاً.
استمرار التصعيد ولكن..
بعد الإعلان عن النتائج النهائية، تتجه الأنظار إلى المحكمة الاتحادية العليا التي يتوقع أن تصادق عليها لعدم وجود ما يمكن عده عائقاً يجعلها تعيد النظر فيها.
في هذا السياق، يؤكد المحامي “خليل عمر” أنه من الناحية القانونية، فإن المحكمة الاتحادية العليا سوف تصادق على النتائج بعد أن أقرتها الهيئة التمييزية القضائية، ولا شأن لها في رفض النتائج أو إعادة الانتخابات، إذ إن واجبها محدد وفق الدستور.
وفي معرض رده على سؤال حول التصعيد الحالي المستمر منذ أكثر من شهر ونصف الشهر أمام بوابات المنطقة الخضراء من قبل القوى الخاسرة في الانتخابات، يؤكد “عمر” أن يستمر التصعيد بشكل أو بآخر. وفي حال لم يشترك الإطار التنسيقي، في الحكومة المقبلة، وتحديداً بعض المنتمين لتحالف الفتح، فإنهم سيبقون في مشكلات دائمة مع الحكومة العراقية.
ولا يستبعد “عمر” توجه الفصائل الخاسرة في الانتخابات إلى إثارة مواجهات مسلحة واصطدام، لكنه يرى أن هذا لن يؤخر تشكيل الحكومة التي من المتوقع أن تتشكل بأغلبية وطنية سنية شيعية كردية.
وبحسب المحامي، “قد يتفق الكرد والسنة في سلة واحدة، ولكن الشيعة لن يتفقوا معاً، وبالتالي فإنه من المرجح أن يكون محور الحكومة التيار الصدري، مع الجهات السنية والكردية”.
وفي تطور متوقع، أعلنت الفصائل العراقية الشيعية التي يجمعها كيان عرف باسم “الإطار التنسيقي” المكون من قوى تحالف الفتح، وقوى “تحالف الدولة” بقيادة عمار الحكيم وحيدر العبادي، وقوى أخرى عدم اعترافها بالنتائج التي أعلنتها المفوضية أمس الثلاثاء.
وقالت تلك القوى إنها تواصل “رفض النتائج الحالية والاستمرار بالدعوى المقامة أمام المحكمة الاتحادية لإلغاء الانتخابات”.
وقال بيان للإطار “نرفض رفضا قاطعا نتائج الانتخابات الحالية، إذ بات واضحا وبما لا يقبل الشك قيام مفوضية الانتخابات بإعداد نتائج الانتخابات مسبقا على حساب إرادة الشعب العراقي”.
بدورها، نفت المفوضية العليا للانتخابات مساء الثلاثاء “وجود أي تزوير بنتائج الانتخابات”، مؤكدة على لسان المتحدث باسمها عماد جميل أن “المجتمع الدولي كان داعما للانتخابات العراقية”.
وفيما يبدو ردا على المطالب بإقالة المفوضية الحالية قال أحد أعضائها لوكالة الأنباء العراقية إن “عمل المفوضية لم ينته بإعلان النتائج النهائية للانتخابات، بل سيستمر بالتسجيل والتحضير للاستحقاقات القادمة مثل انتخابات مجالس المحافظات”.
رهان على القوى السنية
ظلت القوى السياسية السنية العراقية الحلقة الأضعف في المشهد السياسي بعد عام 2003، لأسبابٍ مختلفة أبرزها اعتبار بقية المكونات العراقية أن السنة فقدوا حكم البلاد، بعد أن كانوا مسيطرين عليه لأكثر من ثمانين عاماً، منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة بزعامة الملك “فيصل” وحتى سقوط نظام “صدام حسين”، حسبما يقول الباحث في الشأن العراقي، “كاسر الراوي”، الذي يؤكد أن وضع هذه القوى يشهد تحوّلاً مهماً، فالنتائج التي أفرزها الاقتراع تنذر بتغيير كبير بخارطة المشهد السياسي. خاصة في تشكيل الحكومة المقبلة وتوزيع الأدوار المهمة فيها.
ويرى “الراوي” أن من أهم بوادر خروج المكوّن السني من الدور الثانوي، الذي لعبه طوال السنوات الماضية، قيام مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، الفائز الأبرز بالانتخابات، بزيارة “محمد الحلبوسي”، زعيم تحالف “تقدم”، ورئيس البرلمان العراقي السابق، لإجراء مشاورات معه حول تشكيل الحكومة المقبلة. وهو أول شخصية سياسية يزورها الصدر بعد الانتخابات.
كما يؤكد “الراوي” أنّ القوى السياسية السنية العراقية ستكون من أهم اللاعبين السياسيين في الفترة المقبل، لحاجة جميع الأطراف الشيعية إليها، في سعيها لتأسيس الكتلة البرلمانية الأكبر، التي ستتولى عملية تشكيل الحكومة المقبلة في البلاد.
يشار إلى أن “إسماعيل قاآني”، قائد فيلق القدس الإيراني، كان زار العراق مؤخراً، والتقى على هامش الزيارة بزعامات القوى السياسية السنية أبرزها “محمد الحلبوسي”. و”خميس خنجر”، رئيس تحالف “عزم”.
وبحسب “الراوي”، فإن “قاآني” طلب من القيادات والزعامات السُنية عدم الوقوف مع أي طرفٍ شيعي على حساب طرف آخر، واعدا بإنهاء سيطرة الفصائل المسلحة والميلشيات على المناطق المحررة، ذات الأغلبية السُنية، والعمل على إعادة جميع العوائل السنية النازحة لمناطقها، والحفاظ على مكتسبات السُنة في الحكومة والبرلمان العراقيين.
يشار إلى أن تحالف “تقدم”، بزعامة رئيس البرلمان السابق “محمد الحلبوسي”، حصل على ثمانية وثلاثين مقعداً في البرلمان العراقي، وحلّ بالمرتبة الثانية في نتائج الانتخابات العراقية بعد التيار الصدري، فيما حصل تحالف “عزم” بزعامة “خميس الخنجر” على أربعة عشر مقعداً. مع انضمام مجموعة من المستقلين للتحالف ليقترب عدد مقاعده من عشرين مقعداً.