يتخذ رئيس الحكومة اللبنانية “نجيب ميقاتي” خطوة جديدة على طريق ما يعرف في لبنان بـ “محاربة الفساد”، وذلك من خلال قرار رفع الحصانة عن جميع المسؤولين للمثول أمام القضاء، ما يثير وفقاً لمتابعي الشأن اللبناني الجدل حول مدى جدية ذلك القرار وامتلاك مؤسسات الدولة اللبنانية القدرة على تنفيذه.
يشار إلى ان الرئيس اللبناني، “ميشال عون” سبق له وأن أصدر قرارات متعلقة بمحاربة الفساد والتحقيق مع مسؤولين سابقين، تزامناً مع اندلاع المظاهرات في لبنان في تشرين الأول 2019، إلا ان تلك القرارات لم تحدث أي أثرٍ على الأرض، وفقاً لما تؤكده مصادر لبنانية.
حيتان وليسوا سياسيين
تعليقاً على قرار “ميقاتي” يتساءل المحلل السياسي، “ميشال بوصعب” عن الإمكانيات التي تمتلكها الحكومة لتنفيذ تلك القرارات، لا سيما وأنها حكومة تفاهمات سياسية بين أطراف متعددة، موضحاً أن “حكومة ميقاتي عملياً ليست إلا حكومة تصريف أعمال بقالب حكومة طبيعية، والهدف من تشكيلها ليس سوى التخفيف من مطالبة الشارع اللبناني بسقوط النظام السياسي وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وهي الفكرة التي لا تروق لبعض التيارات اللبنانية وفي مقدمتها تيار الرئيس عون وصهره جبران باسيل”.
ويلفت “بوصعب” إلى أن قرار “ميقاتي” ممكن أن يكون قرار رائع لو كان هناك فعلاً دولة لبنانية بأجهزة مستقلة وغير مسيسة، مشدداً على أن القادة السياسيين في لبنان هم حيتان أكبر من الدولة وأجهزتها، الأمر الذي يفرغ قرار “ميقاتي” من محتواه ويجعله مجرد حبر على ورق، على حد قوله.
كما يشير “بوصعب” إلى أن عدم استقلالية القضاء وحتى الأجهزة الأمنية أو الرقابية سيمنع قيام أي تحقيق جاد حول أي قضية كانت مهما كبرت أو صغرت، لافتاً إلى أن لبنان محكوم بمحاصصة تبدأ من أصغر الوظائف وصولاً لرئاسة الجمهورية.
إلى جانب ذلك، يقول “بوصعب”: “كل موظف في لبنان محمي بمظلة سياسية تجعله أكبر من أي قانون وتمنع الحكومة أو الدولة اللبنانية من محاسبته حتى على صعيد مخالفة مرور أو مخالفة بناء، فكيف في قضايا فساد كبيرة قد تؤثر على التيار السياسي الذي يمثله”، مشدداً على أن “ميقاتي” نفسه يعلم أن هذا القرار لن يطبق على الإطلاق وأن إصداره لم يكن سوى محاولة من رئيس الحكومة الجديدة لإضفاء نوع من الاختلاف والقوة على حكومته.
من عياش إلى سماحة إلى مرفأ بيروت.. الجميع فوق الحساب
ينطلق الخبير في شؤون الشرق الأوسط، “أحمد عيتاني” في تقييمه لقرار “ميقاتي” بالتذكير ببعض الحوادث الكبيرة التي شهدها لبنان خلال 15 عاماً الماضية، ابتداءً من قضية مقتل رئيس الحكومة الأسبق “رفيق الحريري” وصولاً إلى انفجار المرفأ مروراً بأحداث 7 أيار وقضية النائب “ميشال” سماحة”، الذي اعتقل متلبساً بنقل متفجرات بسيارته الشخصية من سوريا إلى لبنان، ليتم إطلاق سراحه بعدها بأعوام على الرغم من اعترافه بأن تلك المتفجرات كانت ستستخدم في عمليات اغتيال ضد سياسيين لبنانيين.
ويقول “عيتاني”: “كل تلك الجرائم على الرغم من تهديدها للأمن والكيان اللبناني إلا أنها بقيت قضايا مفتوحة بدون أي متهمين أو تحركات من الدولة اللبنانية لإنجاز أي خطوة فيها، وأنا هناك أذكر بانها قضايا تتجاوز في خطورتها قضايا الفساد التقليدي، وهنا أسأل إذا كانت الدولة اللبنانية عاجزة عن إيجاد متهم واحد في قضية مثل قضية انفجار المرفأ أو اعتقال مطلوب دولي بقضية اغتيال الحريري كيف لها أن تحارب فساد المسؤولين”، مشيراً إلى أن الدولة اللبنانية أضعف بكثير من أن تواجه أي مسؤول فيها أو حتى أن تسأله من أين لك هذا.
يشار إلى ان مدير المشروع الإقليمي لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي في البلدان العربية، “أركان السبلاني”، كان قد قدر في وقتٍ سابق حجم الفساد في لبنان بنحو 9 في المئة من الناتج الإجمالي السنوي، أي ما يعادل 5 مليارات دولار سنوياً، بحسب بيانات عام 2019.
في ذات السياق، يؤكد “عيتاني” أن تغيير رئيس الحكومة في لبنان لا يعني أبداً وجود تغيير في الدولة اللبنانية ومؤسساتها، بما في ذلك المؤسسات القضائية والأمنية والعسكرية، الغارقة في مستنقع التسييس والتبعيات السياسية، لافتاً إلى أن المشكلة في طبيعة بناء الدولة وليس بشخص رئيس الحكومة او أعضاء حكومته، خاصة في ظل وجود فصائل مسلحة تفوق في قوتها القوة العسكرية للجيش اللبناني، وفي مقدمتها ميليشيات حزب الله.
ويسأل “عيتاني”: “في حال توجيه تهم بالفساد لأحد المسؤولين المحسوبين على حزب الله أو حركة أمل أو التيار الوطني الحر، هل ستكون الحكومة قادرة على محاسبته أو حتى استدعائه للمحكمة”، لافتاً إلى أن مثل هذا القرار الصادر عن “ميقاتي” ما كان ليتخذ لولا وجود موافقة من قبل التيارات السياسية التي تدرك تماماً أن تطبيقه سيكون ضرباً من المستحيل.
يذكر أن حزب الله سبق له وأن نفذ انقلاباً في لبنان في 7 أيار 2008، حيث نشر مئات المسلحين من عناصره في شوارع العاصمة بيروت على خلفية قرار رئيس الحكومة آنذاك، “فؤاد السنيورة” إقالة العميد “وفيق شقير” المقرب من حزب الله من منصبه، إلى جانب تفكيك شبكة اتصالات الحزب.
متاهة القرارات واللعب على أوتار الوقت
قرار الحكومة برفع الحصانات لا يتعدى كونه خطوة من شانها إضاعة اللبنانيين في متاهة القرارات واللعب على أوتار الوقت، بحسب ما يراه الباحث في الشؤون اللبنانية، “نبيل عبد الستار”، معتبراً انه سيكون مجرد قرار للاستهلاك إعلامي.
ويشدد “عبد الستار” على أن محاربة الفساد وإصلاح الأوضاع في لبنان لا يمكن أن تكون إلا بدخول البلاد في مرحلة انتقالية يقودها التنكوقراط، والتي تمهد لإنشاء هيكلية جديدة للدولة اللبنانية وحتى للأحزاب السياسية مع استبعاد كامل لفكرة الأحزاب القائمة على أسس الطائفية، إلى جانب إنهاء عصر المحاصصات والتفاهمات، لافتاً إلى أن مؤسسات الدولة اللبنانية يجب أن تفعل بشكل كامل وتفصل عن التبعيات السياسية والمذهبية كي تكون قادرة على تنفيذ أياً من مهامها.
كما يؤكد “عبد الستار” على أن سلاح حزب الله هو من أول العقبات التي يجب معالجتها قبل الخوض في أي خطوة إصلاحية في لبنان، كون وجوده سيبقيه مسيطراً ومتحكماً بكل المسارات التي يسلكها لبنان وسيبقيه فوق الدولة والقانون، موضحاً أن أي خطوات غير ذلك لن تكون أكثر من عمليات تجميل لواقع بشع يعيشه اللبنانيون.
يذكر أن جهات سياسية لبنانية اتهمت حزب الله بالتسبب بالأزمة الراهنة من خلال عمليات التهريب التي يجريها للوقود والقطع الأجنبي والأدوية ومواد رئيسية، عبر المنافذ غير الشرعية التي يديرها على الحدود مع سوريا.