يتصف حكم الملالي في إيران، بصبغته المتشددة الفارضة لعقلية رجال الدين المتحكمين بمفاصل الدولة على الشعب في مختلف تفاصيل الحياة حتى في بعدها السياسي والاجتماعي ضد كل ما يهدد سطوتهم وسيطرتهم، منذ قيام ما سميت لاحقًا بالثورة الإسلامية في إيران التي أنهت الملكية وقضت على حكم الشاه وأوصلت طبقة رجال دين شيعة للسيطرة على البلاد ففرضوا كل شيء وفق رؤية تيارهم الإسلاموي في خطط تستهدف الداخل والخارج بين حماية الثورة. تصديرها..
وتجاوزت إشكالية حكم الملالي في طهران قضية البعد الاجتماعي والديني ووصلت لدرجة مرتفعة من القمع تمثلت في تكميم الأفواه ومعاقبة كل من يجهر بانتقاد السلطة مهما كان في سياسة رافضة لحرية التعبير بل وحتى المناقشة السياسية.. واتضحت مؤشرات ذلك في انتفاضات الشعب المتتالية خلال السنوات الماضية والتي قمعتها السلطة بأقوى وأشد الطرق باستهداف جموع المتظاهرين وصولًا إلى استمرار انتهاك الحريات الفردية ومعاقبة الأشخاص بأقصى العقوبات برسالة داخلية تهدف لإرهاب الشعب ورسالة خارجية تستهدف الإيحاء بقوة النظام وسيطرته على مختلف مفاصل الدولة ضد ما يسميها التدخلات الخارجية.
الإعدام منهج ورسالة
سبب إعدام مصارع شهير في إيران، موجة سخط وانتقاد في الداخل الإيراني وعلى مستوى عالمي.. حيث قُرءت تلك الخطوة كاستمرار من قبل الملالي على نهج الإعدامات وتكميم الأفواه بالقوة، رغم أن السلطات ذاتها سبق وخففت حكم الإعدام بحق ثلاثة شبان (لكن يبدو أن ذلك استثناء) وفق ما رأها المراقبون في إصرار واستعجال طهران في إعدام المصارع.
“نويد أفكاري” بطل المصارعة الإيراني، يبلغ من العمر 27 عامًا.. فاز “أفكاري” بميداليات كثيرة، وانتصر بأغلبية معاركه ومواجهاته؛ ليأتي القضاء الإيراني وينهي حياته.. في خطوة رسخت فكرة تخوف السلطات الإيرانية من الشخصيات العامة والمشهورة.
تعرّض المصارع للتعذيب وأُجبر على الإدلاء باعتراف قسري، تم بموجيه إعدام “نويد” في وقت سابق من الشهر المنصرم بموجب حكم صادر عن المحكمة الإيرانية العليا.
أقرت المحكمة الاتهام الموجهة بحق “نويد أفكاري” وشقيقيه وحيد وحبيب تهمة المشاركة بالتظاهرات التي عمّت إيران في آب أغسطس 2018، فضلًا عن عدة تهم أخرى تتضمن إهانة المرشد الأعلى وإعلان الحرب على الله والقتل.
وحُكم على “وحيد” بالسجن لمدة 54 عامًا.. وعلى “حبيب” بـ 27 عامًا، كما عوقب الاثنين بالجلد 74 جلدة، ولا يزالان حتى اليوم خلف القضبان.
رسائل الإعدام
يبدو أن إيران – وفق ما يؤكد كثير من المراقبين – وجدت نفسها معزولة ومحاصرة رغم مرور ما يزيد عن أربعة عقود على تأسيسها، خصوصًا وهي ترى أن دعايتها الظاهرية وأهدافها المعلنة بقيادة تحالف إسلامي ضد الولايات المتحدة وإسرائيل باتت بشكل فعلي بعيد المنال.
انعكاس ذلك يتضح ببساطة في المشهد الداخلي وتصاعد حدّة القمع التي تتضافر أدلتها يومًا بعد يوم.. فإعدام المصارع أكد أن البلاد لم تتخذ أي خطوة باتجاه التغيير الذي فرضه شعور عام بعد تخفيف حكم إعدام المتظاهرين الثلاثة (أمير حسين مرادي ومحمد رجبي وسعيد تمجيدي) في ظل الضغط الكبير الذي ظهر مع حملة على الإنترنت استقطبت ملايين التغريدات لـ وسمٍ يحتج على الحكم الصادر بحقهم.. لكن جاء إعدام “نويد” ناسفًا تلك الأوهام ومؤكدًا أن تلك الحالة استثناء.
رغم أن فارق الشُهرة بين المصارع والشبان الثلاثة شبه المجهولين، قد يكون لعب دوره في تحريك السلطات نحو العفو عنهم.. لكنها بذاتها تؤكد منهجية القمع الإيراني وتخوف السلطة من الشخصيات المعروفة ذات التأثير المحتمل، مهما كان ضئيلًا..
فقد جعلت شهرة المصارع من حالته مثالًا للآخرين، رغم أنه كان وإخوته من ضمن آلاف المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع احتجاجًا على تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد وارتفاع معدلات التضخم.. فبات وجود نويد كشخصية شعبية خطًا أحمر بالنسبة لسلطة الملالي الإيرانية (تدمير الرمز).
هذا ما يؤكده منهج التعذيب الوحشي الذي اتخذ بحق المصارع المشهور (في تحطيم نفسي وإذلال ممنهج مدروس) فقد نُقل أن أيام “نويد” الأخيرة كانت حافلة بالتعذيب والوحشية، حيث كتب في رسالة مهرَّبة من زنزانته: “تعرّضت على مدى خمسين يومًا تقريبًا لأفظع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي.. يضربونني بالعصي والقضبان على ذراعيّ وساقيّ وبطني وظهري.. يغطّون رأسي بكيس بلاستيكي ويعذّبونني حتى الاختناق فأصل إلى حافة الموت”.
يذكر أن مبررات حكم الإعدام في حيثياتها استندت إلى اعتراف – زعمت السلطات أنه للمصارع – بطعن موظف أمني تابع لشركة محلية لإمداد المياه خلال إحدى التظاهرات.. لكن تتضافر مؤشرات عن وجود الاعتراف تحت الإكراه، فقد أكد الطبيب الشرعي أن الإصابات التي تعرّض لها نويد في السجن كانت فعلا ناتجة عن التعذيب.. لكن هذا التأكيد لم يُقنع المحكمة العليا بعدم قبول اعتراف نويد ـ الذي يمكن الجزم بشكل شبه مؤكد بأنه انتُزع بالإكراه ـ فرفضت المحكمة أدلة الطب الشرعي على التعذيب باعتبارها غير حاسمة، وتم شنق نويد في سجن عادل آباد في مدينة شيراز يوم 12 سبتمبر أيلول الماضي.
لا راية فوق راية السلطة
“آية الله حسين علي منتظري” أحد كبار مسؤولي نظام الملالي وأحد المرشحين السابقين لخلافة خامنئي نفسه، قبل تحوله نحو المعارضة.. يوضح في سياق التعليق على حالة “إعدام نويد” أنها تتوافق مع مع النهج الذي يعتمده النظام منذ فترة طويلة للتعامل مع المعارضة الشعبية.
حيث أوضحت مذكرات “منتظري” بالتفصيل وحشية النظام الإيراني، حين نَقل عن المرشد الأعلى السابق الخميني قوله: “في الجمهورية الإسلامية، لا يمكن لأحد أن يصبح راية حاشدة للشعب”.. وذلك ردًّا على طلب منتظري باحترام “آية الله العظمى الشريعتمداري” الذي كان يعارض بعضا من سياسات الخميني.. بعد ذلك وُضع كل من “الشريعتمداري ومنتظري” تحت الإقامة الجبرية لبقية حياتهما.
ويبدو أن المرشد الحالي “خامنئي” اتّبع نصيحة وسياسة الخميني.. فعلى مدى العقود الماضية، تتالت الأخبار أن المطرب الشعبي فريدون فاروخزاد، وشعراء إيرانيين أمثال محمد مختاري، وعلماء أمثال علي أكابر سعيدي سيرجاني، تعرّضوا كلهم للنفي أو السجن أو القتل على يد الحكومة الإيرانية في محاولة واضحة لمنع أي شخصية شعبية من أن تصبح مصدر تهديد للنظام…
بل إن الحكومة سجنت المخرج والصحفي “محمد نوريزاد” الصديق السابق للمرشد “خامنئي”، بعد انتقاده للنظام.. ووفقا للأشرطة التي هرّبها من السجن، يفكر نوريزاد في الانتحار.
وتواجه إيران بشكل منتظم اتهامات من الأمم المتحدة والعديد من الدول الغربية والمنظمات الحقوقية بانتهاك مبادىء حقوق الإنسان في أراضيها.
اعتقالات وتكتم
أعلنت الجمعية الدولية لحقوق الإنسان (مقرها فرانكفورت) قبل يومين، أن السلطات الإيرانية اعتقلت الناشطة الألمانية – الإيرانية في مجال حقوق المرأة “ناهد تقوي” في طهران.
حيث نقلت الجمعية الدولية عن مريم كلارين ابنة تقوي قولها “إن تقوي اعتُقلت في 16 أكتوبر تشرين الجاري واتُهمت بـ تعريض الأمن (الوطني) للخطر”.
كما أوضحت المجموعة الحقوقية أن “الناشطة البالغة من العمر 66 عاما محتجزة في حبس انفرادي في سجن إيفين” سيئ السمعة بطهران.
أما أسرة الناشطة، فأبدت خشيتها الشديدة على صحتها لاسيما وأنها مريضة بضغط الدم.
وتحت وسم #أفرجوا عن ناهد، كتبت ابنتها مريم كلارين على تويتر “لا علامة حياة من والدتي منذ 7 أيام! أطالب بتوضيح، أطالب بالتدخل، أطالب بالإفراج عنها!”.
نشير هنا أن سجن أيفين يحتوي على سجناء سياسيون منذ السبعينيات، حيث أطلق عليه اسم “جامعة إيفين”، بسبب عدد الأكاديميين الكبير المحتجزين فيه.
من زاوية أخرى.. أكد مصدر مطلع أن سلطات طهران، شددت من سجن أم وابنتها اللتين سبق وشنتا حملة ضد الحجاب العام الإجباري للنساء أشد قسوة، وحرمت الابنة من الرعاية الطبية ورفضت منح والدتها إجازة بدون سبب واضح.
موقع “صوت أميركا” أعلن أن إيران تعامل ناشطة وابنتها أقسى معاملة في السجن، بسبب حملتهما ضد فرض الحجاب على النساء في البلاد.
حيث نقل الموقع عن مصدر مطلع قوله إن النظام الإيراني يعامل بطريقة قاسية في سجن إيفين بطهران، الناشطة “سابا كرد أفشاري”، البالغة من العمر 22 عامًا، ووالدتها “رحيلة أحمدي”.
ليضيف ذات المصدر أنه بينما سمحت السلطات الإيرانية بدخول “كرد أفشاري” المستشفى ٣ مرات في الأشهر الأخيرة، بسبب أمراض خطيرة، إلا أنها منعتها من الحصول على العلاج الذي تحتاجه قبل إعادتها إلى السجن.
أما منظمة العفو الدولية، فأكدت بدورها أن السلطات الإيرانية أجبرت “كورد أفشاري” على الانتظار لمدة عام بعد اعتقالها في يونيو حزيران 2019، قبل السماح لها بالقيام بأول زيارة لها في المستشفى في 29 يونيو حزيران بسبب مشاكل معوية سابقة تفاقمت في السجن.
وكانت المحكمة الابتدائية الإيرانية حكمت على كورد أفشاري في أغسطس آب 2019، بالسجن 15 عامًا بتهمة “الفساد والدعارة” بسبب دعواتها لخلع الحجاب، وبـ 7.5 سنوات بتهمة “التجمع والتآمر”، وبـ 1.5 عاما بتهمة “نشر دعاية ضد الأمن القومي”، لكن برأتها محكمة الاستئناف لاحقًا من تهمة الفساد والدعارة، مما يعني أنها ستقضي قرابة 9 سنوات في الحبس.
المعارضة السلمية باهظة الثمن
أكد تقرير صدر مؤخرًا عن منظمة “هيومن رايتس ووتش” حول إيران بأنه “في العام 2019، رفع القضاء الإيراني بشكل كبير ثمن المعارضة السلمية، بحيث حكم على عشرات المدافعين عن حقوق الإنسان بالسجن لعقود طويلة”.
ليؤكد التقرير أن “قوات الأمن والقضاء ردّت على هذه الاحتجاجات باعتقالات جماعية تعسفية وانتهاكات فادحة للإجراءات القانونية الواجبة.. وفيما قُتل خلال الاحتجاجات ما لا يقل عن 30 شخصًا، بمن فيهم عناصر من قوات الأمن، لم يجرِ المسؤولون تحقيقات موثوقة في وفاة المتظاهرين أو في استخدام الأجهزة الأمنية للقوة المفرطة من أجل قمع التظاهرات”.
سياسة غير متوازنة
يمكن القول أن القمع والرد القاسي الذي اتبعته السلطات ليس مفاجئًا.. فطهران وجدت نفسها في موقف صعب، وهو نفسه الموقف الذي أشعل التظاهرات في المقام الأول.. حيث يتفاعل الشعب الغاضب مع ما يعتبرونه سياسةً حكومية غير متوازنة تعطي الأفضلية للنفوذ الخارجي على الرفاهية المحلية. (في إشارة للتدخلات الإيرانية الخارجية)
فخلال تظاهرات عام 2018 مثلًا.. رُفعت على اللافتات ويافطات الاحتجاج عبارة “نتمنى أن نعيش من أجل إيران لا أن نموت من أجل سوريا أو فلسطين”، في هجوم مباشر على سياسة هدرت المليارات في مغامرات خارجية غير ضرورية وغير مثمرة بالنسبة للشعب.
حيث يعتبر الشعب الإيراني أن النظام واجه فشلًا ذريعًا في سوريا بعد أن أنفق مليارات الدولارات على تجربة خارجية فاشلة كان حريٌّ بالدولة استخدامها لمصلحتها الخاصة.. واليوم مثلًا تستهدف إسرائيل الاستثمارات الإيرانية الكبيرة في سوريا بصورة شبه يومية، لا تزال إيران ووكلاؤها عاجزين عن الرد.
من زاوية أخرى تلعب التطورات الإقليمية دورًا مهمًا في تحطيم خطط وتواجد إيران المستقبلي في الشرق الأوسط في ضربات قد يقرؤوها الشعب الإيراني تراجعًا وفشلًا في خطط ووعود السلطة (خصوصًا مع التضييق الاقتصادي الذي تستمر به واشنطن).. دون إهمال المتغيرات الأخيرة بقرارات التطبيع الخليجي مع إسرائيل المستهدفة للمصالح الإيرانية والتي يتوقع أن يكون لها تأثير واضح (مثلًا رفعت إسرائيل حظرها على تصدير طائرات F35 المتقدمة إلى الإمارات)
تكتيك قديم
بعد تزايد أزمات النظام الإيراني وفشله الاقتصادي الداخلي وتعثير مشاريعه الإقليمية، يبدو أنه اعتمد بشكل كلي العودة إلى تكتيكات القمع القديمة..
فمنذ وصول روحاني (الرئيس الحالي) للسلطة تضمنت لائحة الذين أُعدموا، شابًا يعاني من مرض عقلي، وقاصرين، وأكثر من مئة امرأة، ومجرم مزعوم لم يحظَ بالتمثيل القانوني اللازم.. ويتوقع – وفق المتابعين – أن “نويد” على الأرجح لن يكون آخر شخص يتم إسكاته بعد خوض معركة التغيير في إيران.
ورغم أن قضايا الإعدام لم تنل شهرة بقدر قضية “نويد” لكنها لا تقلّ عنها مأساويةً، فهي تشمل عدة إيرانيين أُعدموا بسبب جرائم ارتكبوها وهم قاصرون، كحالة “شايان سعيدبور” الذي كان يملك تاريخًا طويلًا وموثقًا من الأمراض العقلية.
حالات أخرى أعدمت فيها إيران مواطنيها بتهمة شرب الخمر، كـ مرتضى جمالي أو حسين جلالوند اللذين أُعدما بدون توجيه أي تهم خاصة أو شكاوى ضدهما.
وبالمجمل ومنذ تسلم الرئيس روحاني منصبه عام 2013، جرى إعدام 108 امرأة، ما رفع إجمالي عدد عمليات الإعدام إلى ما فوق المئة خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2020 وحده.
مؤخرًا، أصدرت ألمانيا بيانًا عاجلًا بشأن إيران لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بالنيابة عن 47 دولة.
وأكد البيان أن هذه الدول مازلت تشعر بقلق عميق إزاء الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان في إيران، خاصة فيما يتعلق بالحق في حرية التعبير.
وأضاف أن التقارير الموثوقة عن الاعتقالات التعسفية والمحاكمات الجائرة وممارسات التعذيب وسوء معاملة المعتقلين تثير القلق بشكل خاص.