تُظهر التحركات الأمريكية في مناطق شرق الفرات والخاضعة للسيطرة الكردية فعليًا تحت مظلة قوات سورية الديمقراطية “قسد” وأجهزتها السياسية.. أن التوجهات الدولية الفعلية تتجه لدعم اقتصادي خاص بتلك المناطق، ربما يختلف في مراميه عن الحصار الاقتصادي المفروض على نظام الأسد والمتزايد على مناطق سيطرته في بقية المحافظات السورية..
ويبدو أن لطبيعة المنطقة الشرقية في سورية الغنية بالثروات والإمكانات (تسيطر قسد على أغلبها في مناطق شرقي نهر الفرات)، يبدو أن لها دور المحرك والمحفز للأمريكان وبعض الفواعل الإقليمية والدولية في تثبيت المشهد الاقتصادي – بعد التغلغل العسكري – لتحقيق أهداف أعمق ليس اقلها السماح لحليفهم “قسد” بالتمكين والتمويل الذاتي بالإضافة لحرمان الأسد من ثروات المنطقة والتي كان يراهن على استعادتها روسيًا لتعزيز اقتصاده المتهالك وإنقاذ نظامه من الهزات الكبرى التي واجهته..
في ظل تلك التقاطعات يمكن قراءة الاتفاقات النفطية الاستثمارية بين ” قسد” والأمريكان.. بالإضافة لعقود العمل والمناقصات والشراكات الاستثمارية التي باتت تأخذ طابعًا جديًا دفع بتكرار الزيارات وجولات العمل في تلك المناطق ..
حيث تعزز قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية قوة ميليشيات “قسد” عبر دعم عسكري ولوجستي واقتصادي وسياسي، في إطار تمكين الميليشيا بمشروعها شبه الانفصالي رغم المخاطر الداخلية والدولية.
وشهد إنهاء نفوذ تنظيم “داعش” بمناطق شرق الفرات، على يد التحالف و”قسد” في آذار 2019.. زيادة دعم واشنطن وحلفائها الاقتصادي للميليشيات، بالتوازي مع عمليات أمنية تشهدها المنطقة من خلايا تابعة لـ “داعش”.
مناقصات وعقود
أشارت تقارير إعلامية إلى أن الأيام الماضية من الشهر الجاري ( ما بين 20 إلى 22 من تشرين الأول أكتوبر)..
وفي خضم سعي “قسد” والتحالف الدولي (الامريكان) للتوصل إلى بائعين ومستثمرين للتسجيل على مناقصات وعقود عمل لمشاريع خدمية واقتصادية محتملة تابعة للتحالف بالقرب من منطقة الشدادي بين محافظتي الحسكة ودير الزور شرقي سوريا.. اجتمعت 14 شركة إقليمية مع مستشاري “قسد”، بالإضافة إلى قوة المهام المشتركة في عملية “العزم الصلب” العسكرية.
وأكد تلك اللقاءات بيان نشرته قوة المهام المشتركة في عملية “العزم الصلب” من خلال حسابها في “تويتر” يوم الاثنين الماضي.
حيث أوضح البيان، أن “عدد البائعين القادرين على تقديم الخدمات الضرورية، مثل دعم البنية التحتية لقواعد التحالف، قد تضاعف وبشكل أساسي عن آخر لقاء عُقد في آذار مارس الماضي”.
جولة وزيارات
قامت مجموعة من ممثلي التحالف الدولي (تقوده واشنطن) بزيارة مدينة هجين في ريف دير الزور الشرقي الخاضعة لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).. تحت ذريعة الاطلاع على الخدمات والمشاريع في المنطقة.
جرت الزيارة التي قام بها ممثلي التحالف، يوم الاثنين 26 من تشرين الأول أكتوبر.. والتي تضمنت زيارة مستشفى “هجين” للإشراف على أعمال الترميم القائمة فيه، والتي بدأ التحالف مشروع إعادة تأهيلها بالتعاون مع “الإدارة الذاتية” العاملة في شمال شرقي سورية، في الـ 12 من أكتوبر تشرين الأول الحالي. (يعكس ذلك متابعة وإصرار على تنفيذ المشاريع مما يبعث برسائل خاصة عن جديّة المشاريع التي يراد تنفيذها بغض النظر على مراميها)
أبعاد أعمق
تعمل تلك المشاريع والفعاليات – وفق بيان قوة المهام المشتركة – على رفع احتمالية “نجاح الأعمال التجارية السورية الناشئة، ما يسهم في توفير الاستقرار المالي وتحقيق الأمن في المنطقة..
كما يؤدي ذلك التوجه إلى حرمان داعش من أي فرصة للظهور من جديد”، وذلك من خلال مساعدة “قسد” لتلك الأعمال التجارية السورية، باستخدام الأدوات الإدارية الخاصة بها.. وفق ذات البيان.
ورغم تأكيده اللقاء بممثلي تلك الشركات؛ لم يوضح البيان أسماء تلك الشركات الإقليمية أو ارتباطاتها..
لكن ووفق ما نقلته صحيفة عنب بلدي (محلية) عن الباحث السوري في مركز “جسور للدراسات” أنس شواخ، فإن تلك الشركات “مقربة من قسد وقياداتها، فهي أشبه بواجهات أو أذرع اقتصادية للقادة العسكريين في قسد”.
شركة الشمال.. أخطبوط صاعد
اعتبر الباحث “شواخ” أن المثال البارز على تلك الشركات – الواجهة والذراع الاقتصادي المتوقع لـ قسد – هي شركة “الشمال للإنشاء والتعمير” الموجودة في محافظة الرقة والتي “ تستحوذ على أغلب مناقصات أعمال إعادة الإعمار في المحافظة ومنطقة الطبقة منذ عام 2019 ″.. كما لا تزال الشركة نشطة في المنطقة، حيث تنفذ مشروع “سنتر مول الطبقة”، الذي بدأ العمل فيه عام 2018، ويتألف من ثلاثة طوابق تجارية. (يوجد “سنتر مول الطبقة” ضمن أراضي أملاك دولة في حي المقاسم بمنطقة الطبقة، قبل أن ينتقل إلى سوق شعبية لبيع الملابس المستعملة والأدوات المنزلية، بحسب الباحث)
حيث تمتلك هذه الشركة فرعًا تسويقيًا لتنظيم المؤتمرات يقع في مدينة القامشلي شمال شرق سورية.
كما انطلقت ذات الشركة بأعمال الصيانة في شوارع الأحياء الغربية من محافظة الرقة، لكن شكاوى الأهالي حول نوعية الزفت “الاسفلت” المستخدم بتعبيد الطرق هناك؛ سببت توقفًا مؤقتًا لها تتوقف لفترة معينة..
يذكر هنا أن مواقع مجبل الزفت تقع في منطقة شنينة، وهي ضمن الشركات والمنشآت التابعة لشركة “الشمال للإنشاء والتعمير”، كما لها شركة تطوير زراعي تتبع لها أيضًا.
وقادت تلك الشكاوى المترافقة مع ضجة إعلامية حول شركة الشمال، إلى استبعادها من مناقصات تعبيد الطرق فقط من قبل وزارة الخارجية الأمريكية.. إلا أنها واصلت نشاطها بمجال إعادة الإعمار بالتعاون مع بلديات المنطقة، (لم يكن الاستبعاد مفعلًا في بعض المناطق، حيث استمرت الشركة في أعمال تعبيد الطرق بمحافظتي دير الزور والحسكة)
أبعاد أمنية
تحت ذريعة محاربة الإرهاب.. تتم دراسات تفصيلية لكل الشركات والتجار الذين يتقدمون للمناقصات والمشاريع؛ حيث تقوم “قسد” وبطلب وتنسيق مع التحالف الدولي والأمريكان بدراسات أمنية دقيقة – وفق شواخ – لاثبات عدم دعمهم وتعاملهم مع الإرهاب ..
لكن يمكن القول أن الدراسات نفسها تتجاوز قضية الإرهاب لتتحول إلى “بوابة قسد للضغط وابتزاز هذه الشركات أو السيطرة عليها ومنعها من منافسة الشركات المدعومة من قبلها”.
من زاوية أخرى.. رغم دعوى الامريكان والتحالف وقيادات قسد أن المشاريع الاقتصادية والخدمية تعمل على رفع استقرار المنطقة وتدعيم الأمن والحياة هناك.. إلا أنها لم تمنع إلى الآن استمرار عمليات الاغتيال، بل لمّا تتمكن من سد الثغرات الأمنية في المنطقة، وفق ما تمناه التحالف الدولي من تلك المشاريع..
حيث تتصاعد التوترات في المنطقة بين “قسد” والأهالي (العشائر العربية) ، لا سيما بعد اغتيال شيخ عشيرة “البكارة”، علي الويس، وشيخ عشيرة “العكيدات”، مطشر الهفل، برصاص مجهولين مؤخرًا ما تسبب بموجة غضب وتظاهرات..
فخرجت في الـ 4 من آب أغسطس الماضي.. مظاهرات نددت باغتيال شيوخ العشائر، والفلتان الأمني في المحافظة، حيث وصل التنديد إلى فضاء التواصل الاجتماعي، ليستمر انتقاد “هشاشة” الوضع الأمني في المنطقة، مع استمرار اغتيال شيوخ عشائرها.
ويبدو أن العقلية الإقصائية التي تفرضها “قسد” وسوء إدارتها للمشهد السياسي والعسكري في شرق الفرات لها انعكاسها على مؤشرات الفشل المذكورة..
ويرى ذات الباحث في حواره الإعلامي أن تحسين الوضع الأمني ووقف عمليات الاغتيالات لبعض شيوخ عشائر المنطقة عن طريق تلك المشاريع مرتبط بـ ”تطبيق الرقابة الحقيقية على هذه المشاريع ومتابعة تنفيذها من قبل التحالف، لكن الاحتمال الأكبر هو أن هذه العمليات ستستمر ما لم تكن هناك شراكة حقيقية لأبناء المناطق العربية في قيادة مناطقهم واقتسام ثرواتها بشكل عادل”.
إلى ذلك.. حسمت قوات التحالف وخاصة واشنطن – فيما ظهر من مؤشرات – بإبقاء القوات العسكرية شرق الفرات لمواجهة ما تصفه بمخاطر عودة تنظيم “داعش” مجددًا إليها، إلى جانب منع روسيا وقوات الأسد من السيطرة عليها والاستفادة من ثرواتها.. دون إهمال استخدام الورقة الكردية في ملفات وتوازنات إقليمية ما يفسر غضب أطراف دولية ومحلية (كـ أنقرة) من تلك التوجهات.
أمريكا تستثمر النفط
قبل أسابيع.. عقدت الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية ( خاضعة لـ قسد) مع شركة أمريكية؛ اتفاقًا يشمل تطوير واستثمار حقول النفط السورية الخاضعة، في غالبيتها، لسيطرة ما تسمى قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
وقع الاتفاق من الجانب الأمريكي شركة “ديلتا كريسنت إنيرجي”، حيث تطلب إبرامه الحصول على استثناء من وزارتي الخارجية والخزانة الأمريكيتين، باعتبار أن قطاع النفط ومؤسسات سورية كثيرة خاضعة لحظر أمريكي بسبب “قانون قيصر” الذي دخل حيز التنفيذ منتصف حزيران يونيو الماضي.
يذكر أن واشنطن أشارت سابقًا إلى اتفاق محتمل مشابه، حينما تراجع الرئيس الأمريكي، في تشرين الأول أكتوبر الماضي عن قرار سحب كامل قواته من شمال شرق سوريا، وأبقى على نحو 500 جندي.. فأُعلن حينها بأن الهدف من هذا الإجراء هو حماية حقول النفط السورية.
وأشارت تقارير إعلامية أن الاتفاق المذكور يتضمن تأسيس مصفاتي نفط متنقلتين شرق الفرات بحيث تنتجان حوالي 20 ألف برميل يوميًا، بشكل يساهم بسد قسم من حاجة الاستهلاك المحلي الذي كان يلبى عبر حراقات بدائية الصنع، ساهمت برفع التلوث، دون نسيان التحديات التقنية والفنية التي عجزت الإدارة الذاتية، بإمكانياتها المتواضعة، عن تذليلها.. كما ينتظر من الشركة المستثمرة بحلول شباط فبراير 2021، الوصول بالإنتاج إلى 60 ألف برميل يوميًا.
وتسوّق “قسد” يوميًا بين 10- 15 ألف برميل من النفط الخام، لمنشآت التقطير في مناطق سيطرة الإدارة الكردية شمال العراق.. (كشفت تقارير، أن المادة السابعة من الاتفاقية المبرمة بين “قسد” والشركة الأمريكية، تنص على أن الطاقة الإنتاجية اليومية وهي 60 ألف برميل سترتفع إلى 380 ألف برميل خلال 20 شهرا)
لكن وبعد الاتفاق المذكور فأن الوقود الذي تقوم الوحدات الكردية، بتهريبه وتوزيعه وإنتاجه في مرافق رديئة الجودة، سوف تستخرجه رسميًا الآن شركة النفط الأمريكية، وستتخذ العملية طابعا رسميا.. ما يوفر تمويلا لا يستهان به..
ويرى خبراء أن الخطوة الأمريكية المذكورة لا تتعلق بالبعد الاقتصادي البحت، بل تتجاوزها بقوة إلى ملفات سياسية معقدة تتخطى حدود الإدارة الكردية، شرق الفرات، وترتبط بنظام دمشق، وأنقرة، وموسكو.. التي رفضت كل منهم الاتفاق وما جرى باعتباره سرقة لثروات الشعب ويرمي لأهداف أبعد.. ما يجعل التساؤل عن مدى نجاحه منطقيًا..
وكانت البلاد تنتج ما يقارب من 380 ألف برميل نفط يوميًا قبل الثورة التي قمعها الأسد. حيث فقد النظام السيطرة على معظم الحقول المنتجة للنفط في منطقة إلى الشرق من نهر الفرات في دير الزور والحسكة.. كما أضرت عقوبات غربية بقطاع الطاقة.
وسبق لوزير النفط بحكومة النظام “علي غانم” أن أعلن في أيار مايو الماضي أن دمشق تحتاج إلى 146 ألف برميل من النفط الخام يوميًا، في حين ان ما ينتج حاليًا هو 24 ألف برميل، أي أن الفجوة اليومية هي 122 ألف برميل.
هذا ودافعت واشنطن حينها عن إبرام شركة أميركية العقد المتعلق باستثمار النفط السوري مع قوات سوريا الديموقراطية “قسد”.
وأعلن وقتها المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري خلال مؤتمر صحافي إنّ “حكومة الولايات المتّحدة لا تمتلك الموارد النفطية في سوريا ولا تسيطر عليها ولا تديرها”. وأضاف “يمكنني أن أوكّد لكم أنّ من يسيطر على المنطقة النفطية هم أبناء شمال شرق سوريا ولا أحد آخر”.
ليشير إلى أنّ واشنطن “ليس لها أي ضلع في القرارات التجارية لشريكنا المحلي في شمال شرق سوريا”.. في مسعى للتنصل من أي مسؤولية قانونية محتملة حيث أضاف أنّ “الشيء الوحيد الذي فعلناه” هو “الترخيص لهذه الشركة” لكي تفلت من حزمة العقوبات الواسعة التي تفرضها الولايات المتحدة على النظام السوري.
أما جوناثان هوفمان، المتحدّث باسم البنتاغون، فأكد مسبقًا أنّ الهدف الأوحد للوجود العسكري الأميركي في سوريا هو منع تنظيم “داعش” من السيطرة على النفط.
حيث أعلن أن “الهدف هو منع منظمة إرهابية من الوصول إلى النفط لتمويل عملياتها”، مشيرًا إلى أنّ القرار “يسمح من جهة ثانية لشركائنا بمواصلة عملياتهم الدفاعية لهزيمة الإرهابيين في هذه المنطقة وتمويل جهود إعادة الإعمار”.
يذكر أن العقد المذكور يتفق هدف الرئيس ترامب القديم المتمثل في تأمين السيطرة الأمريكية على حقول النفط في المنطقة.. وكانت شبكة “سي إن إن” قد أشارت عن مصادر مطلعة قولها، إنه من المتوقع أن ينتج العقد السري، الذي كان قيد العمل منذ أكثر من عام وتم التوقيع عليه في سورية قبل أسابيع، مليارات الدولارات لـ “قسد”.