حكمت المشهد السياسي السوداني في الأسابيع الماضية، قضيتان متداخلتان ومترابطتان حكمت الوضع السوداني بعد خلع نظام عمر البشير بثورة شعبية وانقلاب عسكري سمح بوصول حكومة قوى التغيير ومجلس السيادة الذي يتحكم به العسكر السوداني وانهاء عقود من حكم الإسلاموية السودانية وسيطرة جماعة الإخوان المسلمين على مفاصل الدولة السودانية منذ ثلاثين عام.. دخلت فيها البلاد متاهات وضياع بسبب سياسات البشير السابقة والتي ارتبطت بدعم تنظيمات راديكالية والقيام بعمليات عسكرية خارجية ارتبطت بمصالح أمريكا والغرب، ففرض حصار اقتصادي خانق ومدمر على السودان لما تنتهي ارتباطاته حتى بعد خلع البشير، مع استمرار تصنيف السودان على القائمة السوداء للدول الراعية للإرهاب.. رغم حدوث اختراقات في تلك القضايا مثلها بدء التطبيع والوعود برفع اسم السودان من القائمة.
بين التطبيع والقائمة السوداء
بعد سلسلة مفاوضات استمرت خلال السنوات الماضية في محاولات السودان لرفع اسمه من قائمة الإرهاب الدولية منذ عهد المخلوع عمر البشير .. لم يحدث أي اختراق فعلي في المشهد حتى وصول حكومة قوى الحرية والتغيير التي تأمل السودانيون منها تحقيق نقلات قوية في أهم أزمات السودان، وهذا كان الحال بالنسبة للفواعل الدولية، لتأتي التغيرات الأخيرة التي عاشتها المنطقة كمنعطف مهم استندت له أمريكا في مفاوضاتها مع الخرطوم حول رفع السودان من اللائحة السوداء مقابل شروط عديدة، جاء على رأسها وأهمها إعادة العلاقات مع إسرائيل.
شروط رفضها السودان أو بالأحرى حكومة عبد الله حمدوك، التي أرادت فصل ملفي التطبيع وإزالة إسم السودان من قائمة العقوبات.. بحيث يصبح ملفان منفصلان دون أي ربط بينهما..
وتوالت التصريحات الإعلامية المؤكدة لقضية فصل الملفين، رغم المؤشرات والتأكيدات على الشروط الأمريكية بربط الملفين ببعضهما!!
يذكر أنه في 23 أكتوبر الجاري، أعلنت وزارة الخارجية السودانية أن الحكومة الانتقالية وافقت على تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
لتعلن الإدارة الأمريكية في نفس اليوم، أعلن أن الرئيس “دونالد ترامب” ووزير الخارجية “مايك بومبيو” أبلغا الكونغرس الأمريكي برغبة الإدارة رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، (أدرج عليها عام 1993، لاستضافته آنذاك زعيم تنظيم القاعدة الراحل “أسامة بن لادن”).
أمريكا والقائمة السوداء
تواصلت مفاوضات الخرطوم مع الحكومة الأمريكية الهادفة للتوصل إلى رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وتخفيف الحصار الاقتصادي الناتج عنه، منذ وسلّم حكومة حمدوك مهامها.. ومؤخرًا وافقت الحكومة الأمريكية على رفع اسم السودان مقابل شروط هي :
- دفع تعويضات لعائلات الضحايا الأمريكيين 1998
- التزام السودان بمكافحة الإرهاب بكافة أشكاله.
- الالتزام بقرارات الأمم المتحدة.
- خلق بيئة مناسبة لاتمام عملية السلام.
- حماية حقوق الإنسان.
- الحرص على تسليم السلطة في السودان للمدنيين
- موافقة السودان على تطبيع علاقاته مع إسرائيل
من جهتها، وافقت الخرطوم حينها على تلك الشروط باستثناء تطبيع العلاقة مع إسرائيل وهو الأمر الذي قسم الرأي السوداني بين معارض ومؤيد؛ حيث كان موقف رئيس الوزراء “حمدوك” رافضًا لربط القضيتين مع بعضها مع تمسك الولايات المتحدة بورقتها الرابحة..
وبذلك أضحى السودان مجبر على القبول بتلك الشروط لانجاح المفاوضات رغم كل الاعتراضات المبدئية التي أظهرتها حكومة حمدوك لأسباب مختلفة. (اتجه السودان لاحقًا لتنفيذ كل الشروط)
ظهر نجاح المفاوضات بتغريدة للرئيس الأمريكي “ترامب” والذي أشار فيها إلى اقتراب إعلان واشنطن عن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بعد دفع السودان التعويضات المالية لعائلات الضحايا الأمريكيين الذين وقعوا جراء التفجير الذي استهدف السفارة الأمريكية في كل من كينيا وتنزانيا..
من زاوية أخرى
لا تعتبر تغريدة ترامب كافية لرفع إسم السودان من القائمة السوداء.. بل إن الرئيس لا يملك القرار والصلاحيات لرفع إسم السودان دون موافقة الكونغرس
حول ذلك في ظل تأرجح رؤية المجلس بين الموافقة والرفض.
ويمكن القول أن الكونغرس لم يهتم بقضية دفع التعويضات المالية بقدر ما أبدى اهتمامًا بقضية توقيع اتفاق التطبيع مع إسرائيل، وبقضية البعد النفسي المرتبطبموضوع إخضاع الخرطوم بعد قمة اللاءات الثلاث (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض).
البعد الإسرائيلي بالمفاوضات
تهتم إسرائيل بتحقيق اختراق عميق للساحة الإفريقية والسودانية خصوصًا تبعد إيران عن توريد السلاح لغزة ودعم حركة حماس.. بالإضافة لتحقيق التوازن الأمريكي الإسرائيلي ضد النفوذ الصيني.
وعليه لا يمكن إهمال الدور الإسرائيلي بالموافقة على رفع إسم السودان من القائمة كنقطة تفاوضية تربط بين الملفين.. حيث أن إسرائيل تهتم بتأمين أمنها القومي ولتحقيق ذلك ضغطت على الإدارة الأمريكية لتسهيل الطريق أمام أصحاب القرار السوداني الذين أبدو استعدادهم لتوقيع اتفاق التطبيع مع إسرائيل في حال تمت إزالة أسم السودان من القائمة متيقنة بموافقة رئيس الوزراء “حمدوك” الذي أبدى حينها اعتراضًا مبدئيًا في مختلف وسائل الإعلام.
بين العسكر والحكومة
أكد عضو المجلس السيادي ” ياسر العطا” أن المكون العسكري في الحكومة السودانية وراء تطبيع علاقات السودان بإسرائيل..
ليؤكد “العطا” ترحيب الحكومة بكل الوفود الإسرائيلية والأمريكية بالخرطوم للتباحُث مع السودان في شراكات اقتصادية دون الحاجة لمساعدات أمريكية إسرائيلية ،كما أكد على التطبيع مع إسرائيل مرتبط برفع اسم السودان من القائمة السوداء وأنه لا يوجد عائق أمامهم لفعل ذلك.
بدوره، نفى نائب رئيس مجلس السيادة السوداني “محمد حمدان دقلو” في تصريح له وجود أي علاقة بين شطب اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، وقرار التطبيع مع إسرائيل،
ليؤكد حميدتي على أن مصلحة السودان تأتي بالدرجة الأولى وأنه حان وقت إخراجه من العزلة التي يعانيها منذ 30عامًا.. متوقعًا تمرير الهيئة التشريعية ومصادقتها على الاتفاق مع إسرائيل بأغلبية.
من جهته، وزير الخارجية السوداني”عمر قمر الدين” أوضح أن اتفاق التطبيع مع إسرائيل ما زال شفهيًا حتى تشكيل البرلمان الذي سيتخذ القرار النهائي، وأن الحكومة السودانية وافقت على ربط التطبيع برفع اسم السودان من القائمة السوداء.. مؤكداً أن قراراتهم كانت سيادية من دون أي ضغوط خارجية .
أسباب أعمق
حاول السياسي السوداني البارز الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة القومي (شريك بالإئتلاف السياسي الحاكم حاليًا)، تبيان الأسباب الحقيقية وراء مسارعة الخرطوم للتطبيع مع إسرائيل.
حيث ربط المهدي، بين ما أسماه التطبيع والتركيع والتقطيع، في بيان أصدره يوم السبت، حمل عنوان: “الرابط بين التطبيع والتركيع والتقطيع”، قال فيه إن “السودان هو الواصل لما فصلته الصحراء الكبرى (أكبر الصحارى الحارة في العالم بمساحة تفوق 9 ملايين كيلومتر مربع)”، وتكوينه الجيوسياسي والثقافي والإثني ينتظر أن يقوم بدور عربي أفريقي مهم”.
ليوضح أن ثاني العوامل يمثلها توسط الخرطوم البلدين مهمين.. باعتبار السودان الجار المشترك لمصر أكبر دولة مستهلكة لمياه النيل، وإثيوبيا أكبر دولة منتجة لها، “وبينهما تعبئة عدائية وينبغي الحيلولة دون تفجير حرب بينهما مدمرة لهما.. بل انتحارية”.
وتابع السياسي المخضرم أن: “العامل الثالث أن السودان الأجدر للقيام بدور تكامل تنموي بين شقي البحر الأحمر؛ غربه حيث الموارد الطبيعية الوافرة، وشرقه حيث الموارد المالية الوافرة”.
حيث اعتبر “المهدي” أن العامل الرابع ينطلق من كون اتفاق الخرطوم يمثل إضافة نوعية لحركة التطبيع “لأن فيه نظاما سياسيًا مقنن للتعددية الفكرية والسياسية”.
أما العامل الخامس، فيرتبط ببعد نفسي عميق يتمثل في “هزيمة لاءات السودان الثلاث المناهضة للتطبيع، وربطها بادعاءات وهمية” والتي أقرت في قمة عربية لاحقة لنكسة عام 67 .
ليعلن “المهدي” أن مجريات الأحداث الأخيرة تحمل طرقًا ابتزازية.. قد تؤدي للتنفير من التطبيع نفسه.
رفض داخلي
أبدت بعض القوى السياسية السودانية رفضها القاطع للتطبيع مع إسرائيل، (من بينها أحزاب مشاركة في الائتلاف الحاكم).
حزب الأمة القومي السوداني، أعلن يوم الإثنين الماضي، أنه أبلغ رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق “عبدالفتاح البرهان”، بأن “دعم الحزب للحكومة الانتقالية رهين بأن تعلن الحكومة أن قضية التطبيع (مع إسرائيل) يبت فيها برلمان منتخب”.
وتجاوز قضية الرفض لدى الحزب إلى إطلاق تهديدات فعلية عبر عنها رئيس حزب الأمة السوداني، في معارضته للحكومة الانتقالية وسعيه إلى إسقاطها على غرار حكومة البشير إذا لم تتراجع وأصرّت على التطبيع مع إسرائيل.. حيث ووصف المهدي ما جرى بأنّه اتفاق للتركيع والابتزاز، وحذر أنه من شأنِ الاتفاق أن يُحدث حالةً من الانقسام الحاد في المجتمع السوداني (هنا تبعث تساؤلات عن مدى تفاهمات الائتلاف الحاكم ونقاشاته حول القضايا الجوهرية).
أما تجمع المهنيين السودانيين، فأعلن انضمامه لتيار رفض التطبيع مع إسرائيل، تحت ذريعة قيام الحكومة بتلك الخطوة بعيدًا عن الشفافية والمبادئ..
كما أن الحكومة الانتقالية لم تقدم – حتى الآن- بيانًا حول مضمون ذلك الاتفاق بينها وبين إسرائيل، وأسبابه وحيثيات إقدامها عليه، بعد نفيها وجود أي ارتباط بين التطبيع مع إسرائيل وبين مسار رفع اسم السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، على خلاف تصريحات القادة الأميركيين والإسرائيليين.. وأضاف التجمع أن صفقة التطبيع مع إسرائيل ستؤدي لانقسام وسط قوى الثورة .
شكر وتوضيح
قام رئيس المجلس السيادي “عبد الفتاح البرهان” لقاءًا متلقزًا، صرّح فيه حول العديد من مجريات الفترة الراهنة.
وأكد البرهان على اتفاقه مع حزب الأمة والحزب الشيوعي على أن يترك قرار التطبيع للمجلس التشريعي المنتخب (لم يُشكل بعد).. والذي له الحق بالنظر بجميع القضايا.
ليؤكد البرهان أنه لا يوجد له أي طموح سياسي خارج الوثيقة الدستورية وأنه يسعى إلى إنهاء مرحلة تأسيس وتسليم السلطة للمجلس التشريعي، كما أكد على أن التطبيع مع إسرائيل سيعيد السودان للخارطة الدولية، وأن السودان بحاجة لمساندة المجتمع الدولي لإتمام عملية السلام .
وحول شطب اسم السودان من اللائحة السوداء.. أظهر “البرهان” مع رئيس الوزراء “عبد الله حمدوك “ورئيس ترحيبًا بتغريدة الرئيس الأمريكي وأعلنوا عن شكرهم باسم الشعب السوداني للإدارة الأمريكية لإقدامها على اتخاذ تلك الخطوة المهمة في دعم الانتقال نحو الديمقراطية في السودان وللشعب السوداني.
وألقى رئيس الوزراء “حمدوك “خطابًا وجهه للشعب السوداني حرص فيه على إبداء الجوانب الإيجابية مطمئناً إياهم بأن الحقبة المظلمة قد انتهت وأن السودان سيخرج من عزلته التي دامت لأكثر من عقدين.
كما أبدى اهتمامًا بإبداء النتائج الاقتصادية والتي تمثلت بالتحدث عن الأرباح التي سيحققها قرار رفع اسم السودان من تلك القائمة السوداء، (لم يناقش حمدوك احتمال رفض الكونغرس أو موافقته على قرار رفع اسم البلاد من القائمة)
وبذلك بات السودان في انتظار رفع اسمه من قوائم العقوبات الأمريكية، البلد العربي الخامس الذي يوافق على تطبيع علاقاته مع إسرائيل، بعد مصر (1979)، والأردن (1994)، والإمارات والبحرين (2020)..
وبانتظار رفع العقوبات يستمر الواقع الاقتصادي الصعب في ظل تناقض المواقف حول التطبيع وطرق التخلص من الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها البلاد.