مع تفاقم الأزمات التي تعصف بجميع مناحي الحياة في العراق، تسجل حالات الانتحار في البلاد تزايدا ملحوظا، ما ينبئ بكارثة جديدة تهدد المجتمع العراقي المنهك أصلا، وبالرغم من تحذيرات المنظمات الدولية ومطالباتها للحكومة العراقية بمعالجة الظاهرة من خلال تشكيل فرق وطنية لمكافحتها، إلا أنه لا يمر اسبوع إلا وتتناقل وسائل الإعلام خبر انتحار أو إفشال محاولة انتحار لمواطن عراقي هنا أو هناك.
وفي آخر التقارير، كشفت مفوضية حقوق الإنسان في العراق، الثلاثاء الماضي، عن تسجيل 375 حالة انتحار في البلاد منذ بداية العام الحالي مشيرة الى أن أغلبها كانت عن طريق الشنق أو استخدام الطلق الناري أو الغرق أو استخدام السم أو الحرق”.
وبحسب إحصائية رسمية صادرة عن وزارة الداخلية العراقية في وقت سابق، فقد تم تسجيل أكثر من 1100 حالة انتحار في العراق خلال عامي 2018-2019، في حين تؤكد إحصائية نشرها مركز البحوث التابع الى الدائرة البرلمانية العراقية، تسجيل 1532 حالة انتحار بين عامي 2003 و2013، ما يكشف الارتفاع الحاد بعدد حالات الانتحار خلال السنوات القليلة الماضية.
العدد الحقيقي أعلى بكثير..
الأرقام الصادرة عن السلطات الصحية والمنظمات الحقوقية غير دقيقة ولا تمت للواقع بأي صلة، يقول “أحمد الجبوري” وهو طبيب يعمل في إحدى مشافي محافظة البصرة، مؤكدا أن أغلب حالات الانتحار يتم التستر عليها لأسباب اجتماعية ودينية.
ويشير “الجبوري” الى أن الأطباء يواجهون ضغط من قبل الأهالي وسلطة العشائر لمنع تشريح جثة المتوفى للوصول إلى سبب الوفاة، وهذا يعود لسببين، الأول نابع عن قناعة اجتماعية دينية بأن التشريح يشوه جسد الميت، أما السبب الثاني فهو للتستر على السبب الحقيقي وراء الموت، فالأهل يرفضون الإفصاح عن ذلك لما فيه من عار اجتماعي وديني في الوسط الشعبي، فيلجؤون إلى التستر من خلال الضغط على مراكز الشرطة الذين يشرفون على كتابة التقرير الخاص بالحادث حتى قبل وصول الجثة إلى المستشفى، فيتم بعدها تعديل السبب من الانتحار ليصبح حادث عرضي.
محاولات فاشلة..
المشكلة الأكبر من وجهة نظر الطبيب “الجباوي” هي أن جميع الاحصائيات الصادرة عن الحكومة أو المنظمات الحقوقية لا تشمل محاولات الانتحار الفاشلة أو التي تم إفشالها. ويؤكد أن مشافي محافظة البصرة وحدها استقبلت خلال الأشهر الستة الأخيرة أكثر من 20 حالة اسعاف لمواطنين حاولوا الانتحار وتم انقاذهم قبل موتهم.
وكانت مديرية شرطة بغداد أعلنت في 26 أيلول إنقاذ شابة تبلغ الثامنة عشرة من عمرها كانت تحاول الانتحار بإلقاء نفسها من على جسر الجادرية وسط بغداد وقالت المديرية انها انقذت عشرات آخرين من حالات مشابهة.
يرى عضو مفوضية حقوق الإنسان في العراق “فاضل الغزاوي” أن هناك عدة أسباب أساسية تدفع العراقيين للانتحار، مرجحا أن تكون أهمها الأسباب النفسية والاقتصادية واجتماعية بالإضافة للاستخدام السيء للاتصالات ويضاف لها ضعف الواعز الديني.
الأكاديمي ورئيس الجمعية النفسية العراقية البروفيسور “قاسم حسين صالح”، يتفق مع ما يقوله “الغزاوي” حيث يعزو ارتفاع وتيرة ظاهرة الانتحار في العراق، إلى البطالة وتوالي الخيبات والتخلف الاجتماعي، إضافة إلى غياب الوازع الديني أيضا، لكنه يعتبر أن السبب الرئيسي في تزايد عدد حالات الانتحار يعود إلى البطالة التي وصلت لنسبة 30 بالمئة بين الشباب وخاصة المتعلم منهم.
ويشهد معدل البطالة في العراق ارتفاعا ملحوظا حيث وصلت نسبته خلال العام الحالي الى 40 بالمائة بعد أن كانت 22 بالمائة في أواخر سنة 2019.
وتؤكد تقارير مؤسسات الدولة العراقية أن الشباب هم الفئة الأكبر بين حالات الانتحار، وتشير إلى أن الأسباب عادة ما تكون البطالة وعدم وجود أمل في إصلاح حقيقي من شأنه تحسين أوضاعهم في البلاد.
حلول غائبة..
الحل من وجهة نظر “صالح”، للحد من ظاهرة الانتحار، هو أن يأخذ الشباب حقهم في الزمن الديمقراطي، حيث أنه هناك فجوة بين الطبقة الحاكمة والشباب، مؤكداً أن السلطات لا تجد حلولاً ملائمة لمشاكل الشباب خاصة الاقتصادية، ما يعزز خوفهم وقلقهم على المستقبل ويدفعهم لليأس والاكتئاب وبعد ذلك إنهاء حياتهم.
وتقول منظمة الصحة العالمية أن ما يقارب 800,000 شخص يموت بالانتحار حول العالم في الاعمار المتراوحة بين 15 و29 عامًا، وأن حالات الانتحار ترتفع بين الفئات التي تعاني التمييز مثل اللاجئين والمهاجرين والسجناء، بالإضافة الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب هم الأقرب إلى التفكير بالانتحار.
الدكتورة “هبة الصفر” وهي مديرة مركز للعلاج والتأهيل النفسي، تعتبر أن الاكتئاب يأتي بالمرتبة الأولى كسبب للانتحار، حيث تبلغ نسبة المنتحرين 20% من بين المصابين بالمرض، موضحة أن هناك إهمال من الجانب الحكومي في عدم تخصيص ميزانية خاصة للرعاية النفسية.
وتضيف “لا يوجد مؤسسات واضحة المعالم تُعنى بالصحة النفسية في العراق وإذا ما وجدت فيكون وجودها إسقاط فرض فقط كون العراق دولة غير مستقرة سياسًيا واقتصادياً واجتماعيًا، فالحروب التي امتدت إلى عشرات السنين أدت إلى عدم اهتمام الحكومات المتعاقبة بواقع الصحة النفسية أو بناء مؤسسات للصحة النفسية.