وحدهم رجال الدين يستطيعون تحويل الإنسان إلى كائن مفترس، ينتمي من جهة الشكل إلى العصر الحديث، ولكنه من جهة المضمون ينتمي إلى العصر الحجري أو لعصر التوحش البدائي. فمن يقتل باسم الدين، يستمتع بدماء الضحية، لأنها أكسبته مكانة عند الإله بوصفه انتصر له، وحقق مراده، ومن يقتل بغير ذلك، فهو غالباً سوف يكون في يوم ما تحت وقع عذاب الضمير، وذلك لأننا بشر بالمطلق، ولا يسمح لنا تكويننا الإنساني أن ننكر هذه الحكاية إلى الأبد، وبالتالي سوف ندرك يوماً ما جوهر هذه الحكاية ونعي حقيقتها حتى وإن تأخرت بالقدوم إلينا لسبب ما، سواء لرداءةٍ في استيعابنا للحياة، أم لقسوة في قلوبنا، أم لغرقنا في زحمة الأيديولوجيا، التي فتكت تناقضاتها بنا وبمن قبلنا، ولا تزال تسير بمن حولنا نحو المجهول.
وبينما يتقدم العلم، باتت سمة مجتمعاتنا (الحالية) تتجه مجدداً نحو الغرق في بحار الإيديولوجيا التي سادت على نحو واسع في القرن الماضي حتى باتت سمة الفكر الديني “أنه لا يستند في أغلب عناصره إلى المعرفة الصحيحة، بقدر ما يستند إلى الشعارات السياسية والأيديولوجية، ولذلك تضيع الرؤية ويختل التشخيص وترتبك الأمور”.(1)
هناك فرق بين الجدل العلمي في مجالات البحث العلمي التخصصي، وبين الغرق في ثقافة التقاتل حول قبول هذه الإيديولوجيا من تلك، التي من الطبيعي أن يتشكل بعضها في ظروف سياسية واجتماعية معينة، ولكن أسوأ ما في الأمر عندما يصبح تأويل النصوص الدينية وسيلة يستخدمها المؤدلجون كفعل المقدس، ما يجعل هذه النصوص المؤولة تنال قدسية ربما أكثر من النص السماوي ذاته، بمعنى أن الناس تتقاتل بها وعليها أو كما هو في الحديث قال الرسول: إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله .(2)
وبالتالي، فإن مسائل الجدل في العودة إلى النصوص، غالباً ما تترك أسئلة مهمة أغلبها مبهم حول كيفية إعادة فهم هذه النصوص، بما يفصلها عن جدلية السلطة والدين، فالسلطة، أو القوة الداعمة لفكرة معينة، تمنحها قدرة واسعة على الانتشار، مثال ذلك، الجدل حول فتنة خلق القرآن الكريم الذي ما كان له أن يصل إلى تلك الدرجة لولا دخول السلطة السياسية على قضية الجدل هذه، التي ظهرت في حقبة الخليفة المأمون، فعندما استهوته الفكرة، “كتب إلى نائبه ببغداد يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، ففعل، واستدعى أئمة الحديث وهددهم بالضرب وقطع الأرزاق”.(3)
إن خطورة دخول السلطة السياسية على باب الجدل الفكري أو الفقهي أو العقدي، تكمن في إغلاق باب الجدل كلياً بقوة السيف، حول مسائل استُحدث النقاش فيها، ودخلت في دائرة البحث عن أجوبة، فيأتي حضور السلطة السياسية، لتفرض موقفها كما تريد، ولتلزم عامة الناس بتبني أفكار قد لا يعلمون مضامينها، فقط لمجرد أن السلطة السياسية أمرت بذلك، ثم لا تلبث هذه الأفكار، أن تسقط بمجيء سلطة جديدة، فعندما جاء الخليفة المتوكل، قُدّر لتلك المحنة أن تنتهي لكن تلك المرحلة فتحت ثغرة مؤلمة في ميدان الفكر ومدى الدخول القهري في توظيفه، من خلال معادلة السلطة والدين، وبالتالي إن خروج الجدل في المسائل الفقهية أو العقدية نحو السلطة التي تلغي وتقرر ما تريد، يدخل العقل وحريته في أزمة.
فالمسألة لا تتوقف عند مسألة واحدة، التي هي فتنة خلق القرآن، لأن هذا النوع من التدخل السياسي سيظهر بقوة بعد قرون عديدة، وهو ما نحن بصدد الحديث عنه. فنحن هنا لسنا بوارد السرد التاريخي للسلطة السياسية في مسار الأفكار، وإنما نود مقارنة بعض ما كان يحدث لدى الغرب في العصر القروسطي، وما كان يتكرر صداه في العالم الإسلامي ولو بعد حين، ونخصُّ بحثنا بالفكرة الوهابية التي نشأت في نجد، وما باتت تتبناه السلفية المعاصرة من أفكار، ومدى تقمصها لمنطق العقل القروسطي، فهناك دائماً ثمة مفارقات وأسئلة عن ترابط هذا بذاك، وتأثر هذا بغيره، وهي بالعموم سيرة الأمم.
الوهابية وحقبة الهيمنة على العقل
في واحدة من إبداعات الدكتور برهان زريق في مقدمة كتابه السلطة الدينية قال: “حكم قيصر بالحق الإلهي، والسلطة الدينية، وساد ذلك في أوروبا قبل المسيحية، وبعد أن اعتنقت روما ديانة المسيح، فهو مقدس لأنه (في الوثنية) ابن السماء ولأنه في المسيحية، رئيس الكنيسة، وحليف الكهانة التي زعمت لنفسها حق احتكار الفهم عن السماء، والحديث باسمها؛ لقد كان الثمن الذي دفعته الإنسانية في أوروبا بسبب سيادة هذه النظرية فادحاً؛ وتسربت عناصر هذه النظرية إلى قطاع محدود من الفكر السياسي في حضارتنا إذ دعا إليها نفر قليل من مفكري الإسلام.. كما تسربت هذه النظرية إلى عقول العديد من المستبدين، والحكام، والسلاطين، فأعاقت تطور الأمة، وأثقلت عليها بالقيود ودفعتها دفعاً إلى مرحلة الجمود والتخلف التي شملت عالم الإسلام وكبلته وأثخنته بالجراح لعدة قرون”.(4)
في هذا المدخل قراءة مهمة، وهو بمثابة توصيف يحتاج إلى مزيد من القراءة والبحث في توصيف نوع المؤثرات التي اخترقت ثقافة الشرق الإسلامي، أكانت تلك قادمة من الغرب أم من أصل بيئة المشرق، وبتقديرنا إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يكن أصلاً على معرفة بالتجربة في الغرب، وخصوصاً إدارة الكنيسة للمشهد السياسي والديني في أوروبا، فهو لم يكن في القاهرة، أو بيروت أو دمشق التي قدِّر لها، ولموقعها التاريخي والجغرافي معاً، أن تكون بوابة اتصال بالحضارات شرقاً وغرباً، ولكن مدينة صغيرة تائهة في عمق الصحراء، في ذلك الزمن، تسمى (الدرعية) أو ما قبلها في قرية (العيينة) حيث نشأ ابن عبد الوهاب، فمن الصعب القول إن تلك القرى والبلدات الصحراوية سقطت تحت وقع مؤثرات خارجية جعلتها تتأثر بالثقافة القروسطية، وهي قرى معزولة، فالتاريخ في نجد لدى تلك الحقبة لم يكن أكثر من بيئة صحراوية قاسية، يتقاتل أهلها بشراسة خلف الرمال.
(الدرعية) تلك البلدة في العرف الحالي بالنسبة والتناسب لحجم المدن، وفي ذلك العصر، تقع وسط صحراء نجد، في محيط جغرافي معقد، وبالتالي، فإن عامل البيئة الواحدة، قد ينتج ثقافات متعددة في حالة الاستقرار، وبمقابل ذلك قد تصنع الظروف المحيطة واقعاً ثقافياً معقداً، سينتهي بعد حقبة من الزمن إلى كيانية سياسية معقدة، لكن أبرز ما في تلك العقدة، هو عملية المزج بين الدين والسلطة، فهو المزج الذي يجعل السلطة مقدسة، ويجعل فكرة الدين يعاد إنتاجها انطلاقاً من ذلك المحيط المغلق، فقد كانت “بلاد نجد في تلك الفترة تعيش حياة ملؤها الخوف والذعر وعدم الاستقرار في أمور حياتها كلها، أنتجتها تلك الحروب والفتن التي تطحنها عسكرياً وخلقياً ونفسياً وفكرياً. وهي – بحق – تعطي فكرة واضحة عن مدى تفكك المجتمع الذي وجد في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فيما بعد، منقذاً له من دوامة كان يجري في فلكها دون أن يعرف طريقاً للخلاص”.(5)
من الناحية العملية هنا نحن أمام بيئة يتغلغل فيها ميزان القتل والرعب، وبالتالي، إن الدعوة الدينية الممتزجة بالسياسة، سوف تصبح السمة (الإصلاحية) لها مثار تساؤل، ـويرجع ذلك إلى أنه “عندما وصلت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى المرحلة الإصلاحية استخدم القوة المادية ضد المخالفين له في الاجتهادات العلمية والرؤى والأفكار، وإدخاله لأدوات المرحلة الجهادية في دعوته جعلته يعامل المسلمين المخالفين له، كما لو كانوا من غير المسلمين، وهو ما لم يصل إليه أحد من أئمة المدارس السلفية من قبله.. فمهما بلغت خلافات المسلمين الفكرية والعملية، فيما بينهم، فلا حجة ولا حاجة إلى أن تصل إلى مجاهدتهم بالقوة المادية؛ وأن تستباح دماؤهم وأموالهم وأن تنتهك حرماتهم“.(6)
إذا كانت (الدرعية بتلك البيئة الصحراوية العنيفة) فبالتالي إن ما يتبادر إلى الذهن أن الدرعية ليست تلك المدينة العريقة في صدى التاريخ، كما أسلفت، فالدرعية أيضاً وبالمنطق العقلي هي ليست مكة المكرمة، المركز الديني والسياسي والثقافي للعرب قبل الإسلام، فكيف يمكن للدرعية أن تأخذ مكان هذا المسار كله، وتصبح هي البيئة التي تعيد إنتاج المجتمعات الإسلامية من جديد، وهي أصلاً بيئة معزولة، مضطربة، لا ترتكز على أفق مادي أو ثقافي قادر على نقل فكرة التجربة الإصلاحية إلى مدن كالقاهرة ودمشق وحتى مكة المكرمة، التي كانت قبل العصر النبوي هي عاصمة العرب، وهي ملتقى القوافل من الشام واليمن ” فقد كانت بلاد الحجاز تتمتع بالاستقلال لعصور طويلة قبل البعثة النبوية، فلم يعبث بحريتها الفاتحون من الفرس والروم، وحين تقدم الإسكندر المقدوني باتجاه الشرق صده العرب ودفعوه بعيداً عنهم.. واتصل نمو العرب الروحي قبل الإسلام بالنمو التجاري، ونشأت سوق عكاظ قبالة البيت.. وامتنع الناس في الأشهر الحرم عن إيذاء بعضهم ما كان يوفر الأمن في موسم الحج ويحدث نشاطاً دينياً واقتصادياً قوياً”.(7)
فهل يصح عقلاً أن تصبح الدرعية بديلَ العالم الحضاري كله، وهل لدى الدرعية القدرة على صناعة نتاج ثقافي كفيل بتحقيق معادلة واقعية تعيد بناء أمة تعيش أزمة التفكك والسقوط، من هنا كانت الحركة الوهابية لا تتوافق مع المدن العربية القريبة، ولا تلك الإسلامية البعيدة، وبالتالي بات عليها أن تعيد إنتاج ظاهرة الدين بتلك القسوة، بحيث تعدُّ نفسها الرسالة الإسلامية الصحيحة، وما دونها لا يمثل الإسلام، فالبيئة القاسية تلك، لم تكن تسمح بفكرة التعددية، التي لا نجدها إلا في بيئة حضارية تميل إلى الاستقرار لا إلى الحرب، لذلك فما يميز “دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب هو الطريقة التي يقدمها للأمة في عصره.. فهو فيما ذكر عنه لا يقدم دليلاً على ما ينقله من أقوال عن علماء المسلمين الذين يخالفهم، فلم يذكر ما يثبت فيه أن أحداً من علماء المسلمين وهو يدعو إلى اتباع المجتهدين أو الفقهاء كان ينهى عن اتباع الكتاب والسنة“(8)
وهذا بالضبط هو جوهر الحركة الوهابية، أنها لم تقدم دليلاً مادياً ملموساً يبرر فكرة (البديل) الذي أتت به، بالتالي هل كانت تجربة الدرعية محاولة للاستقرار وسط بيئة شاملة تفتقر إليه، في زمن لم تكن فيه طرق الاتصال متاحة كما هو اليوم، فالانتقال من مكان إلى آخر قد يستوجب أياماً من السير على الرمال، وبهذا التوصيف، فالحالة التي كانت عليها “نجد” من الانفلات والفوضى والاقتتال، جعلها عملياً تقع على طرف الحضارة، في المكان البعيد عن مركزها، إذ البيئة الثقافية البعيدة تلك مختلفةً تماماً عند الأطراف عما هي عليه في الوسط.
هنا.. دعونا نذهب إلى إسقاط مختلف قليلاً، فابن خلدون يرى في مقدمته الشهيرة عند توصيف الإمبراطورية الإسلامية أن ضعفها يرجع إلى “أن النقص إنما يبدو في الدولة من الأطراف فإذا كانت ممالكها كثيرة كانت أطرافها بعيدة عن مركزها.. وانظر في ذلك إلى دولة العرب الإسلامية، كيف كان أمدها أطول الدول لأن “بنو العباس” أهل المركز”(9)
من هنا نسأل، هل كانت نجد في تلك الحقبة من الضعف، تعيش عملياً (حالة الأطراف البعيدة عن المركز) ما جعل كل ما يحدث فيها أو منها، هو ابتعاد عن الأصل، وانفصال عن الجسد، وهذا هو الأرجح، وبالتالي فابتعاد نجد في تلك الفترة عن المدن الإسلامية العريقة، وتبنيها ثقافة القبيلة، هو من سمات النقص في بلاد نجد، ولم يكن عنصراً من عناصر القوة التي ستعيد تشكيل تلك البيئة.
وهنا لا يعيب دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه انطلق من تلك البيئة بهدف إصلاحها، وإبعادها عن بؤرة الحروب والتوترات، لكن خطورة المسألة في دعوته، أنه عزل نفسه عن كامل المحيط الثقافي الإسلامي آنذاك، وأراد القيام بعملية إصلاح للمجتمع الإسلامي بأكمله، انطلاقاً من مفهوم العزلة التي فرضها على نفسه، وفرضتها الدعوة الوهابية من بعده، بالمجمل، على بقية العالم الإسلامي حتى اليوم، والأخطر من ذلك كله، أنه دخل في حروب طويلة غير مبررة بالمطلق.
وبالتالي، فإن عدم التواصل الثقافي مع المحيط العربي، واستخدام لغة القوة في فرض دعوته، جعل شكل هذه الدعوة مختلفاً تماماً عن موطئ الدعوة الإسلامية الأول، فهذه مكة، واحدة من المدن الأقرب إلى الدرعية من بقية العواصم، لم تكن، حتى في جاهليتها، تعيش جحيم الحروب والعزلة الثقافية التي يمثلها عالم نجد آنذاك.
إعادة بناء المجتمع الإسلامي من الصفر
كثيرة هي القصص والروايات أو الأفلام السينمائية التي تتحدث عن العودة للماضي، والماضي غالباً لا يكون سوى تحت عناوين العودة لتصحيح المسار الديني، وهي دعوة غالباً ما تظهر في المجتمعات نتيجة وجود أزمات تسببت فيها ظروف سياسية معينة، إذ تصبح فكرة العودة إلى الماضي هي الاستخدام النظري لفكرة العودة إلى قوة الأمجاد، وهي القوة القادمة من العقل الباطني، تلك القوة التي “قامت بتخدير المسلمين، وجعلتهم ينامون على وسادة الأمجاد، وهذا قادنا إلى البقاء متأخرين عن مواكبة السائرين نحو المستقبل، وصرنا نلوِّح فخراً بماضينا على كل من يصمنا بالتخلف“.(10)
بالتالي هنا تكمن فكرة القوة، إنها في الخيال القديم، فعندما تتجه الأنظار إلى فكرة العودة إلى الدين، فلن تظهر مسألة تقييم المسار الاجتماعي، ومعالجة الأزمات التي تعصف بالمجتمعات، فمسألة إعادة إنتاج نظام الدولة وتطويره، أو إخراج نظام الدولة من عنق الزجاجة، هو قضية سياسية مجتمعية في أفضل أحوالها، وليس قضية دينية لاهوتية تتطلب توجيه الناس للعقائد الدينية والعبادة، ما يعني أن تقييم الواقع السياسي والاجتماعي يكون من داخل المؤسسات السياسية الإدارية لنظام الدولة المسؤولة الأولى عن الأزمات لأن “جمود اللوائح والنظام الإداري السائد، وعدم مرونته بين الفعل والاستجابة يؤدي إلى نتائج غير رشيدة في السلوك التنظيمي“(11)
وهو ما يقود نظام الدولة إلى التراجع.. وإذا كان التوصيف غير دقيق في حال بلاد نجد، حيث اختفت الدولة، وظهرت الإمارات المتصارعة، فإن أصل توصيف المشكلة، لا يمكن عدُّ نشوئه لأسباب دينية، كما سنأتي عليه.
الدرعية وموت العقل
في قرية العيينة النجدية، بدأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب “نقل دعوته من مرحلة الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة إلى المرحلة العملية في تطبيق مبادئ الدعوة بهدم القباب التي تقام على القبور، مثل قبر زيد بن الخطاب.. وقد بدأ الشيخ بنفسه بهدم القبة وقطع الأشجار التي تتبرك بها العامة، ورجم الزانية”(12)
وشاركت يد ابن عبد الوهاب هذه الأمور الثلاثة، بحسب صاحب النص السابق، ويستطرد إن الدعوة تلك وجدت استجابة ورفضاً لتلك الأمور، وانتهت بمغادرة الشيخ قرية (العيينة) والذهاب إلى الدرعية، حيث عقد الاتفاق الشهير مع حاكم الدرعية (محمد بن سعود) ما عرف باتفاق الدرعية(13) عام 1774م ومن هناك انطلقت المرحلة التالية التي أدخلت الفكر الوهابي للعالم الإسلامي.
دعونا نلاحظ هنا المقاربات العصرية، ففي أفغانستان كانت حركة طالبان تتلف كل ما ينتمي إلى الحضارة، فلا تلفاز ولا مسرح ولا صورة ولا تماثيل، وإن كانت لغير المسلمين مثل حادثة تدمير تماثيل “باميان” الشهيرة، وفي اليمن والصومال أول ما فعلته القاعدة، أنها هدمت أضرحة اعتقد الأهالي أن أصحابها صالحون، وفي سورية والعراق كانت مشاغل تنظيم الدولة الأولى هدم التماثيل الأثرية، مع أن المسلمين الأوائل لم يفعلوا ذلك، وأما حد الزنى وغيره، فقد فعلتها طالبان، وتنظيم الدولة، وجبهة النصرة وغيرهم، على أنهم من يمثل الدين الإسلامي.
وهذه مسألة فقهية فيها خرق واضح وفاضح للقاعدة الإسلامية الأساس في تنفيذ الحد والزمان والمكان، وفي هذا جدل لن نخوض فيه، لكن ما أردنا أن نشير إليه أن كل هذه الأفعال ليست هي الدعوة الإسلامية، وليست هي لغة الإصلاح، وهي مجرد مبررات بعضها لاستجلاب قبول عوام الناس لهذه الجماعات، وبعضها يخاطب عقلية القبيلة، التي كان هاجس السبي قد أسس في عقلها الباطن فكرة القلق من مسائل الشرف.
لنذهب إلى كتاب التوحيد(14) الذي انطلق منه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دعوته التي عدَّت سبب مصاب الأمة هو وقوعها في دوامة الشرك والضلالة، والابتعاد عن التوحيد. ففي السطر الأول من كتابه، يبدأ الشيخ بالآية الكريمة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ولك أن تتأمل النص، فهو يتحدث عن العبادة، أي أن تتخذ الله إلهاً خاصاً تتوجه إليه بالعبادة، لكن الإنسان ليس من الملائكة، لأن الملائكة هم “عباد الله المكرمون خلقهم من نور فلا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينامون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون”(15)
وبالتالي، فالملائكة ليسوا بشراً في طباعهم وحاجاتهم وتكوينهم، وفي مسألة الاختيار، وعندما يخاطب الله الإنسان، يقول له: “فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (الجمعة:10).
وهو ما أردنا أن نقف عنده، فالإنسان مكلف بالعبادة، لكنه لا يجلس لها كل الوقت، فثمة وقت يقوم به بنفسه باختيار سبيله، وطريقه في البحث عن أوجه رزقه، وحتى لا نبتعد عن أصل الفكرة، فإن الآية نزلت في صلاة الجمعة، التي تخلّف فيها المسلمون بسبب تجارة وصلت إليهم بعدما تأخرت عن وقتها، لكن الأهم من ذلك كله، أن وقت صلاة الجمعة في العصر النبوي كان قصيراً ومحدوداً، وليس كحال اليوم، إذ تذهب صلاة الجمعة إلى خطب مطولة.
أردت من خلال هذه النقطة أن أشير إلى عامل الزمن، فزمن العبادة في مكة، وفي حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم قصير، وإذا كانت الصلاة ستطول، فتلك صلاة الليل، إذ لا عمل في الليل.
لذلك نحن أمام مفارقة مهمة هنا، فعندما تقوم بتوجيه الناس نحو العبادة انطلاقاً من تعليمهم فقه العبادات، فتلك مسألة، ولكن عندما تقوم بتوجيههم بالتشكيك في عقائد الآخرين، فأنت بحاجة إلى الزمن كله، وبالتالي سوف تبقى بلاد نجد بيئة صحراوية محدودة العمل والأفق، وسوف نجد ذلك واضحاً كيفما نظرت وشاهدت الحركة السلفية، فالمكان الذي يستوطنونه تتوقف فيه مشاغل الدنيا، ولن يخرج منه سوى الجدل العقيم.
الملاحظة البسيطة التي تراها لدى شعوب العالم الإسلامي كافة، هي أنك عندما تتحدث عن الدين الإسلامي، فسوف تجد الناس تتكلم عن المذاهب الأربعة والاختلاف فيما بينها، ولكنك أمام الحركة السلفية، فسوف تجد تغييباً كاملاً للمذاهب الأربعة، والاكتفاء بالتفسير السلفي، ولا أظن أن ذلك مشكلة أبداً، إذ إن ما يميز الحركة السلفية أنها تستند دائماً إلى النص، وبالتالي إن النص مهم جداً في مسألة العقيدة والعبادات، لأن الناس إذا اختلفت على العبادة اختلفت على أصل الدين، ولا تكون عبادات مختلفة ما لم تكن هناك عقائد مختلفة، فلا اجتهاد في شكل العبادة الموصوفة نصاً.
وفي العودة إلى فكرة الجدل حول العقيدة الإسلامية، وإخراج هذا وذاك من دائرة الإيمان، فنحن، عندئذ، أمام مسألة جوهرية، وهي لو أن الدعوة الوهابية (السلفية) بقيت مدرسة دينية لا خلاف حولها، فالعلم الإسلامي يتسع للجدل، ويقبل الرأي، وهذا معلوم منذ صدر دولة المدينة المنورة، بين رؤية ابن عباس ورؤية ابن عمر للمسألة الواحدة، ولكن الوهابية انطلقت من نقطة الإقصاء للجميع، وبهذا لم تكن مدرسة دينية وإنما هي حركة إقصائية، ولا أظن أن أياً من التيارات السلفية الإسلامية يمكن تسميتها بالمدارس الدينية، بل بـــ “الحركات الإقصائية” وبهذا، فالتوصيف لها هنا مختلف تماماً.
فالمسلمون يدخلون إلى الإسلام بنطق الشهادتين، ويخرجون من الإسلام بإنكار إحداهما، بالتالي ليس الأمر سهلاً في أن تخرج الناس من دينهم بمجرد محاولة تفسيرهم للأمور الغيبية، فإذا كان ثمة خطأ في فهم مدرسة إسلامية لـ الذات الإلهية أو السمع أو البصر، فذلك أمر غائب عن البصيرة، وخاضع للجدل، والجدل فقط، فإن كان القرآن الكريم خاطب المسلمين بطريقة الجدل مع غير المسلمين، قال تعالى: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. النحل:125
فكيف يمكن أن تجادل سكان القرى من حولك بلغة السيف، وكيف يمكنك أن تحكم على من قبلك من المسلمين خلال القرون الماضية، وكيف يمكنك الحكم على عوالم المسلمين من حولك بالضلالة؟!
إن إشكالية الفكر السلفي الذي أنتجته الوهابية في أنه يخلط بين الدعوة والسلطة، فالدعوة لا تقوم بحد السيف، ولا بمنطق القوة، لأنه وفقاً لهذا المنهج في المعاملة فقد أصبحت هناك سلطة دينية، وبالنظر إلى مفهوم السلطة الدينية فهي “تعني أن يدّعي إنسان ما، لنفسه صفة الحديث باسم الله وحق الانفراد بمعرفة رأي السماء وتفسيره، وذلك فيما يتعلق بشؤون الدين أو بأمور الدنيا؛ وفيما يتعلق بالفكر الإسلامي فإن كل مذاهبه وتياراته الفكرية -باستثناء الشيعة- تنكر وجود السلطة الدينية وتنفي أن يكون من حق أي فرد أو هيئة إضفاء القدسية الإلهية على ما تصدر من أحكام وآراء.(16)
لذلك فإن أول خطوات الدعوة للحركة الوهابية في قرية العيينة، وصولاً إلى الدرعية لم تكن حركة دعوية تربوية، وإنما هناك سلطة عملت على أمرين، الأول أنها هدمت المزارات، وأقامت حد الرجم انطلاقاً من كونها (سلطة) وهذا لا يختلف تماماً عما فعلته القاعدة، وداعش لاحقاً، وبتوصيف أدق، فإن مدينة الدرعية لم تكن سلطة إسلامية وفقاً للعقيدة الإسلامية، بل كانت واحدة من مناطق الصراعات القبلية والسياسية، وفي هذه المعادلة تصبح مسألة تطبيق الحدود مثار شك، لأن العدالة في هكذا بيئة يسودها الاضطراب ستكون غير دقيقة، ولكن مرادنا ما هو أكثر من هذا، فإذا كانت العدالة حتى للأفراد مشكوك فيها في تلك البيئة، فكيف يمكن أن تكون هناك نظرة عادلة وصائبة من تلك البيئة المعزولة صوب العالم الإسلامي أجمع، بشقيه القريب والبعيد، وما كان أيضاً قبل مجيء الوهابية بقرون، مثل إنكارهم للأشاعرة وغيرهم.
لكن السؤال الأهم هو، عندما ظهرت الحركة الوهابية في نجد، فكم هو عدد المسلمين الذين يعرفون بلدة اسمها (الدرعية) توجد فيها حركة دينية إصلاحية؟ وكم هو عدد المسلمين الذين يعرفون معنى الجدل الذي كان بين بعض المدارس الدينية المتعلقة بالتوحيد؟ وبالتالي، وفي مقارنة بسيطة، كيف نطلب من مسلمي العالم الإسلامي آنذاك أن يرسلوا علماءهم ليتعلموا أصول العقيدة في صحراء نجد عند شيخ يقال له محمد بن عبد الوهاب، تماماً كما لو أردنا أن نسأل ملايين المسلمين، ذلك الحين، واليوم أيضاً.. هل هذه الملايين تعرف التفاصيل الجدلية حول مسائل العقيدة، أو بصورة أخرى، هل تصطف هنا أو هناك خلف هذه المدرسة أو تلك.
ما نريد أن نصل إليه، بالمنطق العقلي: إذا كان على ملايين المسلمين آنذاك في الصين وإندونيسيا وبلاد السند والقوقاز والقرم وإفريقيا وأوروبا إضافة إلى العالم العربي، إذا كانوا هؤلاء جميعاً بحاجة إلى حركة دينية يقودها رجل في مكان معزول عن العالم، فهذا يعني أن الإسلام في أزمة؟
وإذا كان هذا الرجل ومن يؤيده يؤمن أنه وحده على صواب بخلاف الأمة، وأن كل هذا العالم الممتد من شرق الأرض إلى غربها جاهل في شؤون عقيدته، فما هي الرهبنة إذا؟ فإذا كان الفكر السلفي يريد إعادة العالم الإسلامي الشاسع إلى بلدة الدرعية، فهل هذا هو الإسلام أم هي عملية إحياء لفكرة السلطة الدينية؟
حال الكنسية الأوربية في العصر الوسيط
تبرز قيمة الأفكار وأهميتها عندما تجد الاستجابة لها في الوقت والمكان المناسبين، لذلك، فإن عنصر الاستجابة لأي وارد فكري لم يكن متوفراً في الكنيسة، لأنها لم تكن راغبة بالتخلي عن سلطتها، في القرون الوسطى، فثمة محاولة للسماح للعقل بالخروج عن الكنيسة، لأن الجدل الفكري الأوروبي في القرون الوسطى أراد تحرير العقل من قبضة السلطة الدينية لكي يصل إلى العلم، وعلى نقيض ذلك كان الجدل في الحقبة الوهابية يذهب إلى العودة للنصوص “فأوروبا اللاتينية المنهمكة في صراعاتها الداخلية التي كانت تتقدم على الصعيد الثقافي لم تَعُد تُعِدُّ الصراع العقائدي مع الإسلام ذا أهمية بالغة، بل أخذت تفقد اهتمامها به، وأصبح النزاع العقائدي الداخلي هو المهم، كان John Wycliffe 1320/1384 يرى أن إصلاح الكنيسة يأتي بالدرجة الأولى، وأن العودة إلى منبع المسيحية كفيل بأن يؤدي إلى ذبول الإسلام”(17)
وفي إشارة ثانية نجد أن الكنيسة ” كانت تسيطر على الفكر سيطرة تامة، وتحول دون وصول أدنى شعاع من نور إلى الناس فالقول قولها في كل شيء، وبيدها كان التعليم كله، فكان جل همِّ القسس في التدريس هو تلقين الصغار ما تريد الكنيسة تلقينه وما يؤدي إلى خضوع الناس لها خضوعا تاماً ولا زيادة على ذلك”.(18)
ثم نجد الكنيسة قد بدأت تتجاوز تلك الحقبة من الانغلاق، وأخذت بالتحول تدريجياً نحو الخروج من الهيمنة الدينية على المشهد، فها هو توما الإكويني (1224/1274) يذهب نحو “تحرير الفلسفة من اللاهوت وبالتالي نشطت الدراسات الفلسفية وتقدمت عن اللاهوت بمراحل عديدة”(19)
ولو ألقينا نظرة على الحركة الوهابية التي أتت بعد ذلك بقرون عديدة وجدناها تريد إنهاضاً جديداً للعالم الإسلامي، وذلك من خلال استخدامها أدوات قديمة، كانت قد أنهكت المجتمعات الأوربية لقرون عديدة. لكن بمقابل ذلك فالنهوض في أوروبا آنذاك، ورغم بداياته كان يستند إلى ترجمات للعلماء العرب، ولعموم المؤثرات الثقافية العربية من الأندلس وغيرها.
ورغم أن بدء النهضة الأوروبية سبقت مجيء الحركة الوهابية بمئات السنين، غير أنه يعدُّ افتراقاً بين عالمين، يفقد الشرق من خلاله القدرة الانتقال الآمن نحو المستقبل، والأخطر من ذلك هل استعرنا ترهات القرون الوسطى الأوروبية، وبتنا، ومنذ أمد بعيد، نعيد تكوينها داخل البيئة الإسلامية، وتحميل الأفراد سبب الأزمات ونعدهم مسؤولين عنها من خلال التشكيك بصحة عقائدهم أو بقدر مستوى عبادتهم الدينية، فتلك مسألة غريبة، وهي إشكالية السلطة والحكم، فهل يمكن تصنيفه على أنه تقصير من عامة الشعب بالعبادة.
العلاقة مع الآخر انطلاقاً من النصوص
صحيح أن الحركة الوهابية ولدت في بقعة ضيقة من الصحراء، لكن رسالتها وامتدادات تلك الصراعات الدموية هي أخطر ما يواجه المجتمعات الإسلامية في الألفية الجديدة، فالمكان الذي يسيطر عليه السلفيون في أي بقعة من الأرض تختفي منه ملامح الحضارة، ويختفي الكتاب، والعلم، والمعرفة، والتواصل الحضاري وكل ذلك، حتى المنظمات المدنية المسالمة، ومنظمات الإغاثة تتحول إلى أهداف لأصحاب التيارات السلفية.
ويرجع ذلك لأمر بسيط، وهو هيمنة فئة متدينة على شريحة من الناس، يخلطون لهم السياسة بالدين، ويعملون على تحويل عقولهم إلى مستوعبات للاستقبال لا غير، خصوصاً ما بعد الحقبة المعروفة بالصحوة الدينية عام 1979 وصولاً إلى انهيار الشيوعية، والمسألة الأفغانية، ثم الانتفاضة الفلسطينية وغيرها، وصولاً إلى ظاهرة حزب الله التي ضخمها الإعلام جاعلاً منها قوةً مركزية في مواجهة إسرائيل والغرب.
كل هذه عوامل أسست في البنية النفسية للتيارات السلفية الجهادية المعاصرة، التي غرقت في جزئية السياسة المتبدلة، وأدخلت جيلاً من الشباب في دوامة مريرة، أمام غياب معرفي دقيق، في مواجهة منهج التطرف القائم، ما ينقض أصل الفكرة المتطرفة التي تجعل المؤمن بها يفقد بعده الإنسانية، ويفقد جوهر الدين وأصوله.
فالمسألة تشبه تحويل الإنسان إلى سمكة، يعلم ما يجري تحت الماء ويعلم أن الخروج إلى الشاطئ يعني الموت، لكنه لا يعلم أن العالم ليس هو ما يشاهده تحت سطح الماء فقط.
نحن أمام حالة ما تسمى النكوص، والفرار من مواجهة الواقع، ولعل النص القرآني يحمل بلاغة التوصيف:
فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ. الانفال:48
ولعل من يقول إن الاستشهاد هنا في غير مكانه، وعلى عكس ذلك نظن أن الأمر في مكانه، لأن الذين ذهبوا نحو العودة للتراث الإسلامي وتحميله عنصر القوة؟ وعدُّوا أسباب الضعف مجرد عوامل دينية بحتة! فإن البحث عن عناصر القوة هو أمر لا يعني بالضرورة سوف ينطلق من مفهوم تصحيح العقيدة، لا، فمسألة تصحيح العقيدة شأن تعبدي خالص، وما كان المسلمون الأوائل أو في العصور التالية، قد وصلوا إلى النهضة إلا بإدراك معنى العبادة، على أنها التعبير عن العقيدة التي يؤمنون بها دونما خوض في تفاصيل الجدل بها بقدر انشغالهم وفهمهم لمنطق العمل، فهم أهل الكلمة، وأهل المفردة القرآنية التي خاطبتهم، وهم يعرفون النصوص، كيف وأين يستلهمون منها نمط حياتهم، بالتالي لم تغرقهم تفاصيل اللاحقين، فهم انشغلوا بالعمل وهم سيفهمون النص القرآني.
يقول تعالى:
وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. سبأ:10/11
وهنا مفارقة في النص القرآني، فلو تأملنا النص القرآني، فإنه قام بتقديم مادة العمل التي هي الحديد، ثم تحدث عن الصناعة، التي هي العمل، ثم جاء قوله (واعملوا صالحاً) فمن هم المخاطبون بالعمل الصالح هنا؟ فإذا كانت الطير والجبال تردد تسبيح نبي الله داوود، فذلك كرامة له، لكن الذين طلب منهم الله أن يعملوا صالحاً؟ فذلك سؤال.
ونذهب إلى قراءة النص القرآني في مخاطبته المسلمين يقول تعالى:
وتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ، وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. المائدة:2
وهنا نجد الأثر البالغ في تصحيح البنية النفسية والسلوكية للأفراد، ما يعني أن الغاية من وصفهم التعبدي هو إحسان بعضهم لبعض، وإعادة تأهيل المجتمع نحو صورة من التآخي، خصوصاً في مجتمع كانت فيه كثير من الفوارق الطبقية والنظم الاجتماعية المعقدة والعبودية التي كانت سائدة في جميع الأمم آنذاك.
إن فكرة العودة للماضي التي أطلقتها الحركة الوهابية وقامت على قاعدة تصحيح العقيدة كي تصح العبادة، هي فكرة تحمل إشكالية معقدة، لأنها قامت على قاعدة إنكار التشكيل الاجتماعي القائم، والتنكر لشكل العلاقة الاجتماعية التي تحكم البيئة الثقافية الاجتماعية القائمة في عموم البيئة العربية آنذاك.
إن فكرة الإيمان في المجتمع النبوي جاءت إعادة لتأهيل المجتمع الموجود أصلاً، فهناك قيمة أخلاقية موجودة في العنصر البشري، يتوجب التعامل معها بمعزل عن الأديان.
وهنا نجد في قوله تعالى ” لا إكراه في الدين” وإذا أردنا أن نرى الصورة على نحو أوضح، فنحن أمام قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ. الحجرات:13 ولكن، ولكي يتعارف بعضنا على بعض كبشر، يلزمنا ذلك لغة للتواصل، يقول تعالى:
وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُم. الروم:22
وبالتالي إذا نظرنا إلى الآيات السابقة، فسوف نجد أننا بحاجة إلى تعلم اللغة، لكي نتمكن من التواصل مع بقية الشعوب، ما يعني ذلك أننا بحاجة إلى التواصل الحضاري لكي نرى الاختلاف في الألسنة والثقافات، وإذا أردنا أن ننظر إلى قوله تعالى (واختلاف ألسنتكم وألوانكم) فهذه تحتاج إلى وقفة، فعندما عطف القرآن الكريم اللون على اللسان، فالمسألة تبدو، كما أنَّ هنالك اختلافاً في ألوان البشرة من أصفر وأحمر وأبيض وأسود وحتى أزرق، وما بينهما من درجات لونية عديدة، فهناك لغات عديدة في الكون، بعضها قريبة من جغرافية العرب، وبعضها بعيدة جداً حتى عن شكل وبنية اللغة العربية، وبالتالي انطلاقاً من ذلك أدرك المسلمون الأوائل معنى التواصل، فقرؤوا اللغات وفهموها وتواصلوا مع الغرب والشرق، غير أننا اليوم أمام كهنوت خاص، يدخل بينك وبين خالقك، ويقول لك فكر بهذا ولا تفكر بذاك، ما يتناقض وقوله تعالى:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. محمد:24
خاتمة
لقد ترك لقاء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان المتلفز الأخير وخصوصاً عند حديثه عن الإصلاح الديني؛ ارتياحًا عالميًا وإسلاميًا وإنسانياً؛ عالمياً إذ أعلن بصراحة عدم رعاية الدولة السعودية للفكر الوهابي؛ وستنفتح على الآراء الفقهية التي فيها معاصرة ومصلحة المجتمع، وإسلامياً حينما أعلن انفتاح المملكة على كل رأي ديني يحقق المصلحة للمجتمع ما دام منضبط بأصله القرآني، وإنسانياً بعدم العمل بأحاديث الآحاد التي ينتج عنها إقامة حدود غير متوافقة مع سماحة الإسلام وحقوق الإنسان. ومثل هذه الأمور تبعث برسائل اطمئنان لجهات مختلفة؛ وتوقف الاحتراب الديني؛ لتبدأ مرحلة أكثر معاصرة وإنسانية.
المصادر
- كمال الديب/ هيمنة الإيديولوجيا على المعرفة والشعار على الأفعال/ صحيفة الأيام البحرينية/ العدد 10501 /8يناير 2018 م النص نقلا عن محمد جابر الانصاري.
- مسند الإمام أحمد/ إسلام ويب/11364.
- محنة الإمام أحمد في فتنة المأمون/ فتوى رقم 12547 اسلام ويب/ 18/1/ 2002
- كتاب السلطة الدينية / د. برهان زريق/ ص 4 و5. / قام ورثة الكاتب بنشر الكتاب بعد وفاته في سوريا بتاريخ 2017/3/22
- كتاب/ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي/د. محمد بن عبد الله السلمان/ طبعة 3/وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة الإسلامية. السعودية/ صفحة 16.
- الحركة الوهابية في ميزان الإصلاح السلفي والسياسي /محمد زاهد جول/ دراسة صادرة في كتاب (الوهابية والسلفية الأفكار والآثار/الشركة العربية للأبحاث والنشر/بيروت/ أوراق بحثية في مؤتمر الوهابية والسلفية/21-22-كانون الأول/2013.ص 123
- مكة المكرمة قبل البعثة النبوية/7 فبراير 2014 /د قصي الحسن/ صحيفة الخليج.
- مصدر سابق / الحركة الوهابية في ميزان الإصلاح السلفي والسياسي /محمد زاهد جول/ دراسة صادرة في كتاب (الوهابية والسلفية الأفكار والآثار/الشركة العربية للأبحاث والنشر/بيروت/ أوراق بحثية في مؤتمر الوهابية والسلفية/21-22-كانون الأول/2013.ص 123
- مقدمة ابن خلدون/ص 129/ طبعة دار الكتب العلمية بيروت.
- صحيفة عكاظ / (27اغسطس 2018) إدريس الدريس. الحنين إلى الماضي علة المسلمين..
- كتاب استراتيجية إدارة الازمات والكوارث/السيد السعيد/دار العلوم/ القاهرة/ ص38 مقولة لعالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون.1910-2003
- كتاب دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي/د. محمد بن عبد الله السلمان/ طبعة 3/وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة الإسلامية. السعودية/صفحة 26.
- المصدر السابق/ صفحة 27/ تم توقيع اتفاق الدرعية عام 1774.
- كتاب التوحيد هو كتاب العقيدة لمؤلفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب والذي يعتبر المرجع الأول للتيارات السلفية في مسألة العقيدة.
- إسلام ويب/فتوى 35299/ 18 نيسان 2004.
- كتاب الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية/ محمد عمارة/ دار الشروق/ القاهرة / صفحة 14.
- كتاب تراث الإسلام/ الجزء الأول/ تصنيف جوزيف شاخت/كليفورد بوزورث/ طبعة سلسلة دار المعرفة/ صفحة 45.
- كتاب الحضارة/ حسين مؤنس/ صفحة 296 سلسلة عالم المعرفة.
- كتاب تجديد الفكر الديني في المسيحية – دار الثقافة – القاهرة – الدكتور القس صموئيل رزفي صفحة 111-112.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.