“ماذا تعني الحشود العسكرية الصربية على حدود كوسوفو في هذه الأيام وهي التي ارتكبت أكبر المجازر بحق شعب كوسوفو المسلم منذ سنوات؟”.. بهذه الكلمات انضمّ الداعية السوري المقيم في تركيا، يوسف بيروتية، إلى جوقة التحريض الديني التي بدأ التنظيم الدولي لجماعة الإخوان بالترتيب لها، على خلفية التوتر الذي يسود منطقة غرب البلقان، وبالتحديد بين صربيا وكوسوفو.
وبينما يمكن فهم أنّ حملات التحريض الإخواني وحشد الأنصار والمريدين ضد صربيا ماهي الّا محاولة من الجماعة لحماية ما حققته من نفوذ وحضور في كوسوفو، الدولة الفتيّة ذات الغالبية المسلمة، وهو ما حصل بتوظيفها عناوين العمل الخيري والدعوي خلال العقدين الماضيين (..)، فإنّ التوتّر الأمني الحاصل اليوم بين الجارين “اللدودين” يأتي على وقع غليان القارة الأوروبية بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، والمخاوف المتزايدة من إقحام البلقان في الصراع المفتوح بين روسيا والغرب، لاسيَّما مع الحماسة التي يُبديها رئيس صربيا ألكسندر فوتيتش لاستعادة السيطرة على كوسوفو والانحياز لموسكو قدر الإمكان، وفق بعض المحللين.
واشتعل فتيل التوتر بين الطرفين عندما حددت كوسوفو موعد 18 ديسمبر (كانون الأول) لإجراء انتخابات في بلديات ذات غالبية صربية؛ لكن الحزب السياسي الصربي الرئيسي أعلن مقاطعته. ولاحقاً قبضت السلطات الكوسوفية على شرطي سابق يشتبه بضلوعه في هجمات ضد ضباط شرطة من أصل ألباني، ما أثار غضب الصرب الذين لجأوا إلى قطع الطرق.
حملة إعلامية ممنهجة..
طوال الأشهر الماضية، باتت صربيا، وبطبيعة الحال كوسوفو، ضيفاً شبه دائم على المواقع الإلكترونية التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، وضمن المنصات الإعلامية التابعة لقطر وتركيا.
على سبيل المثال، موقع “الجزيرة” القطرية واسع الانتشار في العالم العربي نشر في أكتوبر الماضي تقريراً استحضر فيه العداء بين الدولتين قبل أن يتم رسم حدودهما أصلاً، محاولاً إثارة المشاعر العاطفية لقراءه عبر ما قال إنه “استهداف ممنهج للمسلمين من قبل السلطات الصربية (..) يتجلى في هدم المساجد والتضييق على بنائها أو ترميمها”.
ولم يكتف التقرير الصادر عن مؤسسة تدعي “المهنيّة والحياد” بذلك، بل مرّر كاتب التقرير الذي حمل اسم”مسلمو صربيا.. تهميش واضطهاد وهدم للمساجد في دولة تُجاهر بعدائها للإسلام”، أفكاراً ذات طابع تحريضي من خلال عبارات يصعب قياسها علمياً، كالقول “يسود داخل صربيا ((جو عام)) يمجّد العدوان الذي تعرض له المسلمون البوشناق في البوسنة والهرسك في الفترة بين 1992-1995، وما صاحبه من إبادة جماعية كانت الأسوأ على أرض أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية”. ويضيف: “ويحيي الصرب ذكرى مذبحة سربرنيتسا ((تشفّيًا بالمسلمين في صربيا)) ويصورون القائدين العسكريين المسؤولين عن تلك الفظائع، رادوفان كارادجيتش وراتكو ملاديتش، على أنهما بطلان قوميان فعلا ما يجعلهما قدوة تحتذى من كل الصرب في تعاملهم مع مسلمي صربيا البوشناق منهم والألبان”.
في مثال آخر، نشر موقع “ساسة بوست” الذي انطلق عام 2014 من شباب منتمين لجماعة الإخوان المسلمين، تقريراً حمل عنوان “أن تكون مسلمًا في صربيا: قرون من الاضطهاد والعيش على الهامش!”، جاء فيه أنّ الغربيون والأوروبيون نظروا عبر التاريخ إلى دول البقان بوصفها “بوابة محتملة يمكن أن ينفذ منها المسلمون إلى أوروبا، وأرادوا لها دومًا أن تصبح عازلًا بشريًّا وحضريًّا لهم مع المسلمين وعليه صبوا فيها جام مؤامراتهم”، وأضاف: “أما المسلمون، الذين امتدت دولهم على أراضي واسعة الأطراف، فقد كانت البلقان بالنسبة لهم بلادًا بعيدة، لم تحظ في كثير من الأحيان بالدعم (أو حتى التعاطف الكافي) الذي يتناسب مع الأحداث الكبرى التي وقعت فيها”.
من جهته، موقع TRT التركي، الذي يضم بنسخته العربية عدداً من كوادر جماعة الإخوان السورية والمصرية، نشر تقريراً يمجد العثمانيين ويذكي من نار التعصب، جاء فيه: “كان للأتراك العثمانيين صولات وجولات خلال فتحهم أراضي روملي (البلقان) ونشرهم سماحة الإسلام فيها، وحديثاً دافعت تركيا إنسانياً وإغاثياً عن البوسنة وكوسوفو خلال حربهما ضد صربيا في تسعينيات القرن الماضي، ولعبت دوراً في عملية السلام الّتي أعقبت الحرب”، وأضاف التقرير الذي حمل عنوان: “استحضار التاريخ.. لمَ يردد متطرفون صرب هتافات عدائية ضد الدولة العثمانية؟”، أنّ نشطاء من نوفي بازار، المدينة ذات الغالبية المسلمة الواقعة جنوب غربي صربيا، نقلوا هتافاً عدائياً أطلقه متعصّبون ضدّ العثمانيين والمسلمين، وخلطوها بعبارات “المجد للصليب”، على نحو استفزازي لمشاعر قاطني المدينة من المسلمين.
الإسلام السياسي في كوسوفو
يرى محللون أن الرعاية الأجنبية التي قامت بها تركيا وقطر في دول البلقان خلال العقدين الماضيين ساهمت في انتشار الإسلام السياسي في القارة العجوز، بل إن تلك الدول باتت “حديقة خلفية لنشر التطرف في قلب أوروبا”.
واستثمرت تركيا إهمال أوروبا لحدودها الشرقية لتتغلغل في مؤسسات ومجتمعات بدول البلقان تحت شعار حماية المواطنين من أصول تركية، مستفيدة أيضا من الإرث الاستعماري العائد لتواجد الإمبراطورية العثمانية في تلك المنطقة قبل عقود لدعم تيارات الإسلام السياسي وترسيخ وجودها.
وتشير دراسات حديثة إلى أن النفوذ التركي في البلقان وفر كذلك منافذ حيوية لمؤسسات قطرية غير حكومية لاستخدام أدواتها للنفاذ إلى الداخل حيث تضطلع مؤسسة قطر الخيرية على سبيل الذكر بهذا الدور من خلال أنشطة في دول المنطقة منذ عقود ولها مكاتب رئيسية في ألبانيا وكوسوفو افتتحتها في 2002.
ويعد مكتب قطر في كوسوفو الأكبر وسط البلقان ويوفر استثمارات داخلية وصلت قيمتها إلى 68 مليون دولار، وتستحوذ المراكز الدينية والثقافية على النسب الأكبر من الدعم المقدم للملفات المختلفة مثل دعم الفقراء أو توفير المياه والغذاء والاحتياجات الأساسية، وفق موقع ميدل إيست أونلاين.
ومن ضمن المنظمات الإخوانية النشطة في كوسوفو، “الإغاثة الإسلامية حول العالم”، التي تتخذ من بريطانيا مقراً لها، و”المنتدى الإسلامي في كوسوفو”، الذي دأب على التحريض على الكراهية والتعصب الديني وطوّر دعاية مهينة ضد شخصيات وطنية معروفة بسبب موقفها من جماعات الإسلام السياسي.
وتعتبر “الحركة الإسلامية اتحدوا – ليسبا”، أول حزب إسلامي أصولي في البلقان، وبحسب مصادر عديدة، فإن هذه الحركة الإسلامية المتطرفة تمثل أيديولوجية الإخوان المسلمين في كوسوفو، كما ان زعيم الحركة الإسلامية فؤاد راميقي، هو أيضًا ممثل “الشبكة الإسلامية الأوروبية” في كوسوفو، والشبكة تأسس بجهود منظر الإخوان الراحل، يوسف القرضاوي، وفق موقع أوراسيا ريفيو.
ونجحت السلطات الكوسوفية في تفكيك بعض الشبكات الإخوانية، مثل منظمة AKOS Most in Sanski Most التي كانت تركز على تعليم الشباب وتعزيز السلوك الإسلامي “السليم”. تنتمي AKOS أيضا إلى المنظمة الغير الحكومية “جمعية الثقافة والتعليم” ( (AKEAالتي كانت تعمل في كوسوفو كمنظمة يشتبه في صلاتها بالإخوان المسلمين. تم إغلاق AKEA في عام 2014 من قبل مكتب المدعي الخاص في كوسوفو باعتبارها واحدة من 64 منظمة مشبوهة. وفقا لتقارير إخبارية عام 2014، كانت المنظمة، ومقرها الرئيسي في بريشتينا، قريبة من جماعة الإخوان المسلمين في مصر وتمتع أيضا بدعم حكومة الرئيس التركي أردوغان عبر TİKA .
المشهد الديني
وتضم كوسوفو، كما جل الدول نتجت عن تفكك يوغوسلافيا، خليطاً من القوميات والأديان، أهمها – الإسلام والأرثوذكسية والكاثوليكية، فالغالبية العظمى من ألبان كوسوفو يعتبرون أنفسهم، على الأقل اسميًا، مسلمين، أما الكاثوليك والأرثوذكس فغالبيتهم من صرب كوسوفو، حتى وإنهم ليسوا من المؤمنين الدينيين النشطين مثل الألبان، فإن الديانة تمثل مكونًا مهمًا لهويتهم الوطنية، إلى جانب اللغة أيضًا.
وتعتقد نور علوان في مقال بموقع نون بوست أنه وعلى الرغم من الاختلافات الدينية القائمة على أسس عرقية، فلا يمكن القول إن الدين في حد ذاته ساهم في اندلاع الصراع بين الصرب والألبان، إذ إن السكان أكثر انقسامًا بسبب الهويات القومية والفظائع والمظالم التي مروا بها في زمن الحرب أكثر من التوترات التي نشأت بين الإسلام والكنيسة الأرثوذكسية الصربية.
ووفقًا لدراسة أجراها مركز بيو للأبحاث، فإن مسلمي كوسوفو، جنبًا إلى جنب مع جيرانهم البوسنيين والألبانيين من أكثر المسلمين ليبرالية في العالم، فقد أظهرت مثل هذه الدراسات أن مسلمي البلقان كانوا قادرين على اعتناق الحداثة دون التخلي عن هويتهم الدينية أو ورؤية أنفسهم مسلمين بالكامل.
وأعلنت كوسوفو استقلالها عن صربيا في عام 2008، لكن بلغراد ترفض الاعتراف بها وتشجع الصرب في كوسوفو على تحدي سلطة بريشتينا، عاصمة كوسوفو، خاصة في الشمال حيث يشكل الصرب الأغلبية، بتعداد يقدر بنحو 120 ألف نسمة من سكان كوسوفو البالغ عددهم 1.8 مليون نسمة.
وتم الاعتراف بكوسوفو دولة مستقلة من قبل 117 دولة، باستثناء صربيا وروسيا والصين. وتطمح الجمهورية الفتية إلى الانضمام لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، لذا فإنّ الإسلام يأخذ المقعد الخلفي في سياسات الدولة، في محاولة لتسهيل طريقهم إلى داخل نادي الدول ذات الجذور المسيحية، بحسب محللين.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.