كشفت الأزمات المتعاقبة في تركيا هشاشة أسس النظام السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالجمهورية التي أنشأتها المؤسسة العسكرية بقيادة الجنرال مصطفى كمال، الملقب بأتاتورك (أبو الأتراك)، في تشرين الأول 1923 من بعض أشلاء الدولة العثمانية التي قُسمت بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، كيان يعاني تناقضات بنيوية (علمانية النظام وإسلامية المجتمع؛ عرقية النظام وتعددية المجتمع القومية, ديمقراطية الدستور وهيمنة العسكر، شرقية الموقع والانتماء، غربية السياسة والتوجه، حنين للسيطرة القديمة بثوب جديد) جعلته، بسبب ولادته غير الطبيعية عرضة للاهتزازات والأزمات. وقد زاد من تفاقم هذه التناقضات البنيوية التحاق تركيا الأتاتوركية بالغرب عن طريق الدخول في الأحلاف الغربية: الأطلسي 1952، بغداد 1955، المركزي 1959, والتعاون العسكري مع إسرائيل 1996، وسعيها المستمر للاندماج في الغرب عن طريق دخول الاتحاد الأوروبي. وقد ترتب على هذا التكوين الهجين بروز استقطابات سياسية واجتماعية تمحورت حول عناصره.
المشهد الداخلي
نجح أتاتورك في إخراج قوات الحلفاء، الذين اجتاحوا أراضي السلطنة العثمانية بعد هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الأولى، واقتسموا منطقة الأناضول في اتفاقيتي سيفر (1920) وسان ريمو (نيسان1920): سميرن والتراس الشرقي (القسم الأوروبي من تركيا) لليونان، وآضاليا لايطاليا، وكيليكيا لفرنسا، ودولة أرمنية في الأناضول الشرقي، ودولة كردية مستقلة ذاتياً في الجنوب الشرقي، وقسّموا بقية الأناضول مناطق نفوذ بين فرنسا وإيطاليا(1).
فقد استثمر إقامة علاقات سياسية وعسكرية مميزة مع الاتحاد السوفياتي وحصوله على مساعدات عسكرية ولوجستيه منه ساعدته في دحر القوات اليونانية التي كانت على مشارف أنقرة، فأجبر الحلفاء على التفاوض معه، وعقد اتفاقية لوزان (24/7/1923)، اعترف الحلفاء بموجبها باستقلال الجمهورية التركية بحدودها الحالية، في خطوة سياسية هدفها الأول إبعادها عن الاتحاد السوفياتي وجذبها إلى صف التحالف الغربي(2)، وهذا ما حصل لاحقاً.
تبنى أتاتورك شكل الدولة المركزية بمضمون علماني، نافياً سمات المجتمع التركي وتاريخه، متجاهلاً التنوع القومي الذي يتكون منه. أحل القومية التركية محل العقيدة الإسلامية كمصدر لتماسك الدولة الجديدة ومرجعية للانتماء ولتعريف الذات(3)، واستخدم التاريخ واللغة أدوات لغرس الإحساس بالقومية التركية وبتميز الشعب التركي من غيره من الشعوب. أعلى مكانة العرق التركي إلى درجة العنصرية: (أن الجنس التركي هو أصل البشرية والحضارة بأسرها)، و (يا لسعادة من قال أنا تركي)، ولم يعترف بالأقوام والأعراق داخل حدود الدولة التركية الناشئة (26 جماعة قومية وعرقية).
أسس نظام اللون الواحد بسماته الست: الجمهورية، القومية، النزعة الشعبية، العلمانية، تدخل الدولة، الثورية، وثبّت خياراته دستورياً وكلف المؤسسة العسكرية (مؤسسة غربية أسست بإشراف الألمان أواخر أيام السلطنة, وخضعت لإشراف الولايات المتحدة منذ الأربعينيات) بحماية النظام من أي مخالفة له أو خروج عليه أو تغييره سياسياً أو اجتماعياً مكرساً نظام حكم (أبوي استبدادي)، حكم صفوة تحتقر الشعب، على الرغم من إفراطها في الحديث عن ولائها لمبدأ الشعبية، وعدم الاعتراف بوجود طبقات: (مجتمع موحد)، وعدم إعطاء دور إلا للصفوة: (الدولة المصدر الوحيد للتطور)، وعدم توفير آليات للمشاركة السياسية.
أخذ أتاتورك عن النموذج الفرنسي المبادئ العلمانية، والدولة القومية المركزية، إذ ترتكز المواطنة على حقوق الفرد لا على الهوية العرقية أو الدينية، وعن النموذج السوفياتي الشمولية ونظام الحزب الواحد والاقتصاد الموجه، وعن القوانين السويسرية القانون المدني، وعن التشريع الإيطالي الفاشي قانون العمل، وطبقها في مجتمع يدين بوجوده للدين الإسلامي. ألغى نظام الخلافة، وفصل الشعب التركي عن تاريخه، ستة قرون في ظل الإسلام، وعزله عن محيطه الإسلامي، قطع أواصر المجتمع، في حياته اليومية، عن الدين الإسلامي (العطلة الأسبوعية يوم الأحد، قراءة القرآن باللغة التركية، استبدال الحرف اللاتيني بالحرف العربي في الكتابة باللغة التركية، واستبدال القبعة بالطربوش، الخ…).
احتوت الجمهورية التركية مجموعة من المفارقات والتناقضات، لعل أهمها وأخطرها على مستقبلها أن تعامل أتاتورك العلماني مع قضية الدين كان تعاملاً مصلحياً. فقد سعى بكل إمكاناته إلى إنهاء الحضور الإسلامي في مختلف مجالات الحياة وبين مختلف فئات المجتمع من جهة، ومن جهة ثانية ماهى بين القومية التركية والإسلام حين رفض في مفاوضات لوزان الإقرار بوجود أقليات قومية في الدولة التركية، لم يعترف إلا بوجود أقليات غير مسلمة. فالمسلم تركي وغير المسلم غير تركي، وذلك للتملص من حقوق الشعوب والأعراق والإثنيات التي تعيش في أراضي ما أصبح يسمى تركيا، لذا عين في البرلمان الأول (1923) ممثلين عن هذه الأقليات: نائبين أرثوذكسيين، ونائباً أرمنياً، وعين في برلمان (1935- 1939) نائباً يهودياً وفق النظام (الملي العثماني). ونظر إلى النشاطات السياسية التي قام بها الكرد، تعبيراً عن تميزهم وعن تطلعهم القومي، باعتبارها عصياناً ضد الدولة؛ ووصف القائمين بها (بالعصاة) واستخدم ضدهم القوة (ثورة الشيخ سعيد بيران 1925، انتفاضات أغري 1928- 1930 ودير سيم 1937).
إن التداخل والتشابك بين عناصر التركيبة المجتمعية والمشكلات التي أفرزها خيار أتاتورك السياسي والاقتصادي عقّد عملية الاختيار وصوغ المستقبل وشتت الوعي والولاء التركيين، وتسبب في غياب إجماع حول الهوية وفشل الخيارات. فالنظام العلماني لم يخترق البنية الأساسية للمجتمع التركي، ولم يستطع اجتثاث المشاعر الدينية عند أغلب المواطنين، فانشطر المجتمع التركي إلى أقلية (متعصرنة) وأكثرية متمسكة بتقاليدها، باحثة عن سبل تطورها من داخل قيمها، وأخذ الصراع الاجتماعي والسياسي بين الطرفين شكل صراع حضاري، صراع من أجل الهوية والاختيارات الأساسية(4).
لم يستطع التوجه الشمولي المتشدد الصمود في وجه المصاعب المحلية والإقليمية إذ بدأ الواقع يفرض ذاته على الخيارات السياسية للدولة الأتاتوركية. اضطر حزب الشعب الجمهوري (حزب أتاتورك) إلى شيء من الليبرالية وسيلة لاستعادة شعبيته المتأكلة، فسمح بتأسيس حزب معارض (الحزب الديمقراطي) في إطار عملية هي أقرب إلى مأسسة للدكتاتورية والاستبداد منها إلى إشاعة مناخ سياسي ديمقراطي. فقد بقي الخيار الأساسي، سياسياً واجتماعياً، من دون تغيير.
واضطرت المتغيرات السياسية والاقتصادية المحلية والإقليمية والدولية، الدولة التركية إلى التراجع عن إجراءاتها ضد الدين، ودفعتها إلى إعادة الاعتبار إلى الإسلام، ففي إطار المواجهة بين الشرق والغرب، حيث كانت تركيا في صف الغرب، واتساع النشاط الماركسي في تركيا، نُظر إلى الإسلام بوصفه وسيلة فاعلة لتقويم الأخلاق ومحاربة الشيوعية، فلجأت الدولة التركية إلى الإسلام في سعيها إلى تقليم أظافر التيار اليساري.
وفي منتصف سبعينات القرن الماضي، وبفعل عاملين مهمين: القضية القبرصية والأزمة الاقتصادية، دُفعت تركيا إلى اللعب بورقة الهوية الإسلامية في الخلاف حول قبرص والسعي إلى الاستفادة من الثروة النفطية، وقد تبلور ذلك بالانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي وتضمين دستور 1982 فرض التعليم الديني في المدارس الابتدائية، وغدا هدف السياسة الثقافية في تركيا المحافظة على الإسلام عنصراً ليس بالإمكان فصله عن الثقافة التركية.
لقد عُدّ عقد الثمانينات فاتحة عهد جديد في علاقة الدولة مع الدين؛ حيث برزت مواقف مخففة من العلمانية، وذلك بسبب تنامي التيارات الدينية من جهة والحاجة إلى استخدام الدين والأخوة الدينية في مواجهة أكراد تركيا المطالبين بدولة كردية في جنوب شرق الأناضول من جهة ثانية. لقد غدت العلمانية واحدة من الأركان التي يوصف بها نظام تركيا المعاصرة، وعاد الإسلام، ديناً وثقافة، قوة مهمة جداً ليس في مقدور النظام تجاهل انتماء تركيا إليه. كما أتاح الانفتاح الديمقراطي منذ عام 1945 -على الرغم من محدوديته- للقوميات والإثنيات، الكرد بخاصة، التعبير عن نفسها بأشكال عدة: جمعيات، أحزاب سياسية، نشاط ثقافي …إلخ.
غير أن المؤسسة الأتاتوركية تمسكت بموقفها الرافض لأي تعبيرات عن التنوع القومي والثقافي والمذهبي، واستخدمت القوة مجدداً لسحق الحركة الكردية، الاستثناء الوحيد إعلان الرئيس تورغوت أوزال عن مقاربة مختلفة للقضية الكردية حيث ربط النزعة (الانفصالية) بالحرمان والفقر والتخلف وأراد احتواءها عن طريق إدماج الجنوب الشرقي باقتصاد البلاد عن طريق مشروع استصلاح الأراضي(الغاب)، وإقامة السدود وزراعة المنطقة لتوفير فرص عمل وحياة أفضل, ظناً منه أنه بذلك يزيل القاعدة المادية للصدامات الدامية من جهة، ويدمج الكرد في الدولة بعد أن يحقق لهم بعض الحقوق الثقافية مثل التحدث باللغة الكردية خارج المعاملات الرسمية من جهة ثانية(5).
ولكن نيات أوزال لم تكن خالصة حيث لم يسع إلى مد استصلاح الأراضي إلى منطقة شرق الأناضول (منطقة المثلث على الحدود التركية العراقية الإيرانية) بل دعا الكرد إلى الهجرة إلى منطقة مشروع (الغاب)، وكأن هدفه إبعادهم عن الحدود لمحو ملامح دولة الحكم الذاتي التي أعطتها اتفاقية سيفر للكرد، ودعا إلى فدرالية تركية- كردية بعد ضم أكراد العراق ومنطقة شمال العراق الغنية بالنفط إليها.
تلاشت هذه المقاربة بعد وفاة أوزال 1993 وعادت المواجهة إلى الصدارة وزادتها تطورات الوضع الكردي في كردستان العراق، ومستجدات المواجهة بين القوات التركية وقوات حزب العمال الكردستاني تعقيداً، حيث ظهرت تركيا دولة متعددة القوميات.
وقد تلا انهيار الاتحاد السوفياتي وانبعاث النزعة القومية واتساع نطاق الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ازدياد إحساس الأتراك بالتمايز في ما بينهم وبالتميز من الغرب الأوروبي، إذ لم يكن التعلق بالغرب يحظى بتوافق الرأي العام التركي على الصعيدين الفكري والسياسي من جهة، ولم تدفع الخدمات السياسة الكبيرة التي أسدتها تركيا للغرب، الأوروبيين إلى التحمس لإلحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي من جهة ثانية.
أما اجتماعياً فيواجه الأتراك مشكلة في غاية الخطورة: وجود قناعة لدى شريحة واسعة من الأتراك، وبخاصة دائرة النخبة المتغربة، بـ(دونية الأتراك) وإيمانها بأنه لا يمكن إنقاذ تركيا إلا من خلال الإحسان الغربي، وهذه العقلية تضرب بجذورها في القرن التاسع عشر، وفي مرحلة التدهور والسيطرة الغربية. تطفو هذه العقلية على السطح في أوقات الأزمة الحادة، عندما يبدو أن الحل الوحيد هو إلقاء تركيا تحت رحمة الغرب والسعي وراء وصايته عليها. وقد كان أوزال ممثلاً نموذجياً لهذه العقلية، فقد كان على قناعة بأن تركيا تمر بأزمة عميقة إلى الحد الذي لا يمكن أن ينقذها منها سوى الغرب. إنها رؤية عالية التشاؤم تبقي استمرار تركيا في الحياة متوقفاً على الغرب(6).
على صعيد آخر انعكست البنية المذهبية للأغلبية المسلمة (سنة – علويين) سلباً على الاستقرار الداخلي، وكشفت استحالة نجاح الخيارات البسيطة والسهلة، إذ انفجر الصراع المذهبي بين الطرفين وأدى إلى مجابهات دامية قسمت المجتمع عامودياً، ولعبت الكتلة العلوية (18- 20 مليون نسمة) دوراً معرقلاً في وجه انتشار التيار الإسلامي، وحسمه للصراع على المستقبل ديمقراطياً، فقد شكلت قاعدة قوية للأحزاب العلمانية من جهة وقيدت حركة الأحزاب الإسلامية في التعاطي مع الواقع من جهة ثانية، لأنها (الأحزاب الإسلامية) غير قادرة على طرح مشروعها من دون الأخذ بعين الاعتبار موقف الكتلة العلوية، وبخاصة أنها (الكتلة العلوية) قد تحولت منذ سبعينات القرن الماضي إلى قوة مالية عظم نفوذها؛ ما سمح لها بتنظيم نفسها وتعريف دورها وتحديد موقعها في الخريطة السياسية التركية، ومن دون تفهم قاعدتها السُنّية للتقارب مع هذه الكتلة والقبول بالتعاون معها.
وقسم التطور الاقتصادي- الاجتماعي، منذ إعلان الجمهورية، تركيا إلى نصفين غير متكافئين. نصف غربي متقدم، حيث تقارب مستويات الحياة فيه المقاييس الأوروبية، وتنتشر الصناعات ومراكز التجارة والإعلام الرئيسية، ويتراجع التكاثر السكاني، وهو يضم المناطق الغربية كلها من تركيا، مقابل نصف شرقي يضم المناطق الشرقية كلها الواقعة إلى الشرق من العاصمة أنقرة، حيث العلاقات الزراعية المتخلفة في ظل نظام إقطاعي عشائري طاغ مع تزايد سكاني رهيب وتدني في المستوى المعيشي والتعليمي(7). وقد زادت الهوة النفسية بين الطرفين اتساعاً نتيجة هجرة أعداد كبيرة من المناطق الشرقية إلى المناطق الغربية وإقامتها في أحياء فقيرة حول المدن واكتشافها حجم الفجوة الفاصلة بين الطرفين معيشياً وسلوكياً.
المشهد الخارجي
تحتل الجمهورية التركية موقعاً استراتيجياً مهماً بين القارات، فهي حلقة وصل أساسية بين آسيا والشرق الأوسط من جهة، وبين روسيا الاتحادية ومنطقة البلقان وأوروبا من جهة ثانية، ولقد لعب هذا الموقع المهم دوراً حيوياً في التاريخ التركي بعامة وفي السياسة الخارجية بخاصة.
غير أن لهذا الموقع المهم مشكلاته، فقد أدى انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي إلى بروز متغيرات سياسية كثيرة أثرت -وستبقى تؤثر- في الأوضاع التركية مدة طويلة. فانتهاء الحرب الباردة قاد إلى تراجع أهمية تركيا بالنسبة إلى حلف الأطلسي، ولكنها بقيت مع ذلك شريكاً لا غنى عنه للولايات المتحدة لوقوعها في منطقة ذات حساسية خاصة: الخليج، بؤرة المصالح الحيوية للولايات المتحدة وحلفائها من جهة ولحاجة الأخيرة إليها في الترتيبات الجديدة التي أعقبت مرحلة الحرب الباردة من جهة ثانية، وبخاصة أن فيها بنية تحتية عسكرية مهمة: أكثر من 60 منشأة منها 6 قواعد كبيرة.
أدى تفكك الاتحاد السوفياتي إلى بروز خريطة سياسية جديدة ظهرت بموجبها آسيا الوسطى الإسلامية ذات الجذر التركي والتي تطمع بدعم تركيا، وهذا فتح المجال أمام تركيا لتتحرك شرقاً وتعظم دورها الإقليمي وتعزز موقعها الأطلسي بعد طرحه سياسة (المشاركة من أجل السلام) مع دول القوقاز، وجمهوريات مجاورة للجمهورية التركية لها مطالب إقليمية في الأراضي التركية: أرمينيا تطالب بـ (طرابزون، أرزنجان، موش، تبليس) ولها مشكلات حدودية مع جمهورية أذربيجان، إحدى جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية تركية الأصل التي تطمع في دعم تركيا في وقف زحف أرمينيا في أراضيها (احتلت أرمينيا 20 في المئة من أراضي أذربيجان). كما كشف تشظي جمهورية يوغسلافيا محدودية الإمكانات التركية في دعم حلفائها مسلمي البوسنة والهرسك.
وترتب على حرب الخليج الثانية، حرب تحرير الكويت، متغيران: سحق القوة الضاربة لخصم تركيا الإقليمي: العراق، وإقامة شبه دولة كردية في كردستان العراق، عقّدت الموقف تجاه القضية الكردية داخل تركيا، وتجاه مسألة الهوية فيها، فقد قدمت نموذجاً قابلاً للاقتداء به في حل المسألة الكردية في تركيا من جهة، وشكلت ملاذاً آمناً، نسبياً، لحزب العمال الكردستاني، سمح له بتصعيد عملياته العسكرية ضد القوات التركية، من جهة ثانية.
أما على صعيد الصراع العربي- الإسرائيلي فقد شكلت العملية السلمية فرصة التي بدأت عام 1991 لتركيا كي تقيم علاقات سياسية واقتصادية مع إسرائيل من دون خشية من ردة فعل عربية من جهة، وفرصة للعب دور في ترتيبات الإقليم مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وترتيب جدول أولوياتها, بعيداً من مجابهة المشكلات الفعلية, بإعطاء الأولويات لمواجهة الحركات الأصولية الإسلامية والدول التي تدعمها (إيران) من جهة ثانية.
هذا كله وضع تركيا أمام خيارات صعبة واحتمالات معقدة ومركبة. لقد وجدت نفسها في مواجهة قضايا كبيرة وخطرة:
- القضية الكردية التي كانت موجودة منذ أواخر العهد العثماني واستمرت في العهد الجمهوري، ولكنها لم تكن يوماً بهذه الحدة، فالمتغيرات والمواقف الدولية من تداعيات المجابهة التركية- الكردية، بما فيها اعتقال عبد الله أوجلان والحكم عليه، والتعاطف الدولي مع مآسي الكرد وإقامة شبه دولة كردية في كردستان العراق، ربطت القضية الكردية بالتوازنات الإقليمية والدولية بقوة ووضوح، ووضعت تركيا تحت ضغط شديد، دفعها ضغط الاتحاد الأوروبي إلى الإقرار بالثقافة الكردية والسماح بتداولها.
- القضية الأرمينية التي تتضمن بُعدين: الإقرار بالمذابح التي ارتُكبت بحق الأرمن والاعتذار عليها، الغرب يطالب بذلك، والمطالبة بإعادة تخطيط الحدود والانسحاب من مناطق واسعة في شمال شرق تركيا لضمها إلى أرمينيا مع مناطق من أذربيجان وإقامة أرمينيا الكبرى.
- القضية السورية التي تطالب بأراضي في تركيا: لواء الاسكندرون، حيث ما زال يظهر على الخرائط الرسمية السورية ضمن الأراضي السورية باعتباره أرضاً عربية، إضافة إلى حصص مياه الفرات، عقدت وما تزال العلاقات العربية- التركية وفرص قيام علاقات تركية- عربية واسعة ومتينة.
- القضية الروسية التي لا تطالب بأراض في تركيا ولكنها تعمل على إعادة صوغ الفضاء السياسي الإقليمي بإقامة تحالف سلافي- أرثوذكسي يضم إلى جانبها بلغاريا وصربيا واليونان وقبرص. وهذا يجعل روسيا حامية لخصوم تركيا بما في ذلك تأييد المطالب الأرمينية والكردية.
لقد وجدت تركيا الأتاتوركية نفسها وسط بيئة إقليمية دولية مضطربة: دول جديدة ناشئة، صغيرة، تبحث عن هوية ونظام سياسي ونمط اقتصادي جديد(جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية)، مشروعات سياسية خطرة: أرمينيا الكبرى، التحالف السلافي، النشاط الألماني في آسيا الوسطى، التحرك الإيراني في جمهوريات آسيا الوسطى, ضرب المسلمين في البوسنة والهرسك، التحرك اليوناني في بحر إيجه…إلخ تستدعي: إما خوض مجابهة كبيرة واحتواء الأخطار الداهمة، والمحافظة من ثم على وحدتها ووضعها الراهن، مع مزيد من تعظيم المكاسب، وإما أن تقع في قبضة خصومها داخلياً: الإسلاميين، الكرد , وخارجياً: أرمينيا، سوريا، اليونان، بلغاريا، قبرص…إلخ. بصيغة أخرى إنها أمام أحد احتمالين: إما العودة إلى حدود خريطة اتفاقية (سيفر) أو المحافظة على حدود خريطة اتفاقية (لوزان).
جاء الرد التركي على هذه الاستحقاقات والقضايا الداهمة بهجوم سياسي على محاور عدة:
- الدعوة إلى الطورانية بإقامة اتحاد يجمع الدول كلها ذات الأصل التركي من الأدرياتيكي حتى الصين.
- الدخول في تحالف استراتيجي مع إسرائيل والولايات المتحدة، كجدار تستند إليه وتحصل منه على المساعدة والحماية السياسية والعسكرية أو على تغطية لتحركاتها السياسية والعسكرية في كردستان العراق وقبرص وبحر إيجه وضد سوريا….إلخ.
- ربط المياه بالأمن لسوريا والمياه بالنفط للعراق.
أدى ذلك إلى تصاعد ملحوظ في شعبية الأحزاب القومية الرامية إلى تبديل التوجه من الأوروبة إلى الطورنة. وقد جاءت نتائج انتخابات 1999 بالحركة القومية التي تتبنى هذا التوجه بقوة، ونشطت في كردستان العراق بفتح مدارس للتركمان، ودعت إلى إنشاء كيان سياسي لهم عند الحدود مع تركيا: جيب يبدأ من الحدود العراقية التركية ويمتد جنوباً حتى يشمل مدينتي الموصل وكركوك والمدن الصغيرة وما حولها.
توافق هذا التوجه التركي مع رغبة أمريكية لإحداث ترتيبات إقليمية بين إسرائيل وتركيا، وربما دول أخرى، لنقل بعض أعبائها الدفاعية عن النظام الشرق أوسطي المأمول إليهما، عبر أسلوب النقل البطيء متتابع الخطوات ومستمر المراحل يتناسب مع إيقاع خطوات التسوية وبقـاء النظام الشـرق أوسطي(8)، علاوة على الفرصة التي أتاحتها المتغيرات التي ترتبت على الهجمات في واشنطن ونيويورك (11/9/2001) والعدوان الأمريكي على أفغانستان واحتلال العراق، لتركيا, حيث احتلت مكانة مهمة في الخطة الأمريكية كونها دولة إسلامية، لمحو نشوء انطباع بحرب صليبية. وهذا جعل الولايات المتحدة بحاجة كبيرة إلى تركيا الأمر الذي يضمن لأنقرة دوراً متزايداً في النظام الإقليمي الذي تسعى واشنطن لإقامته من جهة، ويضمن لها، من جهة أخرى، الحصول على مساعدات أمريكية لاحتواء الأخطار التي تمثلها المشروعات الأخرى: أرمينيا الكبرى، التحالف السلافي. من هنا جاء اهتمام تركيا الواضح والكبير بتطوير نظام إقليمي شرق أوسطي يتوازى مع العملية السلمية بين العرب وإسرائيل عن طريق التحالف مع إسرائيل لتحقيق هدفين معا: تعظيم دور تركيا الإقليمي بما يتسق مع الشرق أوسطية التي يراد لها أن تكون النظام الإقليمي البديل للنظام الإقليمي العربي، وهذا يقود إلى الهدف الثاني: احتواء الأخطار الداهمة والاستقواء بالتحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل على الأعداء.
مأزق السياسة مأزق هوية
أفرز هذا الواقع المعقد بأسسه العقائدية ومتغيراته العملية خريطة متشابكة من الانحيازات والاستقطابات، استقطابات بين الإسلاميين والعلمانيين، وبين السنة والعلويين، وبين الأتراك والكرد، وبين المؤسسة العسكرية والمؤسسة المدنية، وبين الفقراء والأغنياء، وبين الطورانية والأوروبية…إلخ. على خلفية الصراع على الهوية.
برزت أزمة الهوية باجتماع عاملين: غياب إجماع عام على هوية، وعجز العقيدة الأتاتوركية عن تحقيق ذاتها، وبالتالي فشلها في التعاطي مع القضايا الحيوية للمجتمع التركي.
فقد ظهر للعيان أن الانقسام (الإثني) و(المذهبي) الذي تعرفه تركيا أرسخ من الحلول التي طرحت لحله، حيث فشلت محاولات الصهر التي يمكن من خلالها طبع الشعب كله بطابع قومي واحد، وبقي شعار اليمين العلماني:
(نحن جميعاً أتراك) بلا جذور. كما لم ينجح شعار (الأخوة الإسلامية) في القفز على الانقسام القومي الذي تمثله القضية الكردية بقوة. هذا وقد أضافت المتغيرات الإقليمية والدولية تعقيدات خاصة إلى أزمة الهوية, فقد أدى قيام الحكم الذاتي للكرد في كردستان العراق إلى تعقيد الموقف التركي تجاه قضية أكراد تركيا، وهذا أضاف ورقة إلى أوراق اللعبة تجاه مسألة الهوية بين المؤسسة العسكرية العلمانية وبين الإسلام السياسي، فعلى الرغم من أن إلغاء المواد التي كانت تعطي الجيش حق التدخل في الحياة السياسية من الدستور بالتعديلات السياسية المتعاقبة قد قلّص نفوذ الجيش إلى حد ما، فإن ترك المادة 8 الخاصة بمكافحة الإرهاب أبقى الملف الكردي بيد الجيش، وغدا التصعيد العسكري ضد حزب العمال الكردستاني جزءا من الصراع الداخلي بين المؤسستين العسكرية والسياسية، استخدمه الجيش لإحكام قبضته على الأوضاع السياسية ولفرض مواقفه على المؤسسة السياسية (أعلن أنه قتل23،401 إرهابي منذ انفجار الصراع عام 1987 وأنه ما زال هناك 4500 إرهابي أغلبهم خارج حدود تركيا)، واستخدمه في مد نفوذه داخل مؤسسات الدولة في مجالات الأمن والقضاء وفي مجلس الأمن القومي بصفة خاصة.
لقد تبدل شكل الصراع الداخلي من صراع بين يمين ويسار إلى صراع عقائدي بين إسلاميين وعلمانيين وقومي، بين أتراك وكرد، كما أدت المتغيرات إلى ازدياد إحساس الشعب التركي بهويته المتميزة عن الغرب الأوروبي، وبانتمائه إلى فضاء حضاري آخر، وهذا أجج الصراع العقائدي بين الإسلاميين والعلمانيين حيث وجد الإسلاميون في ذلك فرصة لتحويل خيارات تركيا الخارجية باتجاه إسلامي بينما وجد فيه القوميون المتشددون فضاء للطورانية ولحظة مناسبة لاستعادتها وتكريسها.
أدت تطورات العقد التاسع من القرن الماضي إلى تجاذبات عقائدية وقومية داخلية عبرت عن تحول في اتجاهات التفكير داخل المجتمع التركي الذي يعيد النظر في المنطلقات الأساسية للأتاتوركية، حيث طرحت فكرة (العثمانية الجديدة) التي تضمنت تجاوزاً لأحد أهم طروحات الأتاتوركية في السياسة الخارجية: الانكفاء إلى حد العزلة (سلام في الوطن، سلام في الخارج), وفكرة (الجمهورية الثانية)، التي تختصر بتعميم كامل للديمقراطية والحريات بما فيها حقوق الأقليات (الكردية أساساً) في التعبير عن هويتها، وتغليب النزعة المدنية في المجتمع على النزعة العسكرية، التي استبدت بالجمهورية الأولى منذ تأسيسها وما زالت، وفي ذلك خروج على روح اتفاقية (لوزان) التي لم تعترف فيها تركيا بوجود أقليات عرقية بل دينية غير إسلامية(9).
اصطدمت هذه الدعوات بجدار الموقف الغاضب للمؤسسة العسكرية وللقوميين الأتراك المتشددين فكان تحركهما السريع والعنيف، لوقف المتغيرات الداخلية على صعيد طرح المواقف والقضايا ووقف عملية تعديل أولويات تركيا الأتاتوركية وخياراتها الداخلية والخارجية، لاحتواء (خطر) الإسلام والكرد.
مواجهة الإسلام السياسي
جاءت إجراءات المؤسسة العسكرية والتيار العلماني المتشدد المتحالف معها ضد التيار الإسلامي متلاحقة ومتصاعدة شملت كل مجالات نشاط هذا التيار ممثلاً في حينه في حزب الرفاه:
- تسريح عدد كبير من ضباط الجيش من ذوي الميول الإسلامية.
- حظر توظيف المفصولين من الجيش في مؤسسات وشركات الدولة.
- إغلاق المدارس الدينية غير الرسمية وزيادة مدة التعليم الإلزامي من 5 إلى 8 سنوات، ما يعني توجيه ضربة شديدة إلى مدارس الأئمة والخطباء البالغ عددها 500 مدرسة تضم نحو 500 ألف طالب.
- فرض قيود على الدعم المالي الخارجي، وبخاصة عبر شبكة المنظور القومي النشطة في ألمانيا بين العمال الأتراك.
- مقاطعة الشركات الإسلامية وعدم التعامل معها من قبل الدولة.
- الالتزام الكامل والمطلق بالمادة 174 من الدستور المتضمنة المبادئ الأساسية العلمانية.
- حل حزب (الرفاه) ومنع رئيسه وستة من قادته من ممارسة العمل السياسي مدة خمس سنوات.
- مصادرة أملاك حزب (الرفاه) وتحويلها إلى خزينة الدولة(10).
هدفت هذه الإجراءات إلى
- تقويض الأسس التي يرتكز عليها هذا التيار.
- وضع الإسلاميين تحت هاجس (الرقابة) و(الحل) لدفعهم إلى:
- هجر النزعة الإسلامية.
- الوقوع في الخطأ باللجوء إلى العنف ما يبرر ضربهم بقوة والقضاء عليهم.
- إرباكهم قبيل الانتخابات البرلمانية المقبلة.
- إسقاط نموذج التعايش الإسلامي-العلماني (تشيلر- أرباكان) كي لا يشكل مثالاً يقتدى به في العالم الإسلامي حيث تتواجه الأنظمة والحركات الإسلامية في لعبة التجاهل المتبادل(11).
والهدف الأخير خطوة في سياق إستراتيجية التحالف الأمريكي التركي الإسرائيلي الساعية إلى احتواء المخاطر وإبقاء المتغيرات الإقليمية والدولية تحت الضبط والسيطرة، وتوجيه الأحداث بما يخدم أهداف هذا التحالف.
لم تنجح المؤسسة العسكرية التركية والتيار العلماني المتشدد المتحالف معها في دفع الإسلاميين إلى اليأس أو التطرف كما لم تستطع أن تلغي وجود التيار الإسلامي الواقعي، للاعتبارات المحلية والدولية الآتية:
- وفرت الديمقراطية التركية، رغم سقفها المنخفض، حيث وقف الجيش في ظل فترات الحكم الدستوري- الديمقراطي خلف الجهاز المدني واضعاً بذلك سقفاً على حركة النظام والمجتمع. بقي المدنيون واجهة النظام والعسكريون قاعدته الرئيسية، وفرت للتيار الإسلامي فرصة البقاء والعودة إلى النشاط السياسي الشرعي بعد كل إلغاء. وقد سُجل للإسلاميين الأتراك موقفهم المسؤول الذي وقى تركيا فتنة داخلية تدفع إليها الفئات العلمانية المتشددة، من خلال إغلاق الأبواب أمام الإسلاميين لمنعهم من ممارسة نشاطهم السياسي بحرية وبصورة سلمية، لاقتناعهم بأن اللجوء إلى العنف في مجتمع تعددي عرقياً ومذهبياً، مثل المجتمع التركي، يعني اندلاع حرب أهلية تنتهي بالبلاد إلى التفكك والتقسيم(12). وحدَّت الديمقراطية من درجة القمع ضد التيار الإسلامي لأن المؤسسة العسكرية تريد الإبقاء على الجسور مع الديمقراطيات الغربية مفتوحة لعلاقة ذلك باختياراتها الخارجية.
- قدرة الإسلاميين الأتراك على التكيف مع المتغيرات واحتواء التحركات المضادة وامتصاص الصدمات؛ فقد سبق للمؤسسة العسكرية أن حلت حزب النظام الوطني (حزب أرباكان الأول) يوم 20/5/1971. فأسس أرباكان حزب (السلامة الوطني) الذي حُلَّ بدوره في إثر انقلاب (12/9/1980.) فعاد أربكان فأسس حزب (الرفاه) الذي حُلَّ يوم (16/1/1998). وقد أكد قادة حزب (الرفاه) تمسكهم بالعمل السياسي الشرعي حيث أعلن بولند إرينج، أحد النواب البارزين في حزب الرفاه، (إذا أغلق الحزب 40 مرة فسوف نؤسسه للمرة الـ 41). وأعلن أربكان بعد إعلان حكم المحكمة بحل الحزب (هذه حادثة بسيطة جداً في مسيرة التاريخ وأدعو الجميع إلى التزام الهدوء). واستخدم صدور قرار الحل لتأكيد تمسكه بالديمقراطية؛ رغم أنها ديمقراطية تحظر الأحزاب. لم تيأس الحركة الإسلامية أو تتطرف بل تابعت عملها السياسي في انتظار انتهاء مدة حظر العمل السياسي على قادتها السبعة. لم تطالب بإقامة دولة إسلامية أو تطبيق الشريعة واعتبارها مصدراً من مصادر التشريع، فقد راعت الواقع التركي لقطع الطريق على المؤسسة العسكرية التي تتربص بها، كما راعت المزاج العام النافر من التشدد السياسي. لقد أدركت أن المطالبة بذلك الآن فيها مخاطرة كبيرة ونتائجها غير مأمونة العواقب؛ فالرأي العام التركي في قطاعه العلماني، والنخبة السياسية معظمها، غير مهيأ أصلاً لسماع مثل هذا الخطاب فضلاً عن مناقشته أو الاستجابة له، والجماهير الشعبية تبحث عن حل سريع لمشكلاتها اليومية، وعندما حل حزب الفضيلة عام 2000 سارعت إلى تشكيل حزب جديد باسم حزب السعادة حزيران 2001 وآخر باسم حزب العدالة والتنمية آب 2001.
- قدرة الإسلاميين الأتراك على اكتساب ثقة المواطنين واحترامهم، إذ استطاعوا خلال مدة تسلمهم المجالس البلدية، وتشكيل الائتلاف مع حزب الطريق القويم، تحسين الأداء الاقتصادي للبلاد وتحسين الأحوال المعيشية للمواطنين، وقدرتهم على تعزيز سمة (الاستقامة) و(نظافة اليد) التي طبعت المؤسسات البلدية التي تولوها، وهذا أتاح لهم الاحتفاظ بجماهيرتهم، بل توسيعها، فقد حققوا في الانتخابات1991و1994 و1995 نسبة11.9 في المئة و19.1 في المئة, 21.1 في المئة على التوالي. تراجعت النسبة في الانتخابات 1999 إلى 15.6 في المئة نتيجة لرغبة المجتمع التركي في حكومة مستقرة فابتعد عن التيار الإسلامي خطوات لأنه في حال إحرازه الأولوية ومشاركته في الحكومة لن يكون عامل استقرار نتيجة للعداء المنهجي السافر الذي تعلنه المؤسسة العسكرية، صاحبة النفوذ الأقوى في الحياة الوطنية، ضد هذا التيار، ما دفع المواطنين المتطلعين إلى الاستقرار إلى إعطاء أصواتهم في المجالس البلدية لهذا التيار، اعترافا بالجميل، لما حققه في تجربته البلدية والحكومية السابقة من إنجازات، وحجبوها عنه في البرلمان تلافياً لتكرار حالة التوتر وعدم الاستقرار التي شهدتها فترة الائتلاف الإسلامي- العلماني(أرباكان- تشيلر)، وعودته بقوة في الانتخابات الأخيرة 3/11/2002 عبر حزب العدالة والتنمية الذي اكتسح الانتخابات وحصل على 363 مقعدا من مقاعد البرلمان البالغة 550 مقعداً، بعد أن اختار صيغة للعمل تتفق مع الواقع التركي: احترام الدين والعلمانية معاً، استعادة الركن المغيب من الهوية التركية (الدين)، وضع الإسلام في وعاء ليتعايش مع الديمقراطية والعلمانية, في مقاربة ترى الاندماج في النظام وتغييره تدريجياً.
لقد أثبتت التجربة أن التيار الإسلامي وتنظيمه السياسي أصبحا جزءاً أساسياً من المجتمع والعمل السياسي، وأن محاولات استئصال هذا العنصر بأسلوب قسري باءت بالفشل، فبعد كل محاولة كان الإسلام، بوصفه قوة اجتماعية وسياسية، يعود إلى الحلبة أكبر وأقوى، وبخاصة أن هدم نظام الثقافة والقيم السائدة في تركيا، وهو في أساسه إسلامي، لم يستطع أن يرسخ نظام القيم الغربي الجديد وتعميمه لدى الفئات الاجتماعية كلها، فقد اقتصر على نخبة
(كمالية) تتشكل أساساً من كبار الضباط والموظفين وأرباب المهن الحرة فيما بقيت الأكثرية الساحقة مرتبطة بالإسلام ممارسة وسلوكاً يومياً. إن فسحة الديمقراطية بعد عام 1945، على محدوديتها، قد أكدت أن (الكمالية) في بُعدَها العلماني، كما فهمها أتاتورك، ليست الصيغة الملائمة لمجتمع ودولة في بلدٍ كان عنصر الدين (الإسلام) علة وجوده وعظمته على امتداد أكثر من ستة قرون(13).
القضية الكردية
الموضوع الكردي، الوجه الآخر لأزمة الهوية، إذ ما تزال المسألة بغير حل، من جهة، ومن دون وجود تصور مشترك داخل المجتمع والنخبة السياسية التركية، من جهة ثانية، ناهيك عن وجود مصالح خاصة لقطاعات سياسية وعسكرية في استمرار المشكلة، لأنها تجني من ذلك كثيراً، فالجيش يحصل على ثلث إجمالي الناتج القومي من ميزانية الدولة، الجنرالات والضباط والعاملون المدنيون في الجيش يحصلون على رواتب ومكافآت عالية، لذا أصبحوا أصحاب مصلحة في استمرار الصراع بين الدولة والكرد.
وقد زاد من تعقد المواقف تجاه القضية الكردية وصول أحزاب قومية متطرفة إلى سدة الحكم، تختلف في ما بينها في الكثير من القضايا وتتفق في إنكار الهوية القومية للكرد. فما يجمع بين حزب الشعب الجمهوري اليساري وحزب الحركة القومية اليميني هو نزعتهما القومية المتطرفة واستنادهما في مقاربة أوضاع تركيا إلى منظور صارم يضع الانتماء إلى العرق التركي فوق كل اعتبار.
فالأحزاب القومية، يسارية ويمينية، التي حكمت تركيا عقوداً من حزب الشعب الجمهوري إلى حزب الحركة القومية مرورا بحزب اليسار الديمقراطي، اختلفت على كل شيء واتفقت على عدم التنازل للكرد، مع تباين في أسلوب التعامل معهم، فحزب الشعب الجمهوري، مثلا، يفضل اتباع أسلوب النفس الطويل، بينما يفضل حزب الحركة القومية السرعة والحسم. الأول يركن إلى خطاب اجتماعي اقتصادي، يذكرنا بخطاب الرئيس اوزال، على خلفية علمانية ترى أن المشكلة تنبع من التخلف الاقتصادي والاجتماعي المريع الذي يعيش فيه الكرد؛ وضرورة القيام بتطوير المنطقة والقضاء على نفوذ زعماء العشائر والأغوات ومالكي الأراضي الكبار، وتحقيق إصلاح زراعي هناك. أما الثاني فيتمسك بخطاب إيديولوجي يستند إلى مشاعر عرقية، زادتها اشتراطات الاتحاد الأوروبي لإدخال تركيا في الاتحاد تأججا، مغلفة برداء ديني ديماغوجي، يرى أن المشكلة الكردية خطة أوروبية- أمريكية تهدف إلى تأسيس دولة كردية. حزب الشعب يكتفي بالملاحقة القانونية والقمع الفكري بينما حزب الحركة لم يتردد في اغتيال الناشطين من القوميين الكرد وارتكاب جرائم القتل السياسي بحق الكتاب والمثقفين ودعاة حقوق الإنسان والصحافيين المنادين بالاعتراف بحقوق الكرد. والحال أن هذا المناخ العنصري المتجهم هو الذي دفع الكرد أكثر نحو التمسك بهويتهم والذود عن مطالبهم(14).
مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 ونجاحه في إدارة البلاد وتحقيق انجازات مهمة في الاقتصاد، حوّل تركيا من دولة مدينة واقتصاد هش وفساد مستشري، إلى دولة صاعدة اقتصاديا، بلغ ناتجها القومي حدود التريليون دولار، احتلت المرتبة 16 عالميا، وهذا عزز شعبية الحكومة وأتاح لها دفع المؤسسة العسكرية إلى الخلف والحد من تدخلها في السياسة والقضاء والإدارة المدنية. وشكل حلا أوليا لعلاقة النظام التركي بالإسلام، العامل الرئيس في عقدة الهوية، وسمح له بالتعاطي مع العامل الثاني: الاعتراف بالتعددية القومية، مستفيدا من حالة الإعياء من الحرب والدماء والدمار في المجتمعين التركي والكردي وميل إلى الحل السلمي تبنته منظمات المجتمع المدني الكردية، بتبني مقاربة ديمقراطية في التعاطي مع المطالب الكردية، فمع تمسكه بوحدة تركيا الجغرافية والسياسية وعمله على احتواء التداعيات الإقليمية، بخاصة الوضع في كردستان العراق، على الملف الكردي في تركيا، سمح بإطلاق قناة ناطقة بالكردية تبث طوال اليوم، وبتعليم اللغة الكردية في المدارس في المناطق ذات الأغلبية الكردية، وعمل على تحسين أوضاع الكرد المعيشية والخدمية في منطقة جنوب شرقي البلاد، وفتح مفاوضات مباشرة معهم. فبعد لقاءات بين الحكومة ونواب كرد من حزب السلام الديمقراطي الكردي؛ والسماح لهم بزيارة عبد الله أوجلان في محبسه، ومع قيادة حزب الشعوب الديمقراطية لاحقاً، جرى الاتفاق على اعتماد الحل السياسي ونبذ العنف، والاتفاق على خطة خريطة طريق تبدأ بوقف إطلاق النار وانسحاب قوات الحزب إلى جبال قنديل في كردستان العراق، ريثما تتم تسوية أوضاعهم وإدماجهم في الدولة والمجتمع التركيين، وتبادل الأسرى، يليها قيام الحكومة بتعديل قوانين مكافحة الإرهاب، وتحويلها إلى المجلس النيابي لإقرارها، وتبدأ المباحثات الرسمية بين الحكومة التركية وقيادة الحزب في جبال قنديل يتلوها تعديل دستور 1982 وتضمينه الإقرار بالحقوق الكردية. وأعلن عن الاتفاق عبر رسالة من أوجلان قرأتها النائبة الكردية ليلى زانا في احتفالات الكرد في عيد النيروز يوم 21/3/2013، دعا فيها إلى وقف القتال والانسحاب إلى جبال قنديل، وأكد انتهاء مرحلة الكفاح المسلح وبدء مرحلة الكفاح السياسي.
لم يكن طريق المفاوضات سالكا من دون عراقيل فقد تعرضت المقاربة إلى امتحان مرات ومرات، فالتوتر السياسي الداخلي، على خلفية الانتخابات الرئاسية والتعديلات الدستورية، وسعي أردوغان إلى تغيير طبيعة النظام التركي إلى نظام رئاسي، ووجود جناح متشدد داخل حزب العمال الكردستاني؛ له تحفظات على خيار المصالحة التي وافق عليها عبدالله أوجلان، وقيامه بعمليات عسكرية استفزازية لاستدراج رد من الجيش التركي يخلط الأوراق وينهي المفاوضات، وانفجار الثورة السورية وإقامة حزب الاتحاد الديمقراطي، جناح حزب العمال الكردستاني في سورية، إدارة ذاتية في ثلاث مقاطعات (الجزيرة وكوباني/ رأس العين وعفرين) على الحدود التركية السورية، وسعيه إلى وصلها بالسيطرة على الشريط الحدودي التركي السوري، 911 كم، فتدخلت تركيا في عملية عسكرية مشتركة مع فصائل من المعارضة السورية أطلقت عليها اسم (درع الفرات) قطعت عليه الطريق بسيطرتها على مثلث جرابلس الباب دابق، وهجوم (داعش) على مدينة عين العرب/ كوباني ورفض الحكومة التركية دعم الكرد فيها، لاعتبارات تتعلق بموقفها من إستراتيجية واشنطن في مواجهة (داعش) وتجاهل النظام السوري الذي مارس القتل وخلق المناخ الذي أفرز الأخير، ومن الإدارة الذاتية الكردية في سورية، تحفظت الحكومة التركية عليها بسبب تخوفها من تعزيز موقف الكرد في تركيا في مفاوضات المصالحة. ما أتاح للتيار المتشدد في حزب العمال فرصة التشكيك بنيات أردوغان وخروج تظاهرات كردية وحصول صدامات وسقوط قتلى وجرحى من الكرد وقوات الأمن، ناهيك عن قيام حزب العمال بفرض حالات حكم ذاتي في بعض المدن والبلدات في جنوب شرق البلاد وتجنيد الشباب الكرد بالقوة في صفوفه والدخول في مواجهة مسلحة مع أنصار حزب الدعوة الحرة الإسلامي، الموالي للنظام، في مدينة جزيرة ابن عمر أو جزيرة بوتان. فتجددت المواجهة من جديد، وانفجر العنف بين الكرد وحكومة حزب العدالة والتنمية.
وقد ترتب على محاولة الانقلاب الفاشلة يوم 15/7/2016، وضعف التأييد الذي حصل عليه أردوغان في الاستفتاء على النظام الرئاسي الذي أجري يوم 16/4/2017، حيث أيده 51.4 في المئة وعارضه 48.6 في المئة، وخوفه من الفشل في الانتخابات الرئاسية المقبلة، شن حملة شاملة ضد جماعة (الخدمة) التي يقودها فتح الله غولين من مقر إقامته في الولايات المتحدة، إذ فصل آلاف الموظفين والمدرسين والجنود والضباط وصف الضباط وعناصر المخابرات من الخدمة وزج بآلاف منهم في السجون، ومغازلة القوميين الأتراك باللعب بالورقة الكردية والتصعيد ضد التعبيرات السياسية الكردية، اعتقال نواب حزب الشعوب الديمقراطية وإحالتهم إلى القضاء بتهم مفبركة، من أجل شد عصب المولاة وتخويف المعارضة، والتحالف مع حزب الحركة القومية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وشن عملية عسكرية ثانية بمشاركة فصائل من المعارضة السورية، العربية والكردية، ضد الكرد في منطقة عفرين تحت اسم (غصن الزيتون)، وتقريره، لاستثمار انجازه العسكري في عفرين، إجراء انتخابات مبكرة يوم 24/6/2018. تلاشت العملية السياسية لإيجاد حل تفاوضي فعادت القضية الكردية في تركيا إلى المربع الأول.
خاتمة
لقد وضع الخيار الأتاتوركي الجمهورية التركية في مواجهة عاملين مكونين في الكيان التركي: الدين والتعدد القومي، وجعلهما بندا ثابتا على جدول أعمال الدولة التركية لا تستطيع تجاهله؛ لأنه حاضر في كل خطوة تخطوها، ولا تستطيع حسمه ايجابيا، لان حسمه ايجابيا يتعارض مع طبيعة النظام الأتاتوركي؛ ويستفز المؤسسة العسكرية التي كلفت برعايته وحمايته ومنع المس بأسسه، لذا فهي في صدام معه منذ قيامها عام 1923، وستبقى على ذلك طالما لم تواجهه وتنهيه بايجابية تقود إلى الاستقرار والازدهار، فسياسة الهروب إلى الأمام بخوض الحروب، داخل البلاد وخارجها، غير مجدية في التعاطي مع مسائل جوهرية.
تركيا مشتتة بين تاريخها وتكوينها الأساسي وبين خيارها السياسي- الاجتماعي. إنها غير قادرة على الالتحاق الكامل بالغرب لأنها شرقية، وغير راغبة في الالتحاق بالشرق لأن خيارها غربي. غير قادرة على القفز على الإسلام وغير راغبة في السماح له باستعادة دوره السياسي والاجتماعي، غير قادرة على محو الهويات القومية للجماعات المشتركة في الكيان التركي وغير راغبة في الاعتراف بها والسماح لها في التعبير عن ذاتها.
إن مأزق تركيا القاتل يكمن في عجزها عن الحسم في مسألة الهوية، كمقدمة لابد منها للانطلاق، فهي تتهرب من مواجهة الواقع والاعتراف به والتعاطي معه وفق بنيته ومستدعياتها.
المراجع:
- ديروزيل:ج1: التاريخ الدبلوماسي في القرن العشرين، ترجمة د. خضر خضر، ص40- دار منصور- طرابلس- لبنان- 1985.
- ديروزيل، المصدر السابق، ص41.
- صلاح الدين، دينا: الإسلام السياسي ومستقبل العلمانية في تركيا، السياسة الدولية المصرية، عدد 131، ص154.
- د. نور الدين، محمد: تركيا في الزمن المتحول- دار الريس- لندن- 1997- ص46.
- د. نور الدين، محمد: المصدر السابق- ص97.
- أحمد، فيروز: تورغوت أوزال: العبقرية الاقتصادية في تركيا بين الصفوة البيروقراطية والحكم العسكري، ص277, مؤسسة الأبحاث العربية بيروت 1985.
- د. نور الدين، محمد: المصدر السابق ص98.
- معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى- ترجمة وإعداد راشد عبد الباقي- الملف السياسي- صحيفة البيان الإماراتية، عدد 415،30/4/1999
- د. نور الدين، محمد: المصدر السابق؛ ص18.
- د. عبد الله معوض، جلال: الأزمة السياسية التركية واحتمالات تطورها السياسة الدولية المصرية ص115، عدد131, يناير 1998.
- د. نور الدين، محمد: المصدر السابق ص 56.
- د. نور الدين، محمد: حظر الرفاه والديمقراطية في تركيا- شؤون الأوسط اللبنانية- ص73 عدد 69, شباط 1998.
- صلاح الدين، دينا: المصدر السابق, ص156.
- ذياب، أحمد: الانتخابات التركية المستجدات والتحديات- السياسية الدولية المصرية, ص217 حزيران 1999.
هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.