لم تعد مسألة ترحيل الأتراك من ألمانيا مجرد خلاف سياسي؛ فقد أضحت تركيا تمثل أهمية جيوسياسية كبرى بالنسبة لألمانيا وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو). يوجد حالياً في ألمانيا نحو 14,500 مواطن تركي مطلوب مغادرتهم. شهدت طلبات اللجوء التركية زيادة كبيرة العام الماضي، مما دفع المستشار الألماني أولاف شولتس إلى التدخل بشكل مباشر. وفي أكتوبر 2023، صرّح شولتس قائلاً: “علينا البدء في عمليات ترحيل واسعة النطاق.” وبعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لألمانيا في نوفمبر، بدا أن تقدماً قد تحقق في هذا الملف المعقد.
النتائج بدأت تظهر بالفعل؛ فبعد أشهر من المفاوضات مع أنقرة، شرعت ألمانيا بترحيل دفعات من المواطنين الأتراك إلى تركيا. في المرحلة الأولى، سيتم ترحيل 200 مواطن على متن رحلات مجدولة متعددة، بينما عرضت تركيا استعدادها لاستقبال ما يصل إلى 500 مواطن أسبوعياً مع الاستعدادات اللازمة. ورغم معارضة تركيا للترحيلات عبر رحلات مستأجرة، إلا أنها تبدو الآن مستعدة لقبولها بشرط تسميتها “رحلات خاصة”.
ارتفعت طلبات اللجوء التركية بأكثر من 150% العام الماضي، لتصبح تركيا ثاني أكبر دولة منشأ لطالبي اللجوء بعد سوريا. لكن الأرقام انخفضت هذا العام، ليصبح ترتيب تركيا الثالث بعد أفغانستان. وتعود أسباب الهجرة أساساً إلى التدهور الاقتصادي الذي أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم إلى أكثر من 80%. ونتيجة لذلك، انخفضت نسبة الحماية للمواطنين الأتراك، حيث لم يُمنح حق اللجوء سوى لـ13% فقط من المتقدمين، مقارنةً بنسب أعلى للسوريين والأفغان.
في النصف الثاني من 2023، تزايدت طلبات اللجوء نتيجة إعادة انتخاب الرئيس أردوغان، ما أشعر الكثير من معارضيه باليأس. بالإضافة إلى ذلك، ساهم الزلزال المدمر في فبراير بزيادة الهجرة، حيث مُنح أكثر من 10,000 تأشيرة قصيرة الأجل للناجين، وقام بعضهم بتقديم طلبات لجوء. وساهم أيضاً عدم حاجة الأتراك لتأشيرات دخول إلى صربيا في تسهيل الهجرة إلى أوروبا عبر المجر.
التدفق الكبير لطالبي اللجوء من تركيا كان غالباً كردياً، حيث شكّل الأكراد 84% من المتقدمين. في المناطق الكردية بجنوب شرق تركيا، يتزايد الفقر والقمع السياسي، ما يؤدي إلى زيادة المهاجرين. ومع انخفاض نسب الحماية، تجاوز عدد الأتراك المطلوب مغادرتهم ألمانيا 13,500 بنهاية 2023. إلا أن الترحيلات كانت محدودة، إذ تم ترحيل 871 شخصاً فقط على رحلات مجدولة، بينما مُنح أكثر من 10,000 شخص إقامة مؤقتة بسبب عدم توفر وثائق السفر، ما يعكس محدودية التعاون مع القنصليات التركية.
ولكن، يبدو أن هناك تغييراً ملموساً؛ فقد أرسلت ألمانيا قائمة بـ200 مواطن مطلوب مغادرتهم، وأكدت تركيا استعدادها لاستقبالهم. وقد تعاونت السلطات الألمانية مع القنصليات التركية لمعالجة هذه القائمة، في خطوة تسعى فيها تركيا لتسهيل التعاون وتحسين سلاسة إصدار الوثائق للمواطنين الذين انتهت صلاحية جوازاتهم.
وظهرت مؤخراً بوادر اتفاق حول رحلات الترحيل الجماعي؛ ففي السابق، رفضت تركيا السماح بالرحلات المستأجرة، خشية التأثير على صورتها، مفضلة أن تكون دولة عبور وليس منشأ. إلا أن هذا الموقف تغير، حيث وافقت تركيا على استقبال تلك الرحلات بشرط تسميتها “رحلات خاصة”.
يبدو أن العوامل الدبلوماسية تلعب دوراً محورياً في هذا التغيير. ففي نوفمبر الماضي، ناقش الرئيس أردوغان والمستشار شولتس آلية جديدة لترحيل الأتراك، حيث دعا شولتس إلى تأسيس “آلية موثوقة” لترحيلهم إلى تركيا. وفي أنظمة القيادة التركية، يعد دعم الرئيس للعملية عاملاً حاسماً.
بررت الحكومة التركية لألمانيا موقفها من رحلات الترحيل الجماعية بقلقها من عدم فحص طلبات اللجوء الفردية بشكل دقيق. لكن ألمانيا ردت بأن حق اللجوء يُراجع دائماً، سواء كان عدد المرحّلين شخصاً واحداً أو خمسمائة. وفي إطار التفاوض، أبدت برلين استعداداً للتعاون، واقترحت حلاً بسيطاً تمثل في تصنيف الرحلات الجماعية على أنها “رحلات خاصة”، وهو ما يبدو أن أنقرة قبلت به.
على عكس العديد من الدول الأخرى، تلعب التحويلات المالية من طالبي اللجوء الأتراك في ألمانيا دوراً محدوداً، إذ أن أغلب العائلات التركية لديها بالفعل أقارب مقيمون في ألمانيا. كما أن اتفاقيات العمالة، التي تستفيد منها دول أخرى، ليست ذات أهمية كبيرة لتركيا، حيث أن الروابط الوثيقة بين البلدين تجعل الأطباء والممرضين وخبراء تقنية المعلومات الأتراك يجدون طريقهم إلى ألمانيا بسهولة دون حاجة لترويج رسمي من تركيا.
بالنسبة لأنقرة، يكمن القلق الأكبر في التأثير على صورتها كقوة إقليمية صاعدة، تتضرر جاذبيتها بوجود طالبي لجوء في الخارج. ولهذا، يعتبر تصنيف رحلات الترحيل الجماعية كـ”رحلات خاصة” تنازلاً رمزياً من ألمانيا. وتسهّل هذه الصيغة على تركيا التعاون، خاصة وأن لديها سيطرة جزئية على الخطوط الجوية التركية، التي يمكن أن تتولى تنظيم هذه الرحلات. وإذا أثبتت التجربة نجاحها، فإن هذا النموذج قد يمكّن من ترحيل ما يصل إلى 500 شخص أسبوعياً.
ولكن، ما الذي ستحصل عليه تركيا مقابل تعاونها؟ رسمياً، لم يتم تقديم مقابل كبير. فقد أوضح المسؤولون الأتراك في المناقشات مع نظرائهم الألمان أن الهدف البعيد هو الحصول على السفر بدون تأشيرة إلى ألمانيا. وعلى المدى القصير، وعدت ألمانيا بالعمل على تسريع معالجة طلبات التأشيرة، حيث تعتبر فترات الانتظار الطويلة ونسب الرفض المرتفعة مشكلة مستمرة للأتراك. هناك العديد من الأمثلة على الإنترنت عن رجال أعمال فاتتهم معارض تجارية، وطلاب لم يتمكنوا من بدء دراستهم، ومواطنين لم يتمكنوا من حضور مناسبات عائلية في ألمانيا. ويمثل ارتفاع عدد طلبات السفر إلى ألمانيا سبباً في هذه المشكلة، إذ تضاعف عدد التأشيرات الممنوحة بين عامي 2021 و2022.
يشعر الأتراك بالإحباط أيضاً لأن الاتحاد الأوروبي وعدهم بالسفر بدون تأشيرة عام 2016 كجزء من اتفاق اللاجئين، لكن بشرط استيفاء 72 معياراً محدداً. ولم تستوفِ تركيا بعض هذه المعايير حتى الآن، ومنها إصلاحات في قوانين مكافحة الإرهاب وحماية البيانات. ومع استمرار ارتفاع أعداد طالبي اللجوء من تركيا، يبدو أن منح تأشيرة دخول حرة لا يزال أمراً بعيد المنال، حتى لو استوفت الشروط. في الواقع، إن تسريع إجراءات التأشيرة الحالية ليس تنازلاً حقيقياً من ألمانيا، بل يخدم أيضاً مصالحها لتيسير دخول المؤهلين.
ولكن ما الذي دفع تركيا لتغيير موقفها تجاه عمليات الترحيل؟ في نوفمبر الماضي، حضر الرئيس أردوغان عشاءً خاصاً في برلين استمر لساعتين مع المستشار أولاف شولتس في مقر المستشارية، حيث طرح شولتس مسألة الترحيل وطالب بآلية موثوقة لترحيل المواطنين الأتراك. ونتج عن اللقاء اتفاق على تشكيل مجموعة عمل مشتركة بهدف تحقيق نتائج ملموسة قريباً.
ما يبدو وكأنه تفاهم تقني هو في الواقع اتفاق سياسي واضح بين الزعيمين. وفي نظام أردوغان، يعتمد الكثير على دعم الرئيس نفسه للعملية. وعندما يتم الاتفاق على مستوى القيادة العليا، يصبح تحقيق التعاون مع تركيا ممكناً بفاعلية، كما أظهرت التجارب السابقة في برلين. في التعامل مع تركيا، لا ينفع التركيز على الإجراءات البيروقراطية وحدها، بل يجب معرفة الأشخاص المناسبين، وبناء الثقة، وإبداء الإصرار، حيث لا تكون التهديدات وسيلة فعالة.
ومع ذلك، استغرق هذا التعاون وقتاً طويلاً ليتحقق، فقد تم تغيير المسؤولين الأتراك المعنيين عدة مرات دون أن يتلقوا الموافقة من القيادات العليا. وقد ساعد في تقدم العملية تعيين وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا، الذي يتسم بنهج عملي، ما ساهم في تعزيز التعاون لمكافحة الجرائم العابرة للحدود مثل تهريب المخدرات والبشر، على عكس سلفه سليمان صويلو الذي كان ينظر إليه غالباً كجزء من المشكلة وليس الحل.