نشأت تركيا بحدودها الحالية، على أنقاض الدولة العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى، حيث أعلن عن قيام النظام الجمهوري في تركيا، في العام 1922، وهو العام ذاته، الذي تأسس فيه البرلمان الجمهوري التركي.
القصة من بدايتها.. منعطف تاريخي غير وجه البلاد
على الرغم من أن نتائج الحرب العالمية الأولى لعبت دورا كبيرا في تقليص حجم الدولة العثمانية وتراجع دورها كقوة دولية، إلا أن التغيير الاكبر جاء من الداخل التركي، بعد إعلان قيام الجمهورية التركية بشكل فعلي عام 1923، على يد القيادي العسكري “مصطفى كمال أتاتورك”، والذي حكم البلاد من هذا العام وحتى عام 1938، العام الذي توفي فيه.
ووفقاً لعدة مصادر تاريخية، فإن الفترة من 1923 وما تلاها من أعوام، شهدت تطورات مثلت فعلياً منعطفاً تاريخياً، حيث اتبع القادة الجدد نهجاً مغايراً لنهج الدولة العثمانية، وتم التوجه نحو الدولة العلمانية المدنية التي سعت لتبني القيم الغربية والاقتراب أكثر من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، إلى جانب تبني نهج فصل الدين عن الدولة، ونقل العاصمة السياسية من اسطنبول إلى مدينة أنقرة.
خلال العقد الأول من قيام الجمهورية الجديدة، مرت البلاد بما عرف لاحقاً باسم، بإصلاحات أتاتورك، والتي تضمنت توحيد التعليم، إلغاء الألقاب الدينية والأخرى، إلغاء المحاكم الإسلامية التي كانت تحكم بالشريعة وإحلالها بمحاكم مدنية تعتمد على القانون المدني والجنائي في أحكامها، الاعتراف بالمساواة بين الجنسين وضامن الحقوق السياسية الكاملة للمرأة في 5 ديسمبر 1934، اصلاحات اللغة وتأسيس اتحاد اللغة التركية، وإحلال الأبجدية التركية المشتقة من الأبجدية اللاتينية محل الأبجدية العثمانية، وإلغاء غطاء الرأس والزي العثماني التقليدي، وبدء انتشار الملابس الغربية العصرية.
المنعطف الأكبر في تلك الفترة، وبحسب كتاب ثورة بدون نساء، كان دخول المرأة لأول مرة إلى الميدان السياسي، وتشكيل أو حزب سياسي، هو حزب كادينلار هالك فيركاسي النسائي، الذي أسسته “نزيهة محيي الدين” وقيادات نسائية أخريات، لكنه علق نشاطه حيث كان وقتها لا يسمح للمرأة بالمشاركة السياسية.
فترة الانقلابات العسكرية.. عدم استقرار وتقلبات سياسية
طالما ارتبط الصراع السياسي الداخلي في تركيا بالانقلابات العسكرية، إذ باتت تعد إحدى الممارسات الاعتيادية في التاريخ السياسي التركي، فمنذ قيام الجمهورية التركية الحديثة، مَثَلَ الجيش دور الوصي على الدولة علمانية المنشأ، وأصبح دوره كبيراً وذا شأن في الحياة السياسة التركية، إذ نظم ثلاثة انقلابات في الأعوام خلال الأعوام 1960، و 1971، و 1981، كما حسم تدخله في عام 1997، مشكلة الحكومة، من خلال إقالة حكومة “نجم الدين أربكان” ذات الميول الإسلامية، وتشكيل حكومة ائتلاف ذات توجهات علمانية لقيادة الجمهورية.
ووفقا لدراسة تاريخ تركيا، المنشورة على موسوعة المعرفة فإن أول انقلاب عرفته البلاد كان في 27 أيار عام 1960، حين وقع انقلاب عسكري أطاح بالحكومة الديمقراطية المنتخبة ورئيس البلاد، بعد قيام 38 ضابطاً برئاسة الجنرال “جمال جورسيل” بالسيطرة على مقاليد الحكم في البلاد، ضد حكومة “عدنان مندريس”، ورئيس البلاد آنذاك، “جلال بايار”
وعقب الانقلاب الأول بـ11عاماً، جرى تنفيذ انقلاب عسكري ثان في آذار عام 1971، عُرف باسم انقلاب المذكّرة، وهي مذكّرة عسكرية أرسلها الجيش بدلاً من الدبابات، كما فعل في الانقلاب السابق.
كما شهدت تركيا انقلاب في 12 أيلول 1980، بقيادة “كنعان إيفرين”، والذي أصبح رسمياً الرئيس السابع للجمهورية التركية، في التاسع من تشرين الثاني من العام ذاته، وذلك حتى التاسع من الشهر ذاته عام 1989.
وفي 1997 حدث ما سمي بالانقلاب الأبيض على حكومة “نجم الدين أربكان”، أو ما عرف بـ”انقلاب ما بعد الحداثة” بعد وصول حزب الرفاه إلى السلطة سنة 1995، مع حليفه حزب الطريق القويم، ليصبح الزعيم الإسلامي الراحل “أربكان” رئيساً للوزراء، وأول رجل ذا توجّه إسلامي صريح يصل إلى السلطة؛ وهو الأمر الذي أغضب العلمانيين ودعاهم إلى تحريك الأذرع العسكرية ضد الحكومة المنتخبة.
وخلال الانقلاب، أجبرت الحكومة على الخروج دون حل مجلس النواب أو تعليق الدستور، فقد وصف الحدث بأنه “انقلاب ما بعد الحداثة” من قبل الأميرال التركي سالم درفيسوجلو، وهي التسمية التي تم إقرارها.
آخر المحاولات الانقلابية في تركيا، واكثرها إثارة للجدل، كان في صيف العام 2016، ضد نظام الرئيس “رجب طيب أروغان”، والذي فشل في إسقاط النظام القائم، ليتبع ذلك حملة اعتقالات وإقصاءات ضد قياديين عسكريين وأساتذة جامعات وناشطين سياسيين في البلاد، والتي لا تزال مستمرة حتى اليوم، حيث تشير إحصائيات حقوقية غير رسمية إلى وجود 194 ألف معتقل على الأقل داخل السجون التركية دون محاكمات.
محاولة الانقلاب وتأثيراتها
تتلخص قصة تأسيس وصعود حزب “العدالة والتنمية”، الحزب الحاكم في تركيا منذ عام 2002، في الانشقاق عن حزب السعادة، وزعيمه “أربكان”، ثم الفوز في الانتخابات التشريعية بعدها بعام واحد، ليتصاعد حضور الإسلام السياسي في تركيا منذ انفتاح المجال السياسي والسماح بتأسيس الأحزاب، مطلع الثمانينيات.
بعد محاولة الانقلاب الأخيرة عام 2016 جرت تغيرات جذرية ومؤثرة على الساحة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية وحتى العسكرية في تركيا، تشهد حاليا بسببها البلاد، حالة من التوتر غير المسبوق على الصعيدين الداخلي والخارجي.
أما أبرز ما طرأ من تحولات هيكلية مؤسسية، بعد ومحاولة الانقلاب، كان عزل العديد من القيادات القديمة في الجيش، خاصة صاحبة النفوذ داخل الحياة السياسية، كما تم عزل عشرات الآلاف من عناصر الجيش، الأهم من هذا أن أكثر من 40% ممن تم إقالتهم كانوا جنرالات وقيادات عليا حسبما يقول المحلل العسكري “متحت خليفة”، موضحا انه تم دمج هيئة الأركان العامة التركية التي كانت تعمل بشكل مستقل، إلى وزارة الدفاع التركية، كما تم ضم الجيش والحكومة ومهامهما في جسد واحد.
ويرى “خليفة” أن هذه الإجراءات كانت الأهم بالنسبة لحكومة “إردوغان” التي كانت تسعى لتقليص دور الجيش، وإدماج العديد من مهامه في يد هيئة واحدة هي جزء من مجلس الوزراء، وهي في النهاية تأتمر وتنتهي، وتُقبل أو تُرفض قراراتها وتحركاتها العسكرية، من قِبل رئاسة الجمهورية.
يشار الى أن وزارة الدفاع قالت منتصف شهر تموز\ يوليو من العام الماضي، إنه منذ محاولة انقلاب 2016، تم فصل 15 ألفا و583 جنديا وضابطا من الجيش، مشيرة الى أنه ما تزال تتواصل التحقيقات الإدارية والجنائية بحق أربعة آلاف و156 آخرين.
المحلل السياسي “عثمان كاراغول”، يرى أن التحول الأكبر كان في تغيير شكل النظام السياسي في البلاد، من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، معتبرا أن هذا التحول كان مُبررًا في بداية الأمر بهدف احتواء الحالة الحرجة وتحقيق الاستقرار.
ويشير “كاراغول” الى أنه مع مرور الوقت تبيّن أن هذا التحول كان بمثابة حجر الأساس وهدف في حد ذاته، للقضاء على الحياة الديموقراطية في البلاد وإشعال نيران الثنائيات وتشكيل استقطاب سياسي لدى المجتمع، واستغلال السلطة القضائية، من خلال إحداث خلل في نموذج الفصل بين السلطات الثلاث، وتقييد حرية التعبير، وغيرها من النتائج التي لعب بطولتها التحول من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، وهو ما أتاح وأن تكون السيادة بيد الفرد وليس بيد الشعب.
تسييس القضاء والهيمنة على الإعلام
شكّل القضاء أهم الهيئات التي شهدت تحولاً جادًا منذ محاولة الانقلاب، فقد تلا محاولة الانقلاب تغير واضح في دور القضاء واقترابه من إدارة أردوغان، حسبما يشير الصحفي المتابع للشأن التركي “ياسين العبسي”، الذي يرى أن التحول في آلية اتخاذ القرار القضائي كان بسبب خوف النظام من تمركز عناصر غير موالية له، قد تفرز معارضة جديدة تُقدِم على محاولات أخرى لاختراق مؤسسات الدولة، موضحا انه خلال السنوات الماضية، تم عزل و اعتقال ما يقرب من 4500 قاضٍ ونائب عام من مناصبهم، بعد اتهامهم بالتعاون مع جماعة كولن.
وبحسب إحصائيات فقد وصل عدد القضاة الذين عينهم نظام حزب العدالة والتنمية حتى أواخر العام الماضي الى قرابة 9 آلاف قاضٍ ونائب عام جميع من الموالين للحزب الحاكم.
ويؤكد “العبسي” أن “أردوغان” لعب دورًا فعالاً في عمليات التعيين، معتبرا ذلك “تسييس قضائي”.
يشار الى أن وزير داخلية تركيا، “سليمان صويلو”، كشف في الذكرى الرابعة للانقلاب والتي جاءت في 15 تموز\ يوليو 2020، إن القوى الأمنية شنت 99 ألف و66 حملة أمنية خلال السنوات الأربع، مؤكدا أن العمليات التي شنت، إذ أسفرت عن احتجاز وتوقيف 282 ألفا و790 شخصا واعتقال وحبس 94 ألفا و975 آخر، وأن عدد سجناء المحاولة الانقلابية يبلغ حاليا 25 ألفا و912 شخصا، بينما بلغ إجمالي الأشخاص الذين تم اتخاذ إجراءات قانونية بحقهم 597 ألفا و783 شخصا.
لم تقتصر التغييرات على السلطة القضائية بل حدثت تغييرات واسعة في ملكيات المؤسسات الإعلامية، كما تم إغلاق وتعليق عمل بعض الصحف والمنصات الإعلامية، لإسكات الخطاب الإعلامي غير المتوافق مع مصالح الحزب الحاكم.
وبحسب “العبسي” فإن الصحافة المرئية والمسموعة، نالت نصيبها من التغييرات الجذرية التي شهدتها تركيا ما بعد الانقلاب، مشيرا الى إغلاق أكثر من 300 مؤسسة إعلامية، بقرار حكومي بعد اتهامها بالتعاون مع جماعة كولن، بالإضافة الى فرض شخصيات محددة ومقربة من الحزب الحاكم للتعيين في مناصب إعلامية هامة.
تغيير ملامح التنافس الانتخابي
تحولت آلية التنافس الانتخابي في تركيا بعد محاولة انقلاب عام 2016، من نظام تخوضه الأحزاب منفردة إلى سياسة التحالفات، ما عززت الانشقاقات داخل الحزب الحاكم، وظهور التحالف الجديد مع حزب الحركة القومية، الذي عمل على زيادة الاستقطاب السياسي والفكري داخل المجتمع.
الاستقطاب والتحول الحاد في خريطة الحلفاء والمنافسين، داخل أروقة السياسة التركية، سبّبت صدمة للعديد من الأصوات الهامة داخل الحزب، مما مهّد لتشكل أحزاب جديدة خرجت من عباءة العدالة والتنمية، أهمها حزب “المستقبل” الذي تم إطلاقه في 13 كانون الأول ديسمبر 2019 بواسطة “أحمد داود أوغلو”، وزير الخارجية السابق ورئيس الوزراء بالنيابة عن حزب العدالة والتنمية.
وحسب القائمة التي نشرها الحزب حينها، وضمت 154 عضوًا مؤسسا لـ”المستقبل”، فقد كان بينهم العديد من المسؤولين السابقين في حزب العدالة والتنمية والشركات التابعة له.
ويشير المحلل “خلدون النعال”، إلى أن النزاع الداخلي في حزب “الفضيلة” تسبب سابقا، في تشكيل حزب “العدالة والتنمية”، وحزب “السعادة” وعلى نفس النمط.
بداية النظام الرئاسي وتغيرات في آلية الحكم
في 24 حزيران 2018 فاز “أردوغان” في الانتخابات الرئاسية من الدورة الاولى، وسجل الاقتراع الانتقال من نظام برلماني إلى رئاسي حيث باتت السلطة التنفيذية بيد الرئيس بعد مراجعة الدستور في 2017.
في تموز/يوليو رفع حال الطوارئ، ووصف الاتحاد الأوروبي ذلك بأنه “خطوة في الاتجاه الصحيح” لكنها غير كافية بسبب الإبقاء على قيود على الحريات.
لكن لم تستمر سلسلة الانتصارات، فقد تلقى الحزب الحاكم هزيمة نكراء، في 31 آذار/مارس 2019، بعد أن خسر أنقرة واسطنبول أكبر مدن البلاد، في الانتخابات البلدية.
وفي اسطنبول تم إبطال نتائج الانتخابات بعد الطعون التي قدمها “العدالة والتنمية” بحجة حصول “مخالفات على نطاق واسع”، ما اعتبرته المعارضة “انقلابا على صناديق الاقتراع”، ليعود المعارض “أكرم إمام أوغلو”، ويفوز مجددا في الانتخابات البلدية في اسطنبول في في 23 حزيران/يونيو، مكبدا حزب “أردوغان” أسوأ هزيمة انتخابية منذ وصوله إلى السلطة في 2002.
في شهر حزيران/يونيو 2020 تبنى البرلمان التركي مشروع قانون مثير للجدل يعزز إلى حد كبير من صلاحيات “حراس الأحياء”، ما دفع المعارضة لاتهام “أردوغان” بانه يسعى إلى تشكيل “ميليشيا”.
وبموجب القانون، أصبح بإمكان “حراس الأحياء” حيازة واستخدام أسلحة نارية عند الضرورة واعتراض أفراد للتدقيق في هوياتهم أو تفتيشهم، فضلاً عن القيام بدوريات ليلية للإبلاغ عن سرقات وحالات إخلال بالنظام العام.
يشار الى أن مؤسسة “حراس الأحياء” تشكلت قبل نحو قرن، ولا تعد الاستعانة بها جديدة، إذ ظهرت بقوة عام 2016 في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة، كما أنها تحتل المركز الرابع كقوة أمنية في تركيا، ويبلغ عدد أفرادها الآن نحو 20 ألفاً، بينما يحتل الجيش التركي الصدارة، ثم الشرطة التركية، وبعدهما في المركز الثالث تأتي قوات الدرك.
النائب عن حزب الشعب الجمهوري، “ماهر بولات” اعتبر حينها أن القانون الجديد محاولة من الحزب الحاكم لإضعاف دولة القانون في البلاد، مطالبا بتعزيز القدرات الأمنية لقوات الشرطة والدرك، لكن نواب حزب “العدالة والتنمية” أيَّدوا الخطوة بدعوى أن البلاد في حالة حرب ومخاطر كبيرة داخلياً وخارجياً، ليصل الأمر إلى حد العراك بالأيدي داخل البرلمان.
ويرى المحلل السياسي التركي والأستاذ في جامعة أنقرة، الدكتور “خير الدين كربجي أوغلو”، أن هذا الرفض من جانب المعارضة التركية له مبرراته ودوافعه، مشيرا إلى أن الخلفية السياسية لحزبَي “العدالة والتنمية” و”الحركة القومية” المتحالف معه، وتبنيهما العنف فكرياً وسياسياً، يعززان من قلق المعارضة حول احتمالات استخدام “حراس الأحياء” في أعمال أكثر عنفاً وتطرفاً تؤثر سلباً على الأمن العام في تركيا.
رقابة مشددة على مواقع التواصل وتعديل قانون الأحزاب
في الأول من تشرين الأول دخل قانون يشدد رقابة السلطات على مواقع التواصل الاجتماعي، ورفضت معظم مواقع التواصل الاجتماعي الانصياع للتدابير الواردة في القانون باعتبار أنه يفتح المجال أمام طلبات الرقابة، رغم تهديد فرض غرامات عليها اعتبارا من تشرين الثاني/نوفمبر.
كما يطرح حزب العدالة والتنمية، وشريكه الحركة القومية، خلال الفترة الحالية، مسألة تعديل قانون الأحزاب السياسية تحت مسمى تشريعي جديد “قانون الأخلاقيات في السياسة”، وتتضمن التعديلات المتوقعة عددًا من الإجراءات، أهمها، وقف عمليات نقل النواب بين الأحزاب، خاصة في ظل تصاعد الاستقالات المتكررة من الحزب الحاكم، وانضمام المنشقين إلى الأحزاب الجديدة، منها المستقبل و “ديفا”، فضلًا عن حزب “حركة الوطن” الذي أطلقه “محرم أنجه” في شهر ايلول\ سبتمبر الماضي، ومن قبله حزب “اتحاد الأناضول (ABP)”، لمؤسسه رجل الأعمال “بدري يالتشين” في كانون الثاني يناير 2020.
أما التعديل الثاني فيركز على إلغاء حاجز العتبة الانتخابية، حيث ستخفض التعديلات المقترحة على قانون الأحزاب السياسية الحد الأدنى للتمثيل في البرلمان من 10% إلى 5%، وكذلك إعادة رسم المناطق الانتخابية بما يسمى “نظام المنطقة الضيقة” في تركيا، وهو مزيج بين النظام الحالي ونظام المنطقة ذات العضو الواحد، وسيزيد التعديل عدد الدوائر الانتخابية إلى 146 دائرة بحد أقصى خمسة نواب يتم انتخابهم من كل واحدة، وسيصعب على الأحزاب الصغيرة والجديدة الفوز بمقاعد في البرلمان، حسبما يوضح المحلل السياسي “نعمان قدور”، الذي يؤكد أن التعديل الثالث سيحدد نسبة الفوز في الاقتراع الرئاسي، لتقضي التعديلات المقترحة بإجراء الانتخابات الرئاسية ضمن جولة واحدة بدلًا من جولتين، وإلغاء النسبة الاعتيادية للفوز، والتي تتمثل بضرورة حصول المرشح الفائز على (50+1). ويقترح النظام بدلًا من الحصول على أكثر من نصف الأصوات أن تقر التعديلات فوز المرشح الحاصل على أكثر الأصوات بالجولة الأولى حتى ولو كانت أقل من 50%، وإلغاء الجولة الثانية.
وبحسب قدور، يسعى الائتلاف الحاكم منذ وقت لتوفير بيئة مواتية لطرح وتمرير هذه التعديلات، ويكشف عن ذلك تأييد الرئيس التركي لتصريحات سابقة لوزير العمل التركي “فاروق تشاليك” في أكتوبر 2019، والذي دعا إلى ضرورة إلغاء شرط “50+1” لنجاح المرشح في رئاسة الجمهورية ليكون 40% فقط، حتى تنتهي الانتخابات من جولة واحدة، على حد تعبيره.
يشار الى أن “أردوغان” كان قد علّق خلال حفل افتتاح السنة التشريعية الجديدة للبرلمان في أكتوبر 2019، على تصريحات وزير العمل السابق، قائلًا: “هناك مساعٍ لإعداد مسودة لتعديل القانون المتعلق بهذا الشرط، وتقديمه للبرلمان”، وأضاف: “هذه الحالة تحتاج إلى تعديل دستوري، لذلك سيتم مناقشته في البرلمان، ويمكننا أن نقدم مسودتنا إلى المجلس، ويمكننا تنفيذ ذلك من خلال التعاون بين الحكومة والمعارضة”.
“العمال الكردستاني” خنجر في خاصرات الحكومات
شكل حزب “العمال الكردستاني” منذ تأسيسه، أواخر السبعينيات من القرن الماضي، شوكة في خاصرات الحكومات التركية المتعاقبة، خاصة بعد أن شن صراعا مسلحا ضد الحكومة التركية، عام 1984، في إطار مساعيه للحصول على دولة مستقلة للأكراد في تركيا، وخلف الصراع الذي وصل ذروته منتصف التسعينات من القرن الماضي، أكثر من 40 ألف قتيل من الطرفين، كما تسبب بتدمير آلاف القرى الكردية في جنوب شرقي وشرقي تركيا، مما اضطر مئات الآلاف من الأكراد للنزوح إلى اجزاء أخرى من البلاد، ليتراجع بعد ذلك الحزب عن مطلبه الأولي باستقلال المناطق الكردية، ويكتفي بالمطالبة بحصول الأكراد الأتراك على الحكم الذاتي في المناطق ذات الأكثرية الكردية.
المحلل السياسي “هوشنك كجو” يرى أن تراجع الحزب عن مطلبه جاء نتيجة تلقيه عدة ضربات معنوية بعد تهجير أكثر من نصف مواليه من مناطقهم، بالإضافة الى اعتقال زعيمه “عبد الله أوجلان”، عام 1999، وحكمه بالسجن بتهمة الخيانة، مستذكرا طلب “أوجلان” عام 2013 بوقف إطلاق النار وانسحاب قوات الجزب من المناطق التركية، معتبرا أن دعوة “أوجلان” شكلت خطوة مهمة في سبيل إنهاء الصراع.
بعد دعوة “أوجلان” توقف الصراع، لكن وقف اطلاق النار انتهى عام 2015 عندما شنت تركيا غارات جوية ضد معسكرات حزب العمال الكردستاني شمالي العراق.
خفض الحزب سقف مطالبه ودعا انقرة إلى السماح له بالانخراط في العملية السياسية في البلاد، كما طالب بمنح مزيد من الحقوق الثقافية لأكراد تركيا الذين يُقدر عددهم بـ 15 مليون نسمة، إضافة إلى الافراج عن أعضاء حزب العمال القابعين في السجون.
لكن أنقرة بقيت على موقفها باعتبار، “حزب العمال” منظمة إرهابية، ومن ثم رفضت الدخول في مفاوضات معه، لكنها عرضت منح عفو محدود عن اعضائه.
محادثات سرية
في الوقت الذي كانت أنقرة تصر على اعتبار الحزب الكردي منظمة إرهابية، أجرى ممثلين عنها محادثات سرية رفيعة المستوى مع قيادات في الحزب بين عامي 2009 و 2011، في العاصمة النرويجية أوسلو، حسبما يكشف “كجو”، الذي يؤكد فشل المحادثات بعد الاشتباكات التي وقعت بين جنود أتراك وعناصر “حزب العمال الكردستاني” في حزيران\ يونيو عام 2011، وأسفرت عن مقتل 14 جنديا تركيا.
بعد فشل المحادثات، تصاعد الصراع ووقعت بعض أعنف الاشتباكات خلال 3 عقود، كما تصاعدت حملة حزب العمال الكردستاني إلى مستوى جديد بشن هجمات ضخمة في مناطق حضرية جنوب غربي شرقي تركيا بالإضافة إلى أقامه مناطق تفتيش على الطرقات.
بالتزامن مع ذلك، أضرب مئات السجناء من السياسيين الأكراد عن الطعام، عام 2012، مطالبين بظروف معيشية أفضل لأوجلان وبالحق في استخدام اللغة الكردية في القضاء والنظام التعليمي، حيث استمر الإضراب 68 يوما وانتهى بعد أن حثهم أوجلان على التوقف عنه، وهو ما أظهر أنه لا يزال الشخص الأكثر تأثيرا في الحركة الكردية.
على إثر ذلك، أعلن رئيس الوزراء التركي، حينها، “رجب طيب أردوغان” عن مفاوضات سلام مع أوجلان في سجن “أمرالي” الذي يحتجز فيه.
الجدير بالذكر أن أكراد تركيا يبلغ عددهم قرابة الـ 15 مليوناً، أي ما يقرب من 20 في المائة من سكان البلاد، وعانوا من القمع المنهجي بطرق مختلفة، كما كافح جلهم من أجل الاعتراف الرسمي بحقوقهم الثقافية والسياسية منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923.
وبينما أزالت تركيا الكثير من تشريعاتها المناهضة للأكراد في محاولة للانضمام في أول هذا القرن إلى الاتحاد الأوروبي، تراجع الرئيس “رجب طيب إردوغان” منذ ذلك الحين عن العديد من الإصلاحات، و سجن العشرات من المسؤولين الأكراد المنتخبين وأبرزهم، رئيس حزب الشعوب الديمقراطي، “صلاح الدين ديمرتاش”، المعتقل منذ عام 2016، وأحد منافسي “إردوغان” في استحقاقين رئاسيين.
ويرى “كجو” أن عمليات القمع والسجن ستدفع العديد من الأكراد إلى التأكد بأن المشاركة السياسية الحقيقية ليست ممكنة في تركيا “إردوغان”، كما ستقلص المساحة الديمقراطية الممنوحة للأكراد ما سيدفعهم إلى دعم “حزب العمال الكردستاني”.
لكن المستغرب بحسب “كجو” هو استمرار صمت المجتمع الدولي فيما يتعلق بقمع أنقرة وطهران للأكراد، خاصة أن القوة الكردية في حد ذاتها محدودة، وليس للأكراد تمثيل مستقل في الأمم المتحدة يمكنهم من خلاله تأكيد أنفسهم.
الصحفي “عبدالله رستم” يرى أن أكراد تركيا، الذين يشكلون أزيد من ربع سكان البلاد، كانوا استهدافاً مباشراً لتلك المركزية السلطوية، في الإدارة والسياسة والاقتصاد، لأنهم الطرف الآخر الذي سيفرض تقاسم السلطة السياسية والرمزية والاقتصادية، لو اُعترف بهم، وصارت تركيا مثل غيرها من الدول متعددة القوميات والهويات. تمتين تلك المركزية كان يمر عبر إنكار تام، سياسي أولاً، لوجود هؤلاء الأكراد، داخل تركيا وخارجها.
وبحسب “رستم “، فإن النظام السياسي التركي كان يميل دوماً لأن يستحوذ على جزءا رئيسياً من سلطته وشرعيته الجماهيرية من خلال الخطابات والتعبئة القومية، فشتى الأحزاب السياسية التركية، التي كانت مختلفة فيما بينها على القضايا السياسية والاقتصادية والتوجهات الخارجية، كانت في المحصلة قوى وأحزاب قومية، تميل لتكريس هيمنة أبناء القومية التركية على باقي القوميات والجماعات الأثنية والعرقية، إذ لا تخلو كل البرامج والديباجات الداخلية للأنظمة الداخلية لمجموع الأحزاب التركية من تلك النزعة التركية.