كثيرة هي القضايا، التي تعتبر من الكلاسيكيات المرتبطة بمنطقة الشرق الأوسط، والتي يعتبر الصراع التركي – الكردي، المستمر منذ عقود، إحدى تلك الكلاسيكيات، خاصة في ظل ما حملته السنوات القليلة الماضية من تصاعدٍ كبيرٍ في المواجهات المباشرة بين الجانبين، تحديداً في سوريا، التي شهدت تطوراً كبيراً من خلال التدخل العسكري التركي المباشر في الشمال السوري ونقل المعركة بينه الجانبين إلى تلك المنطقة، للمرة الأولى في تاريخ صراعهما.
لكن على الرغم تواصل اشتعال البنادق وتصويبها نحو الآخر، يلوح في الأفق بوادر تحول جذري قد يغير كثيراً من ملامح تلك الكلاسيكية أو قد يخرجها من قائمة أكثر مشاكل الشرق الاوسط تعقيداً، خاصةً مع تصريحات الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، التي أشار فيها إلى استعداد كل من الحكومة التركية والميليشيات الكردية لتوقيع اتفاق سلام بينهما، مضيفاً: “ها هم بدأوا بالحرب، والأوضاع باتت سيئة جداً، وجرى تدخل من قبل دول أخرى، وأقول لهم الآن، وقعوا على الاتفاق، وهم يردون على دعوتي بـ نعم، سنبرمه”.
انتقال الصراع الكردي – التركي، إلى السياق المسلح، بدأ مع إعلان رئيس حزب العمال الكردستاني، المعتقل حالياً في تركيا، “عبد الله أوجلان” عن تشكيل مجموعة كردية صغيرة بقيادته، عام 1973، أطلق عليها اسم “توريي كردستان”، والتي أشارت وقتها إلى أنها تهدف للدفاع عن حقوق العرقية الكردية، لتشكل بذلك اللبنة الأولى لقيام العديد من الحركات القومية الكردية ليس فقط في تركيا، وإنما في الدول الأخرى التي يتوزع عيلها أبناء العرقية الكردية، سوريا والعراق وإيران، وتبدأ معها محاولات إعادة إحياء تجربة الدولة الكردية، التي بدأت لأول مرة في مدينة مهاباد الإيرانية، التي ترأسها، “قاضي محمد”، قبل أن تقضي عليها القوات الإيرانية، في أربعينيات القرن الماضي.
في عام 1974، بدأ نشاط المجموعة الكردية بقيادة “أوجلان” بالتوسع” بعد مراسلته العديد من الشخصيات الكردية في مثل “جميل بياك” و”كمال بير إلى موش” و”حقي كاررر لبطمان” و”علي حيدر كيان”، لتتصاعد مع ذلك الدعوات للانفصال عن تركيا، والتي ترافقت مع نزاع مسلح بين تركيا والجماعات الكردية.
وخلال الفترة بين 1974 وحتى 1948 شنت التنظيمات الكردية العديد من الهجمات ضد الدولة التركية، خاصةً بعد إعلان “أوجلان” تشكيله تنظيم حزب العمال الكردستاني، المعروف اختصاراً بـ “PKK”، والذي قاد عام 1984 تمرداً كبيراً على السلطات التركية، والهادف للحصول على حقوق ثقافية وسياسية أوسع، بالإضافة إلى هدف أبعد وهو تأسيس دولة كردية مستقلة، مشكلة من جنوب تركيا وشمال سوريا والعراق وشمال غرب إيران.
إلى جانب ذلك، استمرت عمليات حزب العمال الكردستاني خلال تسعينيات القرن الماضي، ما دفع الحكومة التركية آنذاك، إلى إدراج الحزب على قوائم الإرهاب، بالتزامن مع شن عمليات عسكرية ضد مواقع الحزب في قندلي ومناطق جنوب تركيا، والتضييق على الأحزاب والشخصيات الكردية الموالية لتفكير “أوجلان”، ما ساهم في تصعيد الصراع.
بحلول العام 2002 ووصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، بدأ الصراع بأخذ منحى أكثر تطوراً، خاصة وأن الجيش التركي بدأ بشن عمليات عسكرية وغارات جوية ضد مواقع الحزب خارج الحدود الوطنية التركية، وتحديداً في العراق، الذي نال في الأكراد حكماً ذاتياً في الإقليم الشمالي، والذي تحول بعد العام 2003 وسقوط نظام “صدم حسين”، إلى ما يشبه الدولة المستقلة، وهو ما قابلته الحكومة التركية بتركيز غاراتها على مواقع مسلحي حزب العمال، خصوصاً في العام 2009.
قيام الثورة السورية عام 2011، وبدأ عمليات تسليح التنظيمات الكردية في شمال سوريا، بعد ظهور تنظيم داعش عام 2014، شهد الصراع التركي – الكردي شكل جديد، مع سيطرة ما يعرف بـ “قوات سوريا الديمقراطية”، الكردية، على مساحات واسعة على طول الحدود مع تركيا، لترد الأخيرة عام 2018 بدخول عسكري مباشر إلى الأراضي السورية والسيطرة على مدينة عفرين والعديد من المدن والمناطق التي كانت تسيطر عليها التنظيمات الكردي في غرب الفرات، شمال سوريا، لتتبعها في تشرين الأول عام 2019، بعملية عسكرية أخرى ضد مواقع المسلحين الكرد في منطقة شرق الفرات.
ولم يقتصر الصراع بين الأتراك والأكراد خلال السنوات الخمس الماضية على الجانب العسكري، وإنما شمل أيضاً فرض حصار تركي على إقليم كردستان في عام 2018، ووقف عمليات تصدير النفط وإغلاق المنافذ الحدودية بين تركيا والإقليم، بسبب الاستفتاء الذي نظمه الإقليم على الانفصال عن العراق.
كما تسبب الصراع الممتد بين الكرد والحكومات التركية المتعاقبة على ما يقارب الخمسين عاماً، بمقتل ما يصل إلى 40 ألف قتيل من كلا الجانبين، عدد منهم سقط خلال العمليات العسكرية والمواجهات المباشرة بين الجيش التركي والمسلحين الأكراد، والبعض الأخر سقط في الهجمات التي نفذها مقاتلوا حزب العمال داخل الأراضي التركية.