ملخص تنفيذي:
كان للشروط الأوروبية دور مهماً في ذلك التحديث الاجتماعي والاقتصادي؛ وحتى السياسي؛ حتى يتم قبول تركيا بعضوية الاتحاد الأوروبي؛ التي ينسبها بعضهم لـ”أردوغان” وحزبه؛ دون ملاحظة تلك الشروط الأوروبية في ما حدث لتركيا “أردوغان”.
ولكن هذه التحسينات الشكلية ــ كما ترى هذه الورقة ــ لم تستطع التغير في عمق العقلية التركية كثيراً على المستوى الثقافي والاجتماعي والعلمي؛ التي تعاني من ترسبات تاريخية، ما يزال لها دورها في بنية الشخصية التركية.
تحاول هذه الورقة أن تقدم ملاحظات نقدية لأستاذ بعلم النفس الاجتماعي؛ قضى ثماني سنوات بتركيا كلاجئ سوري، واستطاع أن يكتب ملاحظاته النقدية كعالم اجتماع لطبيعة المجتمع التركية، وشخصية المواطن التركي.
هذه الملاحظات النقدية؛ سنستعرضها من خلال المحاور التالية.
المحاور:
- المدخل
- نقاط الاتفاق والاختلاف بين الأتراك أنفسهم!
- الدستور التركي وهوية تركيا الجديدة!
- المجتمع التركي إيديولوجياً واقتصادياً وثقافياً
- لماذا غدر الأنصار بالمهاجرين!
- وقفة نقدية مع تناقضات المجتمع التركي!
- الفرق بين العقل السوري والتركي!
- كِذبةُ الأنصار والمهاجرين!
- النتيجة والخلاصة
المدخل
بقي الجيش التركي في بلاد الشام كمحتل لها أكثر من أربعة قرون؛ وساهم لتثيبت وجوده بنشر الطرق الصوفية فيها؛ حتى أضاع المضمون الحقيقي للإسلام. وما زاد الطين بلة أن الطرق الصوفية التي كانت تدعمها السلطنة؛ تختزل عقول أتباعها بعقل الشيخ؛ فلا يفكروا خارج دائرته ملتزمين بنهجه وأوامره وأقواله تماماً، كما هو حال الجنود في خدمة قاداتهم؛ وبعد قرون من تحجيم العقول نشأت أجيال محدودة الذكاء، حتى أن العالم التركي “ممتاز تورهان” أحد علماء النفس الاجتماعي قالها بصريح العبارة في كتابه “أين نحن من الغرب؟”: إن المجتمع التركي محدود الذكاء. وهذا ما لمسناه عندما جئنا لاجئين إلى تركيا بسبب الحرب في سوريا.
سيطرة العسكرة التركية على المجتمعات العربية لقرون جعلتها بعيدة عن روح المبادرة الفردية؛ وقيّدت من ذكائها؛ كما اختطف الترك مبدعي بلاد الشام ومصر! حتى أن السلطان العثماني “سليم الأول” استجلب إلى تركيا الفنانين والعمال والصناع المهرة من دمشق والقاهرة بذريعة بناء (الأستانة) لعدم توفر المبدعين لديهم؛ وعدم توفر الحس المعماري عموماً في هذا المجتمع القادم أساساً من أواسط آسيا هرباً من المغول.
ولولا أن الحكومة التركية التي أنشأها حزب العدالة والتنمية بوصوله إلى السلطة بداية هذا القرن كانت تبحث عن الأذكياء والنوابغ لتستفيد منهم؛ ولولا أنها وضعت باعتبارها أنها تريد دخول الاتحاد الأوروبي، فقام الاتحاد بتسليمها قائمة بالشروط التي يجب عليها فعلها على صعيد المجتمع والسياسة والاقتصاد والتعليم والعمران؛ لما بادرت الحكومة بتحسين الأوضاع الاجتماعية؛ محاولةً لجعلها متناسبة تماماً مع متطلبات الاتحاد الأوروبي! لكن هذا النمو كان شكلياً فقط، وهو ما سنناقشه في هذه الورقة من خلال بعض الملاحظات التي تثبت هذه الحقيقة.
نقاط الاتفاق والاختلاف بين الأتراك أنفسهم!
الملاحظ أن المجتمع التركي يلتف عموماً حول أربع نقاط:
- الزعيم كمال أتاتورك
- العلم التركي
- اللغة التركية
- القومية والهوية التركية
وهذه النقاط مُلَاحَظةٌ بشدة في المجتمع التركي؛ لكن في تفاصيلها؛ هناك اختلافات كبيرة فيما بينهم؛ إذا ما استثنينا العلم التركي! فالانقسام الحاصل حول شخصية “كمال اتاتورك” بين الجماعات التركية واضح؛ إذ تعتبر بعض التيارات الإسلامية في تركيا بأنه غدر بالخلافة العثمانية الإسلامية؛ وألغاها؛ وحارب الصوفية والتصوف؛ وأغلق أماكن عبادتهم؛ وصادر مقتنياتها؛ وأغلق الجوامع! بل حوَّل بعضها لمتاحف! كما شنَّ حملة عسكرية على بعض الطرق الصوفية المتمردة على سياسته؛ ليمنح الحالة التركية الجديدة آنذاك وجهاً علمانياً مغايراً لقرون طويلة من الأسلمة؛ جعلتها على رأس قيادة وريادة العالم الإسلامي.
هذا التحول الأتاتوركي حصل بفترة زمنية قياسية؛ وبالقهر والقوة! مما سبب صدمة للمجتمع التركي وقتها، في حين نجد القوى والتيارات العلمانية والقومية واليسارية ترى بأتاتورك القائد المخلص والمنقذ لتركيا بعد تكالب الدول عليها في الحرب العالمية الثانية؛ لتحجيمها؛ حنى لا تعود قوة عظمى كما كانت، وترى تلك التيارات العلمانية بإنهائه للخلافة؛ شفى الدولة من عللها ومرضها العضال، وهو من أعاد لتركيا دورها العالمي، وأظهر وجهها القومي؛ وأنقذها من موت محقق! لذا ينال مكانةً وتقديراً منهم.
الدستور التركي وهوية تركيا الجديدة!
الدستور والقانون التركي حازم تجاه هوية (تركيا أتاتورك) الجديدة؛ إذ يمنع المساس بعلم الدولة ومؤسسها وعلمانيتها! رغم وجود معارضة لذلك؛ لكنها معارضة تبقى حبيسة الأحاديث السرية بين الأصدقاء والأقرباء والعائلات المتفقة على هذه الأفكار! وأما بخصوص القومية التركية فإن مؤسس علم الاجتماع التركي “زيا غوك ألب” الذي نظّر للهوية التركية؛ ابتكر توليفةً هشة! أنشأت قومية تركية غير متفق عليها اجتماعياً وسياسياً بشكل حقيقي؛ لكنها لا تزال قائمة بالقوة، رغم أنها استثنت الاثنيات والأديان والقوميات الأخرى التي تعيش على الأراضي التركية، كالأرمن والشركس والأكراد والعلويون وغيرهم. فالقومية التركية الجديدة؛ تعتبر العرق التركي أساس قوميتها؛ رغم أنه لا وجود لعرق تركي صاف؛ ورغم أنها استثنت كل الفئات التي لا تنطبق عليها هذا الشرط! وأفضت إلى مجازر بحق تلك الفئات! إلا أنها لا تزال تعتبر الهوية القومية التركية هويةً جامعة!
وحتى اللغة التركية هي لغة هجينة؛ كادت أن تضيع لولا أن أتاتورك أمر بتوثيق اللغة؛ وإرساء قواعدها؛ فذهب اللغويون الأتراك إلى استنبول؛ ووثقوها تماماً كما يتحدث أهل استنبول؛ واحتوت وقتها على كلمات عربية وفارسية وروسية وألمانية وفرنسية وانكليزية وغيرها؛ وغيّر حروفها من العربية إلى اللاتينية! ويمكن لمن يتتبع الكتابات التركية خلال القرن الماضي أن يلاحظ الكلمات التي دخلت اللغة التركية؛ وتأثرها بالظروف السياسية التي مرت بها البلاد ومقارباتها السياسة؛ فحين تقاربت تركيا مع روسيا دخلت بعض المفردات الروسية إليها! وكذلك الأمر مع الألمانية والفارسية.
والسياسة التي تم اتباعها للحفاظ عليها من الضياع تمثلت بإلزام اللغة للشعوب التي تعيش تحت سيطرة الحكومة التركية وقتها؛ ومنع التحدث بأية لغة ثانية منعها من الاضمحلال! وهو ما نرى آثاره اليوم في ضعف الأتراك اللغوي عموماً حتى على الصعيد الأكاديمي؛ فنسبة المتحدثين بالإنكليزية ضعيفة جداً؛ وربما زادت نسبة من يتحدث الألمانية عندهم بسبب العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخ السياسي بين البلدين؛ المهم أن منع التحدث بلغة ثانية حفاظاً على اللغة التركية الوليدة عزلهم عن العالم لفترة طويلة.
المجتمع التركي إيديولوجياً واقتصادياً وثقافياً
بدراسة المجتمع التركي سنجد أنه مجتمع لا يزال يعيش توجساً من الدول المحيطة به، التي تآمرت عليه وخانته في الحربين العالميتين؛ وساهمت بسحقه، فلا يزال حذراً بالتعامل مع تلك الشعوب! وغير واثق بها رغم أنه مجتمع يقلد الغرب شكلاً على مبدأ ابن خلدون “المغلوب يقلد الغالب”؛ والانقسامات السياسية والعقائدية والاقتصادية والثقافية؛ تجتاح تركيا! ولا تبشر بالخير! مع ضعف قدرة البلد وسطحيته في برامج الدمج الاجتماعي الداخلي؛ ناهيك عن الاندماج مع الآخرين ودمجهم في المجتمع؛ فهم يلجؤون عموماً لإجراءات سطحية في عملية الدمج والتواصل مع الآخرين مثل موضوع تعليم اللغة التركية الرسمية للأجانب حيث يتم إجراء دورات لغوية شكلية دون متابعة حقيقة تجعل اللغة التركية متطورة! إضافةً لمشكلة حقيقية في تصميم الكتب ومناهج اللغة الضعيفة علمياً إلى درجة تعتقد معها أن تعلم التركية من أسهل الأمور!
كما نجد المناهج تبالغ في قفزاتها المعرفية؛ فتعتقد أن سبعة شهور كفيلة بتعلم التركية! وذلك لغياب وضعف وسطحية الأجندة التعليمية التي تعمل على تقبل الأجانب؛ والرد على الأجندات المتطرفة والعنصرية ضد وجود الأجانب واللاجئين؛ وضد التجاوزات التي تحدث بحقهم يومياً؛ وهو ما نشاهده اليوم في عموم تركيا قد بلغ ذروة غير مسبوقة؛ وصلت إلى حد الاعتداء على السوريين فقط لأنهم سوريون وبكل الأشكال!
وتبدو هذه الانقسامات العقائدية واضحة فعلى سبيل المثال بين أربع تيارات تنضوي تحتها الأحزاب السياسية منها إسلاموية؛ وأخرى شيوعية؛ وثالثة قومية تركية؛ ورابعة أقلوية، من الممكن أن نجد بينها مشتركات شكلية في البرامج والشعارات والعناصر؛ لكن هذه الألوان الأربعة واضحة جداً؛ بأنها تقوم على إيديولوجية كالعلمانية واليسارية والإسلامية والقومية.
أما الناحية الاقتصادية فإن التكنولوجيا والتسارع العمراني التي اجتاحت تركيا في الحقبة الأخيرة؛ زادت من الفروقات الاقتصادية بين فئات الشعب؛ حيث يمكن ملاحظة الفروق الطبقية الشاسعة؛ إذ تقلصت الطبقة المتوسطة؛ وازدادت رقعة الطبقة الفقيرة!
وأما من الناحية الثقافية؛ فإن تركيا تنقسم إلى عدة مناطق متباينة ثقافياً، فالتباين كبير جداً بين أبناء الريف والمدن! والمناطق الشمالية الغربية والساحلية القريبة من أوروبا، وفي المناطق الداخلية القومية المنغلقة، بينما يمكن أن ترى النمط الثقافي التقليدي نصف المنفتح في الجنوب، في حين نجد النمط الثقافي الاثني اليساري الكردي المنفتح في الشرق والجنوب، والثقافة التقليدية الفريدة والمنفتحة في الشمال، واليساري الطائفي المنغلق في الغرب!
وللطرافة فإن التوليفة السياسية العقائدية الفريدة التي يتسم بها المجتمع التركي جديرة بالدراسة؛ ففي اللحظة التي نرى فيها “العلويين” في مرسين على سبيل المثال؛ قد تبنوا الشيوعية لكونها تلغي الفروقات الفردية؛ وتنادي بالمساواة الإنسانية، وهذا يحل مشكلة اغترابهم الديني الطائفي عن الإسلمة التركية؛ فإنهم ينفرون من النظام التركي الحالي لأنه إسلاموي، ويميلون للنظام السوري لكونه علوياً! ويكرهون اللاجئين السوريين الذين هم غالباً من العرب السنة؛ لكونهم معارضين للنظام السوري؛ واستقبلهم النظام التركي الإسلاموي السني! وهذا شكل واضح للسطحية التركية السياسية؛ حيث يمارسون العنصرية التي تعرضوا لها من قبلُ؛ وبالتالي فإن اليسارية بحسب قراءتنا؛ ليست إلا قناعاً فقط للطائفية.
لماذا غدر الأنصار بالمهاجرين!
يشيع في تركيا التفاخر باللغة التركية إلى درجة مبالغة بعضهم في تقديمها على اللغات السامية الأصيلة، بل وربطها بالموروث الديني كالقول إنها لغة أهل الجنة! واعتباراها من أمهات اللغات! والمطالبة باعتبارها لغة عالمية رسمية إلى جانب اللغات الرسمية الستة في العالم الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، والصينية، والعربية، والروسية.
ورغم عدم وجود اهتمام باللغات الأجنبية حتى في الأوساط الاكاديمية إلى درجة أن الأفلام الأجنبية العالمية تكون غالبا مدبلجة؛ وليست مترجمة! حتى يستطيع المشاهد التركي قراءتها؛ فعموم الشعب لا يقرأ؛ ليس بالمعنى الأمي، لكنهم لا يقرأون بالمعنى الفكري والثقافي! وبسبب ارتفاع نسبة الأميين أيضاً! يمكن ملاحظة الترجمة إلى التركية في كل شيء إلكتروني! ولن نجد كلمة إنكليزية!
مؤخراً بعد دخول السوريين إلى تركيا؛ وبدأ عمل المنظمات الدولية تنبه الأتراك إلى أهمية اللغة خصوصاً أن الغالبية المثقفة من السوريين يتحدثون الإنكليزية بشكل جيد؛ مما وفر لهم عملاً مع المنظمات الإنسانية! وهذا ما أحرج الأتراك وأثار حسدهم في الوقت نفسه؛ عندما شاهدوا السوريين يحققون عملاً مزدهراً بسبب ذكائهم ونشاطهم في مقابل سلبية الأتراك وتعطيلهم للعقل، فباتوا يلقوا باللوم على السوريين في تردي أوضاعهم المعيشية! وأن السوري أخذ فرصتهم في العمل! علما أن هذه الفرصة خلقها السوري لنفسه؛ ولم تأته على طبق من ذهب، لكونه مؤهلاً علمياً ومهاراتياً وخبراتياً لسوق العمل؛ ولأن سياق العمل أشبه بالثقافة في الشأن السوري عموماً؛ وهذا ما يفسر اعتداء الأتراك اليوم على الممتلكات السورية، والمطالبة بإغلاق محلاتهم وطردهم من العمل!
وقفة نقدية مع تناقضات المجتمع التركي!
يتحدث المؤرخ التركي “تانير أكشام” (Taner Akcam) واصفاً الشخصية التركية: نحن الأتراك لا نستطيع أن نصنع قيمة ثقافية جديدة، لا يمكننا إلا غزوها وإفسادها وتمزيقها، في أيِّ وقتٍ يرى التركي شجرة فإنه يقطعها؛ لم نكن شعبًا مؤهَّلًا ثقافيًّا، والأماكن التي وضع فيها العثماني قدمه لم تزدهر، كما أن الأماكن التي صعد فيها الأتراك ذبلت وماتت.
كما يلاحظ الناظر في الثقافة التركية مزيجاً متبايناً في الشكل الثقافي بين الإسلامي والتركي والأوروبي؛ فنلاحظ أن الشاب يصلي في الجامع؛ ولديه خليلة؛ وهذا محرّمٌ في الإسلام؛ متاحٌ في الثقافة الأوروبية، ويرتدي الثياب الأوروبية؛ لكنه يتصرف كالأتراك المتعصبين لتركيتهم.
وعندما يتزوج الشاب التركي يوقع عقد القران بشكل مدني وعلى الطراز الأوروبي واللباس الأوروبي؛ لكن الموسيقى والطبول والأهازيج والتهليلات الصوتية دون مضمون! ورش النقود وغيرها ثقافة تركية بعيدة عن الإسلام، رغم ادعائه بوجود شريان يستقي منه الثقافة الإسلامية.
كما أنّ التعامل مع الحضارة والحداثة الغربية التي أحضرها لهم الحزب الحاكم بالطريقة التركية واضحة؛ فالحدائق على النمط الأوروبي؛ لكنهم يمارسون الشواء يومياً كنوع من التقليد التركي! ورغم وضع لوحات تحذرهم من الشواء في الحديقة مع ذلك يضعون “مناقل” الفحم بجوار الحديقة مباشرة، ويشوون؛ ولا يبالون بالروائح والدخان المتصاعد إن كان ضاراً بمن يقصد الحديقة للرياضة أو الاستشفاء أو استنشاق هواء نقي!
كما يفترشون الأرض ويرمون بالنفايات دون أن يؤنبهم ضميرهم! ثم يعيبون على السوريين رمي ورقة في الشارع! ولا يقتصر ذلك على الحدائق هناك! فهناك من يشوي حتى في الأبنية المتلاصقة على الشرفات دون أن يبالي بالجيران والمرضى!
ويمكن في الحدائق أن نجد سيدات ورجال يرتدون أفضل الألبسة الرياضة الجديدة والجميلة وباهظة الثمن؛ لكنهم لا يهتمون بنظافتهم الشخصية! حتى أن تركيا صنفت من بين الشعوب الأكثر إهمالاً للنظافة الجسدية، ويمكن ملاحظة ذلك الموضوع في الأندية و”المولات” و”السوبر ماركات” وفي حافلات النقل العام، ولقد تنوعت الآراء بسبب هذه العادة؛ بعضهم قال إن الأتراك في السابق عاشوا حياة الفقر؛ وكان الحمام مكلف بسبب تكلفة تسخين المياه؛ ولذلك نجدهم لا يستحمون كثيراً حفاظاً على هذا التقليد؛ وبعضهم قال بسبب كثرة شربهم للشاي المغلي المركز؛ فتفرز أجسادهم عند التعرق رائحة تشبه الشاي. وبعضهم قال بسبب كثرة استخدامهم للطعام مع التوابل الحارة، وهو أمر مبالغ به كثيراً؛ لكنه شائع في الشعوب الآسيوية التي يشترك الأتراك معها بالجذر؛ حيث يمكن ملاحظة التوابل الحارة في الطعام عموماً بكثرة وخصوصاً في الشواء؛ ومن الممكن أن نجد فندقاً من سلسلة من الفنادق العالمية في تركيا، ويقدم الشواء مع التوابل الحارة بشكل يومي دون إدراك أن هذا التقليد هو إرث بدوي من أيام الحياة البرية التي كانوا عليها؛ ورغم كل هذه المبالغة في أكل التوابل الحارة؛ فإنهم يعيبون على السوريين استخدامهم للبهارات في الطعام دون أن يعرفوا أن أهم الاكتشافات الجغرافية كانت بسبب البهارات، فاكتشاف “فاسكو دي غاما” لرأس الرجاء الصالح والتفافه حول إفريقيا؛ واكتشاف “كولومبوس” لأمريكا وحفر قناة السويس؛ كان هدفها الوصول إلى الهند من أجل البهارات! وقديماً طريق الحرير.
وللحديث عن قيادة السيارات بتركيا بحث خاص؛ لقد كانت أول توصية صديق لي عندما قدمت إلى تركيا منذ 8 سنوات “احذر من السائق التركي فهو أرعن” لقد شاهدت ذلك في المناطق الجنوبية بكثرة، واليوم أنا أردد وأؤكد على توصيته هذه؛ ويمكن متابعة فيديوهات الحوادث التي تصدرها مديرية الشرطة في مدينة “غازي عنتاب” شهرياً على سبيل المثال؛ وترون مدى غباء ورعونة الحوادث التي تحصل وغالبيتها بسبب عدم التقيد بإشارات المرور والنظام المروري، والمشكلة أن الشرطة لا تتخذ خطوات فعلية وجدية في علاج هذه الظاهرة بسبب خوفهم من انفعال الشارع الذي لا يعبئ بالقانون! ويعتبره تدخلاً في طبيعة حياتهم الفوضوية إلى درجة أن مديرية السير بغازي عينتاب أعلنت أنها ستعيد تقييم السائقين نفسياً فيها! وأما السير بالأسواق فهو أشبه بلعبة “فيديو”؛ لأنك ستحتار كيف تجتاز هذه العشوائية والأنانية التي يتسم بها من يسير في الأسواق! وطالما أنكم في الأسواق عليكم أن تعرفوا حجم البخل الموجود وعبادة المال، والسبب الأساسي في ذلك هو حالة الفقر الطويلة التي عاشها الشعب فترة الحكومات السابقة التي حرمته الكثير من الرفاهية؛ وأفقرته وبالتالي صار تخزين والحفاظ على النقود أمر بديهي مما انعكس على سلوكهم.
الفرق بين العقل السوري والتركي!
عندما سألني أحد الأساتذة الأتراك في الجامعة ماذا تدرس قلت له: علم الاجتماع. تعجب وانبهر وأبدى اعجابه، وعندما استغرب زملائي من ذلك فسألوه: وما الفرق؟ فقال: أنتم ماذا تدرسون؟ قالوا الهندسة! فقال: الهندسة هي رياضيات 1 + 1 = 2 أما الفلسفة وعلم الاجتماع فهي تحتاج لتفكير! في الحقيقة كنا مستغربين جداً إذ كنا نستسهل هذه العلوم جداً! ربما كان الأستاذ مصيباً، وربما كنا كذلك! المهم أن العلوم الاجتماعية لا قيمة تطبيقية لها في بلادنا؛ وللمفارقة عندما زرنا المستشفيات؛ اكتشفنا أن كلام الأستاذ صحيح. فالطبيب هنا لا يفحص بل الآلات هي التي تفحص، ويطلب من الممرضين إجراء العديد من الفحوصات على الأجهزة، وبعدها يقرأ ما يعطيه الجهاز ثم يشخّص الحالة المرضية! ونادراً ما يستمع للقصة المرضية! والمشكلة أنه غالباً ما يخطئ في التشخيص! بعكس الطبيب السوري، فهو يستمع للقصة المرضية؛ ونادراً ما يطلب فحصاً أو تحليلاً؛ ونادراً ما يخطئ! هنا أصبحنا في تركيا نميز الفرق بالتعليم بيننا وبينهم؛ والتي دفعت البروفسور “ممتاز تورهان” إلى ما قاله سابقاً حول تدني ذكاء الشعب التركي.
فالخدمات والتجهيزات الأكاديمية والتعليمية التي يتم تقديمها للطلاب بتركيا؛ لو تم تقديم نصفها للسوريين لغزت عقولهم العالم؛ لقد ابتلينا بنظام سوري لم يقدم يوماً التسهيلات للطلبة في سورية؛ بل كان دائماً يضع العراقيل أمامهم؛ والدليل على ما أقوله إن نادراً ما يخلو قسم؛ أو تخصص جامعي في تركيا من طالب سوري متفوق فيه، وهذا ما كان يثير غيظ الأتراك! ويعتبرون المعلمين الأتراك متساهلين معنا؛ متناسيين أننا نتكلم لغة أجنبية ومن أصعب اللغات، وأننا نتعرض للعنصرية وفي ظروف غير مستقرة؛ وتكاد تكون معدمة وفقيرة؛ هذا يفسر تصميم المناهج التعليمية البسيط في الجامعات؛ والذي يمكن النجاح بها بجهود بسيطة! لأنه لو كان أصعب قليلاً لكان عدد الخريجين الأتراك قليلاً جداً.
كِذبةُ الأنصار والمهاجرين!
لا يقف الأمر هنا في هذا الافتراق بين الشكل والمضمون؛ فخلال ثماني سنوات وأنا أعيش في تركيا؛ لم تسمح لي هذه الحكومة المدعية للإنسانية أن أحضر عائلتي إلى تركيا بذريعة القوانين؛ وهذا حال مئات الألوف من السوريين، وذريعة المسؤولين الأتراك بأن الشارع التركي غاضب من كثرة السوريين على أرضهم، وأنهم سبب الأزمة الاقتصادية! ولذا يحاولون مداراة الوضع بتقييد الوجود السوري على أرضهم، مرة بتقييد سفرنا بين الولايات التركية! ومرة بتقييد قدرتنا على العمل، ومرة بتقييد احضار أقربائنا، وتجديد اقاماتنا السياحية؛ وتثبيت عنوان النفوس، والحصول على علاج طبي.
نحن في تركيا لسنا لاجئين بحسب القانون التركي، بل موجودون بصفة مؤقتة تسمى “الحماية المؤقتة”! وكل ما ترونه من ادعاء للإنسانية هو فقاعات فارغة، نحن متروكون هنا للتجارة بنا من قبل النظام والحكومة التركية؛ وأكبر دليل على ذلك عندما حصلت الاشتباكات بين الجيشين التركي والسوري على حدود إدلب، تم ارسال 100 ألف لاجئ سورية من “استنبول” إلى “أدرنة” على الحدود اليونانية بتسهيلات من الحكومة حيث أعلنت عن توفر رحلات مجانية بالباصات المكيفة لنقل السوريين إلى “أدرنة” والسماح لهم بالوصول إلى أوروبا؛ هذا التصرف يدل على حجم الاستغلال الذي نتعرض له هنا.
السوريون يساهمون بالدخل القومي التركية بنسبة تصل إلى 17%، وقد نقلوا مصانعهم من حلب وريفها إلى تركيا؛ وفتحوا أسواقاً عالمية لهذه الدولة! وحركوا سوق الاستهلاك والإنتاج والإيجارات والبنوك من خلال استئجار ما يزيد عن 400 ألف منزل في تركيا! وايداع مئات الملايين من الدولارات، ناهيك عن المنظمات والمؤسسات التي أسسوها؛ التي بلغت 1/6 من المؤسسات التركية، وأدخلت لتركيا عشرات الملايين من الدولارات شهرياً، دون أن ننسى الدعم المالي الذي حصلت عليه تركيا بسبب السوريين.
ومع ذلك نجد أن المعارضة التركية تقوم بالتحريض على الوجود السوري! وتنسب لهم كل المشكلات الاقتصادية في البلد معتمدة على حب الأتراك للنقود وعدم مبادرتهم بالعمل وانخفاض ذكائهم، فتضع أجندة تحريضية تنسب كل هذه المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمعيشية لوجود السوريين حتى تفوز بالانتخابات، وتتنكر لأي حسنة للسوريين! والمفارقة أنهم استقطبوا الشارع وبالتالي راحت الحكومة؛ تلعب لعبتهم؛ وصادقت على بعض المشاكل التي قالوا إنها بسبب السوريين؛ وبدأت بالتحرك باتجاه إعادتهم إلى سورية عبر حملات لم تخلو من انتهاك لحقوق السوريين والقوانين الدولية!
المشكلة أن هذا التحريض والعنصرية زاد الفرق بين المجتمعين؛ ووصلت الكثير من الحالات التي تعرض بها الأتراك للسوريين إلى القتل والضرب والجرح والاعتداء والسرقة وصولا إلى حرق المنازل والممتلكات وتكسيرها! وقد اشتهرت حادثة ركل شاب تركي لسيدة مسنة سورية تعاني من اضطراب عقلي على عينها إثر الافتراء عليها واتهامها بخطف أطفال! ولا يزال الأمر بتصاعد؛ حتى بات السوريون هنا يعيشون حالة قلق مستمر وخوف من المستقبل؛ وزادت عليهم الاضطرابات النفسية والأعراض المصاحبة للتوتر والتي لا يسمح للسوريين التعامل معها مؤسساتياً إلا ما ندر “وكل ذلك من أجل دعم المستشفيات الحكومية مادياً من قبل الإتحاد الأوروبي”.
وللسخرية فإن دورات الاندماج الاجتماعي التي أخذت الحكومة التركية عليها ملايين “اليوروهات” من الإتحاد الأوروبي كانت تحت مسمى “إعادة التوطين” وهي شكلية! وتستهدف السوريون فقط؛ ولا توجه باتجاه الأتراك الرافضون للوجود السوري، بل باتت الحكومة ترفض هذا الوجود أيضاً.
أما سياسية إعطاء الجنسية التركية للسوريين هنا فلا يتم على أساس واضح، فغالب المجنسين هم من الأشخاص الذين يضمنون بقائهم في الدولة وولائهم لحكومتها وتصويتهم لها وقت الانتخابات، واليوم هناك من يناقش سحب هذه الجنسية من السوريين المجنسين.
تقول بعض التقارير إن الجالية التركية في ألمانيا من أكبر الجاليات إن لم تكن أكبرها؛ وهي تعاني من الاندماج أيضاً مع المجتمع الألماني، ورغم كل المشاكل التي حدثت معهم إلا أنهم لم يتعرضوا لعنصرية أو عنف من المجتمع والدولة، وهؤلاء هم أنفسهم باتوا متذمرين من اللاجئين السوريين في تركيا أكثر من الحكومة التركية التي أصبح هدفها إرضاء الشارع والحصول على التمويل من الاتحاد الأوروبي تحت مظلة الإنسانية والدمج والتوطين.
النتيجة والخلاصة
يظهر واضحاً في تغيرات المجتمع التركي أن للتاريخ العسكري والصوفي الطويل، أثراً عميقاً في بنية وشخصية الدولة التركية والمجتمع التركي، مما قلل من روح المبادرة الفردية وأعاق التطور الذهني؛ وهو ما دلل عليه علماءهم؛ وكذلك سياسات الدولة المستمرة في اختبارات الذكاء عند أي مرحلة تعليمية وتوظيفية حكومية.
والمشكلة التي تترتب على هذه النتيجة هي أن القاعدة في علم النفس الاجتماعي تقول: “كلما قل الذكاء ارتفع العنف” وهذا يفسر الكثير من العنف الذي مارسه؛ ويمارسه المجتمع التركي عبر تاريخه، وخصوصاً في مسألة التعامل مع المرأة التركية حيث إن أعلى نسب عنف ضد النساء في العالم بتركيا!
كما أن التحديث الشكلي مقابل التحديث الجوهري في بنية المجتمع كان استمراراً لسياسة التركيز على الشكل واهمال المضمون التي نراها في الأبهة الظاهرة في الجوامع على سبيل المثال، والتفاخر بعدد المآذن، وضجيج طبول الإيقاظ على السحور في رمضان، وغيرها من المظاهر التي تعوض عن سطحية الإيمان.
وهي السياسة ذاتها التي تستمر في الاندماج بين فئات المجتمع التركي ومع الآخر، فالانقسام المجتمعي حول شخصية كمال أتاتورك يظهر واضحاً بالصراع بين الاتجاهات العلمانية والقومية والإسلامية واليسارية، مما يعكس عدم تحقيق توافق حقيقي حول الهوية الوطنية؛ مع تباينات ثقافية واقتصادية واضحة بين المناطق الجغرافية المختلفة في تركيا، وتبقى محاولات الاندماج غالباً سطحية وغير فعالة؛ وهذا ينطبق على الهوية التركية التي تأسست على مبادئ القومية التركية التي تعاني من هشاشة واضحة، حيث تستثني الاثنيات والأديان الأخرى، مما يؤدي إلى توترات ومشاكل مجتمعية مستمرة. وعلى الصعيد الخارجي، فتوجس الأتراك من محيطهم الجغرافي منذ الحرب العالمية الثانية، وانغلقوا على أنفسهم حتى أنهم لم يوقعوا على اتفاقية حقوق اللاجئين واستبدلوها باتفاقية “الحماية المؤقتة” التي تتيح لهم طرد الوافدين إليها غير الشرعيين وقت تشاء.
لقد وعى السياسيون في المعارضة التركية لهذه النقاط؛ انخفاض الذكاء، وضعف الاندماج مع الآخر، ولعبوا على وتر العنصرية التي انتشرت بسهولة نتيجة العوامل التي ذكرناها آنفاً، ولم يتطلب ذلك منهم الكثير من الجهد حتى يحرضوا الشارع التركي ضد السوريين، لتطال مظاهر العنف بكل أشكاله مساحات واسعة من تركيا.
أما الحكومة التركية فقد كانت طوال الوقت تستغل وجود اللاجئين كورقة ضغط سياسي واقتصادي، ما يظهر التناقض بين الخطاب الرسمي والممارسات الفعلية، ولم تواجه تلك الدعوات بشكل عملي؛ حتى بلغ الموقف ما بلغه الآن من اعتداءات وحشية على اللاجئين السوريين دون أن يحرك المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان تجاه ذلك شيئاً.