لم تطوى قضية الطفلين “حر” و”معصومة”، الذين قتلى على يد والدتهما، الأسبوع الماضي، حتى كشفت الداخلية العراقية عن إحصائية صادمة حول ارتفاع معدل قتل الأطفال على يد آبائهم، في الآونة الأخيرة، لافتةً إلى تكرار تلك الحادثة خمس مرات خلال الأسابيع القليلة الماضية.
وكانت والدة الطفلين “حر” و”معصومة”، وتدعى نسرين، قد ألقت بالطفلين في نهر دجلة ما أدى إلى غرقهما ووفاتهما على الفور، وسط روايات أرجعت تصرف الأم إلى خلافات بينها وبين طليقها والد الطفلين.
إحصائيات ومطالبات وأرواح تزهق بلا ذنب
تعليقاً على تصاعد ظاهرة قتل الأبناء من قبل الآباء، يقول المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية العراقية اللواء “خالد المحنا”: “تزايد تلك الظاهرة بات يدفع باتجاه ضرورة دراسة الأسباب والدوافع وراءها من قبل أجهزة الشرطة، التي باتت أكثر قرباً من المجتمع العراقي من خلال أقسام الشرطة المحلية، وشرطة الأحداث، والشرطة المجتمعية، وشرطة حماية الأسرة والطفل”، واصفاً تلك الحوادث بالخطيرة جداً على المجتمع العراقي.
في السياق ذاته، تشير خبيرة الأسرة والتربية، “لمياء أركان” لمرصد مينا، إلى أن ارتفاع معدل قتل الأباء للأبناء مرتبط بارتفاع معدلات العنف الأسري ضد الأطفال عموماً، لافتةً إلى أن آخر إحصائية رسمية عراقية تكشف عن تعرض 12 في المئة من الأطفال العراقيين للعنف على يد الأم أو الأب، ولأسباب مختلفة، بما فيها الخلافات بين الوالدين.
إلى جانب ذلك، توضح “أركان” أن العاصمة بغداد وحدها تسجل أسبوعياً 8 حالات عنف ضد الأطفال، بعضها يصل إلى حد الاعتداء المميت، مشيرةً إلى أن مأساوية قصة الطفلين “حر ومعصومة” وتوثيقها بالفيديو وظروف الجريمة هي ما ساعدت على انتشار قضيتهما، دون غيرها، ما يطرح مطالبات بتحركات جدية من قبل السلطات الأمنية للبحث أكثر في سجلات وفيات الأطفال والوقوف على أسبابها، على حد قولها.
ظروف غامضة وتداعيات اقتصادية ونفسية
مجموعة العوامل التي تقف وراء ظاهرة قتل الأبناء، تجملها الباحثة “أركان” بجملة من المجالات، أولها الوضع الاقتصادي المتردي والذي خلق حالات نفسية أثرت على الأسر العراقية ككل، لافتةً إلى أن حجم الصغوطات المالية والمعيشية وحالة اليأس المسيطرة على العوائل العراقية، خلقت نوع من العنف غير الخاضع للسيطرة سواء لدى الأب أو الأم، كما دفعتهم للتصرف بطرق غير معتادة.
أما الجانب الآخر من العوامل، تشير “أركان” إلى أنه مرتبط بحالات الخلافات بين الزوج والزوجة، كما هو الحال في قضية الطفلين “حر ومعصومة”، أو حالة التعاطي للمواد المخدرة أو المسكرات، التي تفقد متعاطيها السيطرة على نفسه تدفعه في بعض الأحيان إلى ارتكاب تصرفات شديدة العنف، مضيفةً: “أما العامل الأكثر مسؤولية عن قتل الأبناء، فهو جرائم الشرف، خاصة عندما يتعلق الحديث عن الجرائم بحق الفتيات، في مجتمع محافظ كما هو حال المجتمع العراقي”.
ويعيش المجتمع العراقي على وقع أزمة اقتصادية خانقة، حيث كشفت إحصائيات غير رسمية عن احتمالية ارتفاع معدلات الفقر في العراق إلى أكثر من 40 في المئة حتى نهاية العام الجاري، وسط غياب شبه كامل للخدمات الأساسية وانتشار الجوع.
غير بعيد عن تحليلات “أركان”، تشير الطبيبة النفسية، “بشرى عبد الحسين” في حديثها مع مرصد مينا، إلى أنه من الناحية الطبية، فإن قتل أحد الآباء وتحديداً الأم لأحد أولادها، يرتبط بشكل كامل بحالة خلل نفسي أو صدمة، موضحةً: “في الطب النفسي لا يوجد أي شخص سوي يرتكب مثل تلك الجريمة، وهي بالنسبة لنا متعلقة دائماً بحالة غير طبيعية يكون الفاعل قد مر بها، كالصدمات النفسية أو الضغوط المحيطة به أو حتى الوقوع تحت تأثير الخمور أو المخدرات”.
كما توضح “عبد الحسين” أن معظم تلك الحالات يتم عرضها على خبراء نفسيين لتحديد الأسباب المخفية وراء ارتكاب الجريمة، غير الأسباب الجنائية الظاهرة للأجهزة الأمنية، كظهور هلاوس أو المعاناة من أمراض نفسية معينة، لافتةً إلى أن هذا النوع من الجرائم يتم التعامل معه بطريقة ذات خصوصية معينة، خلافاً لجرائم القتل الأخرى.
وتشدد “عبد الحسين” على أن جرائم القتل العادية ضد الغرباء قد تكون مرتبطة بدوافع البقاء على قيد الحياة أو الانتقام أو المصلحة الشخصية، ولكن ظاهرة قتل الأبناء تحديداً هي ظاهرة مخالفة للغريزة والطبيعة البشرية بشكلٍ كامل، ما يدفع باتجاه تصنيف كامل الجرائم المدرجة تحتها ضمن المشكلات النفسية.
بين القانون والدين.. لا يوجد مبررات
على الرغم من ارتباطها بحالات نفسية وأسباب اجتماعية واقتصادية، إلا أن القانون لم يمنح أي اعفاءات أو ظروف مخففة لقتل الأبناء، وفقاً لما يقوله المحامي، “حسين عبد الرضا”، لافتاً إلى أن المادة 406 من قانون العقوبات، كانت واضحة جداً، من حيث الحكم بالإعدام في حالات القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، أياً كانت الضحية، لافتاً إلى أن القانون العراقي منح فقط الأسباب المخففة في حالات جرائم الشرف، كونه قانون مشتق من البعد المجتمعي.
ضمن سياق حديثه عن العقوبات، يشير المحامي “عبد الرضا”، إلى أنه تم تخصيص مادة ضمن القانون بالنسبة لجرائم الشرف، وهي المادة 409 والتي تنص على حبس كل من يرتكب جريمة شرف بحق زوجته أو إحدى محارمه، ضمن قضايا تتعلق بالزنا، لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات.
أما على الجانب الديني فيشير الباحث في الشؤون الإسلامية، “عمر الدليمي” إلى أن الدين الإسلامي كان واضح جداً وصريح من جهة تحريم قتل الأولاد، خاصة في حالة الضائقة الاقتصادية والفقر، مستشهداً بالآية الكريمة: “وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا”.