فتحت عملية تصفية العالم النووي “محسن فخري زاده” في الأراضي الإيرانية.. فتحت الباب على تساؤلات جذرية حول المستفيد الفعلي من عملية الاغتيال التي تصّر إيران على اتهام إسرائيل بالقيام بها في ظل صمت أقرب للتأكيد من قبل تل أبيب حول تلك الاتهامات لتحقيق مكاسب فعلي ترتبط بتهديدات القيادات الإسرائيلية حول منع برنامج طهران النووي بالقوة، وعدم تأثر تلك الخطط بتغير القيادة الأمريكية مع تلميحات الرئيس الجديد “جو بايدن” وأعضاء إدارته بالعمل على استئناف الدبلوماسية والبرنامج السابق للاتفاق النووي مع تعديلات جديدة..
تقاطعات تجعل بعض المراقبين يقرأون المشهد من زاوية مغايرة للمشهد الظاهري الذي تهدد فيه طهران برد فعلي وقوي على عملية الاغتيال .. والذي قد تنتظره إدارة ترامب لتوجيه ضربة كبيرة لطهران وتعقيد المشهد أمام الرئيس المنتظر، ففي العمق هل يفتح اغتيال “زاده” الباب أمام تملص إيراني من الاتفاق النووي (يحتدم الصراع حاليًا بين حكومة روحاني والبرلمان حول رفع نسب التخصيب) في ظل خبرة الإيرانيين السابقة والمتجذرة في تأجيل المواجهات المباشرة واللجوء لسياسة النفس الطويل.. ويفتح التساؤل حول قدرة إدارة بايدن على التعامل مع إيران والاتفاق السابق ..
أعلن مدير مكتب روحاني أنه لن تكون هناك مفاوضات جديدة حول الاتفاق النووي مع إدارة بايدن (رويترز)
تهديدات متكررة ولكن
شدد مسؤولون إيرانيون على اتهام إسرائيل بعملية الاغتيال، حيث أكد “علي شمخاني” أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، أن تل أبيب استخدمت “أجهزة إلكترونية” لقتل فخري زادة عن بُعد.. ثم اتهم “الموساد” بتنفيذ عملية الاغتيال بمساعدة من جماعة “مجاهدي خلق”.
اللافت في تصريحات شمخاني، قوله إن “الأجهزة الأمنية كانت على علم باحتمال تعرّض العالم فخري زادة لمحاولة الاغتيال، في الموقع الذي قتل فيه، لكنها لم تأخذ الأمر على محمل الجدّ، بسبب تواتر الأنباء لديها طيلة السنوات العشرين الماضية عن وجود مخططات لاغتياله”.
ليوضح “عملنا على تعزيز حماية فخري زادة، ولكن العدو نفّذ الاغتيال عبر طريقة جديدة حرفية وتخصصية”.
رد مؤلم
سعيد خطيب زاده، المتحدث باسم الخارجية الإيراني، قال بدوره، إن الردّ سيكون بـ “منتهى الإيلام”، في حين ذكرت وسائل إعلام محلية أن عملية الاغتيال جرت بواسطة سلاح وجد في موقع الهجوم يحمل “شعار ومواصفات الصناعة العسكرية الإسرائيلية” كما أن الأسلحة المستخدمة “جرى التحكّم بها بواسطة الأقمار الصناعية”.. ولكن يبدو أن التصريحات لا تعدو كونها للاستهلاك الإعلامي بحسب بعض المراقبين. وعزز ذلك تصريحات المبعوث الأمريكي المؤكدة عدم وقوع الرد الإيراني.
تأكيد وانتقام
نقلت الاندبندنت عن موقع “تايمز أوف إسرائيل” تعليق حسين شريعتمداري، رئيس تحرير صحيفة “كيهان” المحافظة، الذي جاء فيه إن “الأدلة وافرة لدرجة أنه يمكن اعتبار اسرائيل، الفاعل الرئيس”.. وعليه اعتبر شريعتمدراي أنه لا ينبغي أن نشكك في الانتقام من الصهاينة”.
ليوضح المتخصص الإيراني أن “واشنطن وتل أبيب نظمتا سلسلة من العمليات السرية ضد إيران خلال الأسابيع المتبقية لإدارة ترمب في منصبه، بناءً على فرضية أن إيران لن تردّ على مثل هذه العمليات”.
أما مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، فذكرت في هذا المجال أن لـ تل أبيب، تاريخًا في استهداف البرامج النووية للمنافسين – بما في ذلك إيران – حيث اغتالت علماء وقامت بهجمات سيبرانية لعرقلة التقدم النووي لطهران على مدى العقد الماضي.
ففي عام 2011، بحسب ذات المرجع، تسبب انفجار بمقتل مهندس الركيزة الرئيسية الثالثة للدفاع الوطني الإيراني، حسن طهراني مقدم، المصنف كعضو آخر في الحرس الثوري، والذي ساعد في تطوير برنامج الصواريخ في البلاد.. ويظهر أن إسرائيل متورطة بذلك.
من جهة ثانية، تمتلك طهران حافزاً لتجنّب الظهور بمظهر الضعيف.. لذلك تكثر الأقاويل حول الرد المنتظر خصوصًا في ظل الأزمات المتتالية التي واجهتها إيران التي ضُرِبت بقوة وبشكل متكرر على مدى عام 2020 بجائحة كورونا التي ناضلت حكومتها لاحتوائها.
يضاف لذلك اغتيال اثنتين من الشخصيات الإيرانية البارزة العام وانفجار نطنز، يبدو أن الولايات المتحدة وإسرائيل – بحسب تقرير للاندبندنت- قتلتا الرجل الثاني في تنظيم القاعدة أبو محمد المصري، في طهران في أغسطس آب الماضي.. لتواصل إدارة ترمب توسيع قائمة الأفراد والكيانات الإيرانية الخاضعة للعقوبات لممارسة الضغط على النظام، بهظف تعقيد عودة إدارة الرئيس المنتخب جو بايدن إلى الاتفاق النووي.
وكالة “تسنيم” الإيرانية للأنباء كشفت بدورها عن المكان المحتمل الذي يمكن من خلاله أن ترد طهران على اغتيال فخري زادة.
لتؤكد الوكالة المقربة من مراكز صناع القرار في البلاد، “لدينا حزب الله في لبنان وبإمكاننا من داخل الأراضي اللبنانية ضرب إسرائيل، ردًّا على مقتل فخري زاده”.
خلاف على التوقيت
تؤكد القيادات الإيرانية على ضرورة الانتقام لمقتل عالمها النووي، كما يؤكدون على الانتقام لمقتل الجنرال سليماني – التي لم تحدث حتى الآن – ليتجدد النقاش حول نقطة التوقيت في الرد المنتظر بعد تأكيدات تورط تل أبيب بعملية الاغتيال.
وبذلك أصبح الجدل حول أسئلة تتعلق بمتى وأين يحدث الرد السريع .. الذي يطلب فيه أن يكون مدروسًا بدقة ليحقق الفائدة المرجوة بحسب تقرير للاندبندنت عربي.. تناول حاجة طهران للانتقام أصلًا من العملية!!
لا مفاوضات .. ذرائع جديدة
بحسب وكالات دولية، أكد مدير مكتب الرئيس الإيراني حسن روحاني، محمود واعظي، أنه “لن تكون هناك مفاوضات جديدة حول الاتفاق النووي مع إدارة (الرئيس المنتخب جو) بايدن”.. حيث اعتبر واعظي أنه جرى النقاش حول الاتفاق وانتهت هذه المرحلة، لم تفِ الولايات المتحدة بالتزاماتها تجاهه، وأهم شرط لنا هو أن يحترم أعضاء مجلس الأمن ما أقرّ في هذا الاتفاق”.
أما “محمد باقر قاليباف” رئيس البرلمان الإيراني، أن “دماء العالم النووي فخري زادة ستزيل القيود عن البرنامج النووي، وستمهّد الطريق لرفع العقوبات عن البلاد”.
في حين اعتبرت صحيفة “غارديان” البريطانية في تقرير لها قبل أيام، أن “اغتيال فخري زاده قد لا يكون له تأثير كبير في البرنامج النووي الإيراني الذي شارك في إنشائه، ولكنه سيجعل من الصعوبة بمكان إنقاذ الاتفاق النووي الذي يهدف إلى تقييد هذا البرنامج، وهو الدافع الأكثر منطقية وراء عملية الاغتيال”.
وبذلك نجد التقاطع بين تقرير الصحيفة البريطانية وكلام المسؤول الإيراني “قاليباف” والذي أكد تقرير الاندبندنت، هذا المنحى والرؤية التحليلية..
تهديدات استهلاكية
ارتفعت أصوات إيرانية مطالبة بقصف حيفا للرد على إسرائيل انتقامًا لقتل “زاده”.. حيث نقلت صحيفة “كيهان” المحلية أن “على طهران مهاجمة مدينة حيفا الساحلية الإسرائيلية إذا كانت تل أبيب مسؤولة عن مقتل فخري زادة”.. ثم اقترحت تنفيذ أي هجوم بطريقة تدمر المنشآت و”تتسبب أيضًا بخسائر بشرية كبيرة” لإسرائيل.
لكن الغارديان اعتبرت في تقريرها أن “تلك التصريحات التي صدرت عن شخصيات سياسية وعسكرية إيرانية هي للاستهلاك الداخلي”، حيث “لا تنعكس عادة في أفعالها”..
لتوضح صحيفة “غارديان” إن “لإيران تاريخًا طويلًا وراسخًا في تجنّب الصراع المباشر في المنطقة منذ نهاية الحرب العراقية – الإيرانية عام 1988.. ومع ذلك، فهي سعيدة بدعم أو العمل من خلال وكلاء، مثل حزب الله، لدفع المصالح وتقويض المنافسين”.
صحيفة “لوريان لوجور” اللبنانية التي تصدر باللغة الفرنسية، نشرت تحقيقًا يتحدث عن أن “طهران أرسلت قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال إسماعيل قاآني إلى بغداد لإصدار أوامر إلى قادة الفصائل العراقية بوقف جميع الهجمات على القوات الأميركية. كما أجرى قاآني زيارة سرية إلى لبنان للقاء الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله”.
ووفق الصحيفة، تستهدف الزيارة، ” الطلب من نصر الله عدم استفزاز إسرائيل في هذه المرحلة الحساسة.
حيث أكد “قاآني”، خلال لقائه كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين للحزب، على عدم اتخاذ أي إجراء يمكن أن يؤدي إلى زيادة التوتر مع إسرائيل، التي ربما تستغلّ التصعيد لشنّ عملية عسكرية موسعة”.
في حين اعتبرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، أنه “إذا انتقم الإيرانيون وأعطوا ترمب ذريعة لشنّ ضربة قبل أن يترك منصبه، سيرث بايدن مشكلات تكون أكبر من مجرد حطام وثيقة دبلوماسية عمرها خمس سنوات.. وهذا بالضبط ما يراهن عليه نتنياهو وترمب”.
وبحسب الصحيفة، أي رد انتقامي، “يمكن أن يؤدي إلى عمل عسكري أميركي يبدو الرئيس المنتهية ولايته في أتم الاستعداد للذهاب إليه، لا سيما أنه ناقش هذا الخيار مع مستشاريه قبل أسبوعين، وأوفد وزير خارجيته، مايك بومبيو، إلى المنطقة الأسبوع الماضي”.
استغلال الفرص
جاء اغتيال “زاده” لإنهاء الاتفاق النووي، وفق تقرير الصحيفة البريطانية، التي رأت أنه إذا ثبت أن الموساد وراء اغتيال العالم الإيراني.. تكون تل أبيب استغلت الفرصة لتنفيذ العملية بضوء أخضر من الرئيس الأميركي المنتهية ولايته..
حيث اعتبرت أن دونالد ترمب، الذي يسعى إلى لعب دور المفسد خلال الأسابيع الأخيرة من فترة حكمه.. سيقبل ببساطة عملية من ذلك النوع، إن لم يساعد في تنفيذها.
في حين تهدف العملية نفسها بحسب ذات المصدر، الذي نقل عن الباحثة في مؤسسة القرن للأبحاث، دينا أسفندياري، قولها إن عملية الاغتيال جاءت “لدفع إيران إلى القيام بعمل غبي لضمان تقييد يدي إدارة بايدن عندما تسعى إلى استئناف المفاوضات ووقف التصعيد”.
دون نسيان أن العالم المغتال، كان الوحيد الذي جاء اسمه في التقويم النهائي الذي قدّمته الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن الجانب العسكري لبرنامج طهران النووي، حيث اعتبرته المحرك الرئيس الذي يقف خلف “مشروع أماد”، الساعي لتطوير قدرة إيران على بناء قنبلة ذرّية.
تعقيدات الرد
كشفت النجاحات الإسرائيلية في عملية الاغتيال المعقدة التي ضُرب بها عالم بارز في تحد خطير لطهران كشف ضعف وتراجع الأمن الداخلي للنظام الإيراني وتراجع الدولة أمام العمل السري الأجنبي.. وبحسب التقارير خصوصًا “فورين بوليسي”، يجعل ذلك طهران أمام معضلة، تجبرها على احتساب وقياس ردودها على مثل هذه الأحداث.. إذ أرادت الموازنة بين هدفين متعارضين: تجنّب ترك هذه العمليات من دون ردّ مع الامتناع عن تصعيد التوترات بشكل قد يؤدي إلى عمل عسكري مباشر من قبل الولايات المتحدة.
منيت طهران باخفاقات محرجة في يناير كانون الثاني الماضي، مطلع عام 2020.. بعد وقت قصير من مقتل قاسم سليماني، حين قصفت قاعدتين في العراق تضمان قوات أميركية.
سياقًا، يستبعد تحليل لموقع “فويس أوف أميركا” أن تقدم إيران على فعل أي شيء يمكن أن يعطي ذريعة لترمب، لإنهاء ولايته بردّ “عسكري شرس” عليها، كما أنها لا تريد أن تبدأ عداءً جديدًا مع الرئيس المنتخب.
ليورد الموقع رؤية الباحث في “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” جوناثان شانزر، قوله إنه “إذا نفذت إيران نوعًا من الهجوم، أو انخرطت في أنشطة عنيفة تُنسب إليها بوضوح، فسيكون ذلك، على ما أعتقد، خطأً فادحًا هي غير مجبرة عليه”.
ليحذّر الباحث من أن “طهران ستجد نفسها أمام خيارات صعبة، إذ تقترب من إحياء الذكرى الأولى لمقتل جنرالها قاسم سليماني، وفي الوقت ذاته إذا تبِعت دافعها بالانتقام، فلن تستطيع الخروج من عزلتها والتخلص من حملة الضغط الأقصى التي تنتهجها ضدها إدارة ترمب”.
في حين اعتبر ذات التحليل نقلًا عن أوليفير غيتا، الخبير في مكافحة الإرهاب، أن “الردّ الإيراني سيأتي، ولكنه قد يحتاج إلى عام أو عامين، فهم يأخذون وقتهم ويجهزون هجماتهم بدقّة شديدة”.
خوف زعيم حزب الله
فجر اغتيال “فخري زاده” مخاوف أهم قائد لميليشيات إيرانية خارجية – اي حسن نصر الله زعيم حزب الله – بأن يكون الرقم الثاني في قائمة الاغتيال الإسرائيلي.. وفق توصيف مواقع مختصة اعتبرت نصر الله “الهدف السهل لتل أبيب منذ سنوات”، مرجحاً أن يكون هو التالي على قائمة الاستهداف “الأميركية – الإسرائيلية”.
يذكر هنا أن مصدرًا مقرّبًا من “قاآني” صرّح – بحسب الاندبندنت – في نوفمبر تشرين الماضي أن حزب الله استطاع الكشف عن عملية خططت لها إسرائيل لاغتيال أمينه العام وعدد من قادة الفصائل الموالية لإيران في سوريا والعراق والضفة الغربية وقطاع غزة.
و أكد موقع “تايمز أوف إسرائيل” تزايد المخاوف الأمنية في صفوف “حزب الله” على زعيمه حسن نصر الله.. مؤكدًا أن نصر الله ألغى تحركاته بعدما نصائح فريقه الأمني بالبقاء في مكانه.
أما صحيفة “جيروزاليم بوست”، نقلت عن مصدر لصحيفة “الجريدة” الكويتية قوله إن حسن نصر الله يعتزم الانتقال إلى إيران وربما يكون اتخذ هذه الخطوة بالفعل.
ليؤكد المصدر أن “أجهزة الاستخبارات في لبنان ودول الجوار رصدت اتصالات مشفّرة واسعة النطاق بين الحرس الثوري وحزب الله بخصوص هذه الخطوة”.. وهي خطوة تسمح ببقاء نصر الله في طهران لفترة غير محددة.