تتعالى في تركيا هذه الأيام، أصوات النقاشات المتعلقة بملف اللاجئين السوريين، الذي يتمايل كالأغصان مع رياح حكومة حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، والمعارضة التي تدعو إلى ترحيلهم لبلادهم، ليتصدر السوريون المشهد الداخلي بشكل يأخذ منحى تصاعديا مقلقا، فيما تعود أشباح التهجير لمطاردة السوريين، في ظل حملات كراهية تشمل دعوات لطردهم إلى بلادهم، بعد إرسال بلديات تركية عدة رسائل نصية إلى سوريين تعلن فيها استعدادها لنقلهم إلى الحدود على نفقتها، ومنح مبالغ مالية للأسر التي تقرر العودة.
ويؤكد مراقبون أن حال اللاجئين السوريين في تركيا ليس على ما يرام، بعد حصول أخطاء قام بها سوريون، وجرى تضخيمها من المعارضة وبعض وسائل الإعلام والتواصل التركية، مؤكدين أن هناك إشارات قوية إلى أن الوضع سوف يتفاقم، ويزداد سوءا في الفترة المقبلة.
قرارات غير مسبوقة..
أغلقت وزارة الداخلية التركية مطلع الشهر الجاري، حدود العاصمة أنقرة أمام تسجيل الحماية المؤقتة، إضافة إلى ولايتي إسطنبول وإزمير، كما أعلنت البدء في تحديد هوية السوريين الذين يتمتعون بصفة الحماية المؤقتة في أنقرة، والمسجلين في مقاطعات أخرى لإعادتهم إلى المقاطعات التي سُجِّلوا فيها، مشيرة إلى أن إجراءات إقامتهم في تلك المقاطعات ستكون متبوعة بالتزام الإخطار.
كما أكدت الداخلية التركية مواصلة احتجاز المهاجرين الذين ليس لديهم وضع حماية، أو تصريح إقامة من قبل وحدات إنفاذ القانون في مراكز الترحيل من أجل تنفيذ إجراءات العودة، وتطبيق جميع أنواع العقوبات فيما يتعلق بأماكن العمل التابعة للأجانب الذين ليس لديهم لائحة ضريبية، حسبما نقلت وسائل إعلام محلية.
وكشفت مصادر مطلعة، أن المجلس التنفيذي لحزب العدالة والتنمية الحاكم، ناقش قبل أيام، إعادة السوريين في المدن الكبرى إلى المدن المسجلين فيها، وإرسال المهاجرين الذين لا يحملون إقامة أو بطاقة حماية مؤقتة إلى مخيمات في المناطق الحدودية، فضلاً عن إيقاف كل معاملات التسجيل الجديدة للحصول على بطاقة الحماية المؤقتة (الكملك) في المدن الكبرى، وتطبيق عقوبات على أماكن العمل التابعة لطالبي اللجوء الذين يعملون من دون إذن، أو ليس لديهم ترخيص.
بالتزامن مع ذلك، بدأت السلطات التركية قبل أيام حملات تفتيشية على منازل السوريين في العاصمة أنقرة، لتأكيد قيود أرواح السكان وترحيل المخالفين إلى خارج البلاد، بالتوازي مع مطالبات معظم أصحاب المنازل الأتراك اللاجئين إخلاء منازلهم ل في غضون ثلاثة أيام.
ورقة ضغط ومراوغة..
يرى الصحفي “خالد الحسين” أن هذه الإجراءات “غير المسبوقة” التي اتخذتها السلطات التركية مؤخرا، ليست أكثر من محاولة لإرضاء المعارضين وكبح جماحهم وإيقاعهم في الشارع، مضيفًا أنه كان من الأفضل، لحل قضية اللاجئين جذرياً من خلال تسليم ملف اللاجئين في تركيا، للمفوض السامي للأمم المتحدة كما هو الحال في لبنان والأردن والعراق، ودور المفوضية الإنساني في حماية اللاجئين ومنح اللجوء للكثيرين.
ويقول الحسين، “إننا نواجه الآن مشهدًا ضبابيًا لملايين السوريين المظلومين الذين فروا من الظلم والمعاناة والاستبداد، وهم اليوم يشربون الكأس المرير على أيدي عنصريين في تركيا، لذلك يجب سحب بطاقة اللاجئ من الحكومة والمعارضة وتسليمها للأمم المتحدة فوراً، يكفيهم لحم ودم لما عانوه من ظلم وقتل ودمار واستبداد في بلادهم.
ويكشف “الحسين”، لمرصد “مينا” عن وصول رسائل إلى السوريين في إسطنبول تطالبهم بالعودة إلى بلادهم من دون تحمّل أي أعباء مالية، عبر نقلهم على نفقة البلدية، مشيرا إلى أن هذه الرسائل ليست جديدة، لكنها تكشف تصاعد الحملة، مؤكدا أن التسجيل مفتوح في البلدية لمن يريد العودة في ظل إغراءات تتضمن مبلغاً مالياً.
الناشطة الحقوقية “سلمى معروف”، تختلف مع ما جاء به “الحسين”، على اعتبار أن القرارات الحكومية التركية ليست أكثر من محاولة لإرضاء المعارضين وكبح جماحهم وإيقاعهم في الشارع، مشددة على ضرورة إدراك المواطنين الأتراك أن وجود السوريين حالة قانونية يجب التعاطي معها من منظور الالتزامات القانونية للدولة بموجب المواثيق الدولية الموقعة، وبموجب الاتفاقية المبرمة بينها وبين الاتحاد الأوروبي، وأنها بموجب هذه الالتزامات القانونية لا يمكنها ترحيل السوريين إلى بلدهم قبل انتهاء الصراع، ووفق حل سياسي يضمن لهم عودة آمنة وكريمة وطوعية.
وترى “معروف” أنه يجب على الحكومة التركية أن تعمل على تعزيز هذا الإدراك لدى المواطنين الأتراك، إن أرادت وقف الحملات ضد السوريين، بدلا عن الرضوخ للابتزاز الشعبوي الذي يشجع العنصريين على ممارسة المزيد من التحريض، وعليها مواجهة الخطاب العنصري بالأدوات القانونية للحد من ارتداداته المجتمعية.
مناكفات سياسية..
منذ أشهر، يطالب كبير أحزاب المعارضة في تركيا حزب “الشعب الجمهوري” ومن خلفه أحزاب المعارضة الأصغر بضرورة إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم معتبرا أنهم بمثابة عبء اقتصادي على البلاد والعباد، بل وذهب إلى أكثر من ذلك متحدثا عن خطة جاهزة أعدها حزبه تتيح إعادة اللاجئين خلال عامين فقط، وتعهد بأنه في حال وصوله إلى كرسي الرئاسة عام 2023، فإن هذا الأمر سيكون أول عمل يقوم به.
هذا التجاذب السياسي لم يقتصر فقط على كبير أحزاب المعارضة بل خرج شخصيات وأحزاب معارضة أخرى تسير على نفس المنوال متعمدة تصدير الملف ليبقى في الواجهة السياسية باستمرار ومنهم “ميرال أكشنر” زعيمة حزب “الجيد” والملقبة بالمرأة الحديدية التي تعهدت في حال انتخابها لرئاسة البلاد بالشروع فورا في عملية إخراج السوريين من البلاد وإعادتهم إلى بلدهم بل وباستعادة حي “الفاتح” في “إسطنبول” للأتراك في إشارة إلى التواجد الكبير للسوريين فيه، مؤكدة أن ترحيل السوريين سوف يضمن السلام والرفاهية للشعبين السوري والتركي.
وفي السياق ذاته، ذهب رئيس بلدية مدينة بولو، “تانجو أوزجان” إلى حد أنه طلب فرض رسوم قدرها عشرة أضعاف على فواتير المياه الخاصة بالأجانب، في إشارة إلى اللاجئين السوريين.
ومع احتدام النقاشات والاستقطابات بين الأحزاب السياسية، بدأت حالة الرفض الشعبي التركي تأخذ طابعا اجتماعيا متوترا تجاه السوريين، ارتفع في ظل موجة كبيرة من الاعتداءات العنصرية ضدهم ليتحول مصير السوريين إلى شعلة نار ألهبتها أكثر حادثة مقتل شاب تُركي يسمى “أميرهان يالتشن” على يد شخص سوري في العاصمة “أنقرة” قبل أيام لتصاحبها أعمال عنف طالت مئات اللاجئين السوريين في مختلف المناطق التركية.
وبحسب الاستطلاعات الأخيرة، فقد وصلت نسبة الرفض التركي للاجئين السوريين إلى 67 بالمئة بعدما كانت نحو 57 بالمئة عام 2016.
حزب العدالة والتنمية، يحمل المعارضة التركية الممثلة بحزب “الشعب الجمهوري”، مسئولية شحن وتوتير الأوضاع وتشكيل رأي عام رافض وساخط ضد الوجود السوري بالبلاد بسبب الخطاب السياسي المعادي الذي يتبناه والذي لا يخلو من مبالغة غير بريئة لإحراج حكومة “إردوغان” وتأليب الشعب عليها بحجة سوء إدارتها للملف السوري مع قرب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية.
في هذا السياق، يقول المحلل السياسي والمختص في الشأن التركي، “عمر نافع”، إنه “إذا كانت المعارضة ترى أن اللاجئين السوريين هم المسؤولين عن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها بلادهم فإن سبب ذلك هو مواقف الحكومة الداعمة علنا للسوريين، خاصة التصريحات التي تصدر باستمرار من رأس الهرم التركي أن تركيا صرفت على اللاجئين السوريين أكثر من 40 مليار دولار دون ذكر المليارات التي تقدمها دول الاتحاد الأوروبي والمنظمات الأممية والدولية.
ويرى “نافع” أن هذه التصريحات غير المسؤولة ساهمت هي الأخرى بشكل مباشر في تصاعد الغضب الشعبي التركي ضد اللاجئين السوريين في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد خلال الأعوام الثلاثة الماضية.
كما يؤكد أن هذا الخطاب لا يندرج ضمن المناكفات السياسية بين أحزاب المعارضة والحزب الحاكم فحسب، معتبرا أن المعطيات تشير إلى أن التصاعد في طرحه قد يؤدي إلى مؤشرات خطرة، لها أبعاد نفسية تكمن في إجبار السوريين على العودة إلى بلادهم، وبذلك يبدو واضحا أن الاحتقان الداخلي أخرج قضية الوجود السوري في تركيا من إطارها الإنساني إلى الإطار السياسي.
وحسب آخر رقم لهيئة الإحصاء، يبلغ عدد السوريين المقيمين على الأراضي التركية 3 ملايين و645557 شخصاً، منهم 47.5 في المائة دون الـ18 سنة، ويبلغ عدد النساء والأطفال من بينهم نحو مليون و583373 شخصاً.
كما يظهر آخر مسح قدمه مركز أبحاث الهجرة إلى البرلمان التركي حول اللاجئين السوريين، أن معظمهم سعداء في تركيا، وأن أكثر من نصفهم على استعداد للبقاء بدلاً من العودة إلى وطنهم، بعد أن كانت هذه النسبة لا تتجاوز 16.7 في المائة خلال سنوات اللجوء الأولى.
لكن بحسب المسح ذاته، أكد كثير من الأتراك الذين كانوا في السابق ينظرون إلى السوريين على أنهم ضحايا، أنهم صاروا يرونهم عبئاً يتزايد على المجتمع.