المدخل
رغم أن كورونا بدأ كمسألة صحية، من حيث أنه فيروس يصيب الجسم البشري بمقتل، ما يستوجب إيجاد علاج له، إلا أن تداعياته تخطت الجانب الصحي بكثير ليصبح فيروساً عالمياً أممياً يصيب الجسم العالمي كله، إذ للمرة الأولى ربما في تاريخ العالم تبدو البشرية بأسرها مهددة، حيث يواجه البشر بجميع انتماءاتهم، فقراء، أغنياء، بيض، سود، ملونيين، مسيحيون، مسلمين، هندوس، قوميات مختلفة، تبدو كلها وكأنها اختلافات وتنوعات ذوت أمام الإنسان نفسه، هذا الإنسان الذي بات مهدداً في وجوده، والذي يواجه نتاج ما فعله في العالم، وكأن الفيروس يأتي كنوع من القصاص لأفعال البشرية كلها، كأنه يأتي ليحاسب حضارتنا بأكملها، حضارة القرن العشرين التي توغلت وابتعدت وكشفت في الطبيعة والإنسان والعلم، حتى بدا أنها بلغت الكمال أو اقتربت منه، فيما تسقط اليوم دفعة واحدة أو نكتشف مدى هشاشتها.
هذا الاكتشاف الذي يبدو لنا حتى اللحظة بمثابة الصدمة التي لا نزال تحت تأثيرها، وليس أدل على مفعول الصدمة من هذا التخبط العالمي الذي نشهده وهو تخبط يبدأ من المجال الصحي نفسه حيث المعلومات المتضاربة في مجال كنا نظن أنه الأكثر احتفاء بالحقيقة والقيمة العلمية، إلى تخبط الحكومات والتحليلات السياسية والفكرية والفلسفية التي عادت لتنقسم مجددا، حول ما يمكن أن يفضي إليه عالمنا بعد هذه الأزمة الكونية، والتي تكثر التشابيه حولها، بين من يشببها بالطاعون أو الانفلونزا الإسبانية في المجال الصحي، وأحداث ١١ أيلول/ سبتمبر أو انهيار الاتحاد السوفياتي في المجال السياسي، فيما يذهب بعضهم أبعد من ذلك، خصوصا في الشأنين الفلسفي والديني الذين عادا للتجادل حول تفسير ما يحدث ودلالاته.
رغم أنه يبدو من الحكمة والتبصر عدم السعي لإطلاق الأحكام والتصورات والأفكار التي تتنبأ بمصير عالمنا، خاصة أننا إزاء ظاهرة متمددة من جهة، وتحصد الأرواح وتفتك بالدول والسياسة والاقتصاد من جهة أخرى، بما يصيب البشر بالهلع والخوف، هذا الهلع الذي قد يؤدي إلى المزيد من التفكير الانفعالي وبالتالي التنبؤات الانفعالية، والتي قد تصب النار على زيت الموت والهلع، والذي بات يتكاثر يوما بعد يوم.
ولكن رغم ذلك، بل ولأن الأمر كذلك، لن تتوقف البشرية عن التفكير والتنبؤ والتحليل، فمن جوف الهلع والخوف ستخرج الكثير من الأفكار، الانفعالية المتوترة والتي نشهد منها الكثير حالياً، والهادئة الساعية للفهم والتحليل والتفكر في مصير البشرية أجمع، وهي القليلة اليوم، ولكن المتوقع أن تصبح أكثر مع مرور الزمن، علماً أن التفكيرين في نهاية المطاف مرتبطان بتطور المرض نفسه وأثاره التي يحصدها.
المجتمع الدولي مع وأمام كورونا
نحن أمام فيروس يحول العالم بين ليلة وضحاها، ولعل مشهد إيطاليا وإسبانيا يعطي دليلاً واضحاً كدول، ومشهد المطارات التي تغلق تباعاً والحدود التي تغلق تباعاً، يوضح لنا أننا أمام مشهد يخرج من أفلام الكوارث التي كانت تبدو لنا بمثابة ترفيه لأصحاب مزاج أفلام الرعب والخوف.
هذا الخوف الذي يزيده التفكير الأول انفعالاً وهلعاً وتوتراً بما ينعكس سلباً على البشر وتصرفاتهم، والتي قد تدفعهم في الطريق الخاطئ، حيث نستطيع أن نتلمس منذ الآن بعد سمات هذا التفكير الذي يفكر بطريقة جزئية تعكسها مفردات الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية واقتصاد السوق والخصخصة والدولة.
وكأن الفيروس جاء ليزيد من تمترس هؤلاء خلف أيديولوجياتهم وأفكارهم المغلقة، وهو أمر يحصل بالمناسبة، مع كل أزمة تصيب العالم، فمع الأزمة الاقتصادية عام ٢٠٠٨ انقسم هؤلاء أنفسهم حول نفس المفردات والمصطلحات، ومع ١١ أيلول/ سبتمبر فعلوا نفس الأمر، وهكذا، ما يعني أنه ينبغي إسقاط هذا التفكير الرغائبي من حساباتنا، لأنه، ليس فقط يمكن أن يكون مضللاً وقاتلاً، بل لأنه يصدر من موقع قاصر عن مقاربة الأزمة في شموليتها، فهو يعترف أولاً بعالمية الأزمة ليعود ويقسرها داخل سرير الإيديولوجيا أو السياسية، كل بحسب موقعه الخاص به، غير منتبه إلى المدى العميق والواسع الذي بلغته الأزمة الكونية، وهو عميق ليس بالمعنى السياسي والاقتصادي والصحي، بل بالمعنى الوجودي الأعمق، أي معنى وجود الإنسان واحتمالية فنائه، إذ صحيح أن الإنسان في وجوده الكامل والنهائي ليس مهدداً بالفناء اليوم، إلا أن الأزمة التي نعيشها اليوم وضعت هذا السؤال (سؤال وجود الإنسان واحتمالية فنائه) على طاولة البحث كممكن قابل للحدوث مستقبلاً، بما يعني في نهاية المطاف من ضرورة تغيير مقارباتنا وأسئلتنا وطريقة تفكيرنا حول ما يحصل، إذ لا بد لتفكيرنا وأسئلتنا أن تفكر بمصير الإنسان ككل، وتنطلق من مسألة مصير وجوده في هذا الكون، بعيداً عن التفكير الأيديولوجي والسياسي الضيق الأفق والذي نشهده اليوم، والذي لم تخلو منه حتى الفلسفة التي من المفترض أن تطلق أسئلة الوجود، فيما نراها اليوم تنحط إلى مستوى الأيديولوجيا لدى “الفلاسفة” الموسميون، والذين ينشطون مع كل أزمة، بل أبعد من ذلك، يبدو حالهم كحال اليمين الذي لا ينشط إلا في الأزمات، دون أن يعدم المرء وجود من يفكر بأحوال العالم من منظور فلسفي عميق أيضا، وعلى هؤلاء يمكن أن تعول البشرية، وأيضا على صحوة الجماهير التي نأمل أن تكون تلك الكارثة حافزا ودافعا للدفع باتجاه تغيير بوصلة العالم نحو الأفضل، هذا إن قدر لنا الخروج من هذا المأزق الذي لا يستطيع أي أحد أن يتنبأ بنهايته بعد، لأنه قدر قائم ومستمر حتى هذه اللحظة.
في توصيف الظاهرة الفيروسية
لقراءة أية مسألة، نقول قراءة وتوصيف ومحاولة فهم، وليس تحليل، نحتاج أولاً إلى محاولة توصيفها، وهذا التوصيف بدوره اليوم، قابل للتغير والتبدل غداً، بما يعني أنه ينبغي لتوصيفاتنا أن تتغير مع تغير الظاهرة المتحولة، ومن هنا تبرز لنا صعوبة المسألة الملقاة اليوم على عاتق العالم، فما نقوله اليوم قد يبدو غدا خطأ، وعلينا أن نمتلك الجرأة دائما لتغيير مقارباتنا ووصفنا لما يحصل، حين تتغير الوقائع على الأرض، وهي وقائع قد تكون أكثر تحولاً وتغيراً من قدرتنا على متابعتها، نظراً لأن التحولات والتغيرات تحصل بأسرع مما نتصور، وهنا علينا أن نتحلى بالمرونة وسرعة رد الفعل في قراءة هذه التحولات، ليكون توصيفنا أفضل.
والآن استناداً لما نراه ونقرأه ونعرفه عن هذا الفيروس، فإننا نستطيع أن نوصفه بما يلي، علما أن توصيفاتنا ذاتها، تعكس بالضرورة مواقعنا ومواقفنا الفكرية والإيديولوجية والمعرفية والعلمية، حتى ونحن ندعي وقوفنا على أرضية العلم والمعرفة، ما ينبغي أيضا الانتباه إلى مواقف هذه التوصيفات وتنويعاتها، ومع ذلك لا يمتلك المرء إلا شرف المحاولة التي لا بد منها، مع ضرورة التنبيه أيضاً، إلى أنه قد تكون هناك توصيفات ثابتة وأخرى متغيرة، وهي:
أولا: نحن أمام ظاهرة كونية، تشمل العالم بأسره، دولاً وأفراداً، إذ لا يوجد فرد أو دولة بمنأى عن هذا الفيروس الذي انتقل بين مشرق الكرة ومغربها، جنوبها وشمالها، خلال فترة قصيرة جداً، بما يكشف من جهة عن تقارب المغامرة البشرية من بعضها من جهة، على مستوى التوصيف والجوهر، فيما هي مبتعدة كلياً عن هذا التوحد على مستوى التحليل والبحث عن علاج، حيث تسود التفرقة والتوحش والسعي لاحتكار الدواء رغم كل شيء. وكأننا أمام عولمة من نوع مختلف، عولمة عكسية إن صح التعبير.
ثانيا: شمولية المجالات التي تصيبها، فنحن أمام ظاهرة فيروسية مرضية ترخي بظلالها على كل مجالات الحياة، فلم تقتصر على المجال الصحي الذي خرجت منه، بل امتدت إلى السياسة والاقتصاد والاجتماع والتجارة، فزرعت الرعب والفوضى في كل هذه المجالات.
ثالثا: نحن أمام تهديد شامل، إذ للمرة الأولى، ربما في تاريخ الكون، نشهد تهديداً يهدد الكرة الأرضية بأكملها، تهديداً يحمل في داخله، كما تحدثنا أعلاه، سؤال مستقبل الوجود البشري على هذه الأرض، وهو ما دفع البعض لتوصيفه ب “الحرب”، وهي الصفة التي تبدو برأينا قاصرة عن الإحاطة بما يحمله هذا الفيروس داخله من تهديد للمغامرة البشرية، وهو تهديد كامن، بمعنى أنه حتى لو قيض للبشرية أن تخرج من هذا المأزق الكوني، فإن السؤال الذي بات مطروحا اليوم: ماذا لو تكرر بشكل أفدح في المستقبل؟ ما الضامن؟ خاصة أن ما كشفه هذا الفيروس من أهوال وفضائح وهشاشة، يفوق التصور، وهو ما سيكون محتوى فقرتنا التالية.
ما كشفه الفيروس
إن كان هناك من إيجابية تحسب لهذا الفيروس الذي يهدد وجودنا البشري، فإنها تكمن في حجم ما كشفه عن هشاشة عالمنا ووجودنا بحد ذاته، وهي هشاشة بدت من الوضوح بحيث أن المفاجأة لم تغادرنا للتو، وستبقى تلازمنا لوقت طويل جدا، وهنا يكمن الأمل، إن خرجنا يوما من هذا الكابوس، بأن يكون هذا بداية صحوة عالمية لإنقاذ كوكبنا الأرضي ومغامرتنا البشرية.
أولا: هشاشة القطاع الصحي:
كانت البشرية في الشرق والغرب، لدى الدول الفقيرة والغنية على السواء، تتبجح بقوة قطاعاتها الصحية، وأن حياة الإنسان، حتى في الدول الفقيرة لم يعد رهن الموت، إذ حتى في هذه الأخيرة، ورغم قلة إمكانياتها الصحية وضعف مواردها، فقد كان شبح الموت أقل صحياً، بمعنى أن الناس في البلدان الفقيرة كانت تموت بفعل الجوع والنهب والفساد أكثر مما تموت بفعل تراجع القطاعات الصحية، التي كانت حققت تقدما، ولو بالحد الأدنى، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، فيما نحن اليوم نرى أن هذا الذي كنا نظنه تقدما وجاهزية بات في مهب الريح، وأنه ضعيفا وهشا أكثر مما نتصور، هذا يبدو لنا في البلدان القوية والتي كان من المحتمل لها أن تقوم بمهمة قيادة العالم، فيما نراها تعجز اليوم عن إنقاذ مواطنيها، والتي وصلت حد المفاضلة بين أي شخص يعيش؟ حيث وجدنا أن النظامين الصحي الإيطالي والإسباني يتهاويان خلال أسابيع معدودة، نقول أسابيع وليس سنوات، من كان يتخيل هذا؟ وهذا يحدث في البلدان التي طالما قدمت نفسها باعتبارها حققت لمواطنيها أفضل ما يمكن تحقيقه، فيما الجنة هذه تتحول إلى جهنم، أو هي في طريقها لأن تصبح ذلك، حيث تعجز المشافي عن استقبال الناس ويموت العجزة في أسرتهم بعد هروب طواقم الرعاية. هذا الذي كشفته مسألة كورونا، هنا سيلقي بظله على السياسة والاقتصاد والعلم والنظم السياسية، خاصة أن مسألة الصحة، طالما كانت مسألة حيوية وراسخة في طبيعة نظامي العالم الذين حكما فترة الحرب الباردة، ولا زالت مسألة مطروحة بعد انهيار هذا العالم، وهو ما نشهده حاليا في السجال الذي يدور حولها في الانتخابات الأميركية.
ثانياً: هشاشة العلم وقصوره من جهة وارتهانه للمال من جهة أخرى:
أعادت مسألة الفيروس، تسليط الضوء على مسألة العلم، حيث قدمت الحداثة نفسها باعتبارها انتصاراً مطلقاً للعلم بوجه الدين والغيبيات، باعتبار أن العلم هو وحده القادر على تأمين حمايتنا وكشف أمراضنا. ورغم أن ما بعد الحداثة التي جاءت بعد الحداثة لتعيد للغيبيات والجانب الروحاني من الأنسان مكانته، إلا أنها أبقت على المكانة التي يحتلها العلم، فهي لم تغليه وإنما أضافت إلى جانبه ما أقصته الحداثة، بما يجعلنا نقول أن ما بعد الحداثة في جانب منها، هي مجرد كسر للحدود التي وضعت الحداثة نفسها داخلها. ولكن هذا العلم الذي بدا سيدا مهابا فوق الجميع، باعتباره وحده من يملك الحلول دائما، يقف اليوم عاجزاً أمام مجرد فيروس، يفتك بكل شيء، بالجسم البشري والاقتصاد والسياسة والدول، حيث تقول أفضل التنبؤات أن اكتشاف لقاح لهذا الفيروس يحتاج أشهراً، بما يعني موت الآلاف من البشر والدخول في كساد اقتصادي وسياسي وتحولات لا نعرف إلى أين يمكن أن تصل بنا حتى الأن.
أيضا كشفت مسألة العلم مسألة أخرى تتعلق بعلاقة العلم مع رأس المال ومدى ارتهانه له، حيث تقول الدراسات أنه كان من الممكن اكتشاف لقاح لهذا المرض حتى قبل ولادته، بمعنى أنه كان من الممكن علمياً وصحياً، منذ ضربت فيروسات سارس والانفلونزا بأنواعها، البشر، أن يتم متابعة الأبحاث لوضع احتمالات للطريقة التي من الممكن أن تتطور إليها هذه الفيروسات، ليتم استباق حدوث هذه الكارثة، إلا أن رأس المال والدول أحجما عن الاستثمار في أمر كهذا، لعدم جدواه الاقتصادية والربحية، الأمر الذي يكشف هشاشة حضارتنا ولا إنسانيتها من جهة، ومدى ارتهان العلم الذي يقدم بوصفه أيقونة هذه الحضارة للمال والمصالح، وهذا لا ينعكس فقط على فيروس كورونا، بل بات يطلق أسئلة أخرى حول مدى العجز عن اكتشاف أدوية للإيدز والسرطان، هل حقاً عجزوا عن ذلك أم أن مصالح رأس المال وشركات الأدوية تقتضي غير ذلك؟
ثالثا: الدولة ومفهومها:
مما كشفه الفيروس أيضاً، ما يتعلق بمسألة الدولة وقضاياها، حيث كان يبدو سابقاً أن الدولة بما هي حدود وكيان له سيادة تذهب نحو الاضمحلال، حيث باتت العولمة والسعي نحو التكتلات الاقتصادية تدفع نحو تفكيك الدولة تدريجياً لصالح الدخول في تكتلات أوسع. إلا أن رد الفعل الأول تجاه محاربة الفيروس، بيّن مدى قوة الدولة وحاجتها وترسخها، حيث كانت أول الحلول المفكر بها بمواجهة الفيروس هي إغلاق الحدود والمطارات واكتفاء كل دولة بمعالجة مصابها. وإذا كان الأجراء المتخذ هنا قد يكون ضرورة صحية علمية تمليها الطريقة التي ينتشر بها الفيروس بما يجعل من تلك الإجراءات محاولة لحصاره، فأن الركون لهذه الألية يصيب البشرية في مقتل، من حيث أنه يستحيل القضاء على الفيروس ما لم تتكاتف الدول مع بعضها البعض، ليس لأن في هذا تعميق الأزمة الاقتصادية التي تقوم على تبادل السلع وفتح الحدود التجارية، بل لأنه يقضي على أمال البشرية وما حصل من تطور إيجابي خلال مسارها، ونعني بذلك انفتاح العالم على بعضه، وسعيه نحو تحقيق اندماج عالمي ما، والذي يمثل الاتحاد الأوروبي أحد النماذج الحية عليه، من حيث أنه يمثل مسألة الانتقال من الدولة إلى ما بعدها، إلا أن ما نشهده اليوم هو انغلاق الدول والتخلي عن القيام بدور إنساني طالما مثله الاتحاد الأوروبي، حيث انغلقت كل دولة على مصابها، فيما الدول الفقيرة في الاتحاد تعجز عن إيجاد حلول وحدها وبينما الدول الغنية تجد حلولها التي لا يعرف بعد إن كانت ناجعة، وهو الأمر الذي دفع الكثيرين لأن يتوقعوا أن مستقبل الاتحاد الأوروبي بات فعلا على المحك، خاصة بعد انسحاب بريطانيا وصعود التيارات اليمينية الشعبوية مؤخرا، وهو الأمر الذي شكك بالاتحاد الأوروبي فيما أزمة اليوم تطلق تحذيرا حقيقيا ما لم يثبت الاتحاد الأوروبي عكس ذلك.
رابعاً: كشفت مسألة فيروس كورونا وتداعياتها أيضا عن غياب نظام عالمي فعال
البشرية تبدو منذ فترة ما وكأنها بلا قيادة، خاصة بعد أن غابت واشنطن عن مركز القيادة بعد سياسة الانعزال التي اتبعها دونالد ترامب، والذي لا يفكر حتى اللحظة إلا بشؤون ضيقة حتى على رئيس دولة، فما بالكم بقيادة العالم، وذلك كله وسط عجز في مؤسسة الأمم المتحدة التي تضربها البيروقراطية والفساد واللافعالية، ووسط تنافس ضاري على قيادة العالم، وتوقع من كثيرين بأن الصين قد تكون هذا القائد، حيث قال أحد المحللين: “أظهرت هذه الأزمة الصين متحدية قوية للزعامات الغربية التقليدية التي أبانت عن أنانيتها وجشعها، وهي اليوم أمام تحدٍّ كبير للظهور متزعمة لنظام عالمي جديد، وقوة ذكية وناعمة أقل ظلما ووحشية، للحديث عن بناء رؤية استراتيجية جديدة لعالمٍ جديدٍ يُنصف نحو ستة مليارات نسمة تمثلها دول العالم غير الغربي، وينهي عقودا طويلة من التعالي الغربي والاستغلال الإمبريالي الذي فرضته على باقي شعوب العالم. ولكن ظهور الصين زعيمة جديدة لعالم جديد، أو إذا أرادت هي أن تلعب دور الزعامة في عالم ما بعد أزمة كورونا، لا بد أن يبدأ بدعمها اقتصاد الدول التي ستخرج منهارة من هذه الأزمة، فالزعامة لا بد لها من ثمن، مثل الذي دفعته أميركا بعد الحرب العالمية الثانية فيما سمي “مشروع مارشال” الذي أعاد بناء دول أوروبا الغربية التي دمرتها الحرب”، فهل تفعل الصين ذلك؟ وهل تمتلك القدرة على قيادة مشروع مارشال عالمي؟
يبدو هذا الكلام ضرباً من المستحيل، ليس لجهة إمكانيات الصين في فعل ذلك حقا، بل لأنها تتجاهل الجانب الأهم من المسألة، وهي أن النموذج الصيني لا يمكن أن يكون مستقبل البشرية لجهة أنه نموذج شمولي دكتاتوري تسعى البشرية للتخلص منه لا لتعميمه وعولمته، ناهيك عن دور الصين نفسها في تصدير الوباء بسبب استبداديتها هذه وعدم السماح بتداول المعلومات وكشف المرض الذي ذهب ضحيته أول الأطباء الصينين الذين حذروا البشرية من أمر كهذا، ما يعني أن نجاح الصين في احتواء المرض في أرضها، لا ينبغي أن يمنعنا من رؤية الصورة كاملة، وهي صورة باتت أبعد من الصين نفسها، حيث تحولت المواجهة بين نظامين، نظام رأسمالي استبدادي مثل الصين وروسيا وإيران ونماذج ليبرالية ديمقراطية تحتل مسألة الحرية الفردية جانبا هاما فيها، حيث يقدم البعض الأمر على أنه صراع بين النموذجين مع خطأ يعمم مجددا بأن الصين هي دولة اشتراكية في حين أنها من رأسمالية دولة، حيث بتنا نشهد من يتنبأ بأن ما يجري هو نهاية الرأسمالية وولادة نوع من الشيوعية الجديدة وفق ما يقول سلافوي جيجيك، أن “وباء كورونا سيكون هجومًا “بمثابة تقنية انبجاس القلب بالضربة الخماسية” على النظام الرأسمالي العالمي، إشارة إلى أنه لا يمكن لنا القيام بالأعمال بالطريقة التي نقوم بها الآن، وما نحتاجه هو هذا الانتفاض الراديكالي”، في حين يبدو لنا فعلا أن كورونا كشف لنا أزمة النظامين، فلا النظام الصيني يمكن أن يكون مستقبل العالم ولا النظام الغربي الديمقراطي حيث بانت عيوبه وكوارثه، وهو ما دفع المفكر الأميركي نعوم تشومسكي للقول في تعليقه على مسألة كورونا٬ “الأمر الذي يبرع فيه قادتنا خلال الأربعين عاما الماضية هو صب الأموال في جيوب الأثرياء والمسؤولين التنفيذيين للشركات مع ترك كل شيء آخر يتحطم”، ما يعني أن النظام الغربي الديمقراطي نفسه في أزمة، لا تني تتكرر. ولكن أيضا علمتنا الرأسمالية أنها قادرة على تجاوز أزماتها فهل ستفعل هذه المرة، أن سيتجه الأمر نحو ولادة نظام عالمي جديد؟
لا شك أن لا أحد يعرف حتى اليوم كيف يمكن لمستقبل العالم أن يكون، ولكن المؤكد، وهذا ما كشفته أزمة كورونا أن النظام بشكله الحالي القائم على سيادة اقتصاد السوق والديمقراطية الغربية بشكلها الحالي المتخلي عن قطاعات الصحة والتعليم وعدم تدخل الدولة لا يمكن أن يستمر، حيث أن نظرية “اليد الخفية” لأدم سميث عاجزة عن قول أي شيء هنا.
خامساً: رغم أنه منذ استلام ترامب قيادة الولايات المتحدة الأميركية والسياسة باتت عارية، من حيث أنها انحطت إلى مستويات لم يسبق لأحد أن انحط إليها
إن مسألة كورونا جاءت لتكشف حجم الانحطاط الذي تمارس السياسة به، وهو انحطاط بلغ تجليه الكامل في صراع الدول والسياسيين على تبادل الاتهامات أولاً، وفي كم العنصرية الممارسة ثانياً، وفي الصراع اللاإنساني على سعي كل دولة على الوصول إلى لقاح عالمي للمرض لإيجاد علاج له، لا لتعميمه بل لاحتكاره بغية تحقيق الأرباح العالمية.
سادساً: “الطبيعة هي بيت الإنسان”:
لم تبدو تلك المقولة جوهرية كما هي اليوم، حيث الإنسان الذي سخر الطبيعة وقواها لمصلحته دونا عن مصلحة الكائنات الأخرى، يكتشف اليوم كم من الخطايا ارتكب، حيث أن ظهور الحيوانات في الشوارع والغابات وبين البيوت وداخل المدن، وذلك بعد انكفاء الإنسان إلى بيته، بل قل هروبه، يكشف حجم تعدينا على بيوت هذه الكائنات وحيواتها، ليذكرنا الأمر بكوارثنا الأخرى، مثل الاحتباس الحراري والتصحر وانقراض الحيوانات وتراجع التنوع البيئي وغيرها من الكوارث التي أحدثها الأنسان في الطبيعة، وكأن الطبيعة تنتقم من نفسها، فهل سيكون الأمر محطة لتقف البشرية مع ذاتها وتتأمل ما فعلت لتضع خطة منهجية لإصلاح ما حدث؟
سابعاً: الطريقة التي تجلس بها الناس في بيتها:
وما يطرح من حلول حول مسألة المراقبة، وما يجري من تحولات لجهة علاقات البيع والشراء والتي تتحول إلى الجانب الالكتروني عبر الأنترنت، وما يجري من تسويق عادات معينة وتقاليد عمل معينة، تشي بأن البشر قابلون للتطويع مثلما هم قادرون على المقاومة أيضا، فهل تنتصر القوى التي تعمم العزلة على قوى التواصل؟
الأمر يتوقف على مقاومتنا جميعا، ليس بعد انحسار المرض فحسب، بل منذ الأن، لمواجهة كل ما كشفته مسألة كورونا، والتي تحدثنا عنها أعلاه، فنضالنا ومقاومتنا هو من يحدد شكل عالمنا القادم لا التنبؤات ولا التحليلات التي يصب أغلبها في خدمة المهيمنين لا في خدمة القطاع الأكبر من البشر، الشركاء في هذه “المغامرة البشرية” كما يحلو لأمين معلوف أن يسميها.
المراجع:
(1): غرق الحضارات، أمين معلوف، دار الفارابي، بيروت.
(2): ما هي الديمقراطية؟، ألان تورين، دار الساقي، بيروت.
(3): نقد الحداثة، ألان تورين، وزارة الثقافة السورية
(4): اعتمدت هذه المقالة على عشرات المقالات والتحليلات التي تحدثت عن مسألة فيروس كورونا، والتي يتعذر ذكرها هنا لكثرتها.