رد على ملاحظات الأستاذ علي العبد الله بخصوص الدراسة المعنونة بـ (الإيديولوجيا القومية ومآلاتها – مراجعة أولية)
1 – حول المصطلح:
يبدأ الأستاذ علي نقده لفقرة جاء فيها: (إن “مفهوم القومية العربية لم يكن– شأنه في ذلك شأن سواه من الأيديولوجيات- نتاجاً علمياً أو خلاصة لجهد فلسفي محدد، بل هو جملة من العوامل والمحددات العرقية والثقافية والاجتماعية والدينية اجتمعت لتعمل – في سياق تاريخي محدد– على بلورة عقيدة جماعية كانت ضرورية –آنذاك– لمواجهة تحدّيات عدة كانت تواجهها الأمة العربية”)
ويصف الأستاذ علي الكلام السابق بقوله:
(قول يكشف عن نقص معرفي وتاريخي في آن. ذلك أن الفكر القومي انتقل إلى المنطقة العربية من أوروبا، وفي أوروبا نظريات، الفرنسية والألمانية، … الخ، تتحدث عن القومية بالاستناد إلى الإرادة أو التاريخ واللغة، أو وحدة المصير، وقد استقبلها العرب لحاجتهم إليها في صراعهم مع السلطنة العثمانية ولمواجهة عمليات التتريك، وعمل مفكرون عربا (عبدالرحمن الكواكبي 1849- 1903 في كتابيه “طبائع الاستبداد” و “أم القرى”، …………) ثم يتابع الأستاذ علي بسرد العديد من الجهود الفكرية والأحداث التاريخية المؤسسة للإيديولوجيا القومية.
ما يمكن تأكيده حول هذه المسألة هو أن الفهم الخاطئ سيؤدي – بالتأكيد – إلى أحكام خاطئة، ومكمن الخطأ هو أن الفقرة التي أقتبسها الأستاذ علي وجعلها موضع نقده لا تتحدث عن تاريخ نشوء الفكر القومي، ولا عن مساره التراكمي التاريخي، بل تريد التمييز بين (العلم والإيديولوجيا)،( إن “مفهوم القومية العربية لم يكن– شأنه في ذلك شأن سواه من الأيديولوجيات- نتاجاً علمياً أو خلاصة لجهد فلسفي محدد)، ولإيضاح هذه المسألة أؤكد أن ثمة فروقاً واضحة بين المصطلحين، فالعلم كما هو معلوم يمكّن العقل البشري من المضيّ في اكتشاف الكون وأسرار الطبيعة، بينما الإيديولوجيا هي موقف من الكون والأشياء، وكذلك العلم يقتضي الحيادية (على الرغم من نسبيتها)، كما يقتضي الدقة والكمية، بينما الإيديولوجيا هي منحازة بالضرورة، وتعتمد على التعبئة النفسية والحشد الشعبوي، ثم إن من مهام العلم المعرفة، والإيديولوجيا هدفها العمل، لا أريد الإسهاب في الحديث عن الفرق بين المصطلحين، ولكن ما أراه ضرورياً أن أهمية التمييز بينهما تكشف لنا فداحة أخطار الإيديولوجيا حين تتكلّس وتتحول إلى جملة من المسلّمات غير القابلة للتغيير، وهذا ما يجعلها عقبة أمام العقل البشري في سعيه نحو استشراف آفاق معرفية لا تخضع دوماً للرغبات الذاتية والقناعات المسبقة.
إن نفيَ صفة (العلم) عن الإيديولوجيا القومية (ليست نتاجاً علمياً) ليس أمراً مجانياً بالنسبة إلي، بل ذو صلة وثيقة بالنتائج التي خلصت إليها الدراسة، والتي تشير إلى عدم قدرة الفكر القومي على تجديد ذاته ومواكبة التطورات بكافة أشكالها، ولا شك ان من أسباب ذلك هو الركون للقناعات الإيديولوجية باعتبارها حقائق علمية أو مسلمات قارة لا تخضع للمراجعة وإعادة التفكير.
ولعل تتمة كلامي في الفقرة التي وقف عندها الأستاذ علي، والتي تشير إلى المعطيات والمحددات التي استلهمها الفكر القومي إبان تكوينه (محددات عرقية واجتماعية وتاريخية ودينية) تؤكد على المحتوى (اللاعلمي) للإيديولوجيا، وهذا لا يخص القومية العربية وحدها، بل شأن جميع الإيديولوجيات، بل كثير من الإيديولوجيات في العالم تأسست على مفاهيم ميتافيزيقية بحتة.
إذاً لم يكن المراد من هذه الفقرة، ولا من الدراسة برمتها، أن تؤرخ لنشوء الفكر القومي العربي، بل وجهة نظر في مآلات هذا الفكر، ولئن رأى الأستاذ علي في عدم ذكر الإسهامات الفكرية والأحداث التاريخية والسياسية المؤسسة للقومية العربية (نقصاً معرفياً) لديّ، وربما يراها فتحاً معرفياً لديه، فأؤكد له أنها (على الرغم من صحتها وأهميتها) موجودة في مجمل كتب التربية الوطنية لطلاب المرحلة الثانوية في المناهج السورية، وليست عصية على التنقيب.
2 – ما يأخذ الأستاذ علي- أيضاً – على الدراسة هو أنها حين تحدثت عن العوامل التاريخية التي واكبت تبلور الفكر القومي بدأت من نقطة متأخرة، أي من خسارة تركيا في الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس بيكو …، ومرة أخرى يصر الأستاذ علي على أن يجعل الغرض من الدراسة عرضاً تاريخياً لنشوء القومية العربية، ولئن كان من الصحيح أن مراحل نشوء القومية العربية كانت سابقة بعقود لاحتلال فلسطين والمشاريع النهضوية العربية والنزوع الشعبي الجارف نحو الوحدة العربية، إلّا أن هذه القضايا الثلاث قد أمدّت الإيديولوجيا القومية بشحن كبير، بل كانت أهم قضايا الفكر القومي حتى نهاية السبعينيات.
3 – يرى الأستاذ علي أنني حين أشرت إلى ولادة الدولة القومية في الغرب، قد قفزتُ ( عن معطيات تاريخية تأسيسية – انتقال الدولة من الشكل الامبراطوري إلى الشكل القبلي – الوطني – في العصور الوسطى، واتفاقية وستفاليا 1648 التي كرست الحدود الوطنية في أوربا …..)، ولو عدنا إلى إشارتي عن نشوء الدولة القومية في الغرب لوجدنا انها مذيلة بالكلام الآتي:
(ليس المقصود من وراء هذه الإشارة إجراء مقارنة بين نشوء القوميات في الغرب ونشوئها في الوطن العربي، فهذا سياقه العام خارج نطاق هذه الدراسة، إنما أردتُ التمييز بين تصورين اثنين لبناء الدولة القومية، الأول غربي اتجه نحو البناء العمودي للدولة، وآخر عربي اتجهت أنظاره نحو الأطياف الأفقية للبلاد العربية).
ولكن يبدو أن هذا التأكيد عن نفي المقارنة كله لم يشفع لي، أو أن الأستاذ علي لم يره، كي يسجل مأخذاً حول مسألة لم أكن معنياً بها في الأصل.
4 – كتاب (من التجزئة إلى الوحدة) هو للمفكر نديم البيطار وليس لعصمت سيف الدولة، والأستاذ علي محق بذلك، وهو خطأ بدر مني سهواً، ولكن هذا الخطأ لا يعطي حكم الأول للثاني لأن نديم البيطار مفكر معروف وأطروحته حول الإقليم القاعدة والشخصية الكارزماتية كانت محور كتاب كامل وليست مجرد رأي في مقال أو دراسة.
5 – من جملة ما ينتقده الأستاذ علي في الدراسة قولي: (لقد أخفق الخطاب القومي الرسمي – السلطوي – في ترجمة شواغله الثلاثة، الوحدة العربية، المفهوم الامبراطوري للدولة، قضية فلسطين، التي جعلها شعاراً له منذ بداية القرن الفائت). حيث يؤكد الأستاذ علي أن في بداية القرن الفائت لم يكن خطاب سلطوي قومي رسمي. وأنا أؤكد للأستاذ علي صحة كلامه حول عدم وجود خطاب سلطوي قومي رسمي آنذاك، ولكن ما أؤكده أيضاً أن الإخفاق في ترجمة الشواغل الثلاثة جاء محمولاً في خطاب الأنظمة العربية الرسمية التي استلهمت الإيديولوجيا القومية، مثلاً: سورية – العراق – مصر – ليبيا، هل أفلحت هذه الدول أو إحداها في تجسيد واحدة من القضايا المذكورة؟ أم انها مارست كل أشكال عهرها السياسي على المواطن العربي وأورثته شتى أشكال الاستعباد؟ ألم تكن الإيديولوجيا الرسمية لهذه الأنظمة هي ذاتها الإيديولوجيا التي عمل على تأسيسها القوميون الأوائل؟.
وبعد فإني أتوجه بمزيد الشكر للأستاذ علي العبد الله على ملاحظاته التي أتاحت لي فرصة التوضيح لما كان غامضاً، ولئن وصف الدراسة بـ (النقص المعرفي) فتلك السمة الطبيعية للكائن البشري، فالجاهل هو من يدعي الكمال المعرفي، أما قوله (إنشاء سياسي عائم عمودي مجرد) فلا أتصور كلاماً يفوق هذه العبارة إنشائيةً وتجريداً.
هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.