كشف تقرير سري للحكومة التركية عن حجم أنشطة التجسس الشائنة والسرية على الجالية المسلمة الليتوانية من قبل إمام تركي عمل تحت غطاء دبلوماسي خارج السفارة التركية.
وكان التقرير السري الذي أرسلته السفارة التركية في فيلنيوس إلى مقر وزارة الخارجية في أنقرة، و المكون من ثلاث صفحات، قد وضح بالتفصيل كيف تجسس إمام ينتمي إلى الذراع الدينية للحكومة التركية، ديانت، على سكان ليتوانيا ومواطنيها. كما كشف التقرير عن جهود السفارة التركية للتسلل إلى الجالية المسلمة الصغيرة في الدولة الواقعة على بحر البلطيق نيابة عن حكومة أجنبية.
وقد تم التوقيع على التقرير المؤرخ في 1 فبراير 2017 والمختوم بالسرية من قبل جولسون إركول، نائب المدير العام للشؤون القنصلية في وزارة الخارجية حينها، والذي يعمل حالياً كسفير لتركيا في العاصمة اللاتفية ريغا.
واستناداً إلى تقارير السفارة التي تلقتها من عملاء أتراك منتشرين في ليتوانيا، كتبت السفيرة إركول أنه ثمة 16 شخصاً يشك بانتمائهم إلى حركة غولن، وهي مجموعة معارضة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وتنتقده في مجموعة من القضايا كالفساد المتفشي ومساعدة تركيا للجماعات الجهادية. وقد تم إرسال الأسماء إلى منظمة المخابرات التركية (MIT) وكذلك مكاتب المحافظين في 16 مقاطعة حيث خضع الضحايا في ليتوانيا لتحقيقات جنائية في تركيا.
وقد ذكر التقرير صراحة كيف استخدمت السفارة الإمام المعين من قبل ديانت لتوجيه الأحداث الحاصلة بين الجالية المسلمة الليتوانية بينما كان يتمتع بغطاء ملحق دبلوماسي. الإمام إبراهيم جيهان والذي تم تعيينه في مايو 2014 كمستشار للسفارة، عمل بالتنسيق مع مسؤولي السفارة لتقويض تأثير أنصار غولن في مركز الثقافة والتعليم الإسلامي الليتواني الذي تأسس في عام 2012. كما ساعد جيهان في جمع المعلومات الاستخبارية عن خصومه في المجتمع والإبلاغ عنهم.
وبحسب التقرير، قامت السفارة بتجنيد بولنت باساتمور ، وهو تركي الأصل، ليحيك مؤامرة من أجل كسب النفوذ في المركز والمساعدة في إعادة تشكيله كمنصة لتعزيز أجندة حكومة حزب العدالة والتنمية (AKP) الذي يتزعمه أردوغان. وكانت الخطة تتمثل في طرد جانجور أيديمير، أحد معارضي أردوغان، من مجلس الإدارة. ورغم وقوف باساتمور إلى جانب السفارة في المعركة القانونية للإطاحة بأيديمير من مجلس الإدارة، ذكر التقرير أن السفارة تلقت تقارير متضاربة حول ولاء باساتمور للرئيس أردوغان. ومع ذلك، فقد تقرر استبعاد اسمه من القائمة التي تم إرسالها إلى تركيا لأنه ساعد إمام ديانت، وبالتالي تم تجنيبه وابلاً من التحقيقات الجنائية في بلده الأم.
ومن بين 16 شخصاً تم التجسس عليهم في ليتوانيا، أشار التقرير إلى أن الحكومة ألغت جوازات السفر الخاصة ب12 منهم، بينما لم يتم إلغاء جوازات سفر البقية في السجلات الحكومية. وفي المقابل، واجه اثنان فقط دعوى قضائية في تركيا. ويشير تقرير السفارة الذي تم توزيعه على الشرطة و MIT، إلى أنهم جميعاً سيتعرضون لإجراءات عقابية في تركيا بسبب معتقداتهم الشخصية وموقفهم المعارض لحكومة الرئيس أردوغان الإسلامية السياسية.
وأكد وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو في فبراير 2020 وجود أنشطة تجسس تقوم بها البعثات الدبلوماسية التركية ضد المعارضين على الأراضي الأجنبية. وقال جاويش أوغلو إن الدبلوماسيين الأتراك المعينين في السفارات والقنصليات تلقوا تعليمات رسمية من الحكومة للقيام بمثل هذه الأنشطة في الخارج. “إذا نظرت إلى تعريف الدبلوماسي ، فهذا واضح،” هذا ما قاله جاويش أوغلو للصحفيين الأتراك في 16 فبراير 2020 عقب مؤتمر ميونيخ للأمن، مضيفاً أن “جمع المعلومات الاستخباراتية هو واجب الدبلوماسيين”.
ومن المؤكد أن إحالة تهم الإرهاب الباطلة للمواطنين الليتوانيين من أصل سيكون له تداعيات بعيدة المدى، حيث سيواجهون خطر الاعتقال إذا سافروا إلى تركيا وكذلك خطر مصادرة أصولهم الموجودة هناك، كما يمكن لتركيا أن تلاحقهم من خلال الإنتربول إذا ما تقطعت بهم السبل ولجأوا إلى دولة ثالثة.
ورغم أن الإنتربول رفض قبول طلبات الحكومة التركية بشأن أتباع غولن، مشيراً إلى أنها طلبات ذات دوافع سياسية وبالتالي تنتهك دستور الإنتربول، لا تزال هناك حالات قليلة تبين فيها أن الحكومة أساءت استخدام آليات الإنتربول. ومن أكثر الأمثلة شهرة على إساءة استخدام تركيا لقاعدة بيانات الوثائق وجوازات السفر المفقودة والمسروقة في نظام الإنتربول، هي عندما تقطعت السبل بلاعب نجم الدوري الاميركي للمحترفين إينيس كانتر في رومانيا، وهو تركي الأصل، بسبب مثل هذا الإخطار حتى تدخلت الحكومة الأمريكية وأنقذته قبل أن تم ترحيله إلى تركيا.
كما سيتم حرمان الأشخاص الذين يحملون الجنسية التركية من الخدمات القنصلية مثل تجديد جواز السفر وكاتب العدل والتوكيل وتسجيل الميلاد الذي تقدمه القنصلية التركية والسفارة في ليتوانيا، وذلك كونهم تم الإبلاغ عنهم في السفارة التركية ولدى المخابرات التركية والوكالات الحكومية الأخرى، وبالتالي يتم اتخاذ المزيد من إجراءات المراقبة.
وكانت بعض الدول الأوروبية في السنوات الأخيرة قد بدأت تحقيقات مع الأئمة الأتراك المرتبطين بديانت. في ديسمبر / كانون الأول 2016، اضطرت تركيا إلى استدعاء يوسف أكار، ملحق الشؤون الدينية في السفارة التركية في لاهاي، بعد أن اتهمته السلطات الهولندية بجمع معلومات استخبارية عن حركة غولن. وفي السياق، رفضت السلطات البلجيكية طلبات الحصول على تأشيرة لـ 12 إماماً تركياً يسعون للعمل في البلاد في عام 2017.
كما أنهت حكومة ولاية هيسن وسط ألمانيا مؤخراً تعاونها مع الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية (Diyanet İşleri Türk İslam Birliği ، أو DITIB). وفي هذا الصدد قال وزير الثقافة ألكسندر لورز: “لا يمكن نزع الشكوك حول استقلال ديتيب عن الحكومة التركية”. وتسيطر DITIB، الفرع الألماني لديانت والذراع الديني لنظام أردوغان الإسلامي، على الأئمة الذين ترسلهم الحكومة التركية إلى الدول الأوروبية.
وكان أردوغان المتورط في فضيحة فساد كبرى في عام 2013 والتي كشفت عن رشاوى سرية في مخططات غسيل الأموال التي تخص منتهك العقوبات الإيرانية رضا ضراب، قد ألقى باللوم على حركة غولن بشأن التحقيقات مع أفراد عائلته وشركائه في العمل والسياسيين. ووصف أردوغان الجماعة بأنها كيان إرهابي على الرغم من عدم ارتباطها بأي عمل عنيف على الإطلاق، كما شن حملة قمع كبيرة ضد المجموعة، وسجن عشرات الآلاف من موظفي الحكومة واستولى على أصولهم بشكل غير قانوني، بالإضافة إلى قيامه بإغلاق المدارس والجامعات والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام والمستشفيات وغيرها التي يمتلكها أو يديرها أشخاص مرتبطون بالحركة.
كما اتهمت حكومة أردوغان العالم التركي المسلم فتح الله غولن، البالغ من العمر 79 عاماً، زعيم الحركة التي تحمل الاسم نفسه والذي يعيش في منفى اختياري في الولايات المتحدة منذ عام 1999، بمحاولة الإطاحة بالحكومة في عام 2016. إلا أن غولن نفى بشدة هذه الاتهامات وفشلت حكومة أردوغان في تقديم أي دليل يربط بين غولن والانقلاب الفاشل. وقالت وزارة العدل الأمريكية إن الأدلة التي قدمتها تركيا لتأمين تسليمه لن تصمد أمام تدقيق المحكمة الأمريكية.
وكانت ليتوانيا واحدة من العديد من الدول الأوروبية التي منحت اللجوء لمعارضي أردوغان، وخاصة أنصار غولن الذين اضطروا إلى الفرار من حملة الحكومة التركية ضد الحقوق والحريات.
ورغم أن حصانات وامتيازات الدبلوماسيين والموظفين القنصليين للاتفاقيات الدولية، إلا أن الدبلوماسيين الذين يتمتعون بالامتيازات والحصانات الموصوفة في اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية ملزمون باحترام قوانين وأنظمة الدولة المستقبلة وتجنب التدخل في شؤونها الداخلية على النحو المفصل في المادة 41. وفي المقابل، يتم منح الموظفين القنصليين الامتيازات والحصانات المحدودة بموجب اتفاقية فيينا للشؤون القنصلية، ولكن يحق لسلطات الدولة المضيفة بدء التحقيقات وملاحقة أي من الموظفين إذا ارتكبوا جرائم داخل أو خارج مبنى القنصلية وفقاً للمادة 43 من الاتفاقية.
من الواضح أن البعثات الدبلوماسية التركية تنتهك القوانين المحلية للدول المستقبلة ومبادئ القانون الدولي، وذلك من خلال القيام بحملات غير قانونية لجمع المعلومات، بالإضافة إلى عمليات استخباراتية واسعة النطاق.