للتماثيل دور هام وتاريخ مديد في تأطير وتحديد وتوسع الجغرافيا بكل مفاهيمها السياسية والدينية وغيرها، منذ الحضارات الغابرة حتى يومنا هذا. إلى ذلك لا يختصر اليوم استخدام التوظيف السياسي للتماثيل على بلد خاص.
وإلى هذا نرى أن تنتشر التماثيل في معظم دول العالم، ويتم نصبها حسب الأهمية. وهناك العديد من الدول مما أخذت منحى مختلف في مجال هذا الفن، وشهدت تطور حسب المدراس الفكرية في كل فترة، حيث أصبح تبيين مضامين من الجمال، والحب، والميتافيزيقيا وغيرها من شؤون من اهتماماتها منذ زمن بعيد حتى اليوم.
ولكن سياسياً يبقى الأمر المهم في نصب التماثيل، وهو المحاولة نحو الهيمنة على العقل الجمعي، وتأطيره، وتهييجه، وزفافه نحو تبني مشروع معين.
وفيما يتعلق بمكان نصب التماثيل، يعتقد أصحاب الشأن أن أي مكان ممكن التجسير عليه بين المشاهد والتمثال، هو المكان المناسب الذي يخدم المشروع الذي تطمح إليه الدولة أو الجهة التي تقف وراء نصب ذلك التمثال.
ومن أهم ما يولده التجسير لدى المشاهد، هو الإحساس بالسطوة والقوة، بوجود الرمز المنصوب، أي بوجود ذلك التمثال.
كما تعمل الدول الشمولية والتوسعية عبر نصب التماثيل على فرض ما تطمح إليه في بسط نفوذها الجغرافي، والسياسي، والعقائدي، والهيمنة الأمنية.
وهكذا تعمل الجهة التي تنصب التمثال على خلق مفاهيم عديدة، تنعكس تلك المفاهيم في سلوك عامة الناس لصالح مشاريع تلك الجهة.
ومن جانب أخر، يرى المختصون أنه يجب أن تتقبل الناس برحابة تواجد تمثال ما في مدينتهم أو بلادهم واقليمهم، وهذا الأمر من المؤكد أنه يحتاج إلى تكوين الإحساس بالتعلق والارتباط النفساني ما بين ما يعكسه التمثال والعقل الجمعي لدى المجتمع.
في الحالة الإيرانية، وفي استمرار محاولات دعم فارسية الدولة في إيران، وإرضاخ العنصر غير الفارسي في هذا البلد، عملت طهران على عدة اتجاهات ثقافية وسياسية وأمنية وغيرها.
وفي الجانب الثقافي كان ولا يزال نصب التماثيل التي من شأنها تدعم المشروع الفارسي في البلاد، محل اهتمام الساسة في طهران.
إلى ذلك تحاول إيران وعبر بناء التماثيل كي تستخدم هذا النوع من الفن للتأثير على فكر المواطن والزائر لهذه البلاد، وصولًا إلى تلقين المواطن غير الفارسي بالسطوة، التي تستخدمها الدولة الفارسية تجاه الأخر غير الفارسي، يتضح ذلك حسب نصب نوع الرموز والشخصيات التي تتجلى في التماثيل وتنصب في أنحاء البلاد.
وبما أن التماثيل الإيرانية تعكس مفاهيم ورموز فارسية، يطمح النظام الإيراني عبر نصبها إلى الارتقاء بمستوى الشعور القومي لدى المواطن الفارسي خاصة، وإدماج غير الفارسي بعد مروره بفلترة التفريس، وضخ إحساس التعلق بالمكان، أي ضخ المزيد من الشعور الحماسي في المجتمع الذي يخلق التعلق بإيران الدولة، وكذلك الاعتزاز بالتوسع القومي.
كما يعمل النظام على توسع حدوده العقائدية عبر نصب المزيد من التماثيل لرموز دينية وعسكرية وثقافية وغيرها، خاصة تماثيل من عملوا على التوسع القومي ووطدوا إلى فارسية الدولة في إيران.
وعلى سبيل المثال شهدنا في الفترة الأخيرة مراسيم الكشف عن تمثال المقتول قاسم سليماني في كل من لبنان والأحواز. كما سبق ذلك كثرة التماثيل في الأحواز مقارنة بالأقاليم الإيرانية الأخرى.
فتماثيل الشعراء الفرس والزعامات الفارسية وضباط الحرس الثوري الذين قتلوا اثناء الحرب الإيرانية العراقية، تزاحم بعضها البعض في الميادين والمنتزهات في هذا الإقليم.
وفي لبنان ومحطات أخرى نرى الصور العملاقة للقيادات الدينية السياسية الإيرانية تشغل مكانات عدة. وكذلك وضع منذ أيام تمثال لسليماني في بلدة مارون الرأس بجنوب لبنان، حيث موطئ قدم النفوذ الإيراني غير المرحب به من قبل الشعب اللبناني.
نرى اليوم تنصب تماثيل لشخص مجرم ذات صفات لا تمت للإنسان بصلة، في كل من الأحواز ولبنان وربما غداً تنصب له تماثيل في مكانات أخرى. وأصبح لنا واضح الاستخدام السياسي لهذه التماثيل.
أبسط الأسئلة هنا؛ أن من هو سليماني حتى تنحت له تماثيل وتنصب؟
ولماذا تنصب تماثيله في الأحواز ولبنان؟
الجواب؛ أن قاسم سليماني كان موظف بسيط في إدارة المياه والمجاري في محافظة كرمان بجنوب إيران حتى حدوث الحرب الإيرانية العراقية، حيث التحق بصفوف الحرس الثوري، وارتقت مكانة سليماني حسب قواعد الرقي في المدراج القيادية في الحرس، المعروف عنها بالفوضوية والتظاهر والرياء وغيرها من صفات غير حميدة.
ويبدو أن أهم ما دعم سليماني اثناء استمرار تواجده في قوات القدس ألا وهو أن هذا الشخص ينحدر من أسرة فارسية، وكان ينظر إليه في بيت السياسة الإيرانية، على أنه قدير على تحمل مسؤولية التوسع الفارسي في الشرق الأوسط تحت ذريعة تحرير القدس.
والموضوع الأخر انه كان جدير بتوظيف الطائفية وتجييش الفقراء ثقافياً وضعفاء النفوس ضد أبناء بلادهم كما حدث في العراق ولبنان وسوريا واليمن وأفغانستان. ولدى سليماني جدارة في ضخ الرشاوي للتوصل إلى تحقيق غايات منها توسع قوات القدس في بلدان عديدة.
يذكر في هذا الشأن أن “حميد بقايي” مساعد الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد أثناء محاكمته على خلفية اختلاسات مالية ضخمة، قال؛ أنه أثناء اجتماع عدد من مسؤولي دول افريقية في طهران سلمه سليماني ملايين من اليورو، للتوزيع على الضيوف الأفريقيين تحت غطاء هدايا إيرانية!
كما تعامل سليماني مع قوات إرهابية عابرة الحدود كتنظيم داعش، وذكرت صحيفة إينديا تايمز الهندية، عملت قوات القدس تحت أمر سليماني على تجنيد المتطرفين الهنود وانضمامهم إلى داعش، ناهيك عن تنسيق سليماني مع القوى الإرهابية في العالم والتي قد يتضح في المستقبل بشكل جلي.
وحين قتل سليماني نعته حركة طالبان الإرهابية وهذا دليل أخر على تورط سليماني وقوات القدس بالتعامل مع القوى الإرهابية في العالم.
إن ما ذكر هنا هو غيض من فيض من تواصل وتنسيق سليماني مع الإرهاب العالمي. إن هذا الشخص لا يحمل أي صفة يحملها الضباط والجنرالات في الجيوش النظامية، والذين تخرجوا من الجامعات العسكرية.
وإن ما أعطي لسليماني من حجم، من قبل الإعلام العربي والإعلام الغربي، حدث ليس بمحله بتاتاً. إنه إرهابي أمي يفتقر لعلم العسكر.
وفيما يتعلق بنصب تماثيل لهذا الإرهابي في لبنان والأحواز، فالأمر يتعلق بمحاولات طهران الحثيثة على تثبيت حدودها التي باتت متزعزعة نتيجة الظلم والاضطهاد والتنكيل بحق الشعوب غير الفارسية. وفي لبنان يبدو أن الأمر يتعلق بترسيخ نفوذها المذهبي غير المرحب به في هذا البلد.
أخيراً إن محاولات النظام الإيراني في صناعة بطل قومي بعد الكشف عن الخلفيات الإرهابية لهذا البطل القومي الوهمي، باءت بالفشل وعلى هذا الأساس مزق المتظاهرون صور سليماني في المدن الإيرانية.
ومن المؤكد سوف يشاهد العالم كيف سيتم تحطيم تماثيل سليماني وأمثاله في كل من الأحواز ولبنان، كنتيجة طبيعية للرد على محاولات طهران في فرض سياساتها التوسعية على حساب الشعوب الأخرى.