بينما يُعدّ الشاب الصومالي حسن حقيبته الصغيرة استعدادا لخوض غمار البحر نحو الشواطئ الأوروبية، يبحث ناصر عن طريقة أخرى للخروج من تونس قريباً بعد إنهاء دراسته الجامعية، حيث يبدو أنّ البلاد ضاقت بأهلها ولاجئيها حتى باتوا يتقاسمون حلم الهجرة بحثاً عن فرص حياة أفضل، كما تقاسموا أزمةً اقتصادية متراكمة بلغت ذروتها منذ نحو عام.
من كابوس إلى آخر..
قصة حسن بدأت حين قرّر قبل سنوات الفرار من بلده الصومال إلى إيطاليا بحراً عبر الشواطئ الليبية، إلا أنّ “قدره ساقه إلى تونس”. يروي الشاب البالغ من العمر 34 عاماً لـ “مرصد مينا” كيف هرب من جحيم الحياة في مدينة دينسور الخاضعة لسيطرة حركة الشباب الصومالي المتشددة، ليجد نفسه في جحيم آخر: “انتقلت من الصومال إلى ليبيا مطلع عام 2017 عبر شبكة من المهربين في الصحراء، وبعد أيام من وصولي إلى طرابلس، قامت مجموعة مسلحة باختطافي وتعرّضت لأبشع أنواع التعذيب حتى تمكّنت عائلتي من إرسال مبلغ مالي طلبه الخاطفون. لاحقاً حاولت الهجرة عبر البحر المتوسط من خلال شبكة تهريب ليبية ولكنني لم أنجح، لذا قررت القدوم إلى تونس أملاً بأن يحالفني الحظ، ولكن للقدر ترتيبه وها أنا ذا عالق هنا”.
تلخّص قصة الشاب حسن قصص آلاف المهاجرين وطالبي اللجوء الأفارقة الذين تدفقوا خلال الأعوام الماضية إلى تونس سواء بمحض إرادتهم، أو بعد إنقاذهم من قبل خفر السواحل التونسي في البحر إثر هروبهم من ليبيا، إضافة إلى نوع آخر من طالبي اللجوء الذين غادروا من بلدان أخرى في إطار عمليات الهجـــــرة غير الشــــــرعية لينتهــــي بهم المطاف إلى الســــواحل التونســـية بسبب تعــــطّل مراكبهم أو لتحايل سماسرة الهجــــرة غير الشــــــرعية عليهم.
ويعاني معظم هؤلاء من صعوبة في تأمين معيشتهم، في ظلّ قلة فرص العمل وارتفاع الأسعار، ناهيك عن أوضاعهم القانونية. يقول حسن إنه شارف على جمع المبلغ المطلوب من قبل “المُهرّب” الذي التقى به في مدينة حلق الوادي شمال تونس العاصمة، “أعمل كمياوم في مجالات مختلفة، لا سيّما في أشغال البناء وفي ورش إصلاح السيارات أو غسلها، بالإضافة إلى الزراعة. ادخرت من عملي خلال العامين الماضيين مبلغ 6 آلاف دينار، وينقصني ألف دينار أخرى.. أريد أن تتم العملية قبل فصل الشتاء حيث ستكون الأحوال الجوية سيئة، وأيضا قبل أن يرفع المهرّب سعر الرحلة من جديد!”.
وتردد اسم تونس في السنوات الماضية بكثرة بعد الحديث عن مساعي أوروبية لإنشاء مراكز ومخيمات لاستقبال المهاجرين فيها في خطوة غير مسبوقة، عززتها زيارات مسؤولين من القارة العجوز وفاعلين في الاتحاد الأوروبي لتونس، بهدف محاربة الهجرة غير الشرعية.
وتقول وزارة الداخلية التونسية بأنها ضبطت 20 ألفًا و616 مهاجرًا غير نظامي خلال 2021، بينهم 10 آلاف و371 أجنبيًا معظمهم من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وبشكل خاص من ساحل العاج ومالي والصومال وتشاد وأثيوبيا.
وتشير تقارير حكومية إلى إحباط 1509 محاولات هجرة غير نظامية صوب إيطاليا خلال أول 8 أشهر من العام 2022.
“عنصرية” وظروف سيئة؟
على الصعيد الرسمي، قامت المفوّضية السامية لشؤون اللاجئين في تونس بإرساء منظومة لإدماج اللاجئين “النظاميين” وتقديم الخدمات الأساسية لهم، تتضمّن توزيع مجالات العمل على العديد من الشركاء المحليين، حيث يتكفّل المجلس التونسي للاجئين بالنظر في ملفّات اللجوء وتوفير السكن والمساعدات والخدمات الأساسية للاجئين وطالبي اللجوء، في حين يهتمّ المعهد العربي لحقوق الإنسان بتوفير المساعدة القانونية لهذه الفئة، وتتكفّل الجمعية التونسية للتصرّف والتوازن الاجتماعي بتوفير فرص العمل والتأهيل.
إلا أنه على أرض الواقع، يعاني المهاجرون واللاجئون الأفارقة من حملات ممنهجة ضدّهم، تتمثل بانتهاكات وتمييز عنصري يواجهونه في كلّ يوم ويصفها مراقبون بأنّها تحريضية وتهدف إلى ترحيلهم من البلاد. يشير موسى (36 عام) من ساحل العاج في حديث لمرصد مينا إلى أنّه كغيره من المهاجرين يتعرّض يومياً إلى اعتداءات لفظية في الشارع وتضييق من قبل الأهالي وحتى السلطات، وأضاف: ” أنا هنا منذ عام 2019، في تلك الفترة كانت مفوضية اللاجئين تقدم لنا معونة مالية بقيمة 70 دولار شهريًا، كما أمنّت لي ولأخرين أماكن للسكن في وسط تونس، ولكنّها أوقفت في يناير/ كانون ثان الماضي المعونات المالية، وهو ما دفعنا للاعتصام أكثر من مرة”. وتابع: “في البداية قررت الاستقرار في تونس، لكن نتيجة التمييز والعنف والإقصاء الذي تعرضت له أصبحت أفضّل الهجرة إلى أوربا”.
في الطرف الآخر، يحمّل الشاب التونسي ناصر (21 عام)، بعض المهاجرين مسؤولية تصاعد ظاهرة العنصرية اتجاههم، ويربط ذلك بـ “انخراطهم في أعمال غير قانونية” ودخولهم في مناوشات وشجارات مع مواطنين تونسيين في مناطق عدّة. ويستشهد الشاب بحادثتين حصلتا مؤخراً في مدينته صفاقس، الأولى شجار جماعي أدى إلى مقتل شاب غيني، والثانية اختطاف فتاة افريقية وطلب فدية كبيرة. كما يدّعي الشاب أنّ بعض المهاجرين “يمتهنون النشل والسرقة لتأمين ثمن مغادرة تونس نحو أوروبا”.
وتُعتبر صفاقس من أكثر المناطق التي تشهد تدفقاً للمهاجرين الأفارقة، نظراً إلى توفّر فرص عمل فيها ولكونها منطقة ساحلية والهجرة بالقوارب انطلاقاً منها نحو الجزر الإيطالية أو باتجاه مالطا أمر ممكن.
هجرة جماعية..
قضية الهجرة من تونس لا تشمل المهاجرين الأجانب فقط، بل تعدتها لتشمل مواطنين من مختلف الفئات العمرية والتخصصات المهنية في الدولة الإفريقية التي تواجه أزمات سياسية متلاحقة منذ بدء الانتقال الديمقراطي في البلاد عام 2011، بجانب تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية واتساع تداعيات حرب أوكرانيا وجائحة كورونا، وتعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي حول اصلاحات بنيوية كبرى للاقتصاد.
وكشف المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (غير حكومي)، وفق بيانات اطلع عليها “مرصد مينا”، عن مغادرة أكثر من 20 ألف تونسي بطرق غير شرعية باتجاه إيطاليا ومالطا ما بين 26 تموز/يوليو 2021 و24 تموز/يوليو الجاري. وفي نفس الفترة، غادر 3670 شخصا برا عبر شرق أوروبا انطلاقا من تركيا وصربيا ورومانيا وألبانيا ودول البلقان لدخول فضاء (منطقة) شنغن.
ووفق المصدر ذاته، أصبحت الجنسية التونسية تحتل المرتبة الأولى في الواصلين إلى إيطاليا بنسبة 18%، بعدما كانت في المرتبة الثالثة في النصف الأول من السنة الحالية، وقُدّر عدد القُصّر التونسيين الواصلين إلى إيطاليا بـ 1242، وعدد الأسر الواصلة بـ 300 منذ بداية 2022.
واعتبر الشاب التونسي ناصر في حديثه مع مرصد مينا أنّ هناك “إحباطاً مستشرياً” يسود صفوف الشباب عامة نتيجة الأوضاع الاقتصادية “التي تتجه نحو الأسوأ”، مضيفاً: “أنتظر بفارغ الصبر تخرجي من كلية الهندسة الزراعية لكي أغادر تونس إلى فرنسا حيث يقيم عدد من أقاربي، على الدول الأوروبية أن تحتضن المهاجرين كما احتضنا الأوروبيين في عصور سابقة!”.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.