في هذه السلسلة المكونة من ثلاث مقالات، حاولت معالجة ثلاثة أورام تعفن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الداخل: الجهل والفقر والانقسام. هذه القضايا الثلاث متشابكة بعمق وتغذي بعضها البعض في حلقة مفرغة أبقت المنطقة غارقة في الصراع وعدم الاستقرار لعقود. ستتعمق هذه المقالة في قضية الانقسام/ الاستقطاب المعقدة والمثيرة للانقسام، في حين أن المقالات السابقة قد استكشفت الطبيعة الخبيثة للجهل والفقر.
توجد مشكلة مظلمة ومستمرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أرض الثقافات القديمة والتقاليد النابضة بالحياة، مشكلة ولدت من قرون من الانقسام تغذيها الخوف وانعدام الثقة، وتديمها شبكة مستعصية على الحل من العوامل التاريخية والسياسية والثقافية.
هذه المشكلة تستقطب وتقسم الناس إلى مجموعات دينية وعرقية وقومية وأيديولوجية، فقد مزق العائلات وحرض المجتمعات ضد بعضها البعض وأسفر عن عدد لا يحصى من أعمال العنف وسفك الدماء.
إن جذور هذه المشكلة عميقة وتعود عبر العصور إلى وقت كانت فيه مجموعات مختلفة من الناس تعيش معا في سلام ووئام نسبيين. ولكن مع مرور الوقت تحطم هذا السلام الهش وحل محله عداء متأجج لا يزال قائماً حتى يومنا هذا، حيث قامت الإمبراطوريات وسقطت، وأعيد رسم الحدود، وتصادمت الثقافات.
تتجلى اليوم مشكلة الاستقطاب في نواح كثيرة، حيث نرى هذا في الصراع الطائفي الشرس الذي يجتاح دولاً مثل العراق وسوريا، ويضع السنة والشيعة في صراعات عنيفة من أجل السلطة والسيطرة. يمكننا أن نرى ذلك في التوترات العرقية التي ابتليت بها دول مثل السودان وإثيوبيا، حيث قاتلت مجموعات مختلفة من أجل الهيمنة والبقاء. وأخيراً نرى ذلك في المنافسات الجيوسياسية التي شكلت المنطقة لعدة قرون حيث تتنافس دول مختلفة على السلطة والنفوذ على جيرانها.
وبما أنها متجذرة في معتقدات وتصورات عميقة الجذور وتعززها أجيال من الصراع وانعدام الثقة، فليس من السهل حلها. ولكن لأن مستقبل المنطقة وشعوبها يعتمد عليها فهي مشكلة يجب معالجتها. لا يسع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلا أن تأمل في التغلب على مشكلة الاستقطاب وإيجاد طريق لمستقبل أكثر سلاماً وازدهاراً من خلال تعزيز الحوار والتفاهم والمصالحة بين المجموعات المختلفة.
الأسباب الجذرية للمشكلة
إن الأسباب الكامنة وراء الانقسام والاستقطاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا معقدة ومتعددة الأوجه، وتشمل عوامل تاريخية وسياسية وثقافية.
وتعود جذور المشكلة إلى قرون من الصراع والغزو والنزوح، وفي انعدام الثقة والعداء المتأصلين بين الجماعات المختلفة. هذه الصراعات التي غالباً ما تأصلها الأنظمة الاستبدادية والتدخل الأجنبي وعدم المساواة الاقتصادية، كانت تغذيها مجموعة متنوعة من العوامل، بما في ذلك الدين والعرق والقومية.
حدد العلماء عدداً من العوامل الأساسية التي ساهمت في مشكلة الاستقطاب. ويتمثل أحد العوامل الرئيسية في الإرث الاستعماري وإنشاء حدود مصطنعة وتآكل الهياكل الاجتماعية التقليدية، مما أدى إلى الشعور بالتفكك والارتباك بين العديد من المجموعات في المنطقة. وقد تفاقم هذا بسبب صعود الحركات القومية في منتصف القرن العشرين والتي سعت إلى إنشاء دول جديدة على أساس العرق واللغة وغالباً على حساب الأقليات.
كما ساهمت الانقسامات الدينية بشكل كبير، حيث غذت الطائفية الصراع بين المسلمين السنة والشيعة وأدت إلى تفاقم التوترات الطائفية. كما أدت العوامل السياسية بما في ذلك الاستبداد والافتقار إلى المؤسسات الديمقراطية إلى تفاقم المشكلة، مما أدى إلى شعور بالاغتراب والتهميش بين العديد من المجموعات.
كما لعبت العوامل الاقتصادية دوراً كبيراً وأهمها الفقر والبطالة، لا سيما بين الشباب الذين يشعرون بأنهم معزولون عن الهياكل الاجتماعية التقليدية ومحرومون من فوائد النمو الاقتصادي. وأخيراً هناك عوامل خارجية، بما في ذلك التدخل الأجنبي والمنافسات الجيوسياسية، التي زادت من زعزعة استقرار المنطقة وغذت استقطابها.
باختصار إن الأسباب الجذرية لمشكلة الانقسام والاستقطاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عديدة ومعقدة، وتنبع من مجموعة من العوامل التاريخية والسياسية والثقافية التي ساهمت في الشعور بعدم الثقة والعداء بين المجموعات المختلفة. وتتطلب معالجة هذه الأسباب الجذرية نهجاً مستداماً وشاملاً يأخذ في الحسبان الديناميات الفريدة للمنطقة ويسعى إلى تعزيز الحوار والتفاهم والمصالحة بين مختلف الفئات.
الخمسة الأوائل
يمكن سرد الدول الخمس الأكثر انقساماً واستقطاباً في المنطقة على النحو التالي: العراق وسوريا ولبنان ومصر واليمن.
- العراق: كان العراق مسرحاً للصراع الطائفي بين المسلمين السنة والشيعة منذ سقوط نظام صدام حسين في عام 2003. وقد أدى هذا الصراع إلى انتشار العنف والنزوح على نطاق واسع، تغذيه عوامل سياسية واقتصادية وجهات فاعلة خارجية.
- سوريا: تغذيها جزئياً الانقسامات الطائفية بين النظام الذي يهيمن عليه العلويون والجماعات المتمردة السنية، وقد مزقتها حرب أهلية وحشية منذ عام 2011. كما أدى تورط الجهات الفاعلة الأجنبية وصعود الجماعات المتطرفة مثل داعش إلى تعقيد الصراع.
- لبنان: لطالما انقسم لبنان على أسس طائفية، مع تقاسم السلطة بين الطوائف الدينية المختلفة. وكان هذا النظام مصدراً لعدم الاستقرار السياسي والجمود السياسي فضلاً عن التوترات الطائفية المستمرة.
- مصر: شهدت مصر موجة من الاستقطاب السياسي منذ ثورة 2011 التي أطاحت بالدكتاتور حسني مبارك الذي حكم البلاد لفترة طويلة. وقد غذى هذا الاستقطاب عدد من العوامل بما في ذلك المظالم السياسية والاقتصادية، وتفاقم بسبب حملة النظام الحالي على المعارضة السياسية.
- اليمن: كان اليمن غارقا في الصراع منذ عام 2015 وعندما تدخل التحالف الذي تقوده السعودية في الحرب الأهلية في البلاد، وقد غذت الانقسامات الطائفية الصراع بين المسلمين السنة والشيعة فضلاً عن المظالم السياسية والاقتصادية.
هذه مجرد أمثلة قليلة على مشكلة الانقسام والاستقطاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي تختلف في طبيعتها وشدتها من بلد إلى آخر.
الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مقابل أوروبا
على الرغم من اختلاف الأسباب الجذرية وديناميكيات هذه الانقسامات، إلا أن هناك بعض أوجه التشابه بين مشكلة الانقسام والاستقطاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والانقسامات التاريخية في أوروبا.
أحد أوجه التشابه الرئيسية هو دور الدين في إدامة الانقسامات. كانت الانقسامات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت مصدراً رئيسيا للصراع في أوروبا وخاصة في أيرلندا الشمالية، كما غذت الانقسامات الطائفية بين مختلف فروع الإسلام الصراع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. الصراعات في يوغوسلافيا في تسعينيات القرن العشرين كان أيضاً عنصر ديني قوي مع المسيحيين الأرثوذكس والكاثوليك والمسلمين كل يجري طرفا في القتال.
كانت الصراعات في أوروبا مثل حروب البلقان وتفكك يوغوسلافيا تغذيها الحركات القومية التي تسعى إلى إنشاء دول جديدة أو توسيع الدول القائمة. أما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فقد لعبت القومية وإنشاء دول جديدة على أساس المعايير العرقية أو اللغوية دوراً في صراعات مثل الصراع العربي الإسرائيلي.
ومع ذلك هناك اختلافات هامة بين الحالتين أيضاً. فقد شهدت أوروبا فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ظهور مؤسسات مثل الاتحاد الأوروبي، و تم تصميم هذه المؤسسات لتعزيز التكامل والحد من مخاطر الصراع بين الدول. وعلى النقيض من ذلك، لم يحرز تقدم يذكر نحو التكامل الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكثيراً ما أدت الجهات الفاعلة الخارجية إلى تفاقم الصراعات.
علاوة على ذلك، غالباً ما تشمل النزاعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دولاً متعددة وجهات فاعلة غير حكومية مما يجعل حلها أكثر تعقيداً، في حين أن النزاعات في أوروبا غالباً ما كانت بين دول أو مجموعات عرقية داخل بلد واحد. علاوة على ذلك لا يوجد عامل خارجي مماثل يقود الصراعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في حين لعبت الحرب الباردة دورا مهما في تفاقم الانقسامات في أوروبا.
باختصار وعلى الرغم من وجود بعض أوجه التشابه بين مشكلة الانقسام والاستقطاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والانقسامات التاريخية في أوروبا، إلا أن الأسباب الجذرية والديناميكيات مختلفة، ولكل منطقة مجموعتها الخاصة من التحديات والفرص الفريدة لإدارة الصراع وتعزيز المصالحة.
بعض الحلول الممكنة
- الحوار والمصالحة: تتمثل الخطوة الأولى نحو حل النزاعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أن تشارك جميع الأطراف في الحوار وتسعى إلى فهم وجهات نظر بعضها البعض. ويمكن القيام بذلك من خلال إنشاء آليات رسمية أو غير رسمية للاتصال مثل محادثات السلام أو المنتديات المجتمعية. قد يكون من الممكن تحديد المصالح والقيم المشتركة والعمل على إيجاد حلول تفيد جميع المعنيين من خلال الدخول في حوار مستمر.
- الحوكمة الشاملة: يعد إنشاء هياكل حوكمة شاملة توفر التمثيل لجميع المجتمعات عاملا رئيسياً آخر في الحد من الانقسام والاستقطاب. وقد يشمل ذلك لامركزية السلطة، وتعزيز حقوق الأقليات، وإنشاء آليات لمشاركة الشعب في عملية صنع القرار. وقد يكون من الممكن الحد من التوترات وتعزيز التماسك الاجتماعي من خلال ضمان سماع جميع الأصوات وأن يكون لجميع الطوائف مصلحة في مستقبل بلدها.
- التنمية الاقتصادية: يمكن للتنمية الاقتصادية من خلال خلق فرص للمجتمعات المهمشة وتعزيز الحراك الاجتماعي، أن تلعب أيضاً دوراً مهماً في الحد من الانقسام والاستقطاب. وقد يشمل ذلك استثمارات في الهياكل الأساسية والتعليم والصحة، فضلاً عن خلق فرص العمل وغيرها من الفرص الاقتصادية. وقد يكون من الممكن بناء مجتمعات أكثر تماسكاً واستقراراً عن طريق الحد من الفقر وعدم المساواة وتعزيز النمو الاقتصادي الذي يعود بالنفع على جميع المجتمعات.
- التعاون الدولي: وأخيراً قد تكون هناك حاجة إلى التعاون والدعم الدوليين لمعالجة مشكلة الانقسام والاستقطاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد يشمل ذلك تقديم المساعدة الإنسانية، ودعم مفاوضات السلام دبلوماسياً، وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية. يمكن للمجتمع الدولي أن يساعد في معالجة الأسباب الجذرية للصراع ودعم جهود الجهات الفاعلة المحلية لبناء مجتمعات أكثر سلاماً وشمولية.
هذه الحلول ليست سوى أمثلة قليلة على النهج التي يمكن أن تكون فعالة في الحد من الانقسام والاستقطاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقد يكون الطريق إلى السلام والمصالحة طويلاً وصعباً. ومع ذلك من المهم أن نتذكر أن الصراع ليس حتمياً. وقد يكون من الممكن بناء مستقبل أكثر سلماً وازدهاراً للجميع من خلال الجهود والتعاون المتواصلين.
قد يكون تحقيق السلام الدائم والمصالحة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مهمة صعبة لكنها ليست غير واقعية. يقدم التاريخ العديد من الأمثلة على المجتمعات التي نجحت في التغلب على الانقسامات والصراعات العميقة، وهناك أيضا أمثلة على التطورات الإيجابية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نفسها.
وبطبيعة الحال تشكل الصراعات المستمرة وعدم الاستقرار الاقتصادي وتأثير الجهات الفاعلة الخارجية عقبات كبيرة أمام السلام والمصالحة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومع ذلك من المهم أن نتذكر أن العديد من هذه التحديات متجذرة في العوامل التاريخية والهيكلية. ويمكن التصدي لهذه التحديات من خلال الجهود والتعاون المتواصلين.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.