يناقش الكاتب في هذه الورقة موقف علماء الدين من العلمانية، من خلال مداولة ما كتبه الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه (يغالطونك إذ يقولون) ويمهد الكاتب للمسألة من خلال المحاور الآتية:
- لماذا وقفت الكنيسة مع الإقطاع؟.
- هل من الضروري أن تكون العلمانية ملحدة؟.
- هل يمكن تحقيق مجتمع مدني علماني في دولة تستند إلى الشريعة؟.
- مداولة ساخنة لما كتبه الشيخ البوطي حول العلمانية.
- مشكلة العالم العربي عند البوطي ومناقشتها.
- الحل عند البوطي ومداولته.
- الردة عند البوطي والرد عليها.
التمهيــــــــــــــــــــــد
كان القرن السابع عشر قرن الصراع بين مقولة حَكَمت التاريخ وأخرى بدأت تظهر بقوة وتفرض وجودها التدريجي منذ القرن الخامس عشر. أعني الصراع بين مقولة الحق الإلهي في الحكم وأنسنة الوجود الإنساني الاجتماعي والسياسي والحضاري عموماً.
بدأت التغيرات ربما مع ما يعرف بنهضة شارلمان (القرن التاسع) وشملت في ما بعد الفن والأدب والدين والسياسة والعلوم، فكانت مدرسة الرسم الألمانية وشكسبير وماكيافلي وبودان ولوثر وصولاً إلى هوبز وروسو. إذ استوى الإنسان على عرش المعرفة، تلك المعرفة بنيت -إضافة إلى العلم الطبيعي- على فكرة أنسنة الوجود والحق والحقيقة في إطار الفضاء اليوناني/ الروماني المصفى من شوائب الوثنية.
جاء عقد هوبز الاجتماعي ليفسر الدولة باعتبارها نتاج الحاجة البشرية أو الخوف من الفناء الجماعي ممزوجاً بأشكال أولى من العقل، وكونها ضامناً لحقوق الجميع من خلال تنازل الجميع عن حقوقهم لها. تلك هي البدايات للمجتمع المؤنسن التي قادت في ما بعد إلى العلمانية لتاتي في ما بعد الثورة الفرنسية.
لم يكن الصراع فكرياً، على العكس كان الجانب الفكري فيه انعكاساً أكثر مما كان محركاً. من دون أن يلغي ذلك الدور الفاعل الذي لعبته بعض الأفكار في إنارة الدرب أو تعرية الظلام (كان دور روسو ممهداً مباشراً للثورة الفرنسية) فجانبه الاقتصادي هو الأكثر وضوحاً، لقد شكلت الاكتشافات الطبيعية والجغرافية وتراكم الثروة الأساس الصلب الذي استند إليه الفكر في صراعه، وشعور البورجوازية بضيق السوق الإقطاعية كان وراء تبنيها فكرة الدولة القومية ودعمها لها، وفي النهاية تداخلت العوامل وأعيد بناء الكون من جديد على قاعدة الإنسان أخ الإنسان وسيد في الطبيعة.
لماذا وقفت الكنيسة مع الإقطاع؟
التاريخ تحقق ممكن على حساب ممكنات، واصطفاف الكنيسة وراء الإقطاع جعل الصراع يأخذ بعداً دينياً من جملة الأبعاد الأخرى. ما يطرح سؤالاً: لو لم تقف الكنيسة خلف الإقطاع هل كان من المحتمل تجنب هذا البعد؟
يكمن الجواب في سؤال آخر: هل كان بإمكان الكنيسة أن تقف في غير المكان الذي وقفت فيه؟.
ماذا يبقى من الكنيسة إذا قالت: إن الله خلق الكون بموجوداته ومكوناته، والإنسان مكون إلى جانب باقي المكونات تميز عنها لاحقاً بالعمل وتفوق عليها بقدرته على توظيف نتائج العمل في ميدان التنظيم الاجتماعي والسياسي ومن ثم فإن الطغاة الذين يدعون أن الله اصطفاهم لاستعباد البشر هم كذبة. ما يبقى منها باختصار: ما هي عليه اليوم. فهل يتصور أحد أنه كان من الممكن أن تتنازل عن الثروة والسلطة اللتين كانت تتمتع بهما هكذا إكراماً لسواد أعين الحقيقة أو التطور أو العدالة أو سمها ما شئت.
من هنا فالاحتمال الوحيد هو أن تقف الكنيسة خلف الإقطاع وأن يأخذ الصراع منحى دينياً وباختصار أن تكون العلمانية إما ملحدة أو متضادة مع الدين.
لكن هل بالضرورة أن تكون العلمانية اليوم ملحدة؟
الإنسان ابن التاريخ، وقد أثبت تاريخ الصراع بما لا يدع مجالاً للشك أن أفكار الاستبداد والاستعباد آيلة إلى زوال لا محالة، وكان يفترض أن يشكل التاريخ الأوروبي درساً بليغاً للقوى الدينية خارج أوروبا وهو ما كاد يحدث فعلاً في بلادنا لكن فشل مشروع محمد علي وضع حداً لمثل هذا الاحتمال. هذا الفشل يعود جزء منه إلى أنانية الرأسمالية الغربية وقصر نظرها من جهة وقصور الوعي السياسي/ التاريخي عند محمد علي من جهة أخرى وملابسات الواقع العربي وتعقيداته من جهة ثالثة.
هذا يعني أننا لسنا أمام خيارين: إما الدين أو العلمانية والجمع بينهما ممكن ولكن بشروط، ما أريد قوله هو أن الإلحاد ليس شرطاً للعلمانية وإنما ضرورة اقتضتها مرحلة النشوء وتجاوزها الواقع، والمشكلة كانت وتبقى –إلى حين– لدى القوى التي تدعي أنها تنتمي إلى الدين أو تمثله.
التنوع طبيعة الوجود (المادي والفكري). الخلاف ليس هنا. لكن التنوع شيء، والرفض المطلق شيء آخر وما هو قائم بين الجماعات الإسلامية نفي مطلق وسعي محموم للإلغاء. إلغاء الآخر مادياً ومعنوياً، ومن يك بحاجة إلى دليل فليقرأ مؤلفات الفرق كلها تاريخياً، ولينظر إلى خريطة الصراعات الإسلامية المعاصرة.
صحيح أن هذه الصراعات ليست وليدة اليوم أو الأمس بل هي نتاج تاريخ طويل ولكن الفارق الجوهري هو أن تلك الصراعات كانت تستوجب قيام شكل من أشكال الدولة يتبنى المذهب ثم يسعى إلى فرضه على الآخرين، أما اليوم فقد دخلت الجماهير الواسعة ميدان الصراع وهنا الخطورة.
هل يمكن تحقيق مجتمع مدني علماني وديمقراطي في ظل دولة تستند إلى الدين مصدراً أساسياً للتشريع؟
يمكن دراسة نموذج من الإسلام، إسلام فقهي يوصف بالاعتدال يمثله محمد سعيد رمضان البوطي. لنرَى أين يكمن الخلل، في جانب العلمانيين أم الدينيين؟.
نعتمد هنا مؤلفه: يغالطونك إذ يقولون(1)، إلا إذا أشرنا إلى مصدر آخر.
ينطلق البوطي في أبحاثه كلها من خلط متعمد بين العقيدة كنصوص مقدسة والفقه باعتباره قراءة بشرية لتلك النصوص فيضع الفقه بديلاً للعقيدة وهذه هي الكارثة.
يقرأ البوطي العَلمانية بفتح العين لينطلق من تلك القراءة محدداً مضمونها باعتبارها دعوة إلى استبدال المجتمعات الإسلامية بارتباطها الديني الارتباط العلمي(2) ومسوّغها الوحيد تقليد واضح لموقف الغرب من الدين(3) ولكن لماذا ظهرت العلمانية في الغرب؟
من المعلوم أن الغربيين الذين آثروا النهج العلماني في مجتمعاتهم بدؤوا قبل كل شيء فاتجهوا إلى دينهم الذي كانوا يتعاملون معه فدرسوه دراسة دقيقة، درسوا تاريخه، جذوره، وانتهوا إلى يقين بأن هذه المقولات الدينية التي تصدرها الكنيسة ليست وحياً تنزل من عند الله على عيسى بن مريم وليس شيئاً مما قد قاله الحواريون وإنما هو مجموعة مواضعات تراكمت وتزايدت مع الزمن. عن طريق المجامع الكنسية المختلفة فهي مجموعة التزامات اتخذها الإنسان الغربي لنفسه، وليست أحكاماً منزلة من عند الله(4).
قبل كل شيء من أعطى البوطي (وأمثاله) حق إهانة أكثر من ملياري إنسان يدينون بالمسيحية فيقوم دينهم باعتباره مجموعة مواضعات تراكمت وتزايدت مع الزمن؟ وماذا لو قال المسيحيون عن الإسلام العبارة نفسها واستخدموا الشواهد ذاتها لإثباتها. لو جاء الكلام من ملحدين أو لا دينيين لأمكن فهم المسألة أما أن يأتي من فقيه دين آخر فهذه عنصرية واضحة وعجرفة لا معنى لها.
هذه النظرة إلى المسيحية بدأت تشيع في الأوساط الإسلامية المعاصرة فقد كانت الرؤية القديمة تتهم المسيحيين بالتحريف أما الآن فهي تنكر المسيحية بوصفها ديناً سماوياً وتصر على اعتبارها مواضعات بشرية، يقول أبو محمد المقدسي عن المسيحية: ديانة مليئة بالتناقضات، ركبّها بولس، وفرض شركياتها قسطنطين ورقعها وحرَّفها القسيسون والرهبان(5).
وإذا ما أخضعنا الإسلام للدراسة كما فعل الغربيون فهو يقبل النتائج أياً كانت إذا تبين أن الإسلام مجموعة افكار نسجتها رؤى البشر، فأنا مع الذين يدعون إلى العلمانية(6)، وتقليد الغرب في مسألة العلمانية تأتى من الجهل بالإسلام وعندنا إذا سألت صاحب أي حرفة عن مسألة دينية ما أسرع أن يجيبك قائلاً: أنا لست صاحب اختصاص في الدين، أما في الغرب فكل إنسان مهما كان اختصاصه لا بد أن يجزم بأن معرفة تاريخ الكنيسة والمجامع الكنسية من الثقافة العامة التي لا بد أن يعرفها ومن ثم فإن حكمه للدين أو عليه لا يأتي إلا على بينة وأساس(7)، سبحان الله الغربيون كلهم فقهاء شريعة وعندنا لا أحد يعرف الشريعة إلا هو وإذا قبلنا كلامه باعتباره واقعاً لنسأله: ماذا كان يفعل خطباء المساجد طوال أربعة عشر قرناً إذا كان الموصوفون بالإسلام كلهم لا يعرفون أبجديته؟ وماذا تفعل أنت بالذات وأنت منذ عقود تجود على الناس بطلتك البهية من على شاشة التلفزيون السوري لتحشو في عقول مشاهديك مبادئ دينهم قبل أن تظهر الفضائيات وتتسابق إلى الفوز ببركاتك؟ وماذا كنت تفعل على امتداد نحو نصف قرن في جامعة دمشق؟
وهو –البوطي– ما يزال ينتظر رأي هؤلاء الذين لم يدرسوا الإسلام بل جَرَوا على تقليد الغربين في الشوط الأخير أما هو فقد درس الإسلام دراسة علمية مستوعبة ومتحررة. حقيقته، وتاريخه، ومصدره(8) لينتهي إلى اكتشاف المفاجآت العظيمة: الإنسان لم يخلق نفسه، والله موجود وهو الخالق، ومحمد نبي الله، والقرآن موحى به من الله، هذه هي نتيجة الدراسة العلمية والمستوعبة والمتحررة للإسلام فالبشرية قضت أربعة عشرة قرناً تنتظر البوطي ليدرس الإسلام ويخرج عليها بتلك الاكتشافات العظيمة، وكما قلت فالبوطي هنا –إضافة إلى أغلاطه كلها– يخلط عمداً بين القرآن والفقه ليضع العلمانية في مواجهة الدين ولا خيار آخر. ولأن الإسلام -كما يفهمه البوطي– لم يصنعه البشر –كما المسيحية– لذا فإننا لا نستطيع أن نتبع خطى الغربيين في العلمانية، وإذا كان الأمر كذلك فإن دعاة العلمانية لا يملكون إلا خيارين اثنين: إما أن يقولوا لنا بكل جرأة أنهم يريدون أن يتبرؤوا من هذه الحقيقة الإسلامية الجاثمة، وإما أنهم لا يريدون أن ينكروا حقائق الإسلام وجوهره المتمثل في الوحي الإلهي. ومن ثم فلا بد أن يكون إليه حل المعضلات السياسية، وحل المعضلات العلمية، وحل المعضلات الاجتماعية(9)، فإذا كان الله قد اشترط علينا حتى نكون مسلمين حقاً أن نخضع طائعين لحكم السيد –بوطي– باعتباره الوحيد الذي درس الإسلام دراسة علمية مستوعبة ومتحررة وأن نحكمه في رقابنا سياسياً واجتماعياً و… فهل ألزمنا الله أن نتداوى عند البوطي أيضا وأن ننتظر حتى تجود علينا قريحته المباركة بقوانين الرياضيات والفيزياء والفلك و…. وإلا ما معنى حل المعضلات العلمية؟
يحدد البوطي ثلاث مشكلات أساسية في العالم العربي
التجزؤ، القضية الفلسطينية، التخلف الحضاري. القول إن العلمانية هي الحل يعني أنها وحدها القادرة على حل تلك المعضلات وهو يظن أن الإسلام هو الذي وحد هذه الأمة(10) بعد أن كانت الأمة العربية مجموعة من قبائل متنافرة متخاصمة، ولكن الإسلام قضى على تلك التجزئة وأثبت من وراء ذلك وحدة ما تزال الدهور تخشع لها(11) ليخلص إلى نتيجة أن الإسلام هو الذي أوجد العروبة وليست العروبة هي التي أوجدت الإسلام(12) وينسب تلك المقولة إلى الرئيس السوري السابق حافظ الأسد ربما ليسورها بحصانة تمنع الآخرين من الاقتراب منها.
أي بعبارة أوضح ليستظل بمظلة الأجهزة الأمنية للسلطة في سوريا فيقي نفسه شمس الحقيقة.
أما لماذا حدثت التجزئة؟ فهذا يعود إلى تقلص فاعلية الإسلام الذي كان مهيمناً إلى الأمس القريب على أجهزة الحكم(13).
لا يحدد البوطي هذا الأمس القريب مع أنه يفهم من سياقات متعددة الدولة العثمانية فـ: الخير الكبير الذي أسداه الإسلام إلى مجتمعاتنا قد تقلص هو الآخر وأعني بالخير الكبير الوحدة التي حققها الإسلام(14)، ثم يسرد التاريخ العربي (الإسلامي) بطريقة لا ترقى إلى مستوى تلميذ في المرحلة الابتدائية متجاوزاً حقائق الواقع كلها في إطار لغة سردية رومانسية مقيماً المآتم على انهيار الخلافة العثمانية (الإسلامية) التي كانت تؤمن حتى أواخر عهدها بوحدة الأمة الإسلامية، تلك الوحدة التي تحمي حقوقها، وجرى ذلك بتدبير بريطانية والصهيونية ليتساءل: أكانت تلك الوحدة إذاً وقد كانت مصدر قوتنا وتقدمنا ثمرة الحياة العلمانية أم ثمرة الالتزام الصادق بالإسلام(15).
ينسى البوطي هنا أن ما يعتقده وحدة الأمة الإسلامية كان يشمل فقط تركيا والعالم العربي –عدا محميات الخليج التي رضيت دولة الخلافة المزعومة بالتنازل عنها للأوروبيين- وبعض مناطق البلقان ومن ثم ما شأن إيران الإسلامية التي كانت في صراع مر وطويل مع خلافة البوطي وأفغانستان وشرق آسيا والمناطق الإسلامية في أفريقيا. على البوطي أن يجيبنا في ما إذا كان يعتبر تلك المناطق من الأمة الإسلامية أم أن الأمة الإسلامية تشمل فقط العالم العربي ودولة ما مهيمنة عليه بذريعة الإسلام؟
ثم عليه أن يقرأ تاريخ الإمبراطورية التي يندبها ليرى أن حركات التمرد والاستقلال ضد خلافته -رحمها الله- هي التي كانت تحدث أثراً ما من التقدم في مواجهة الظلمة المطلقة والظلم المعمم اللذين كانت خلافته تنشرهما بين شعوبها.
المشكلة في البوطي وفقه الاستبداد عموماً التوحيد بين ذواتهم المبجلة والدين وتالياً بين تلك الذوات والذات الإلهية. يضعونك أمام خيارين لا ثالث لهما إما أن تقبل ما يقولونه باعتباره نصوصاً إلهية غير قابلة للمناقشة أو أن تقف في الصف المواجه للذات الإلهية مباشرة.
لا يستطيع البوطي أن يفرق بين (العالم العربي) القديم والحجاز باعتباره إقليما عربيا صغيرا فيعمم شكل الحياة الحجازية على الواقع العربي بعامة ومن ثم فعندما تقول له إن العرب قبل الإسلام لم يكونوا قبائل متنافرة إلا في الحجاز يفهم منك مباشرة أنك تنكر دور الإسلام في قلب نظام الحياة العربية، وإذا قلت له إن مجتمعا كالمجتمع العربي (الحجازي) الذي تصفونه بتلك السوءات كلها لا يستطيع حمل لواء عقيدة كالعقيدة الإسلامية اتهمك بالكفر لأنك تكذب نصوصاً قرآنية يزعمون أنها تصف الحياة الحجازية.
لا أحد يستطيع أن ينكر دور الإسلام في توحيد (الحجاز) وتالياً مناطق جزيرة العرب معظمها بقيادة موحدة والانطلاق منها إلى العالم العربي القديم ثم تشكيل النظام الإمبراطوري في منتصف القرن الثامن الميلادي لكن ما هو خير للإسلام من جهة وإقرار بالحقيقة التاريخية من جهة أخرى أن نعترف أن الإسلام لعب دوراً حاسماً في تكوين جماعة منظمة استطاعت أن تفرض وجودها على المجتمع العربي (الحجازي) لتجعل منه قاعدة الانطلاق. أي تكوين الدولة والسيطرة عليها واستخدامها في تحقيق الأهداف (وهذا ليس عيباً أو سُبة بل الطريق التي انتشرت بوساطتها الأفكار كلها في التاريخ ما قبل الديمقراطية) وهنا يسقط أو يتضاءل دور العامل العقائدي واقعياً لمصلحة عوامل موضوعية أخرى، ومع أن المجال لا يحتمل مناقشة موسعة للفكرة فإننا ندلل عليها بشكل سريع بالوقائع التاريخية الآتية:
خاض النبي معركة بدر الكبرى في السنة الخامسة عشرة للبعثة ومعه نحو ثلاثمئة مقاتل فيهم عدد لا بأس به من الجيل الثاني. أي أبناء المسلمين وبعد سبع سنوات تقريباً خاض معركة حنين بعشرات آلاف المقاتلين فهل قضى النبي خمسة عشر عاماً لم يقنع سوى بضع مئات واستطاع في سبع سنوات أن يقنع آلافاً مؤلفة؟
على السيد البوطي أن يدرس أكثر دور كل من العقيدة والعوامل الموضوعية لا أن يسرد علينا لغة رومانسية بوصفها الدين والدنيا على حد سواء.
الخلافة الإسلامية (العثمانية) التي يندب ويلطم على ضياعها لم تحقق لنا القوة والتقدم كما يتوهم بل أخرجتنا من التاريخ وألقت بنا في مزابل الوجود وما زلنا نئن من تبعاتها والانقسامات لم تبدأ بسبب المؤامرات البريطانية والصهيونية ولكن بسبب الطبيعة الإمبراطورية للدولة وطالب في المرحلة المتوسطة يعرف أن (الخلافة) التي يندبها تفاهمت مع البرتغاليين والهولنديين وغيرهم في الخليج العربي وتعايشت مع وجودهم هناك على حساب مسلمي تلك المناطق في أوج دور القوة لتلك الإمبراطورية.
التجزئة أيها السيد لم تحدث في الأمس القريب فقد بدأت بعيد وفاة النبي مباشرة في ما عرف باسم حرب المرتدين التي حسمت بالقوة العسكرية العارية ثم تجددت إثر مقتل الخليفة الثالث (عثمان) وتبسيط الأمور إلى درجة توصيف الصراع بأنه إخوة متحابين متآلفين تسرب بينهم عبد الله بن سبأ فأفسد صلة بينهم، وسرعان ما عاد الأمر إلى أعلى درجات الانسجام والانتظام(16) فيه سذاجة مبالغ فيها وفيه إهانة ما بعدها لأصحاب النبي من القيادة فإذا كان أصحابه مع ما يوصفون به كله عادة من الإيمان العقائدي الحديدي يتسرب بينهم ظربان ويفعل بهم تلك الأفاعيل كلها ويذهب آلاف الشهداء العرب ضحية إفساد صلة بينهم فهل يحق لنا الحديث عن مؤمنين غزو الأرض بقلوبهم قبل سيوفهم وأقاموا العدل، إذا كانت قياداتهم بتلك السذاجة التي يتحدث عنها البوطي، وإضافة إلى السذاجة والإهانة فيه افتراء على التاريخ فالأمور ما عادت إلى أعلى درجات الانسجام والانتظام حتى الساعة بل على العكس يتزايد الصراع حدة في كل يوم.
يتعرض البوطي لظاهرة الإصلاح الديني التي حاول بعضهم القيام بها في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين فلا يرى فيها سوى مكيدة بريطانية فقد أوحت بريطانية عن طريق رسلها إلى القائمين على شأن الأزهر أنه ليس بين الأمة العربية التي تعيش عصر التخلف بسبب انهيار الخلافة العثمانية وأن تنهض كنهضة أوروبا العلمية التقدمية إلا شيء واحد هو أن يتطور الإسلام في المجتمعات الإسلامية(17)، ويبدو أن البوطي قد غير رأيه فقد أحسن الظن قديماً بالمنادين بالإصلاح الديني عندما أعاد الأمر إلى انبهارهم بالحضارة الغربية، لقد علم الباحثون والمفكرون بعامة أن من أهم أسباب نشأة تلك المدرسة (يقصد مدرسة الإصلاح الديني في مصر) في حينها الانبهار الذي أصيبت به كثير من العقول العربية المسلمة من أنباء النهضة العلمية في أوروبا(18)، فالإصلاحيون الدينيون والقوميون العرب ومحمد علي كلهم آلات تعمل بالإرادة البريطانية والصهيونية.
(لا يوضح البوطي رأيه في الحركة الوهابية التي هي حركة إصلاح ديني مشابهة من حيث الرؤية العامة والهدف الغائي لحركة الإصلاح الديني المصرية، خاضت صراعاً مراً مع الإمبراطورية قبل ظهور الحركة المصرية، ولا ندري إذا كان لإهمال الحركة الوهابية من معنى أم أنه محض إهمال لا أكثر).
الحل كما يرى البوطي في عودة الأمة إلى سابق وحدتها –لا ندري إذا كانت تلك الوحدة المأمولة تحت راية الخلافة العثمانية أم تحت راية خلافة أخرى– ثم تعود الأمة إلى الاستقرار النفسي والاجتماعي ذلك أن الاضطرابات المختلفة التي تفور بها مجتمعاتنا مفتعلة ومطبوخة بأيدي أعداء الله ومن ثم بأيدي أعدائنا(19).
هذا التوحيد المستمر بيننا وبين الله باعتبارنا شعبه المختار أحد أهم وسائل الفقه الاستبدادي إذ يعمي البصائر عن الأسباب الحقيقية لكوارثنا ويرمي اللوم على الشعب باعتباره ليس مسلماً كما يجب ولذا فالله لا ينصره.
ليتساءل بعدها البوطي هل حل مشكلة التجزئة باعتبارها المشكلة الأم التي تفرعت منها المشكلات كلها في مزيد من الابتعاد عن الإسلام واللجوء إلى العلمانية؟
ما من عاقل إلا ويعلم أن اللجوء إلى هذا الحل ترسيخ للمشكلات التي نعانيها وليس في حال من الأحوال علاجاً لها(20)، ألم نقل إن البوطي هو العقل والإسلام والذات الإلهية ومن لا يقبل كلامه فهو مجنون أو من أعداء الإسلام أو عدو الله؟
وبما أننا سذج وأطفال نُستَدرَج بقطعة حلوى أو بمحض وعد بها فقد ضحكت علينا بريطانية، لقد خدعتنا بريطانية يوم فعلت أفاعيلها للقضاء على الخلافة الإسلامية إذ راحت تهمس في آذان السذج والبسطاء من العرب مطمئنة أن عقد الخلافة سينتزع من جيد الأتراك ليحلى به جيد العرب(21).
استدرجنا البوطي إلى مواقع عدة ابتعدت بقدر أو بآخر عن موضوعنا الذي هو العلمانية والدين ولكنه ربط تلك الموضوعات ببعضها فأجبرنا على السير وراءه لنتتبع رأيه ونخلص إلى:
العلمانية ليست حاجة فرضتها التطورات العلمية والاقتصادية والاجتماعية للجنس البشري ممثلاً في أوروبا الناهضة، وإنما هي خلاصة دراسة قام بها الأوروبيون لدينهم فلما تبين لهم أنه ليس من عند الله بل من وضع الكنيسة استبدلوه بالعلمانية. ولأن ديننا من عند الله فلا حاجة بنا إلى العلمانية لأن جزاء صبرنا على الظلم والحرمان واستلاب الكرامة البشرية الجنة بإذن الله وهذا يكفينا.
لا يرى البوطي عدد الذين يؤدون الصلاة خلف البابا في أوروبا كلها والعالم المسيحي ولا يسمع أدعيتهم ولا أي شيء من هذا القبيل.
الأوروبيون تخلوا عن دينهم القديم (المسيحية) واستبدلوه بدين آخر (العلمانية)، ولكن لم يقل لنا البوطي ما شأن المسيحيين العرب والآسيويين والأفارقة والأمريكيين اللاتينيين. هل وصلوا إلى النتيجة ذاتها أم أنهم في الطريق إليها، أم أن ديانتهم تختلف عن ديانة المسيحيين الأوروبيين؟ وما شأن أتباع الديانة اليهودية من المتطرفين اليهود في فلسطين أو من العلمانيين اليهود في أنحاء العالم كافة وما إذا كان هؤلاء أيضا أطفالاً سذجاً ضحكت عليهم بريطانيا فانحرفوا صوب العلمانية. أم أن الدين اليهودي هو الآخر مواضعات بشرية تراكمت مع الزمن؟ وأديان شرق آسيا؟ أم أن الأديان كلها –باستثناء الإسلام– ينطبق عليها الحكم ذاته؟
يكمن الحل في الإيمان ومن ثم فمشكلاتنا جميعها سببها ضعف الإيمان أو الابتعاد عن الإسلام ومن هنا فالواقع الاجتماعي والسياسي والثقافة الاستبدادية التي يخدمها (البوطي) ويروج لها ودرجة التطور الحضاري عموماً ليست ذات معنى.
يتعرض البوطي لقضية الديمقراطية ويخلص من خلال بعض السرديات إلى أن الإسلام الحقيقي إذا حكم فلن يضيق السبيل إلى الحرية أبدا ولن يوصد باباً من أبواب الشورى أو الديمقراطية السليمة، وأنا لا أتحدث عن الديمقراطية المزيفة(22)، ويربط التكليف بالحرية مستشهداً ببعض النصوص القرآنية وأن الله لا يلزم عباده في الدنيا بأن يتمسكوا بشرائعه وإنما يطلب منهم أن يلتزموا بها طوعاً ولا يلزمهم بها كرهاً، أفيملك الحكام أن يجبروهم بما لم يجبرهم هو؟(23) ويستدل على ذلك من بين استدلالاته بقوله في القرن الثاني الهجري ولدت الفرق الباطلة المنحرفة وتكاثر بعضها من بعض وقد خرج بعض منها عن ربقة الإسلام ووقع في مزالق الكفر، منها المعتزلة بفرقهم كلها؛ المرجئة، الجهمية، الحشوية، القدرية، الجبرية، الخوارج. (هل نسي فرق الشيعة أم لم يتجرأ على ذكرهم خوفاً على الجعالة).
لقد ترك هؤلاء الناس يتحدثون كما يشاؤون، ويدللون على أفكارهم الزائفة كما يحبون(24) ولكن تلك الحرية مشروطة بضابطين إضافة إلى وجود حكم إسلامي يطبق الشريعة كما أمر الله وكما كان سيدنا محمد يطبقها(25). الضابط الأول أن تكون أفكار المعارضة ذاتية فإذا تبين أن هنالك وحياً خارجياً يقود هذه المعارضة فإن على الدولة في هذه الحال أن تصادر تلك الحريات لأنها خادم لأفكار أجنبية لا علاقة لهذه الأمة بها(26).
الضابط الثاني ألا يتجه نشاط المعارضة ونشاط المذاهب السياسية أو الثقافية أو الفكرية الأخرى إلى تقويض الحكم الإسلامي. أي لا يتجه إلى القضاء على الإسلام ذاته وجوهره من خلال القضاء على هذه الحكم فإذا تبين للدولة أن المعارضة تتجه إلى هذا القصد فمما لا ريب فيه أن هذه الحرية يجب أن تصادر(27).
ويعتبر الشرطين السابقين ما يقضي به النظام العالمي كله، وهو ما تسير عليه دول العالم أجمع(28).
يصر البوطي على التوحيد بين ذاته الجليلة والذات الإلهية في كل موقع فهو الذي يقرر الفرق الضالة والمنحرفة أو الخارجة على ربقة الإسلام أو المنزلقة إلى الكفر في إطار عقلية (الفرقة الناجية) التي تهتدي بظلامها الفرق الإسلامية كلها، وهو الذي يقرر ما هو الحكم الإسلامي الصحيح من المدعي والديمقراطية الحقيقية من المزيفة وفي النهاية هو وحده من بيده الملك وإليه المصير إذ من حقه أن ينبش وراء الأفكار ليقرر أيها نبع من ذات الجماعة المعارضة وأيها أوحي به إليها من الخارج، وأن يفتش في قلوبها ليعرف في ما إذا كانت تعتقد الخير في ما ترى أم تهدف إلى تقويض الحكم الإسلامي أو –وهنا الطامة الكبرى– القضاء على الإسلام نفسه باعتبار أن هذا الإسلام يتجسد في أشخاص معينين آتاهم الله تفويضا بالحكم باسمه وتمثيل دينه بل الحلول محله، وفي النهاية ديمقراطية البوطي جبهة إسلامية تقدمية وهيئة كبار العلماء وهيئة تشخيص مصلحة النظام ومجلس شورى المجاهدين بدل الجبهة الوطنية التقدمية وهياكل وأشباح تسبح باسم السلطان الذي يمثل الله على الأرض بدل السلاطين الذين يمثلون القومية والاشتراكية، أي نخرج من تحت الدلف إلى تحت المزراب.
يطرح البوطي مسألة الردة فيفرق بين حالتين: الأولى سرية أي بين الشخص ونفسه في هذه الحالة لا يلاحقه أحد ولا يتجسس عليه لمعرفة دخيلة نفسه أحد(29) وعلينا شكره فقد ترك للناس مساحة من الحرية هي دواخلها، وربما فكر مع الأيام واهتدى إلى طريقة يقتحم بها دواخل الناس فيحرمهم تلك الحرية العظيمة.
الحالة الثانية يجعل من ارتداده إعلانا كبيراً متحدثاً بلسانه أو كاتباً بقلمه(30) فإنه ولا شك أبى إلا أن يحيل نفسه إلى جرثومة تسري بالعدوى في المجتمع. (لاحظ كيف يصف الآخر).
الإسلام لا يأخذه هنا بجريرة اختياره دينا مكان دين لأنه جعل من عمله هذا سلاح حرب ضد المجتمع أو ضد الدولة التي هو فيها(31) مسوّغا ذلك إذ كان بوسعه لو لم يضمر الحرابة لنظام المجتمع الذي هو فيه أن يجتر عقيدته الجديدة بينه وبين نفسه في داره، أو كان بوسعه أن يخرج من هذا المجتمع فيلتحق بمجتمع آخر ليبعد شره عن المجتمع الذي كان فيه(32).
دعوة صريحة إلى النفاق والانتهازية والظهور بوجوه متعددة وأيضا إلى التطهير العنصري على أسس دينية وطائفية تلك هي الديمقراطية الإسلامية كما يفهما البوطي ويدعونا إلى ملء الدنيا زغاريد ابتهاج بها ونسخة (ولكن بمفردات إسلامية) عن ادعاءات الأنظمة الاستبدادية كلها التي تنشئ حزب الناس كلهم وتجبر الشعب بأكمله على الانخراط فيه ولا تهم القناعة لأن المطلوب أن تصفق فقط وتقطع لسانك أي أن تحتفظ بعقيدتك في داخلك وإلا تعرضت لمحاكم التفتيش بجريرة ترويج أقاويل تضعف عزيمة الأمة.
هكذا فالتاريخ محض رغبات أفراد ومن ثم لا حاجة لنا بها لأن ديننا من عند الله وليس مواضعات بشرية كما المسيحية. القصة وما فيها –وعلى الرغم من أنف التاريخ– تختصر في ابتعادنا عن الإسلام والحل في عودتنا إليه ومن ثم فالشروط الموضوعية محض أوهام أو أكاذيب اخترعتها بريطانية للضحك علينا، الديمقراطية مقرة في الإسلام ولكن شرط ألا تكون أداة للتآمر على الإسلام أو الحكم الذي يمثله، أليس هذا هو منطق الاستبداد بعينه مستخدما ألفاظاً أخرى؟
ليس البوطي الوحيد لكنه نموذج ميِّزته أنه يتحدث من شاشة تلفزيون نظام يدّعي العلمانية. أعني هنا أنه ربما كان مرغما (مجاملة) على تخفيف النبرة وإظهار مرونة في الرؤية فما شأن الآخرين الذين يتحدثون من شاشات تؤمن أصلاً بهذه الأفكار؟
لا يتورع فقهاء الاستبداد عن تزييف الحقائق وتشويه التاريخ والطعن في مقدسات الآخر وارتكاب الموبقات كلها للترويج لأفكارهم التي عرضنا بعضاً منها عند البوطي، فهل المشكلة في أولئك المتهمين بمعاداة الإسلام من خلال تبني العلمانية أم في أولئك المختبئين وراء الإسلام محافظة على الجعالات التي يتنعمون بها؟ سؤال سأتركه مفتوحاً للقارئ يجيب عليه بنفسه.
مراجع
- يغالطونك إذ يقولون، دار الفارابي، ودار اقرأ ط 3/ 2000.
- ص 36.
- ص37.
- ص 38.
- المقدسي، مقدمة كتابه: رسالة الجفر.
- يغالطونك إذ يقولون، ص42.
- ص43.
- ص44.
- ص51.
- ص57.
- ص57.
- ص58.
- ص58.
- ص61.
- ص62.
- ص19.
- ص64.
- فقه السيرة، ط 8، دار الفكر 1980.
- يغالطونك إذ يقولون، ص68.
- ص69.
- ص71.
- ص128.
- ص130.
- ص133.
- ص135.
- ص136.
- ص137.
- ص139.
- ص139.
- ص139.
- ص140.
- ص139-140.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.