“هم المهاجرون، أما نحن فالأنصار”، عبارة أعلن من خلالها “رجب طيب أردوغان” ما أسماه انحياز بلاده للثورة السورية، التي قامت ضد صديقه المقرب وقت ذاك، “بشار الأسد”، لتمر السنوات وتتوالى الأحداث، وتظهر مفاهيم وحقائق جديدة حيال ذلك الشعار، فرضتها بعض الأحداث والممارسات من قبل “أردوغان”، الذي ترقى خلالها من رئيس حكومة إلى رئيس جمهورية، ناقلاً معه كافة صلاحياته التنفيذية.
منذ البداية: أين الهرموش؟
رغم سياسة الحدود المفتوحة، التي اتبعتها حكومة العدالة والتنمية، المقربة من الإخوان المسلمين، أمام اللاجئين السوريين، والتصريحات النارية التي أطلقها “أردوغان”، والذي كان رئيس الحكومة آنذاك، بأن حماة لن تتكرر ثانيةً، وحالة القطيعة المعلنة مع صديق الأمس “بشار الأسد”، إلا أن إشارات الاستفهام حول حقيقة الدور الذي تقوم به تركيا ظهرت مبكراً، من خلال إعلان النظام السوري عن اعتقال أول ضابط منشق عن جيشه، المقدم “حسين الهرموش” عبر اختطافه من الأراضي التركية، والذي شكل خلال الأيام الأولى لانشقاقه إيقونة من إيقونات الثورة.
علامات الاستفهام حول دور تركيا في عملية تسليم “الهرموش” لم تكن مرتبطة فقط بأن اختطافه تم على أراضيها، وإنما في المعلومات التي تواردت فيما بعد، عن ضلوع المخابرات التركية في ذلك، حيث كشف عدد من المقربين من الضابط المنشق، أنه في توقيت الاختطاف كان على موعد مع مسؤولين في الأمن التركي، ليختفي بعدها، إلى أن ظهر على شاشة التلفزيون الرسمي للنظام السوري، معترفاً بما لم تقترفه يداه.
تمكين الإخوان وشرذمة المعارضة
إشارة الاستفهام الثانية حول نوايا حكومة العدالة والتنمية لم تتأخر كثيراً أيضاً، والتي ظهرت مع تشكيل المجلس الوطني المعارض وما تلاه من تشكيل الائتلاف، حيث اعتبر عدد من ناشطي الثورة السورية “رفضوا الكشف عن هويتهم” في تصريحهم لمرصد “مينا”، أن استقبال تركيا للمعارضة السورية واختيار اسطنبول لتكون مهداً للمؤسسات السياسية المعارضة، كان هدفه تمكين جماعة الإخوان المسلمين من السيطرة على الثورة، وتسييرها بما يتفق مع المصلحة التركية، نظراً للعلاقة العقائدية القوية بين الطرفين”.
الأكاديمي والسياسي السوري “جيان عمر” من جهته، كان واحداً من السياسيين السوريين الذين حملوا تركيا مسؤولية ما تشهده الثورة السورية، حيث أكد أن السياسة التركية قادت إلى شرذمة المعارضة السياسية وتبعثرها أكثر من السابق وإضعاف القوى الليبرالية والوطنية السورية لصالح تقوية تيار الإسلام السياسي المقرّب من حزب العدالة والتنمية والمتمثّل بجماعة الإخوان المسلمين السورية، مضيفاً: “نحن نرى اليوم الهياكل السورية المعارضة كالائتلاف الوطني السوري وهيئة التفاوض قد أصبحت بسبب هذه السياسات كيانات هزيلة فاقدة للبوصلة الوطنية ولا تحظى حتى بدعم الشارع السوري المعارض”.
مصالح الأنصار يرويها دم المهاجرين
ماذا تريد تركيا من ثورة جيرانها؟، هو السؤال الذي تمثل إجابته كلمة السر الرئيسية في فهم وتفسير السياسة التركية حيال القضية السورية، خاصةً مع ربط الكثير من السياسيين السوريين بين المصالح التي حققتها حكومة “أردوغان” خلال السنوات الثمان الماضية، وبين استمرار شلال الدم السوري وتزايد أعداد ضحايا صراع الأسد مع الشعب.
وبهذا الصدد، لفت “عمر” إلى أن الحكومة التركية، بقيادة حزب العدالة والتنمية ورئيسها “رجب طيب أردوغان” حولوا القضية السورية إلى ورقة سياسية يتحكمون بها لمصالحهم السياسية الداخلية تجاه خصومهم السياسيين في الداخل التركي، إضافةً إلى استخدام هذه الورقة في سياساتهم الإقليمية والدولية، لافتاً في الوقت ذاته، إلى التبدلات الواضحة لسياسات الحكومة التركية تجاه إيران وروسيا على الصعيد الإقليمي وتجاه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية على الصعيد الدولي.
وأضاف “عمر”: “انتقلت تركيا وأردوغان من الخطاب الناري تجاه النظام السوري وحليفه الإيراني في أواسط العام 2011، مع الخطوط الحمراء في سوريا التي أعلنها أردوغان وصولاً إلى إسقاط الطائرة الحربية الروسية على الحدود التركية السورية ومن ثم الانعطافة الحادة التي بدأت الحكومة التركية بانتهاجها مع بداية العام 2015 وتخفيف حدّة التوتر مع إيران وروسيا وصولاً إلى فرض مفاوضات آستانة في العام 2016 على المعارضة السورية بعد إقصاء الشخصيات الوطنية السورية التي رفضت الانجرار وراء هذه المفاوضات وإنتاج تركيا لشخصيات سورية تأتمر بآوامرها وتسير مع توافقاتها مع طهران وموسكو والتي كانت نتيجتها سقوط معظم المناطق التي كانت خارجة عن سيطرة النظام السوري في حلب وريف دمشق وحمص وحماة ودرعا”.
أمّا على الصعيد الدولي، فاعتبر الأكاديمي السوري أن الورقة السورية أصبحت بكاملها في القبضة التركية، مشيراً إلى أن حزب العدالة والتنمية استغل تقارب تركيا مع روسيا لصالح تقوية موقفها تجاه الولايات المتحدة الأمريكية ودول الناتو عموماً، ومن ضمنها صفقة صواريخ اس 400 الروسية والأزمة المستمرة منذ ذلك الحين مع حلف الشمال الأطلسي، والتي لم يسبق أن واجه الناتو أزمة داخلية مشابهة منذ تأسيسه.
كما لفت “عمر” إلى وجوب أن يؤحذ بعين الاعتبار أن الأحداث المذكورة؛ كانت تحصل وفق تسلسل زمني وترابط جوهري بوصلته مصالح حكومة العدالة والتنمية بالدرجة الأولى والدولة التركية بالدرجة الثنية على حساب تدهور الثورة السورية وانزلاقها إلى منحدرات بعيدة كل البعد عن أهداف ثورة السوريين والتغيير الديمقراطي المنشود، على حد وصفه.
اللاجئون السوريون قوارب تعادل مليارات
“سأفتح الحدود، وسأغرقكم باللاجئين”، هو ما اعتاد الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” على ترديده كلما حدثت أزمة علاقات بينه وبين دول الاتحاد الأوروبي، والتي كانت آخرها عند اعتراض دول الاتحاد على عملية “نبع السلام” التي شنها الجيش التركي في سوريا، حيث أشار الأكاديمي السوري “جيان عمر” إلى أن اللاجئين كانوا أيضاً من بين الأمور التي استغلها “أردوغان”، في أزماته الدولية.
وبالتزامن مع حديث “عمر”، أشار محللون سوريون إلى أن حكومة العدالة والتنمية كانت صريحةً في استخدام اللاجئين كورقة ضغط أو كابتزاز سياسي لأوروبا، وهذا بحد ذاته، ما يفسر أيضاً سبب توجه أردوغان لسياسة الحدود المفتوحة واستقبال ملايين اللاجئين”، مشيرين إلى أن تركيا تمكنت أيضاً من الحصول على مليارات الدولارات من أوروبا بعد اتفاق اللاجئين الذي وقعه رئيس الحكومة الأسبق “أحمد داوود أوغلو”، والذي لم تلتزم به تركيا، بحسب ما أعلنته دول الاتحاد الأوروبي.
سياسة غير حكيمة ونقل الصراعات
وفي ختام تصريحاته حول التدخل التركي، أشار السياسي السوري “جيان عمر” إلى أن إدارة الملف السوري ضمن حكومة العدالة والتنمية كان منذ البداية، إدارة غير حكيمة تفتقد إلى رؤية واضحة حيال التغيير الديمقراطي الذي خرج من أجله الشعب السوري إلى الشارع مع انطلاق ثورات الربيع العربي، مضيفاً: “كان هذا جلياً في تعاملهم مع المنشقين العسكريين والضباط السوريين الذين كانوا يقيمون في معسكرات مغلقة في تركيا على الحدود التركية السورية حيث تمّ إضعاف دور الضباط المنشقين لصالح فسح المجال أمام المسلحين المدنيين الذين كانوا يفتقدون إلى الإنضباط المطلوب ضمن أي جيش وكان هنا الانحراف الأول الذي تمّ للجيش الحر بشهادة الضباط السوريين المنشقين الذين اشتكوا مراراً من قبضة المخابرات التركية التي كان تفرض عليهم سياسات ترسمها دوائر الاستخبارات التركية وفق مصالح حكومة العدالة والتنمية”.
ورأى “عمر” أنه مع تدهور مفاوضات السلام بين تركيا وحزب العمال الكُردستاني في العام 2014 بدأت تركيا بتصدير نزاعها الداخلي هذا إلى سوريا لتصفيته على الأراضي السورية وبدماء السوريين وعلى حساب قضيتهم فكانت عملية غصن الزيتون ولاحقاً نبع السلام ترجمةً عملية لتصدير هذه الأزمة الداخلية التركية مع العمال الكُردستاني إلى سوريا خصوصاً، مع الأخذ بالاعتبارأنّ تركيا كانت تتفاوض على أراضيها مع ممثلي حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السوري للعمال الكُردستاني) داخل تركيا في الأعوام 2012/2013 وكانت المخابرات التركية تُعلن عن الزيارات المتكررة لوفود هذا الحزب إلى تركيا للتفاوض، على حد قوله.
وأضاف “عمر”: “مع انهيار عملية السلام مع ب ك ك ألغت تركيا مفاوضاتها مع ب ي د أيضاً وبدأت بتصدير الصراع الكُردي التركي فعلياً إلى سوريا مستغلةً الفصائل العسكرية المحسوبة على المعارضة والتي أنتجتها وساهمت في تسليحها وتقويتها على حساب تصفية الجيش السوري الحر واسغلال اسمه للتغطية على هذه الفصائل المحسوبة على تركيا، متهماً السياسة التركية بالتسبب بخلق صراع عسكري كُردي عربي لم يكن موجوداً منذ تأسيس الدولة السورية وأدخلت السوريين كُرداً وعرباً في حالة عداء يستفيد منها نظام “الأسد”، الذي لطالما عمل منذ أيام “الأسد الأب” على تأليب السوريين ضدّ بعضهم البعض وفق سياسة فرّق تسد.
وختم “عمر”: “حقيقةً لا يمكن تصور عزل الثورة السورية عن التأثير التركي كون سوريا تملك حدوداً طويلة مع تركيا تبلغ أكثر من 900 كلم إضافةً إلى أنّ تركيا هي المنفذ الأكبر لسوريا إلى أوروبا والعالم، ولو كانت سياسة الحكومة التركية تأخذ مصالح الشعب السوري ورغبته في التغيير الديمقراطي بعين الاعتبار كان سيكون لذلك أثر إيجابي على القضية السورية عموماً وكان يمكن أن تلعب تركيا دوراً بنّاءً في لملمة كيانات المعارضة السورية وتقوية موقفها في المفاوضات وأيضاً حل الصراع الكُردي التركي في تركيا ما كان سيكون له أثر إيجابي على التقارب الكُردي العربي التركماني في سوريا أيضاً ولكن للأسف حكومة العدالة والتنمية والرئيس التركي أردوغان قدّموا مصالحهم الحزبية والشخصية على مصلحة جيرانهم السوريين وتسببت سياستهم باستمرار الصراع التركي الكُردي أيضاً والذي ينعكس سلباً على المجتمع داخل تركيا ويستنزف الاقتصاد التركي لصالح صراعات عسكرية لا نهاية لها ستستمر طالما بقيت القضية عالقة”، لافتاً إلى أن مصير سوريا اليوم يتجه نحو المجهول، خاصةً وأن المعارضة السورية تائهة في الساحة الدولية لا تملك قرارها ويتم رسم مستقبل السوريين على طاولات طهران وموسكو وأنقرة بعيداً عن أخذ مصلحة السوريين بعين الاعتبار .
ولذلك لا يمكن التنبّؤ بمصير سوريا التي أصبحت بحاجة إلى معجزة حقيقة للخروج من دوامة الصراع العسكري الذي يهدد اليوم شمال شرق سوريا وإدلب تحت شعارات محاربة الإرهاب، على حد وصف السياسي السوري.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.