يمكن تقسيم الفهم التاريخي لظاهرة التكفير إلى قسمين: الأول، يعتمد على مفاهيم خطاب “تكفيري” يقوم بتكفير المجتمع وينحو إلى تكفير الأمة، والثاني، يقوم على تكفير الأفراد ومنهم المفكرون والأدباء والمبدعون والفنانون، بالاستناد إلى تقييم فردي لكل حالة من الحالات الشخصية للإبداع الذي أنجزه هذا المبدع المكفَّر من خلال إحالة المنجز الإبداعي أو جزء منه إلى مرجعيات إسلامية خاصة، منها “الأزهر وعلماؤه” في مصر، اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية، وهناك مرجعيات (سياسية/إسلامية) كـ: جماعة الإخوان المسلمين في أكثر من بلد عربي، مشايخ العقل عند طائفة الموحدين الدروز، بالإضافة إلى مرجعيات كـ: الإمام الخميني عندما أفتى بتكفير الكاتب سلمان رشدي بسبب روايته “آيات شيطانية” فأدى ذلك إلى منع ترجمتها إلى اللغة العربية في العديد من البلدان العربية في العلن، فترجمت سراً ووزعت في أكثر من بلد عربي.
الخطاب التكفيري:
يحدد أبو الأعلى المودودي حقيقة الكفر في كتابه مبادئ الإسلام على صعيد الفرد بالقول: “إن الإنسان ولد مسلماً وعاش مسلماً طول حياته. من غير أن يشعر بإسلامه أو يفطن له، ولكنه ما أعمل قوته العلمية والعقلية. ليعرف من خلقه، وشق سمعه وبصره. فأنكر وجوده، واستكبر عن عبادته، وأبى أن ينقاد لقانونه الشرعي فيما أوتي فيه حق التصرف والاختيار من أمور حياته أو إشراك به غيره. وأبى أن يؤمن بآياته الدالة على وحدانيته، وهذا هو الكافر”(1).
بينما يحدد الكاتب محمد جمال باروت إشكالية الخطاب التكفيري الذي تبنته الجماعات الإسلامية الجهادية، في تكفير المجتمع، ما جعل الأسلوب الحركي المطابق لتغير “المجتمع الجاهلي” (النعت التكفيري للمجتمع المدني) “المرتد” و”الكافر” أسلوباً “انقلابياً”، وذلك مقابل الخطاب “الإخواني”، الذي يقر بإسلام الأمة، ويتعايش مع المجتمع، ويجتهد في استيعابه إسلامياً على نحو ما، ما جعل الأسلوب الحركي المطابق لهذا الخطاب، أسلوباً “إصلاحياً” يقبل عمل الدعوة داخل الأطر المدنية الحديثة (2).
إنه الفرق بين الأسلوبين “الإصلاحي” و”الانقلابي”، على مستوى العمل الحركي الإسلامي، ما بين “جماعة دعوة” تتوخى إصلاح المجتمع بـ “الحكمة والموعظة الحسنة” و”جماعة جهاد” تتوخى قلبه بالعنف و”تعبيده” الله، في إطار فرق استراتيجي أهم ما بين نظامين للخطاب، هما نظام الخطاب “الإخواني”، ونظام الخطاب “التكفيري”، تحكم ما بينهما آلية القطيعة لا آلية التواصل والاستمرار، بمعنى أن مرجعية الخطاب “التكفيري” لا تتأسى على الخطاب “الإخواني”(2).
يتحول نموذج الخطاب الإخواني من المنطق التقليدي “الإخواني” إلى المنطق الجهادي “التكفيري” بقراءة سيد قطب معتمداً على مفهوم أبي الأعلى المودودي لـ “المصطلحات الأربعة” وهي (الإله، الرب، العبادة، الدين) دوراً استراتيجياً في إكساب الروحية “التكفيرية”، ويتلخص رأي المودودي بأنه “لما نزل القرآن الكريم في العرب وعرض على الناطقين بالضاد. كان كل امرئ منهم يعرف معنى الإله، وما المراد بالرب.. وكانوا يحيطون علماً بجميع المعاني التي تُطلق الكلمتان عليها. ومن ثم إذا قيل لا إله إلاّ الله. أدركوا ما دعوا إليه تماماً، وظهر لهم من غير لبس أو إبهام.. فما أخطؤوا في فهم هذه الدعوة التي جاء بها القرآن”، “لكن القرون التي تلت ذلك العصر الزاهر جعلت المعاني الأصلية الصحيحة لجميع تلك الكلمات تتبدّل فيها، تلك المعاني التي كانت شائعة بين قوم عصر نزول القرآن. حتى أخذت تضيق كل كلمة من تلك الكلمات الأربع عما كانت تتسع له وتحيط به من قبل. وعادت منحصرة في معاني ضيقة محدودة ومخصوصة لمدلولات غامضة متشابهة”، والنتيجة: “أن تعذّر على الناس أن يدركوا حتى الغرض الحقيقي والمغزى الجوهري من دعوة القرآن.. ومن هنا يزعم كل من هو معدود من أهل الديانة الإسلامية أنه قد أخلص دينه لله تعالى، والحق أن أغلبيتهم لم يخلصوا دينهم لله تعالى من حيث المعاني الواسعة التي تشتمل عليها كلمة الدين”.
ويوضح المودودي في محاضرته” تدوين الدستور الإسلامي”(ألقاها في مراكش1953) جهل المسلمين للمصطلحات الأربعة الناتجة عن معنى الشهادتين، بأنه “حينما قام النبي يدعو الناس إلى هذه” الكلمة (كلمة= لا إله إلا الله) فإن المنادي، صلوات الله عليه وسلامه، كان على علم بما يدعو إليه، وكذلك الذين بلغتهم كلمته لم يخف عليهم إلى ما ترمي هذه الكلمة من هدف”. في حين أن هؤلاء المؤذنين اليوم يؤذنون من مآذنهم خمس مرات في كل يوم وليلة، وينادون بأعلى أصواتهم “أشهد أن لا إله إلا الله”.. والداعي لا يعرف: إلام يدعو الناس؟ ولا الناس يتفطنون إلى ما تتضمه الكلمة بين جنبيها (3).
صاغ سيد قطب بالاعتماد على نقاشات شباب “الإخوان” المسلمين المعتقلين في سجن “ليمان طرة” في مصر معنى كلمة “مسلم” في ضوء مفهوم المودودي لجهل المسلمين بمعنى الشهادتين، فامتصوا هذا المفهوم، ورتبوا عليه أحكاماً شرعية يتخلص جوهرها بعدم صحة إسلام المسلمين في “دار الإسلام”، وساووا في مؤدى هذه الأحكام ما بين الجهل والكفر الفعلي، بمعنى أن هذه المصطلحات تجعل المسلم نظرياً، كافراً عملياً، حتى وإن كان لا يدري ذلك.
وأكد سيد قطب حكمة إشكالية المودودي في بيان جديد يقول فيه: “القاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام- على مدار التاريخ البشري- هي قاعدة (شهادة أن لا إله إلاّ الله) أي إفراد الله-سبحانه- بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطة والحاكمية.. إفراده بها اعتقاداً في الضمير، وعبادة في الشعائر، وشريعة في واقع الحياة. فشهادة أن لا إله إلاّ الله لا توجد فعلاً، ولا تعد موجودة شرعاً إلاّ في الصورة المتكاملة التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقاً، يقوم عليه حسبان قائلها مسلماً أو غير مسلم(4).
ويميز قطب ما بين “الإسلام الفعلي” الذي يقوم على إدراك المعنى الصحيح للشهادتين، أي للمصطلحات الأربعة بلغة المودودي، وما بين “الإسلام النظري”، أو ما بين “المسلمين الفعليين” و”المسلمين النظريين” على تعبيره. وهذا ما يدفع سيد قطب إلى عدم الاعتراف شرعياً بإسلام المسلمين النظريين، وهو الأمر الذي يفضي ضمناً وأحياناً على نحو شبه صريح لديه، إلى تكفيرهم واعتبارهم منضوين في “المجتمع الجاهلي”. إذ يؤكد قطب: “يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة”(5)، وبالتالي فإن الإسلام” يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في اعتباره”(6).
ذلك “إن الإسلام لا ينظر إلى العنوانات واللافتات والشارات التي تحملها هذه المجتمعات على اختلافها.. إنها كلها تلتقي في حقيقة واحدة، وهي أن الحياة فيها لا تقوم على العبودية الكاملة لله وحده.. وهي من ثم تلتقي- مع سائر المجتمعات الأخرى- في صفة واحدة.. صفة الجاهلية”(7). ما يعني كما يقول قطب: “إن الناس ليسوا مسلمين- كما يدّعون- هم يحيون حياة الجاهلية.. وليس هذا إسلاماً، وليس هؤلاء مسلمين، والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام، ولتجعل منهم مسلمين من جديد”(8).
ويعني ذلك لسيد قطب إخراج البشر “بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك له” (9).
إن كل ما تقدم يفضي إلى شرعية خطيرة تتخطى حدود تكفير”الدولة” إلى تكفير “الأمة” وإنكار إسلامية إسلامها، الأمر الذي ارتاع له الإمام الهضيبي، وكتب في مواجهته “دعاة لا قضاة” ليدافع عن إسلام الأمة وإيمانها في مواجهة الخطاب التكفيري وسيفه. ويتمحور “تكفير الأمة” على نفي وجود “الأمة المسلمة”، ومن هنا إذ يقر الخطاب “التكفيري” بإسلام “أفراد” في “المجتمع الجاهلي”، فإنه ينفي وجود “الأمة المسلمة”، ويعترف بإسلام الأفراد لا بإسلام المجتمعات، إذ إن “الأمة المسلمة” التي يحددها قطب هي “التي يحكم كل جانب من جوانب حياتها الفردية والعامة والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية شريعة الله ومنهجه، وهي بهذا الوصف غير قائمة في مصر ولا في أي مكان في الأرض”. وينتج عن ذلك نفي وجود” الأمة المسلمة” وتجهيلها بالمعنى الحقيقي للشهادتين نوع من تكفيرها، لاعتبار “دار الإسلام” “دار الحرب” فـ “دار الإسلام” في التعريف الإخواني ويشمل البلاد “التي تظهر فيها أحكام الإسلام أو يستطيع سكانها المسلمون أن يظهروا فيها أحكام الإسلام، فيدخل في دار الإسلام كل بلد سكانه أو أغلبهم مسلمون، وكل بلد يحكمه المسلمون، ولو كانت غالبية سكانه من غير المسلمين”(10). بينما يرى قطب أن “دار الإسلام” هذه، رغم ظهور “عنوانات ولافتات وشارات الإسلام” فيها، فإنها لا تدخل في إطار “المجتمعات المسلمة” بل في إطار “المجتمعات الجاهلية” “الكافرة” مع “زعمها لنفسها أنها مسلمة” بينما الإسلام “يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في اعتباره”(11)، إذ فقدت هذه المجتمعات معنى الشهادتين، بما يعنيه أن العبودية لله وحده.
في حين كان العرب الأوائل “يعرفون من لغتهم معنى إله ومعنى لا إله إلاّ الله.. وكانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا”. وكانوا يعرفون أن الألوهية وإفراد الله -سبحانه- بها معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء الحكام”(12).
ومن هنا فإن “أيما بشر ادّعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه، فقد ادّعى الألوهية اختصاصاً وعملاً، سواء ادّعاها قولاً أم لم يعلن هذا الادّعاء، وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق، فقد اعترف له بحق الألوهية سواء سماها باسمها أم لم يسمها”(13).
إذا كانت نظرية “الحاكمية” تكفّر “الدولة” فإن مفهوم” المجتمع الجاهلي” يكفّر الأمة نافياً إسلامها. ولعل اندفاع سيد قطب جاء لتخطي حدود تكفير “الدولة التي تغتصب حق الله في الحاكمية) “إلى تكفير” الأمة التي تطيع الدولة وتخضع لها”، وإنكار وجودها كمجتمع مسلم أو كأمة مسلمة(14). إن خطاب الجماعات التكفيرية يشترك في آلية “تكفير” الحاكم والمحكوم، الدولة والمجتمع، تكفير الدولة على أساس اعتدائها على سلطان الله وحاكميته، وتكفير المجتمع على أساس جاهليته وفقدانه لمعنى الشهادتين. ولا يعود الإسلام في هذا الخطاب موجوداً كـ”أمة” أو كـ”مجتمع” بل كأفراد عليهم أن يشكلوا فيما بينهم “جماعة المسلمين”. فيقول أحمد شكري مصطفى، أمير “جماعة المسلمين” المعروفة باسم “جماعة التكفير والهجرة” من حيث الأسس التي يقوم عليها المجتمع كشيء معنوي وكحكم عام فإنني أجزم بكفره، أما من حيث كل فرد بعينه فإن الشريعة الإسلامية ونحن من ورائها لم تبح لنا أن نحكم على شيء لا بكفر ولا بإسلام حتى يبلغ الإسلام الحق، ثم نتبنى منه هذا أو ذاك، فيحكم عليه حينئذ حكماً نظرياً بالكفر إن رفض دخول جماعة المسلمين”(15).
فالإشكالية تثار في العلاقة ما بين الخطاب “الجهادي- الانقلابي” والخطاب “التكفيري” إذ ليست كل الخطابات “الجهادية” تكفيرية بالضرورة، فتتميز إشكاليتها بتكفير “الدولة” كمستوى أول في جهاز مفاهيمها، في حين إن “تكفير” الأمة هو بمثابة مستوى ثان، لا تقول به الخطابات “الجهادية” مباشرة، مع أن فهمها لنواقض الشهادتين يفضي إليه، ما يسمح بتوصيفها كخطابات نصف تكفيرية أو شبه تكفيرية على مستوى المنظومة النظرية.
يرد الإمام الهضيبي في “دعاة لا قضاة” برسم- المعنى الدقيق للكلمة- القطعية ما بين استراتيجيات الخطاب” الإخواني” واستراتيجيات الخطاب” التكفيري” أو (شبه التكفيري). لقد دافع في رده المحكم على الخطاب “التكفيري” عن إيمان الأمة وإسلامها(16).
ويبيّن الهضيبي أن حكم الناطقين بالشهادتين هو “أن نعدَّه مسلماً تجري عليه أحكام المسلمين وليس لنا أن نبحث في مدى صدق شهادته”(17). ورداً على القول الذي يذهب إلى “عدم الحكم بإسلام من نطق بالشهادتين في وقتنا الحاضر، يزعم أن معناهما الذي كان شائعاً وقت البعثة قد تبدل وتغير ولم يعد مفهوماً على حقيقته”(18).
وأكد الهضيبي: “بطلان القول بعدم إسلام من نطق بالشهادتين إذ جهل مفهومهما”(19). و”بطلان القول باشتراط العمل، وأن تكون أعمال الشخص وصدقه لشهادته حتى يحكم بإسلامه، إذ إن النطق بالشهادتين في حد ذاته عمل”(20).
كما إنه لم يوافق على التفسير الجهادي للقاعدة الفقهية “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” ورأى في هذه القاعدة” مصطلحاً من وضع البشر غير المعصومين لم يرد به نص من قرآن وسنة” (21).
وأنكر الهضيبي قول “التكفيريين” وزعمهم” بانتفاء الإيمان عن الناس ما لم تقم الحكومة الإسلامية”(22). وذهب إلى حد أن إلقاء الإنسان التحية الإسلامية هو دليل على أنه مسلم، ولسنا مخولين بالكشف عن نواياه.
أما سعيد حوّى (المرشد الإيديولوجي للتيار “الجهادي” في جماعة “الإخوان المسلمين” السورية، يرى، أن العالم الإسلامي في ردة عن الإسلام بعد الإسلام، فإنه يقول: “ومع ما مر فإننا لا نحكم على أغلب المجتمعات التي تشكل أقطار العالم الإسلامي بأنها مجتمعات كافرة لأننا إذا حكمنا عليها بذلك نكون قد عددناها جميعاً دار حرب، ونحن نؤثر أن نتريث في هذا الحكم مع كثرة المرتدين ومع غلبتهم على الأمور لما يترتب على ذلك من أحكام. وإنما نستطيع أن نحكم على المجتمعات في أقطار العالم الإسلامي على أنها مجتمعات فاسقة محكومة في الغالب بمرتدين أو بمنافقين أو بكافرين، وما نظن أن إنساناً يفهم الإسلام يهوله هذا الحكم”(23).إلا أن هذا التريث النظري في الحكم بـ” تكفير” الأمة، لا يلبث أن يغدو تراثاً نظرياً شكلياً يسمح مفهومه لنواقض الشهادتين بإطلاق آلية تكفير “الأمة”، فمن هذه النواقض مثلاً، التي تخرج بالمسلم إلى الكفر والارتداد و”استحقاق القتل” حسب حوَّى، عدم حسبان الأمة الإسلامية أمة واحدة، أو نفي وجود هداية الله في جانب من جوانب الحياة كالحياة الاقتصادية، فـ”من دخل في الإسلام ثم عمل عملاً أو اعتقد اعتقاداً ينقض الشهادتين فقد كفر وارتد واستحق القتل” ومن أمثلة ما ينقض الشهادتين كما مر: أن يسجد لصنم، أو يصلي صلاة الكافرين، أو يعبد غير الله، أو يستهزئ بشيء من نصوص الكتاب والسنة، أو يكذب به، أو يستهزئ بشعيرة من شعائر الإسلام، أو يحلل ما حرم الله، أو يحرم ما أحل الله، أو ينكر شيئاً معلوماً من الإسلام بالضرورة، تكون الأمة الإسلامية أمة واحدة، أو ينفي وجود هداية الله من جانب من جوانب الحياة كالحياة الاقتصادية، أو يعتمد على الأسباب ناسياً المسبب، أو يحكم بغير ما أنزل الله مفضلاً إياه على حكم الله، أو أن يرد شيئاً من دين الله، أو لا يكفر من حكم الله بكفره”(24).
إن الخطاب “الجهادي” ليس بالخطاب “التكفيري” دائماً، بل بالخطاب شبه التكفيري أو نصف التكفيري الذي يتميز بإطلاق آلية التكفير دون القول مع ذلك بـ “كفر” الأمة. وهذه الآلية تفسر قول محمد عبد السلام فرج “الأمين العام لتنظيم الجهاد في مصر (1979/1980)، في “وثيقة الفريضة الغائبة” بتحويل “دار الإسلام” إلى “دار الحرب” إذا علتها أحكام الكفر (القوانين الوضعية)، مع أن الجهاز المفهومي النظري للوثيقة لا “يكفر الأمة”، وإنما يعين طبيعة “دار الإسلام” الراهنة، كنوع ثالث لا ينتمي إلى “دار الإسلام” على نحو نقي أو إلى “دار الحرب” بل ينتمي إلى كليهما في آن واحد.(25).
إن أهم مفاتيح حل مشكلة الخطاب “التكفيري” تكمن في حل مشكلة الدولة ذاتها، وتحويل علاقتها الراهنة بالأمة من علاقة تقوم على العنف إلى علاقة تقوم على القانون، ومن احتكار الطغم للسلطة إلى تداول سلمي ديمقراطي لها، ومن اختراق المجتمع الأهلي إلى الاعتراف باستقلالية حقوقه الأساسية. فأية دولة تمارس السياسة مع مجتمعها بمنطق الحرب لا يمكنها أن تواجه إلا ممارسات سياسية معكوسة بمنطق الحرب والعسكرة والتجييش.
ظاهرة تكفير المبدعين والفلاسفة والأدباء:
تعود مسألة تكفير الإبداع إلى حقيقة أن البشر يختلفون في فهم النص الإبداعي، لأن النص عادة ما يكون حمّال أوجه، وكل قارئ يأخذ من النص ما يتناسب مع درجة وعيه وتفكيره والعقائد التي يحملها، ومرجعياته التي تؤثر فيه، بالإضافة إلى الوجه الذي قرأ فيه النص، فكم من نصوص إبداعية فُسّرت بعكس ما كان مبدعوها يريدون. هناك تعميمات ومعلومات اكتسبت صفة البديهيات، لكثرة تداولها على الألسن، فامتصتها الثقافة الإسلامية، في عهود الشقاق. فالجهل بوظيفة المنطق، أو الخوف منه، حمل قوماً على أن يصكوا مصطلحاً، صار قانوناً في المنهج المعرفي، وهو “من تمنطق فقد تزندق”. إن حكماً تعميمياً جاهزاً كهذا، لم يُبن على تصور علمي صحيح، وكل رأي يُبنى على معلومات غير صحيحة، فهو غير صحيح، وهناك تعميمات في ثقافتنا القديمة، في تقييم الفلسفة والمنطق والعلوم التطبيقية والبحثية، كالهندسة والكيمياء والفلك والرياضيات، عانت من النبذ والقطعية من دون تبيان وفرز بين مستويات ثلاثية:
المستوى الأول: مستوى صالح لكل تكفير، فالمنطق آلة استدلال على صحة الفكر، كما أن العروض آلة استدلال على صحة وزن الشعر، والفلسفة هي الكلام في أصول المعرفة وكلياتها.
المستوى الثاني: مستوى تجريدي (صوري) ضمرت فيه الروح العملية ونمذجته سفسطة البلاغة وبلبلة علم الكلام، ولم تسلم منه مدونات أصول الفقه، لأنه كان وباءً معرفياً، بلبل مع الروح البدوية نظرية المعرفة والتربية معاً.
المستوى الثالث: مستوى إلحادي وفوضوي، أشاع في الناس تأويل الشريعة، فظن أن لها مستويين، مستوى ظاهر للعامة، وآخر باطن للخاصة، وهو نابع من تحقير فلسفي للرأي العام، وبُعد عن الروح العملية، حيث روج للحلول في إخراج الإنسان من طبيعته البشرية، إلى طبيعة إلهية، وروج للتناسخ، فألغى بهذا وذاك روح المسؤولية، والتبعية الفردية الشرعية، وابتعد عن الفكر العملي الفعال، وروج له آخرون باسم العقلانية والتحرر الفكري، كابن رشد والفارابي وابن سينا، وهو يفضي بمنطق منهجه، بصرف النظر عن منطق ناشريه، إلى القيم الإنسانية العملية، التي فطر الناس عليها، وأكدتها الطبيعة الشريعة، على حد سواء”(26).
هذه الأسباب دفعت أن تنتهي الكيمياء بجابر بن حيان، وأن لا يأتي عمل يوازي عمل الخوارزمي في الجبر، وأن لا يتقدم علم البصريات تقدماً يذكر بعد ابن الهيثم.
فهذه النظرة الدونية للعلوم التطبيقية، إحدى أسباب السقوط العلمي العربي. لأن سيوف التكفير والتبديع أضحت فوق رؤوس هذه العلوم، من دون فرز بين الضار والنافع، وبين ما هو رأي علمي، قد يخطئ أو يصيب، ولكنه لا يبدع ولا يكفر.
إن العمل الفني، ولاسيما الرواية، وكل الأنواع الأدبية الأخرى تتعامل مع مجتمعات متنوعة وشخصيات مختلفة المذهب والأجناس والآراء والعقائد. وتنطق كل شخصية بما يجول في وجدانها من آراء، طارحة مواقف في مختلف شؤون الحياة، دينية كانت أم دنيوية.
فالناقد ميخائيل باختين يقول عن الروائي دوستويفسكي “ليس دوستويفسكي هو الذي خلق كل هذه الشخصيات والذي ينسب إليه كل مغزى العالم الفني، وإن هذا المغزى يتناسب ويتلاءم مع الواقع.. وكل واحد من الأبطال الرئيسيين يناضل من أجل حقيقته”(28).
أما الباحث بوريس بورسوف يقول: “فمن المستحيل أن يكون الكاتب واحداً في كل الشخصيات، أي وجدانه موجود أو متضمن في ذات المؤمن والكافر والبرجوازي والشيوعي والعاهرة، ومن الخطأ إنزال المؤلف إلى مستوى أبطاله، أو رفع مستواهم إلى مقام المؤلف في عالم دوستوفسكي الروائي، أو الكتّاب الآخرين.. إذ لا يمكن للبطل أن يتساوى أو يتماثل مع المؤلف”(29).
وفي عصر النهضة نجد الإمام محمد عبده اعتقد في مسلّمة أن “العقل يحاكم العقل، وليست أية مقاسات جاهزة من خارجه والعقل لب الدين”، كما قال: “إذا صدر قول ما من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر”. إن التهمة التي توجه عادة للمبدعين هي الكتابة المتعلقة بالشهوة الجنسية والفحش في وصف العلاقات الجنسية بين الذكر والأنثى، وبأنها تؤدي إلى تهديم المجتمع وغرز قيم إباحية فيه تؤدي إلى خلق أجيال منحرفة وذات سلوكيات لا تتلاءم مع عادات وتقاليد وأخلاق المجتمعات الإسلامية. فوجود الجنس في العمل الأدبي كوجوده في الحياة، إنه المحرك التاريخي للوجدان الإنساني، بهدف الحفاظ على النوع، واستمرار الجنس البشري. والحب في نماذجه العذرية، في جوهره جنس مغلف بورق (سيلوفان) مغموس بالوجد والشعر والاستبدالات النفسية. ويكون الالتباس في الأدب والفن الطامحين إلى تمثل الحياة والبوح عن تجلياتها ومعطياتها بكل وجوهها، هو ضرورة، لأن الأدب والفن مطالبان بالتعبير عن الحياة بكل وجوهها، المرضي عنها والمغضوب عليها. والحضارة الإسلامية التي يحاول فيها (الإسلاميون) قمع الحقائق بالجملة، لا تفعل غير تثبيت ما تفعله في وعي أبنائها وفي لا وعيهم، وتشويش تعابيرهم وتصوراتهم في أكثر من مجال.
إن بلدان إسلامية عدة تمجد ليلة الزفاف (الزواج) بصراحة وتفضلها كونها تختصر، أحلام الفتيات اللواتي يتطلعن إليها، بالجنس وبالجنس وحده. مع ذلك تقبل هذه الثقافات تعظيم “ليلة العمر” في المجالات ووسائل الإعلام، لكنها سرعان ما تهب لحماية الأخلاق إذا أشار أحد صراحة إلى مضمونها. إن النصوص الدينية والتراثية التي تناولتها مقصلة الرقابة الدينية عديدة، ابتدأت بألف ليلة وليلة ومرت بـ”الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبد الرازق، ومؤلفات الصادق النيهوم، و”في الشعر الجاهلي” لطه حسين، و”لماذا أنا ملحد” لإسماعيل أدهم، و”الفن القصصي في القرآن “لمحمد أحمد خلف الله، و”من هنا نبدأ” لخالد محمد خالد، و”نقد الفكر الديني” لصادق جلال العظم، مع اكتمال النصف الأول من القرن العشرين، بينما حمل النصف الثاني من القرن ذاته بمصادرة “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، ومحاكمته قصص ليلى بعلبكي عن “سفينة حنان إلى القمر” و”الحسين ثائراً” لعبد الرحمن الشرقاوي، و”الفتوحات المكية” لابن عربي، و” باب الفتوح” لمحمود دياب، و”هوامش على دفتر النكسة” لنزار قباني، ومنع تداول النسخة الانكليزية من كتاب” النبي” لجبران خليل جبران، وفيلم “المهاجر” ليوسف شاهين، وديوان” حديقة الحواس” لعبده وازن، وديوان” آية جيم” لحسن طالب، وكتاب “الله والجماعة” للكاتب الكويتي محمد سلمان غانم، وكتاب “القوى السياسية في كوت الإحساء” لمؤلفه الكويتي الدكتور يوسف جعفر سعادة، و”أنت الوشم الباقي” لعبد المنعم رمضان، ورواية “مسافة في عقل رجل” لعلاء حامد، ورواية” وليمة لأعشاب البحر” لحيدر حيدر، و”قصر المطر” لممدوح عزام، و”الرحيل، وفي الليل تأتي العيون” لليلى العثمان، و”عناكب ترثي جرحاً” لعالية شعيب، وديوان” باسم الأم والابن” للشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله(30)، والقائمة تطول.
تكفير ابن رشد(1126-1198):
عاش في الأندلس في عهد المنصور، وكان من جل اهتماماته تلخيص كتب قدماء الفلاسفة، ولاسيما اليونانيين منهم، ومن ذرائع تكفيره واتهامه بالزندقة، أن قوماً ممن يناوئونه من أهل قرطبة ويدّعون معه الكفاءة في البيت وشرف السلف سعوا به عند المنصور، ووجدوا إلى ذلك طريقاً بأن أخذوا بعض تلك التلخيصات التي كان يكتبها، فوجدوا فيها بخطه حاكياً عن بعض القدماء من فلاسفة: “فقد ظهر أن الزهاء أحد آلهة”. فأوقفوا المنصور (آبا يوسف) على هذه الكلمة، فاستدعاه بعد أن جمع له الرؤساء والأعيان من كل طبقة من مدينة قرطبة. وعندما حضر ابن رشد (أبو الوليد)، قال له بعد أن رمى له بالأوراق: “أخطك هذا؟ فأنكر.. فقال له أمير المؤمنين: لعن الله كاتب هذا الخط، وأمر الحاضرين بلعنه..”. والزهرة في أساطير اليونان ربة الحب، وكلمة فينوس-أي الزهرة- مأخوذة من كلمة بنوت، أي بنت. وعند اليونانيين: رب البحر وربة الغابة، وربة الغناء وأشباه هذه الأساطير.
وقيل في أسباب نكبة ابن رشد، إن حساده دسوا عليه أناساً من تلاميذه يطلبون منه شرح الكتب الفلسفية فشرحها لهم ونقلوها عنه، كأنها من رأيه وكلامه، وأشهدوا عليه مئة شهيد، ثم رفعوها إلى الخليفة وطلبوا عقابه لانحلال عقيدته، فنكبه وألزمه أن ينزوي في قرية أليشانة (لوسينا) بجوار قرطبة وألا يبرحها.(31).
“ردة” نصر حامد أبو زيد:
بدأت القضية عندما تقدم الدكتور الراحل نصر حامد أبو زيد، الأستاذ المساعد بكلية الآداب جامعة القاهرة في صيف 1992، بإنتاجه العلمي للترقي إلى أستاذ ضم إنتاجه كتابي “الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية” و”نقد الخطاب الديني”، فضلاً عن أحد عشر بحثاً ودراسة نشرت في دوريات علمية محكمة.
انتهز مجلس الجامعة فرصة اجتماع عقد في ظل الإجراءات التي كانت الحكومة السودانية قد اتخذتها ضد فرع الجامعة بالخرطوم وتمرير تقرير عبد الصبور شاهين الأستاذ في كلية دار العلوم ووقع عليه 12 أستاذاً، وتجاهلت اللجنة الجامعية التقاليد العلمية الراسخة وأخذت بتقرير شاهين وحده، ورفضت ترقية أبو زيد. ومن خلف أسوار الجامعة خرجت القضية إلى الصحافة واستقطبت قطاعات واسعة من المثقفين والمفكرين، وتحول الصراع إلى صراع ما بين “رمز التيار الديني” السيد شاهين، و”رمز التيار العلماني” نصر حامد أبو زيد. وغابت حرية البحث العلمي وحدوده ومسألة التكفير ومخاطرها واللجان العلمية في الجامعة ومشكلاتها.
وفي ساحة القضاء (لم يمثل أبو زيد أمامه بتهمة صريحة وواضحة، ولم يستجوب بشأن ما نسب إليه)، فقد اكتفت المحكمة بمجرد فحص بعض كتابات أبو زيد التي قدمها معسكر شاهين.
وفي(14حزيران- يونيو)1995، حكمت محكمة استئناف القاهرة بردة- أبو زيد- وبالتالي التفريق بينه وبين زوجته، وهو الحكم الذي رفضته زوجته ابتهال يونس، وفي الوقت ذاته لم يكف شاهين عن إلقاء مواعظه في جامع عمرو بن العاص لتأليب الناس على “أبو زيد” الذي أصبحت حياته مهددة، وفرضت الحراسة الشخصية عليه وعلى مسكنه من جانب الأمن، وهرباً من كل ذلك خرج أبو زيد وزوجته إلى عدة بلدان أوربية واستقرا في هولندا حيث تلقى عرضاً للعمل في جامعة لايدن التي تضم قسماً عريقاً للغة العربية.
وعند صدور حكم محكمة النقض- أعلى سلطة قضائية- بتأكيد حكم الاستئناف في آب/أغسطس 1996، رغم وصول رسالة موثقة من السفارة المصرية في هولندا يقول فيها: إن “أبو زيد” مسلم ابن مسلم ولم يتطاول أبداً على صحيح الإسلام ولم يقصد الإساءة إليه “رفض العودة. وتضامن مع نصر “أبو زيد” الكثير من أساتذة الجامعة، وجميع الأساتذة في مجلس قسم اللغة العربية، وأساتذة من جامعات مصرية عدة. كذلك أصدر عدد من المجلات المصرية، منها” القاهرة” و”أدب ونقد” و”إبداع” وغيرها محاور خاصة بهذه القضية. وأيضاً مجلة “الطريق” اللبنانية. كما صدرت بيانات تحمل تواقيع كثير من الكتاب والمفكرين المصريين والعرب، وتواقيع هيئات ثقافية ومؤسسات، منها بيان هام أصدرته لجنة الدفاع عن الثقافة القومية في مصر، وقد جاء فيه أنه: “علينا أن نقر بداية أن الإرهاب، سواء تمثل في الإرهاب الفكري للجماعات الإسلامية بنفي الاجتهاد والإبداع، أو الإرهاب الفكري الذي تمثله أجهزة الدولة. بنفي التعددية الحقيقية في حياتنا السياسية والثقافية، هو مسألة مرفوضة من القوى المستنيرة في مصر كافة. فالفكر الشمولي مهما كانت صورته، يفترض امتلاك الحقيقة ودون ما عداها، يتسبب على الجبهتين الدينية والسياسية في إرهاب فكري استفحل على مر الأيام، فأصبحنا مكممين دون قيود مرئية، وفرضنا على أنفسنا أقسى أنواع الرقابة ألا وهي الرقابة الذاتية”، ودعا البيان المثقفين إلى “الانتباه لهذه المخاطر ومواجهتها ممثلة في كل صور الهيمنة السياسية والفكرية في المجتمع”. وصدر عن مجموعة من المثقفين العرب بيان جاء فيه: “إن القضية المثارة حول أعمال المفكر الوطني نصر حامد “أبو زيد” تشكل مرآة للظلام الذي يلف الأمة، وآية على البؤس التاريخي الذي تغرق فيه الشعوب العربية، فهذه القضية بسياقها ودلالاتها لا تعني إلا نفي العقل، ومصادرة حرية الرأي، ودعوة مستطيرة إلى إعدام الفكر، والإنسان المفكر في هذا الزمن الكئيب، انتشر إرهاب التكفير متضافراً مع إرهاب السلطة، وحوصرت العقلانية وحرية التفكير في زنزانة الإلحاد، واستخدام الأئمة الله والدين رأسمالاً في مضاربات الثروة والسلطة” ووقّع عليه عدد من المثقفين منهم الراحل سعد الله ونوس، وماهر الشريف، والراحل صادق جلال العظم، ومثقفون آخرون(32).
ليلى العثمان وعالية شعيب:
كتبت صحيفة السياسية الكويتية في صدر صفحتها الأولى بمانشيت عريض تقول فيه: “في دعوى رفعها الإسلاميون ضد ليلى العثمان وعالية شعيب مثلتا أمام النيابة العامة لمدة ثلاث ساعات، وجاء في تفاصيل الخبر أن الكاتبتين الكويتيتين مثلتا أمام النيابة العامة، بناءً على دعوى مرفوعة من قبل عبد اللطيف العتيقي وثلاثة آخرين، بتهمة: “خدش الحياء العام، ورواية قصص ماجنة تحض على ممارسة الرذيلة بشكل فاضح”.
استمرت وقائع هذه القضية منذ أواخر1996، وانتهت في(آذار. مارس) من العام2000، وقد كانت الأعمال الأدبية المقصودة في الدعوى: “الرحيل” و”في الليل تأتي الدموع” للأديبة ليلى العثمان، و”عناكب ترثي جرحاً” لعالية شعيب، وانتهت المحاكمة بمصادرة الأعمال السابقة الذكر وعن أسباب رفع الدعوى تقول ليلى العثمان: إن الإسلاميين الأربعة هدفوا من رفع الدعوى في ذاك التوقيت إلى تعطيل منح الحقوق السياسية للنساء، بعد إصدار أمير الدولة مرسوماً يقضي بذلك. فلكي يثبتوا أن الكويتية لا تصلح لممارسة تلك الحقوق أو تستحقها، اختاروها وزميلتها عالية شعيب عن: “أديبات فاسقات فاجرات داعيات للفحشاء والمنكر”. وعلى الرغم من أن كتابيها المقصودين بالدعوى حصلا على موافقة وزارة الأعلام (الكويتية) التي اشترت كمية منها، رأى المدّعون فيها عبارات تخدش الحياء العام، وقالوا إن الكاتبتين “تستهتران بقيمنا وعاداتنا الاجتماعية وتهدفان إلى ترويج ما تدعون إليه من ممارسات جنسية شاذة”.
وكانت الأدبية ليلى العثماني قد أصدرت كتاباً بعنوان” المحاكمة”، تروي فيه قصتها مع تلك السنوات العصيبة التي عاشتها في مجرى القضية التي رفعت ضدها وزميلتها عالية شعيب. وكان أكثر ما آلم الأديبة العثمان، هو وقوف ابنها في الطرف المعادي لها في تلك القضية، وعنه تقول:” ماذا لو كان عدوك حشاشة جوفك؟، ابنها الدكتور عماد” انحاز إلى فكر غريب عن أفكار بيتنا.. توغل في متاهات التشدد والتزمت و(تبنى) منطق الظلاميين”(33).
حيدر حيدر و “وليمة لأعشاب البحر”:
شغلت الأوساط الثقافية في كل من مصر وسوريا قضية فجرتها في (25 نيسان/أبريل) عام 2000، صحيفة” الشعب” نصف الأسبوعية القاهرية، احتجاجاً على سلسلة” آفاق الكتابة” التابعة لهيئة قصور الثقافة المصرية، طبع رواية” وليمة لأعشاب البحر” للروائي السوري حيدر حيدر، ضمن سياسة وزارة الثقافة المصرية القائمة على طباعة الرواية العربية المتميزة وتوفيرها بأسعار رمزية شعبية. وطالبت الصحيفة في مقال بقلم الدكتور محمد عباس بإقامة الحد على الروائي حيدر والمسؤولين في وزارة الثقافية المصرية على خلفية نشر رواية “مليئة بالشتائم والإساءة لله والقرآن والرسول”. ودعت “الشعب” الرئيس المخلوع حسني مبارك والمفتي الشيخ نصر فريد واصل، وإمام الأزهر الشيخ محمد سيد طنطاوي والقادة الإسلاميين إلى إقامة الحد على المؤلف، ومسؤولي وزارة الثقافة الذين ساهموا في عملية النشر الذين أشارت إليهم بعبارة “الفاجر ابن الفاجر، والكافر ابن الكافر، والفاسق ابن الفاسق” مؤلفاً وطابعاً وناشراً ووزارة.
وتبع ذلك حملات صحفية متبادلة بين جناحي المثقفين المصريين والعرب، في الأقطار العربية الأخرى، بين من يساند صحيفة “الشعب” ومقالها، وبين المدافعين عن حرية الرأي والتفكير الذين يرفضون العودة لمنطق محاكمة التفتيش.
إن البيان الذي أصدره الروائي حيدر حيدر، وبيان من كتاب ومثقفين عراقيين، وأيضاً بيان اتحاد الكتاب المصريين ومؤسسات مصرية تستنكر الحملة الموجهة ضد الروائي حيدر، وفي الجهة المقابلة ناشد ستون عالماً أزهرياً الرئيس مبارك تطهير وزارة الثقافة المصرية. لكن الملفت للانتباه أن القضية كلها لم تثر في مصر فحسب بل إن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية أصدرت فتوى رقم 21546 تاريخ 26/1421هجري) تهدر دم الروائي حيدر حيدر وتشيد بالدكتور عباس(34).
ممدوح عزام وروايته ” قصر المطر”:
صدرت رواية “قصر المطر” في العام1998، عن وزارة الثقافة في سورية وبعد أن مضى على صدورها عامان اثنان، تحرك موقف مشايخ العقل عبر بياناتهم المؤرخة في 18/2/2000، ولماذا تم تحريك تلك الزوبعة في ذلك الزمن، وما الغرض منه، “وإذا كانت موقوفة عن النشر قبل هذا الوقت فما هو سبب تأخير صدورها؟! ثم لماذا سمح بها الآن؟! إذ إن الرواية صدرت عن وزارة الثقافة، وهي الجهة الإعلامية الرسمية صاحبة السلطة القانونية في الرقابة على الإنتاج الأدبي والفني، وبالتالي لم يكف التساؤل مع صاحب الرواية عن بعض ما جاء فيها، ونتساءل لماذا سمحت وزارة الثقافة والقائمون عليها في ورود حوادث مختلفة وغير صحيحة تضمنتها الرواية من شأنها أن تثير الفتن الداخلية التي يعاقب عليها القانون؟! وإن كان ليس من المجدي مناقشة التفاصيل الخاصة في الرواية التي أثارت حفيظة رجال الدين عبر خيال الروائي من جهة، وعملية اجتزاء من جهة ثانية ووضعها في غير سياقها الأدبي والفني(35).
وردّ كتّاب ومثقفون سوريون في بيان دعماً للكاتب ممدوح عزام وروايته “قصر المطر” إذ أكد البيان على التضامن” مع الكاتب والرواية ضد الحملة التي تعرض لها”. وقد وقّع على البيان قرابة (1200) كاتباً ومثقفاً من أبناء جبل العرب، أجمعوا وأكدوا أن الرواية” من الأعمال الأدبية المميزة والهامة في سياق الرواية العربية، تؤكد على القيم الوطنية، والإنسانية لشعبنا الذي بذل التضحيات الكبيرة في نضاله ضد الاستعمار والصهيونية”(36).
أخيراً، إن القضية المهمة والمركزية لدى دعاة الخطاب التكفيري على صعيد تنظيم جماعي أو أفراد مبدعين هي كيفية إدارة الاختلاف في المجتمعات العربية والإسلامية، حتى في أعرقها حداثة مثل المجتمع المصري والتونسي والتركي، حيث لا يزال بنيانها هشاً وتعاني عجزاً لا في الاقتصاد فحسب، بل فيما هو أهم من ذلك، مما لا يشكل أمنها الاجتماعي المتعلق بقدرة نخبها على إدارة خلافاتها بأسلوب حضاري، لا تشحذ فيه السيوف ولا تستنفر فيه الصفوف أو تستخدم فيه عصا الدولة للضبط، وما إلى ذلك إلا بسبب ضعف ثقافة الاختلاف والتعددية والسماحة في وسط النخب وعدم استقرار الفكر السياسي للدولة على أرضية مشتركة وإجماع وطني، ووحدة عبر التنوع والاختلاف، وآليات متفق عليها في حسم الاختلاف، مثل مرجعية الأمة عبر صناديق الاقتراع، وهو ما يستوجب توفير الكفاءات الفكرية والدينية لإحداث نقلة نوعية في فكرنا وفقهنا السياسي الذي تخلّف لحساب بقية أنواع الفقه، فشاع الجبر وحكم التغلب، فكان الاستبداد والعجز عن إدارة الحوار بغير السيف، الجذر الأساسي لانحطاط حضارتنا قديماً وحديثاً، هو الأسلوب الذي أدير به الخلاف حول مواضيع الاختلاف، وهذا ما يشكل الإعاقة لفكرنا السياسي والديمقراطي: العجز عن إدارة الاختلاف سلمياً.
المراجع:
(1) مبادئ الإسلام، أبو الأعلى المودودي، مؤسسة الرسالة، بيروت،1978(ص8).
(2) يثرب الجديدة، الحركات الإسلامية الراهنة، محمد جمال باروت، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، العام1994،(ص183).
(3) نظرية الإسلام وهدية في الإسلام والقانون والدستور، أبو الأعلى المودودي، ترجمة جليل حسن الإصلاحي، مرجعة مسعود الندوي وعاصم حداد، دمشق، دار الفكر1969،(ص106).
(4) معالم في الطريق، سيد قطب، دار الشروق، بيروت، الطبعة الشرعية العاشرة،1983،(ص48).
(5) معالم في الطريق، مصدر سبق ذكره،(ص91).
(6) معالم في الطريق،(ص93).
(7) معالم في الطريق،(ص93).
(8) معالم في الطريق،(ص58).
(9) معالم في الطريق،(ص61).
(10) يثرب الجديدة، مصدر سبق ذكره،(ص190).
(11) معالم في الطريق،(ص93).
(12)معالم في الطريق،(ص22).
(13) معالم في الطريق،(ص80).
(14)يثرب الجديدة، مصدر سبق ذكره(ص191).
(15) يثرب الجديدة، مصدر سبق ذكره(ص192).
(16) دعاة لا قضاة أبحاث في العقيدة الإسلامية ومنهج الدعوة إلى الله، حسن إسماعيل الهضيبي، بيروت، دار السلام،1978،(ص84).
(17) دعاة لا قضاة، مصدر سبق ذكره(ص18).
(18) دعاة لا قضاة، مصدر سبق ذكره(ص40).
(19)دعاة لا قضاة، مصدر سبق ذكره(ص40).
(20)دعاة لا قضاة، مصدر سبق ذكره(ص41).
(21) دعاة لا قضاة، مصدر سبق ذكره(ص197).
(22) دعاة لا قضاة، مصدر سبق ذكره(ص198).
(23) جند الله ثقافة وأخلاقاً، سعيد حوى، القاهرة، دار الطباعة الحديثة، 1977، (ص10).
(24) جند الله..، مصدر سبق ذكره(ص176).
(25) يثرب الجديدة، مصدر سبق ذكره(ص195)
(26) من تاريخ تكفير التفكير في الإسلام، يوسف الجهماني، دمشق، دار حوران، 2001،(ص8-9).
(27) ميخائيل باختين ودراسات أخرى عن الرواية، الدكتور زهير شلبية، دمشق، دار حوران الطبعة الأولى، 2001،(ص39).
(28)الواقعية اليوم أبداً، بوريس بورسوف، لينبغراد(19)(ص250)، منقولة عن المصدر السابق(ص40).
(29)من تاريخ تكفير التفكير في الإسلام، مصدر سبق ذكره0ص(19-20-24).
(30) الإمعان في حقوق الإنسان (موسوعة عامة مختصرة)، هيثم عودات، دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع. دمشق، الطبعة الأولى2000،(ص24-25).
(31) الطريق اللبنانية، العدد الثاني( تموز/يوليو)، 1993،(ص 4-5-11-12-13).
(32) من تاريخ تكفير التفكير في الإسلام، مصدر سبق ذكره(ص47، 48، 49).
(33) من تاريخ تكفير التفكير في الإسلام، مصدر سبق ذكره(ص79، 80، 172).
(34) بيان من التجمع الثقافي في السويداء لماذا يا”قصر المطر؟”. التجمع الثقافي في جبل العرب بتاريخ 26/ 3/ 2000.
(35) بيان من الكتاب والمثقفين السوريين دعماً للكاتب ممدوح عزام وروايته” قصر المطر”.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.