خطوات على طريق التنوير (4)
هذه المادة لا تناقش وجهة نظر النخب الثقافية في الغرب بالمجتمعات الإسلامية، مثل مؤلفات برنارد لويس أو هنتنغتون صاحب مؤلف صدام الحضارات 1993 أو فرانسيس فوكوياما صاحب مؤلف نهاية التاريخ والإنسان 1992.
ولكنها ترصد (فقط) وجهة نظر المجتمعات الشرقية للغرب وكيف تكونت هذه الرؤية، وهل تكونت النظرة الشرقية للغرب نتيجة جملة من التراكمات التي تعود إلى جذور تاريخية قديمة؟ كالتدافع الحضاري مع ظهور الإسلام، والعلاقة مع الإمبراطورية الرومانية كما يحلو لبعض الإسلاميين توصيفه(1) أم هي نتيجة حروب القرن الوسيط التي بدأ الإعداد لها إثر مجمع كليرمونت(2) وشاركت بها القبائل الجرمانية على نحو واسع وأطلق عليها العرب في حينها “حروب الإفرنج” لا الحروب الصليبية، أم إنها تشكلت بسبب الحقبة الاستعمارية، أم بسبب ذلك كله؟
في الجانب الآخر، هناك حروب دموية أودت بحياة ملايين البشر خلال الحربين الكونيتين، غير أن شعوب تلك الدول تجاوزت حجم المأساة، وانطلقت نحو بناء بلدانها وفق منظور المصالح المشتركة، بعيداً عن الصراعات القومية والعرقية، ما جعل الغرب يتبوأ اليوم المكانة الأولى عالمياً على صعيد حقوق الإنسان، وبالتالي، ووفقاً لأبسط قواعد المنطق، لا يمكننا أن نعدَّ الغرب الحالي هو ذاته الذي كان موجوداً حتى قبيل الحرب العالمية الثانية، فقد تجاوز الغرب مجمل المسارات التاريخية السابقة، وأسس على المستوى الثقافي والإنساني عالماً جديداً لا تزال شعوب العالم تسعى إليه.
وبمقابل ذلك قد تتوفر إمكانية تحقيق الدولة لدى كثير من بلدان الشرق، لكنها لا تنجح في تحقيق المعادلة الإنسانية أو التقنية التي حققها الغرب، ويمكن أن يكون واقع الصراعات الدموية في دول الربيع العربي أو غيرها واحدة من تلك الدلائل، وقد يرجع الأمر برمته إلى معادلة الإدراك المعرفي للاختلافات.
فعندما تتعامل الشعوب مع الاختلافات على أنها وجهات نظر قابلة للتعديل والتغيير بحسب الزمان والمكان والظروف السياسية أو الاجتماعية المؤثرة، فهي ستنجح في تجاوزها، لكن عندما تتحول الاختلافات في الرأي لتغدو غير قابلة للتغيير، يصبح تغيير الواقع أمراً في غاية التعقيد، ويصبح تبديل وجهات النظر تلك يحتاج إلى إعادة تأهيل البنى الاجتماعية كي تكسر الجمود، وتعيد اكتشاف الواقع، وبالتالي تتغير تلك الصورة النمطية.
وكذلك هو الأمر في رؤيتنا للآخر، فهي في الأصل تنطلق من رؤيتنا لأنفسنا، وقبولنا لفكرة اختلافاتنا الداخلية، التي لا نزال نلقي بها على عوامل خارجية، ونرى أن كل ما حل بنا، ويحل الآن وسيحل مستقبلاً؛ من تخلف وانحطاط وفقر وهزائم وتدهور في كل مسارات التنمية سببه الغرب، ولا ذنب لنا فيه. فنحن أبرياء من واقعنا المزري، والغرب وحده يتحمل المسؤولية عن كل ذلك(3) حتى باتت نظرية المؤامرة هي الخبز اليومي المتاح في كل وقت، فهل نرى الغرب وفق منظور صحيح؟!
مؤثرات سياسية في العصر الحديث
دائماً ثمة مؤثرات داخلية وخارجية تعمل على تشكيل وعي الشعوب في رؤيتها للآخر، فالصورة النمطية الرائجة عن الغرب في عالمنا العربي مغلوطة تماماً، وهي مشوهة ومزيفة عن سبق إصرار وترصد(4) من هنا فالرؤية الشرقية للغرب في (العصر الراهن) هي رؤية تحمل كثيراً من الإشكالية، وتخضع لمؤثرات مختلفة نتيجة للتحولات السياسية التي طرأت على المنطقة في أعقاب الحربين الكونيتين، وظهور الدولة الوطنية، ومجمل التحولات التي طرأت أثناء حقبة الاستعمار، وسياسة الأحلاف مع انقسام العالم إلى محورين شرقي وغربي، وسنوات الحرب الباردة، وصولاً للمسألة الأفغانية التي طرحت فكرة استنهاض عنصريْ الدين والقوة في البلدان الإسلامية، ثم التحولات السياسية في إيران، وصولاً للاحتلال الأمريكي للعراق.
هي عوامل أساسية قامت بتشكيل العديد من الرؤى في المشرق العربي، وحاولت رسم ملامح العلاقة مع الغرب، ولم تكن ثمة رؤية واحدة تحدد صورة الغرب في أذهان الشرق. وتبقى مسألة تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 من أبرز المؤثرات السياسية في العصر الحديث، وهي الحقبة التي أحدثت تحولات كبيرة في ثقافة شعوب المنطقة نحو الغرب، ففي تلك الفترة برز دور السوفييت في المنطقة العربية عندما وجه الاتحاد السوفييتي إنذاراً لبريطانيا وفرنسا لإيقاف الحرب، فاستجابت الدولتان بالفعل لذلك، بعد التوافق الأمريكي السوفييتي على ذلك، ومع انتهاء الحرب، دخل السوفييت إلى المنطقة عن طريق صفقات الأسلحة وبعض البرامج التنموية(5) وهو التوقيت المناسب الذي أتاح لجمال عبد الناصر بالظهور (في عيون العرب) إذ بدأ مصطلح الناصرية يأخذ صداه لدى الكتّاب والمثقفين العرب بعد معركة التأميم التي خاضها عبد الناصر ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م(6).
عموماً كانت حقبة الخمسينيات معقدة على المستوى العالمي، فالحرب الكورية التي حدثت بين عامي 1950-1953 والتدخل الصيني فيها، والخوف من انتقالها الى حرب عالمية ثالثة، ثم حرب التحرير في الجزائر 1954 ثم بداية الحرب الفيتنامية 1955 والثورة الكوبية 1953 وصولاً إلى إطلاق السوفييت أول قمر صناعي سبوتينك 1 وبداية سباق تسلح عسكري واسع.
كل هذه الحقبة من الانشغال الدولي ترافقت مع مرحلة جمال عبد الناصر ثم استقلال الجزائر وغيرها من البلدان العربية، لكن انقسامات الجزائر السياسة لم تؤثر في تكوين الموقف الشعبي العربي بمقدار ما أثر فيه عبد الناصر الذي رغم هزيمة 1967 بقيت الجماهير العربية ملتفة حوله، ورغم استمرار الصراع العربي الإسرائيلي على أشدِّه غير أن صوت خطابات عبد الناصر الزعيم الشعبوي كانت مسموعة أكثر من صوت القضية الفلسطينية في الشرق والغرب، فهو بلا أدنى شك، أثّر تماماً في الوعي العربي تجاه القضايا الداخلية، والعلاقة مع الغرب، وبالتالي أصبح الشرق في الواقع المتخيل هو المختلف عن الغرب لجهة المقاربة، لذلك لم يكن استكشاف الغرب عاملاً مهماً بقدر ما كانت مسألة إعادة توصيف الغرب في الثقافة العربية كغازٍ وطامع في المنطقة من جديد هي التي أخذت مدى أوسع.
الغرب في حقبة الإسلامويين
الإشكالية المؤثرة اليوم هي أن هناك قطاعات واسعة ونخباً ثقافية عديدة تنتمي للتيارات الإسلامية على اختلافها، ذهبت نحو إعادة صياغة الوقائع التاريخية وتفسيرها سواء ما جرى منها في مطلع القرن الماضي أثناء الحقبة الاستعمارية، أم تلك التي حدثت في العصر الوسيط، بينما حاول بعضهم ربط العلاقة مع الغرب بإعادتها إلى مولد الرسالة الإسلامية، وهي أمور بالمجمل لا تبدو واقعية بالمطلق حتى أصبحنا في المنظور الثقافي القريب أسرى كثير من الرؤى التي أعيد إنتاجها مؤخراً كنوع من استكشاف للماضي بقصد إعادة إنتاج نوع جديد من المؤثرات الدينية على العلاقة بين الغرب والشرق. يحاول أصحابها تثبيتها ضمن منظورين:
أولاً: الاستناد إلى وقائع تاريخية حدثت في الماضي أثناء حقبة الحروب بين الشرق والغرب، في القرن الوسيط، ويطلق عليها حديثاً: الحروب الصليبية، بينما كانت تلك الحروب التي استمرت زهاء مئتي عام بشكل متقطع، وعرَّفها العرب، في حينها، بحروب الفرنجة، وهو الاسم الذي كانت تلك الشعوب الفرنسية والجرمانية معروفة به لدى العرب، بمعنى أن المؤرخين العرب لم يأخذوا بالمسميات ذات الطابع الديني في كتبهم، بمن فيهم أبي يعلى القلانسي(7) الذي عايش تلك الحقبة، ويعدُّ مصدر الباحثين الأول عن تلك الفترة.
شهدت تلك الحقبة في مدينتي معرة النعمان في سورية وبيت المقدس في فلسطين أكبر انفلات دموي في تاريخ المنطقة، غير أن تلك الوقائع لم يعمل المؤرخون العرب على تدوين تفاصيلها كما فعل مدونو الأخبار اللاتين، من أمثال المؤرخ الفرنسي ألبير ديكس أو فوشيه إلشارتري، يقول ميخائيل زابوروف: “إن مدوني الأخبار ومؤرخي الأحداث الغربيين يصفون هذا الحدث بقدر متفاوت من الإسهاب والتفصيل..” (في إشارة إلى ما حدث في معرة النعمان والقدس)، أما مدونو الأخبار الشرقيون.. القلانسي وابن الأثير وغيرهم فإنهم ينوهون بفتح القدس بإيجاز وتمالك ولا يشيرون إلى انفلات الغزاة وجنونهم ووحشيتهم الهمجية).(8)
ثانياً: استحضار الإسلامويين للحقبة الاستعمارية التي اجتاحت الشرق العربي أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى: فثمة أحداث تاريخية باتت مؤثرة في مسارات الثقافة المجتمعية حتى اللحظة، خصوصاً ما قام به المندوب السامي الفرنسي هنري غورو بعد معركة ميسلون، وبعد دخوله دمشق توجه إلى قبر صلاح الدين الأيوبي وقال كلمته الشهيرة: (ها قد عدنا يا صلاح الدين)(9) وأيضاً ما سبقه به الجنرال إدموند اللنبي لدى دخوله القدس في أكتوبر 1917 إذ قال: “الآن انتهت الحروب الصليبية”.
عموماً، هذان حدثان هامان في تاريخنا القريب، غير أن الوقائع التاريخية في دمشق وفلسطين لم تشر إلى ردود عربية اعتبرت فيه أن ثمة صراع ديني بين الإسلام والغرب، ففي فلسطين، ظهرت ثورة القسّام، وفي دمشق في تلك الحقبة كانت الثورة السورية يقودها عدد من تلامذة الشيخ بدر الدين الحسني(10) وفي ليبيا كانت ثورة الشيخ عمر المختار، فعلى الرغم من وجود علماء مسلمين مؤثرين في سير الشعوب على رأس تلك الثورات، غير أن أحداً لم ينقل عنهم سواء في فلسطين أو سوريا أو ليبيا سوى أنها ثورات تسعى للاستقلال عن دولة معتدية ومحتلة لا غير، ولكن كيف يتم تصوير تلك الفترة الآن؟
إحياء مؤثرات دينية
بعد تلاشي فكرة المشاريع الوحدوية والقومية، ورحيل عبد الناصر والتحولات السياسية التي حدثت في مصر وسياسة الانفتاح، كان لظهور الإسلام السياسي تأثير بالغ على المنطقة، إذ برزت فكرة الصحوة الدينية التي أعادت صياغة الحوادث التاريخية على أسس جديدة مفادها أنَّ العلاقة مع الغرب تدخل من باب الصراع الحتمي والمواجهة الدائمة، ولنحاول قراءة ما كتبه الشيخ سفر الحوالي في معرض حديثه عن الغرب إذ يقول:
“إن هذه العداوات المتغلغلة العميقة ليس موضوعها خلافاً مذهبياً ولا نزاعاً سياسياً ولا مطامع اقتصادية أي إنها باختصار ليست مما يمكن تسويته واجتثاث آثاره.”(11) ثم يضيف عن حادثة الجنرال اللنبي بالقول:
“الجنرال اللنبي لم يكن أكثر صراحة حين وقف على جبل الزيتونة في الحرب العالمية الأولى وقال: الآن انتهت الحروب الصليبية) كما إن الواقع يؤكد أن هذه الحروب لن تنتهي..”(12)
والمسألة بالطبع ليست عند الشيخ سفر الحوالي وحده، بل ثمة مئات الكتب والدراسات والمدونات أشارت إلى حقبتيْ القرون الوسطى وحروب الاستعمار، فأضفت عليها طابعاً دينياً بحتاً، وقد لعب الإخوان المسلمون دوراً حساساً بذلك، فنجد هذه المسألة عند سيد قطب في كتابه في ظلال القرآن:
“إن هذه الحروب لم تضع أوزارها قط من جانب الصليبية”.(13)
والمسألة تأتي عند محمد قطب بقوله: “ولكن الصراع قد قام، وكان لا بد أن يقوم، بين حركات البعث (الإسلامية) هذه وبين الفكر الغربي، أو بين المنتسبين للإسلام الحق وبين الذين استعبدت أرواحهم التبعية لذلك الفكر الغربي. وقد يطول ذلك الصراع.(14)
محاور تأهيل الصراع مع الغرب
المحور الأول:
استلهم الإسلامويين الخطاب الشعبوي الذي ترافق مع حقبة عبد الناصر، وبالتالي إن أخطر ما صنعه الإسلام السياسي هو أنه قام بإحداث نقطة تحول خطيرة في المشرق الإسلامي عندما قاموا بتحويل الدين الإسلامي من ديانة توحيدية تدعو إلى التعاون بين الشعوب (لا إكراه في الدين)(15) “وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”(16) إلى فكرة شعبوية مشبعة بصياغة تاريخية جديدة على شاكلة المادية التاريخية لدى الشيوعية التي أعادت رسم العالم وفق الرؤية الماركسية، فيما أعاد الإسلام السياسي صياغة التاريخ الإسلامي بما يخدم أهواءه السياسية، وبهذه الرؤية الزائفة باتت الرؤية للغرب تستند إلى صراع مفتوح بدأ مع بدء الإسلام، وجاءت هذه المسميات الجديدة، بما يتوافق مع تلك المرحلة التي كانت تتميز بالخطاب الشعبوي.
المحور الثاني:
إعادة جذور الرؤية الشرقية (الحالية) للغرب إلى الحروب الطويلة التي جرت في القرن الوسيط، ورغم أن هذا التوصيف مستحدث، ويعبر عن جملة من المصالح السياسية بحسب الظروف والمكان، لكن النخب الحزبية من يساريين أو قوميين، أعجبتهم فكرة النظر للغرب كعدو من أجل تبرير اصطفافهم السياسي أثناء لعبة المحاور السياسية في حقبة الاتحاد السوفييتي السابقة.
وأما الإسلام السياسي، ومع انهيار الشيوعية، فقد وجد في تبنّي فكرة (التصدي للغرب) مادة مفيدة لجذب المؤيدين له، خاصة بعد ظهور الحقبة الخمينية، التي أثرت بشكل واضح على المنطقة، رغم اختلاف ظروف الحركات الإسلامية في كل قطر، فقد كان لنجاح الثورة الإيرانية أثر واضح في تقوية الجماعات الدينية التي استثمرت الفراغ السياسي واليأس الجماهيري والمعاناة الاقتصادية والاغتراب والتبعية بأشكالها المختلفة.(17)
خصوصاً بعد اقتحام السفارة الأمريكية في طهران، وبروز شعارات الموت لأمريكا لا يمكن لأي باحث في التاريخ الحديث، أن يتناول وجهات نظر شعوب جنوب وشرق المتوسط دون المرور على الحقبة الإيرانية، لأنها هي التي أججت مشاعر الكراهية للغرب، ودفعت تيارات الإسلام السياسي لتبني خطاب الكراهية الذي أدى إلى هذه الصورة المشوشة في المشرق.
بالتالي، انطلاقاً من التيارات الماركسية، والقومية، وصولاً لحركات الإسلام السياسي، مروراً بالثورة الخمينية في إيران، كان هدف الجميع هو تأسيس قاعدة بيانات جديدة في عقل شعوب المنطقة ووجدانها مفادها أن العلاقة مع الغرب تستند إلى صراع تاريخي قديم، يعود للقرون الوسطى، ثم للفترة الاستعمارية، وأن هذه الإشكالية بين الشرق والغرب لا يمكن حلها دون الاستناد إلى عنصر القوة الذي بدوره يحتاج إلى تحميل الشعب هذه الأعباء، بما يبرر لهذه المنظومات السياسية الاستمرار في بقائها مهيمنة على العقول لأجل ترسيخ الهيمنة على شعوبها بذريعة مواجهة الغرب.
وذلك رغم خطورة توظيف الوقائع التاريخية الكبرى وغيرها أمور حدثت بالفعل، فالمعادلة الحساسة تكمن بأن التفاصيل السردية عن تلك الوقائع والكتابات التاريخية القديمة لأي من طرفي الصراع في أي حرب، هي وجهات نظر، وليس بالضرورة أن تكون وجهات النظر لكلا الفريقين متطابقة، مثال ذلك أن رؤية المؤرخين العرب لحروب القرون الوسطى بين الأوروبيين والشرق، كانت تأخذ طابعاً مختلفاً عن توصيفها عند المدونين اللاتين.
ففي تلك الحقبة كانت الكنيسة بحاجة لتوظيف عامل الدين في المعركة لإجبار ملوك أوروبا على تأجيل صراعاتهم الداخلية والتوجه بمعظم عناصر القوة إلى خارج حدود القارة، لذلك عندما وصلتنا (في العصر الحديث) ترجمات مدوني اللاتين وقرأنا كيف كانت نظرتهم إلى الشرق آنذاك، باتت هذه المدونات مادة خصبة لتيار الإسلام السياسي، تماماً كما حدث أثناء قراءة بعض كتب المستشرقين التي نظرنا إليها على أنها رسالة استعداء لا أكثر؛ بينما لم نسأل أنفسنا عن واقعنا في الداخل، وثقافتنا وتاريخنا وما هو الاختلاف في وجهات النظر..
ومع افتراض صحة هذه المدونات، ولكن يبقى السؤال الأهم، ما قيمة هذه المدونات الآن، وماذا نستفيد منها في عصرنا الحالي، والإجابة لا شيء مطلقاً، ثم لنذهب إلى رؤية الشرقيين في تلك المرحلة للصراع، سوف نجدهم في المشرق قد ابتعدوا عن استخدام المسميات الدينية للنزاع، كما أن المؤرخين تجاهلوا تجاوزات الأهوال التاريخية خصوصاً واقعتيْ معركة معرة النعمان والقدس لأسباب متعددة بعضها يحاكي ما بات اليوم من أساسيات المؤسسات الإعلامية العصرية التي ترفض نشر المقاطع المصورة التي تؤذي المشاعر وتؤجج الصراعات وبالتالي تعمل على بقاء هذه الأدلة داخل الأدراج وفي مجالها القانوني فحسب، لأجل منع انتقال الأحقاد.
الوقائع التاريخية تُفهم انطلاقاً من خلال المصالح لا من خلال الأفكار المسبقة، فما يراه بعضهم حقيقة مطلقة قد يكون بالنسبة لغيرهم مجرد وجهة نظر، فإذا كان صلاح الدين الأيوبي في ثقافتنا هو رمز للقوة والجهاد فقد حظي الرجل في الثقافة الغربية بمكانة الفارس النبيل(18) الذي يبحث عن السلام، وهذا ما تجاهلناه في ثقافتنا واكتفينا بإظهار صلاح الدين المحارب فقط.
خاتمة
لقد طوى الغرب صفحات مريرة من الصراع الداخلي في القارة الأوروبية خلال القرن الماضي، وأعاد إنتاج ثقافة جديدة، بملامح عصرية جديدة، وكذلك فعلت اليابان، وكوريا الجنوبية، بينما بقيت العديد من دول العالم منها الدول العربية والإسلامية بعيدة عن ذلك، لكن هذا لايلغي أن ملايين العرب والمسلمين من المهاجرين صاروا جزءاً من مكونات الدولة في الغرب، وانسجموا مع تلك الحضارة بحيث لا يمكننا أن نرى الغرب دون رؤيتهم، ورؤية ما حصلوا عليه من حقوق، نفتقدها في جميع كياناتنا العربية أو الإسلامية. وهذا ما يغفله الإسلام السياسي بترويجه لمقولات تنافي الحقيقة، فالمسلمين الأوائل عندما رفعوا السيف لم يرفعوه لأجل اجتثاث الوثنية؛ كما يدعي دعاة الإسلام السياسي، بدليل أنهم تحالفوا مع الوثنيين كما حدث مع قبيلة خزاعة.
لذلك نقول: إن خطر الإسلام الجهادي يأتي من أنه إلغائيّ، فهو يلغي المسلمين أولاً ويلغي المذاهب والطوائف ويلغي العالم أجمع.
مراجع
- كتاب المسلمون والحضارة الغربية/تأليف. سفر الحوالي/ص 94/ يقول المؤلف(لم تبدأ الحروب الصليبية مع الحملات الصليبية المتتابعة في القرن الخامس الهجري بل منذ بزوغ شمس الإسلام).
- مجمع كليرمونت عقد في نوفمبر 1095 في كليرمون بفرنسا للتحضير لما سمي حرب استرداد القبر المقدس في حينه.
- الموقع الرسمي لقناة الحرة/الغرب مجهولاً/6اغسطس 2018 محمد المحمود.
- المصدر السابق.
- كتاب حرب التواطؤ الثلاثي – المكتبة الاكاديمية حسن بدري – فطين أحمد فريد. ص: 674.
- مجلة الوعي العربي- الناصرية الولادة والنشأة.
- أبو يعلى حمزة القلانيسي 1070- 1160م صاحب كتاب (ذيل تاريخ دمشق) والذي يعدُّ المصدر الأول لمؤرخي حقبة حروب الفرنجة في الشرق. ص: 109 من كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب. لأمين معلوف. ط: دار الفارابي.
- كتاب الصليبيون في الشرق/ ميخائيل زابوروف/ دار التقدم موسكو.ص:124,
- كتاب خط في الرمال/ جايمس بار/ دار الحكمة. ترجمة سلاف أرناؤوط. ص: 133
- أعلن الشيخ بدر الدين الحسني الجهاد المقدس حتى جلاء آخر جندي فرنسي عن البلاد. إسلام ويب. 2آذار/مارس 2002
- كتاب العلمانية/د. سفر الحوالي. ص: 528.
- المصدر السابق: 530.
- كتاب في ظلال القران (تفسير سورة التوبة). سيد قطب ص: 1630.
- الصراع بين الفكر االغربي والفكر الإسلامي/دراسة من تأليف محمد قطب صفحة 16 منشورات /منبر التوحيد والجهاد / lsunnah.info-www.almaqese.com www.a
- سورة البقرة: 256.
- سورة الحجرات الآية 13.
- كتاب الحرية والديموقراطية في خطاب الإسلام السياسي /صفحة 31/ صلاح نيوف /وطارق حمو.
- (وبعد قرون من ذلك أثار العدو الأكبر صلاح الدين إعجاباً واسع الانتشار بين الغربيين فقد شن الحرب بإنسانية وفروسية) صفحة .41 ترجمة عالم المعرفة العدد11 /كتاب/ تراث الإسلام-جوزيف شاخت/و كليفورد بوزورث.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.