الملخص التنفيذي:
التنوير الي ندعو إليه؛ هو جسر يربط المسلم المعاصر والمجتمع الإسلامي المعاصر بالفكر والقيم الحضارية المعاصرة، ليكون الفكر الإسلامي بما احتوى من قيم وثقافة وحضارة عظيمة قادراً على البقاء والاستمرار في مواجهة التطورات والتحديات التي يفرزها الواقع.
إن الإصلاح والتنوير الذي نريده؛ حتى نحقق خطوتنا الحضارية الأولى: يشبه كثيراً الصناعة التحويلية لفكر وسلوك الأمة من خلال نقله من الجمود إلى الحركة ومن التخلف إلى التقدم ومن الهامشية إلى الفاعلية فهو يعتمد أساساً على قاعدة هي (الوحي) نقرأها جيداً، ونعمل بها فكراً وسلوكاً ثم ننطلق منها؛ ولكن من خلال قراءة الواقع قراءة علمية عملية ليحدث تآلف حقيقي بين النص والواقع.
لذا يجب أن ينتج هذا التنوير حركة إصلاح ونهضة حضارية في كل مجالات الحياة، في الاقتصاد كما في الدين، في الاجتماع كما في السياسة، في التكنولوجيا كما في الإعلام. هذا كله نناقشه من خلال المحاور التالية.
المحاور:
- المدخل
- ما الرؤية القرآنية في تغيير المجتمع؟
- خطوات ومفاتيح النهضة لشرقنا البائس
- الجمود والتراجع ودورهما في تخلفنا!
- من أين نبدأ؟
- المؤسسة الدينية كمعرقل للنهضة!
- من التدين المغشوش إلى التنوير المنشود
- صعوبة مهمة التنويريين!
- التنوير كضرورة نهضوية
- التنوير الذي نريده
- النتيجة
المدخل
يُجْمِع كل من يهتم بقضية النهضة على أن التنوير أهم وسائلها؛ وبالتالي يحتاج إلى حركة إصلاح كبيرة، تقوم بإنهاء دور ثقافة الموروث الديني الدخيل على الثقافة القرآنية؛ وتخليص العقل من ثقافة القياس والتقليد والاتكاء على أرث مبدعي السلف، وإيجاد ثقافة الإبداع والتطوير المنطلقة من الخطاب الأم الخطاب القرآني، الذي أسس الشخصية الإسلامية ثقافياً، وحررها من كل القيود التي كبلتها ومنعتها من النهضة والإبداع.
وبما أننا نبحث عن وسيلة لتغير المجتمع والنهوض به حضارياً؛ فإن القرآن طرح رؤيته في تغيير المجتمع؛ عملت بها الأمة في مرحلة رشدها.
ما الرؤية القرآنية في تغيير المجتمع؟
إن تتابع رسالات السماء كما يطرحها القرآن على المجتمعات البشرية من خلال الأنبياء والرسل، ليست إلا تتابعاً للحركات الإصلاحية، وهي تجديد لمفهوم الدين في عقول حامليه، بعد تقديسهم لمفاهيم مغلوطة عن الدين، وكلما حدث انحراف في الفهم البشري لرسالة الدين، وكلما تكرست فاحشة أخلاقية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، أو سياسية بعث الله رسولاً ليصلح ما أخطأ الناس بفهمه والله ﷻ عندما يقول:(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا). أي طريقة وأسلوب في الإصلاح والتجديد.
وبما أن رسالة محمد ﷺ خاتمة الرسالات، أمر أتباعه كي يقوموا بمهمة الأنبياء، من خلال إصلاح وتنوير لمفهوم التدين من حين إلى آخر، وألا يبقوا على مفهوم واحد، لأن مرور الزمن على مفهوم واحد يجعله جامداً من جهة، وغير متلائم مع ما يفتح الله على الناس من علوم ومعارف من جهة أخرى، لذلك قال ﷺ فيما رواه أبو داود: يبعث الله على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها.
وهذا الحديث يدل أن هناك محدثات وتطورات تطرأ على المجتمعات البشرية، فيأتي التنويريون والمصلحون لتأطير مفهوم جديد للتدين ووظيفته بما يتناسب مع العصر والحداثة.
الخطاب القرآني يدعو دائماً إلى الإصلاح والتجديد من خلال معالجة الأخطاء الاجتماعية والفكرية والثقافية، وحتى السياسية لذلك تراه يطرح تجربة الأنبياء والرسل الذي تجدها حاضرة في ثنايا سوره، فهو بذلك ينفخ في الإنسان حركة حضارية في الفكر والأخلاق والعمل من خلال القدوة العظمى المتمثلة بالأنبياء والرسل، ليتحرك بها في المجتمع؛ وبالتالي يحول نظرته المسترخية البلهاء الكسولة نحو المجتمع إلى نظرة حضارية واعية، رابطاً هذه النظرة بعمل يكشف من خلاله مجاهل الكون كي تخدمه في حركته الإنسانية.
وهكذا دعا القرآن الكريم المجتمع المسلم للانطلاق نحو قفزة حضارية؛ وأسس لذلك التغيير والإصلاح من خلال خطوات عملية؛ وبالوقت نفسه لفت الانتباه إلى المفاتيح التي تحقق ذلك.
أما الخطوات فهي: أولاً: العلم. ثانياً: العمل. ثالثاً: هدم الثقافة الأبوية. رابعاً: محاربة الفساد.
وأما المفاتيح فهي: قانون السببية أولاً. ثانياً: فهم السنن الاجتماعية. ثالثاً: التسخير الكوني. رابعاً: التلاقح الحضاري.
لنتوقف قليلاً مع هذه الخطوات والمفاتيح.
أما الخطوات فهي:
أولاً: دور العلم في النهضة:
للوصول إلى الانطلاقة الحضارية، لا بد من تأسيس علمي لها؛ فالمجتمع الحضاري هو المجتمع القائم على أسس علمية؛ والثورة العلمية هي من تقوم بتجديد روح المجتمع؛ وتدفع به نحو الإبداع، والتنمية، والإنتاج، والرقي. القرآن الكريم لم يضيع الوقت؛ لذلك كانت الكلمات القرآنية الأولى هي من أسس لذلك حيث قال تعالى في سورة العلق:
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ).
والقرآن في طرحه للتعلم؛ حث على العلمين؛ العلم الديني أولاً؛ لينضبط به العالِم أخلاقياً؛ والعلم الدنيوي ثانياً لينهض المؤمن برسالته إنسانياً. لذلك كانت (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق) للعلم الديني. وكانت (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) للعلم الدنيوي.
ولا يكفي لنهضة المجتمع وتحضره ونموه القراءة الدينية فقط! ففي مرحلة الرشد فهمنا اقرأ الدينية؛ ووجهتنا إلى أقرأ الدنيوية فكنا محط أنظار العالم وقبلتهم، وقدمنا حضارة إنسانية بكل معنى الكلمة، وعندما ابتعدنا عن الثقافة القرآنية؛ جاءت مرحلة التقليد واستقالة العقل فغاب الرشد؛ فقلدنا وقسنا في القراءة الدينية؛ مما أدى إلى ضياع أقرأ الدنيوية فتخلفنا. ([1])
ثانياً: دور العمل في النهضة:
تبقى النظرية لا قيمة لها مهما كانت عظيمة؛ إنْ لم يتوفر لها حامل؛ يبرهن على صحتها؛ ويحولها إلى سلوك في الواقع، وخير حامل للعلم العمل. لذلك جاء الأمر القرآني للمجتمع المؤمن بالعمل من خلال قوله تعالى:
(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ). التوبة:105.
ليعود القرآن فيطرح مسألة العمل مرتبطة بالإبداع المتجدد؛ من خلال دعوته للتنافس في التطور والابتكار بقوله: (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) الملك:2. من هنا قُرن الإيمانُ في كل آي القرآن بالعمل الصالح ـ فالعمل الصالح الذي يطرحه القرآن ليست العبادات فقط؛ إنما هو كل خير تستطيع أن تقدمه للبشرية؛ الذي يمنح قفزة حضارية؛ وعلواً في الإبداع والتطور والتنمية؛ حتى لا تكون هناك منغصات للإيمان، ولا يكون المجتمع المؤمن عالة على الآخرين.
ثالثاً: هدم الثقافة الأبوية:
إن من أهم خطوات الإصلاح والتنوير القرآنية هدم الثقافة التي تعتمد على السابقين اعتماداً كاملاً دون تطوير؛ أو تحديث أو تجديد، فمثل تلك الثقافة تجعل العقل مقلداً واتكالياً غير مبدع ولا منتج ولا مبتكر مكتفياً بما أنتج السابقون دون إضافة (قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ). المائدة:104.
كما كانت هروباً من الإصلاح والتجديد (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) الشعراء:74. وذريعة لتقديس ثقافة التقليد (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا). لقمان:21.
وذم القرآن الثقافة الأبوية لأنها كانت مدعاة للاتكال والتقليد والاستهلاك والبلاهة المعرفية دون علم، أو عمل، أو إبداع، أو تنمية؛ وبين عقمها من خلال قوله (قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ). الزخرف:23.
رابعاً: محاربة الفساد:
العلم والعمل والابتكار والابداع والتنمية؛ لا تنمو في ظل وجود فساد ومفسدين، وحيثما يكون الفساد ستجد الظلم الاجتماعي والسياسي؛ والتقهقر الاقتصادي والتخلف العلمي، وهنا تتولد ثقافة النجاة الفردية، وتسيطر ثقافة البراغماتية على المجتمع؛ وبتوسع الفساد؛ وسيطرة المفسدين تبدأ الطبقة الوسطى التي هي دينامو العلم والعمل في أي مجتمع بالتلاشي، والمجتمع الذي تنهار فيه الطبقة الوسطى؛ ستتخلف فيه التنمية، ويتردى فيه الإنتاج، ويموت فيه الإبداع. لذلك يمكن أن نقول: إن حملة القرآن على الفساد والمفسدين هي لحماية العدالة الاجتماعية؛ والإبداع والابتكار، وجعل العدل في كل شيء عنواناً للمجتمع.
وفيما يلي بعض النصوص القرآنية المحذرة من الفساد (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) الأعراف:56.
(وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) الشعراء:151.
وأما المفاتيح الذي لفت القرآن الأنظار إليها؛ لتحقيق النهضة والقفزة الحضارية؛ عن طريق التجديد والإصلاح فهي:
أولاً: قانون السببية:
قانون السببية كشف قرآني؛ وإبداع إسلامي، جاء ليحفز الهمم ويحطم ثقافة الخرافة؛ ليتأسس المجتمع على أساس علمي وعقلية سليمة تربط الأسباب بالمسببات؛ تنهي ثقافة الصدفة في الكون كله. ولقد حطم القرآن نظرية الصدفة؛ وأكد أن كل شيء يحدث في الكون لا بد له من سبب أدى إليه؛ وبذلك دعا العقل المؤمن إلى ربط الأسباب بالمسببات؛ وحثه على اكتشافها، ولقد امتلأت آي القرآن بذلك القانون؛ فكان أحياناً يأتي بباء السببية ليعلل الأشياء كقوله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) وأحياناً يأتي باللام المعللة (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). وأحياناً يأتي بالوصف الذي استحقه الفعل (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ).
ثانياً: علة انهيار الأمم والمجتمعات:
القرآن الكريم يطرح قانون السببية كفاعل؛ لا يتخلف أبداً في الجماد والنبات والحيوان والأجرام والإنسان؛ وهو يأخذنا من خلاله إلى السنن الاجتماعية التي أكد القرآن كثيراً على أنها تتحكم بانهيار ونهوض المجتمعات، ولا تقبل محاباة ولا تفرق بين مجتمع مؤمن وغير مؤمن لذلك قال تعالى (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا) النساء:123.
وتلك سنن فاعلة في المجتمعات من قبل ومن بعد، بدليل قوله تعالى (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا). الأحزاب:62.
ثالثاً: التسخير:
وهو منحة إلهية للإنسان تعينه على جعل ما في الكون مقهوراً له؛ فسنة التسخير مفتاح من مفاتيح التغيير والتجديد لقوله تعالى (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). الجاثية:13.
رابعاً: التلاقح الحضاري:
القرآن الكريم يطرح مفهوم التلاقح الحضاري، ويرفض ثقافة التصارع الحضاري، فيقول (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). الحجرات:13.
ولكن هل هذه الرؤيا القرآنية لها وجود في فكرنا وسلوكنا؟ الجواب قطعاً لا!
أما العلم: فالتوقعات الأممية العلمية تتخوف من وصول الأمية إلى نحو مئة مليون أمياً في شرقنا البائس بنهاية هذا العقد من القرن الحالي! ([2])
أما العمل فنحن أمة كسولة وفيها أكبر نسبة للعاطلين عن العمل؛ منظمة “الإسكوا” ومنظمة العمل الدولية تقولان: إن المنطقة العربية تسجل أعلى مستوى بطالة في العالم. ([3])
وأما الفساد فأعلى المعدلات عالمياً هي في شرقنا البائس؛ فمؤشرات الفساد ومعدلاته من أهم أسباب الصراع في المنطقة العربية! ([4])
مما سبق يؤكد حاجتنا لتجديد مفهوم التدين لنعود إلى الحركة الحضارية؛ فمن الظلم أن يبقى هذا الدين بعيداً عن حركة الحضارة العالمية؛ وحرام أن يُقَدّم الدين من خلال فقهاء السلاطين أو الجماعة المتطرفة؛ وعندما يغيب التنوير عن حركة المسلمين فكرياً؛ لا بد أن يحدث خلل خطير في كيفية فهم وتقديم الإسلام.
الجمود والتراجع ودورهما في تخلفنا!
ما حذر منه القرآن آنفاً؛ أدى إلى تراجع المجتمع المسلم في مجالات مهمة منها:
- تأخرنا في الإبداع، وتقدمنا في التقليد والاستنساخ.
- قدسنا العنف بدلاً من الحنيفية السمحة.
- تخبطنا في فقه الأوليات.
- فقدنا الانسجام مع الإسلام فكراً وسلوكاً.
- سقطنا أخلاقياً في مجال العمل، والصناعة، والإنتاج، والتنمية.
أدى ذلك كله إلى ابتعادنا عن الرشد؛ وانتقالنا من مرحلة الشهود الحضاري إلى المرحلة الغثائية التي يطفو على سطحها العبثية الفكرية واللافاعلية، ولا تجيد التعامل مع الوسائل المساعدة، حتى وصلنا إلى مرحلة الوهن، لتغدو الأمة لقمة سهلة لدى الطامعين؛ وهذا بالضبط ما حذر منه رسولنا الكريم ﷺ بقوله: يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها. قلنا: يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ. قال: أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن.
الجمود والتخلف والغياب الحضاري؛ تلك العناوين غدت سمة من سمات شرقنا البائس؛ وباتت متمكنة من عقول أبنائه بسبب التقليد والاكتفاء بما أنتج السلف؛ فأدت إلى عدم الأهلية في التعامل مع الأحداث؛ والأخطاء في اتخاذ القرارات الاستراتيجية السليمة، أضف إلى ذلك الجهل المطبق في معرفة كيفية اكتشاف سنن الله في الآفاق والأنفس والاستفادة منها إلى أقصى درجة. ([5])
ناهيك أننا أمام تعطيل العقل؛ وقفنا أمام النص القرآني غير عارفين كيف نثوره؛ ولا قادرين على تدبره؛ مكتفين بقراءته دون الفهم المطلوب، وهذا ما جعلنا غير قادرين على الخروج من ظاهر النص إلى مقاصده وأهدافه!
والسبب في ذلك يعود إلى وقوفنا مكتفين بما أُنتج في القرن الرابع دون أن نظيف إليه؛ أو نجدده، أو نصلح ما عاد لا يصلح لهذا العصر، وهذا كله أدى إلى تخلف اجتماعي؛ وتراجع صناعي؛ وضياع اقتصادي؛ واستبداد سياسي؛ وفساد إداري! ورسول الله يصرخ في الأمة: لا خير فيمن لا يضيف.
إذن؛ هناك أزمة ثقافات نعاني منها؛ يعود سببها إلى وجود أزمة في التعامل مع النص القرآني؛ الذي جعلناه محنطاً لفهم قُدم لنا منذ قرون، أعطينا لفهم السلف قداسة ما أعطاها لنفسه، وتلك الأزمة منعت التحرر من الموروث؛ وأجهضت كل محاولة للإصلاح أو التجديد. غياب هذه الثقافة القرآنية؛ ولد عاهات فكرية في شرقنا البائس؛ منعته من التطور والتقدم؛ وأبعدته عن الشهود الحضاري.
إن غياب هذه الثقافات جعل أمة سورة الحديد؛ تقف أمام صناعة الحديد المدنية والعسكرية متخلفة جداً؛ وجعلت أمة سورة القلم و(اقرأ) تعاني من أمية؛ نخرت عظامها؛ فأوهنتها حتى قُدِرَ عدد الأميين بشرقنا البائس في نهاية العام 2030 بنحو (100) مليون أمياً، كما أدى غياب تلك الثقافات إلى أن أمة سورة النساء أصبحت تتعامل مع النساء بعقلية قريش وثقافة البدو؛ وفي ظل غياب هذه الثقافات القرآنية، نسأل أمة سورة الشورى وفقهاء التقليد: مَنْ الذي أفتى بأن الديمقراطية كفر؟ وهي تجربة إنسانية؛ وعقد اجتماعي في إدارة السلطة!
كما نتساءل: لماذا عالج معظم علمائنا آيات الأحكام في القرآن؛ التي لا تزيد عن (500) آية قرآنية مع المكرر منها؟ وتوقفوا عن تثوير القرآن؟ وحرث الآيات التي تتحدث السنن الاجتماعية في نهوض وسقوط الأمم؟ أو الآيات التي تتحدث عن العدالة الاجتماعية؟ وشروط الاستخلاف الأممي؟ والشهود الحضاري؟ والآيات التي تطالب بتدبر الكون للوصول إلى مفاتيح التسخير لجعلها في خدمة الإنسانية؟ وأصبحنا نقرأ القصص القرآني للتسلية ـ كما ادعى فقهاء الجمود ـ دون البحث فيها عن الآليات التي تحذر من السقوط الاجتماعي والسياسي فنحذرها؛ أو التي تحث على تبني مفاهيم في الرقي، والبناء، والتربية، والنهضة. ([6])
من أين نبدأ؟
المؤسسة الدينية كمعرقل للنهضة!
حينما نفكر بالإصلاح لا بد أن نبدأ من المؤسسة الدينية؛ لماذا؟ هذه المؤسسة فقدت دورها نتيجة تراكمات سياسية خاطئة عبر قرون من الاستبداد، وهيمنة السلطة الحاكمة عليها، وبما أن المؤسسة الدينية التي كان من المفروض أن تكون ضمير المجتمع والمعبر عن همومه وتطلعاته، لم تستطع أن تقف إلى جانب المجتمع، وانحازت إلى جانب السلطة حتى أصبحت تابعة لها، وأصبحت السلطةُ تُعَيّن المؤسسةَ الدينية؛ هنا أصبحت النخبة المثقفة بوقاً للسلطة السياسية!
فظهرت كتباً تمجد الفرعونية، ادعى واضعوها أنهم كتبوها على أسس إسلامية، ليأسسوا لفقه سياسي أعرج مشلول مجّد الاستبداد الفرعوني الذي ذمه القرآن أكثر مما ذم الشرك والكفر.
وأخذت المؤسسة الدينية تمارس دور الرقيب على العقل، فعرقلت انطلاقته من جديد ومن ثم منعت إبداعه؛ وكانت عبر التاريخ تمارس مكارثية على المصلحين والمجددين والمبدعين، وما فعلته بابن رشد وابن سينا وصولاً إلى محمد عبده والكواكبي؛ حتى فرج فودة ومحمد شحرور ومحمود محمد طه وغيرهم؛ ليس إلا دليلاً على تلك الوصايا الكهنوتية التي كانت تمارسها بمباركة السلطة السياسية.
لذلك نقول: إن (زواج المتعة) غير الشرعي بين المؤسستين الدينية والسياسية عبر تاريخنا هو الذي أسس لثقافة التقليد والبلادة وتمجيد المستبد؛ وأسس لحالة رعب تمنع كل من يريد الإبداع أو الإصلاح أو التجديد؛ وكانت سمعة الإسلام هي المتضررة عالمياً من هذا الزواج الباطل، وأما توقف الإبداع والابتكار والإصلاح والتجديد فهي نتيجة من نتائجه.
إن حرمة الخروج عن آليات وفهم الإسلام بطريقة القرن الرابع، جعلت المؤسسة الدينية بعد مضي كل تلك الفترة عاجزة عن إيجاد حلول للمشاكل المعاصرة، مشلولة فكرياً وعملياً؛ فلا تقدر أن تتقدم بمنهج جديد يكون سبيلاً للخروج من شرنقة القرن الرابع، مما جعلهم ينقسمون على أنفسهم، ويشغلون المسلمين بقضيتين استهلكت كل وقتهم:
الأولى: تصارعوا على عالم الغيب لأنهم فشلوا في عالم الشهادة فدخلوا معارك حول آيات الصفات (الكرسي والعرش واليد والقدم الخ).
الثانية: أدى الصراع على عالم الغيب والهروب من عالم الشهادة، إلى صراع على الإسلام ذاته، لإثبات أن كل فريق هو الأصح اعتقاداً.
ثم ظهرت لنا دعوة أخرى كرست حالة الصراع على الإسلام وهي مقولة: العقيدة أولاً.
إن دعوة (العقيدة أولاً) يجب أن تُحرر. إنها كلمة حق أُريد بها باطل. نحن لا نريد العقيدة أولاً، بل نقول: الحرية أولاً. والقراءة (الثقافة) ثانياً. بعد ذلك العقيدة. ولكن كيف؟
الحرية أولاً: لأننا لسنا أحراراً، فنحن نعيش بعقلية العبيد وثقافتهم، والعبيد لا يحق لهم الاختيار، بل يُختار لهم. والثقافة ثانياً: لأن مجتمعنا اليوم أشبه بالأمي، نتيجة ظروف كثيرة، والمجتمع الأمي أقرب إلى العبودية منه إلى الحرية.
إن حركة الإصلاح التي نؤمن بها وندعو إليها تدعو إلى الحرية أولاً؛ حتى نختار دون أي ضغط أو إكراه. ثم إلى القراءة (الثقافة) ثانياً، حتى يكون اختيارنا قد بُني على أساس عقلي علمي. وبعدها تأتي العقيدة. والإسلام من أهم مبادئه حرية الاعتقاد.
هذه الأسباب مجتمعة أوصلت الأمة إلى عُقم إبداعي وعلمي وصناعي وتقني، ناهيك عن العقم الديني والسياسي، لا نزال دينياً وسياسياً نحتكم إلى عقلية زعيم القبيلة، وليس إلى المؤسسة التي تأخذ القرار بطريقة علمية مدروسة، وهذا فرَّخ فراعنة سياسيين، وهامانات دينيين، وتولد من الزواج الفرعوني الهاماني قارون جديد (الفساد)، فعشش الفساد؛ وساد الاستبداد؛ حتى غدت له ثقافة يبررها مثقف السلطة. وكُبتت الحريات، وعدنا إلى عصر العبيد والإماء. فتحنط النص على مفهوم القرن الرابع الهجري، ولم يُحرث إلا من خلال محاولات خجولة، ينظر إليها بعين الريبة والحذر والتشكيك!
لقد أصبح محرماً على المفكر المعاصر أن يحل مشكلة معاصرة؛ إذا لم يبين من قال بها من السابقين، وغدا محرماً على من يريد حرث النص القرآني؛ إن لم يقرن إلى جانب تفسيره شيئاً مما قال به السابقون. فهم لم يكتفوا بتعطيل العقل، بل اعتقلوه.
وما نعانيه اليوم من قلة الإبداع، وندرة المبدعين، في كل المجالات وليس الديني فقط، ليس إلا نتيجة مقدمات لتلك المسلمات التي قالت: إن السلف ما ترك للخلف شيئاً! وهذا ما أوقعنا في حرج معرفي، وتقهقر حضاري، ونظرة خاطئة للآخر فحصل طلاق بائن ما بين النص والواقع، أدى إلى طلاق كاثوليكي ما بين الشارع والمؤسسة الدينية.
من خلال كل ما سبق أصبحت المؤسسة الدينية عقبة حقيقية أمام أية حركة إصلاحية، وهذا يعني أن الإصلاح السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي يجب أن يسبقه إصلاح معرفي وثقافي يغير عقلية المجتمع حتى يصبح ممانعاً للثقافة التي يرضعها من المؤسسة الدينية.
من التدين المغشوش إلى التنوير المنشود
إن العاهات الفقهية المخالفة للحقائق العلمية التي تتحفنا بها المؤسسة الدينية من حين إلى آخر؛ تدل على أن هذه المؤسسة بعيدة جداً عن التطور العلمي والتقني؛ مما يجعلها في فتاواها بعيدة كل البعد عن التطور المعاصر؛ وهذا يعود لكونها نشأت مقلدة وقياسية لا مبدعة؛ ويبدو أنها لازالت إلى اليوم تسيء إلى ديننا؛ وتجعلنا في مواقف لا نحسد عليها؛ وحول هذه العاهات الفقهية يقول الشيخ محمد الغزالي:
إن (بعض) المتدينين من قديم يتعثرون في قضايا خلقية واجتماعية وسياسية كثيرة، بل إن تصوراتهم الثقافية موضع دهشة؛ فيوجد من يؤلف ضد دوران الأرض حول الشمس ويؤيد موقف الكنيسة في العصور الوسطى، ويدّعي مع ذلك أنه سلفي! ويوجد من يأمر التلامذة بتخريق صور الأحياء، لأن التصوير محرم، ويوجد من يهاجم كون الأمة مصدر السلطة؛ ويوجد من يحسب إقام الصلاة مغنياً عن تعلم الصناعات، ويوجد من يعيش مع أعداء الإسلام في القرن الرابع، ويهاجمهم وينال منهم، ولا يدري شيئاً عن أعداء الإسلام في هذا القرن. ([7])
إننا أمام هذا التدين المغشوش الذي تُسوّق له المؤسسة الدينية؛ الذي يجعل من الجيل المتعلم في مجتمعاتنا؛ يقف حائراً ما بين الحقائق العلمية وفتاوى المؤسسة الدينية. كما تصر هذه المؤسسة على أن تحفر وادٍ عميقاً بينها وبين المجتمع وتطلعاته من خلال فتاوى ذات بعد سلطوي؛ كالفتاوى التي تعتبر الديمقراطية كفراً؛ والتعددية السياسية فتنة، والرأي الحر ردة.
إننا نجد المؤسسة الدينية في معظم شرقنا البائس تقوم بدور مكتب العلاقات العامة لتحسين صورة هذا النظام أو ذاك! أكثر من كونها مؤسسة عليها عبء التعبير عن إرادة المجتمع وتطلعاته؛ وإيجاد الحل الشرعي لهمومه وقضاياه، ومن هنا نقول: إن أي إصلاح لا يبدأ بها سيكون إصلاحاً أعرجاً مشلولاً؛ لا يؤدي إلى نهضة، ولا إلى تقدم، ولا إلى تطور.
والتنوير المنشود للحركة الإصلاحية، يطالب المؤسسة الدينية البحث في قضيتين أساسيتين، يجب العمل على تحقيقهما هما الحرية والعدالة لجميع أبناء المجتمع مهما كان انتماؤهم الإيديولوجي، فالحرية والعدل هما وراء كل ثورة قامت على مستبد أو مستعمر. ولو استعرضنا تاريخياً كل دعوة للإصلاح أو كل ثورة قامت، لتبين لنا: أنها إما أن تكون تريد عدلاً أو حرية. وكذلك كانت دعوة إبراهيم موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
لا شك أن معظم الثقافة الإسلامية التي يعمل بها جلُ المسلمين، هي ثقافة القرن الرابع؛ ودائماً نقول نحتكم إلى القرآن والسنة، ولكن الحقيقة العملية والعلمية، تظهر أننا لا نحتكم إلى المرجعية القرآنية التي طولبنا بالاحتكام إليها، بل نحتكم إلى مرجعية أسست منهجها لحل مشاكل عصرها في القرن الرابع الهجري، أي منذ ألف سنة وأكثر، ونجحت في حلِّ مشاكل عصرها.
وبالتالي؛ هذا المنهج الذي يتحاكم إليه مسلمو العالم اليوم، يعمل بعقلية العصر العباسي الذي تشكل فيه، وخصوصاً أيام المأمون ومحنة خلق القرآن، ثم تفرع إلى شقين، يختلف في الأساليب، ولكنه محكوم بالمنهج عينه. وبقينا نحاكيه ونقلده، ونستلهم منه الحل لكل مشكلة تواجهنا، وربما كان ذلك ناجحاً ناجعاً في ذلك العصر، ولكن في عصرنا هذا؛ المشاكل كثرت والمفاهيم تغيرت والمتطلبات تبدلت، فما كان منذ عقود كمالياً أصبح اليوم ضرورياً، وما كان من التحسينيات، أصبح اليوم من الواجبات.
إن بقاء العقل الإسلامي متكئاً على حلول ومعارف وإبداعات القرن الرابع الهجري، والاحتذاء بالنموذج السلفي المصنوع في العهد العباسي؛ جعل العقل الإسلامي عقلاً مقلداً قياسياً لا إبداعياً إتكالياً لا مبدعاً مقيداً لا حراً مع العلم أن ذلك مذموم قرآنياً؛ فالقرآن يذم الثقافة الأبوية كما أسلفنا.
صعوبة مهمة التنويريين!
هذا الاعتقاد بآراء السلف من مبدعي القرن الرابع الهجري؛ جعل مهمة المصلحين شاقة وعسيرة، لأن وظيفتها الأساسية هي تغير ما في العقول، وإيجاد آلية جديدة تتعامل مع مشاكل العصر، لذلك دائماً نجد المصلحين أكثر الناس تعرضاً للإيذاء والعداوة والتشهير ناهيك عن اتهامهم بالزندقة والتكفير.
وكتب التاريخ تحدثت عن محن المصلحين، الذين اصطدموا بالسلطة السياسية التي ترى بأن الإصلاح مهدد لعرشها، فتضهدهم، واصطدموا بالسلطة الاقتصادية لأن الإصلاح مهدد لاحتكارها، كما اصطدموا بالسلطة الدينية لأنه مهدد لثقافتها.
التنوير كضرورة نهضوية
عندما نطرح الإصلاح والتنوير الديني، فإننا ندعو إلى محاولة فهم إنساني جديدة لوظيفة التدين قبل كل شيء، ولكن كيف لنا أن نتطور ونتحرك حضارياً، وفهمنا للدين لا يزال عالة على ما أنتج في القرن الرابع الهجري، وهذا يعني أن فهمنا لهذه الثورة العلمية التي أنتجها العقل البشري في القرن الواحد والعشرين، سيكون فهماً معوجاً لأننا فهمنا أن الدين لله فقط؛ ونسينا أن الدين إنما جاء لإسعاد الإنسانية. ولا يمكن أن نعود بالدين إلى الحنيفية السمحة، ما لم نقم بعملية نقد علمية للمفاهيم التي نعيش عليها منذ قرون، وما لم نحصن عقولنا بثقافة العلوم والمعارف الجديدة.
فالعقلية القياسية اللامبدعة التي تبنتها المؤسسة الدينية عبر كل تلك العصور، جعلت من الواجب على أبناء هذا العصر أن يتبنوا حركة إصلاحية تنويرية، تدعوهم إلى إعادة فهم الإسلام من جديد بطريقة متحررة عن آلية تفكير القرن الرابع.
إن العلماء المؤسسين الذين أبدعوا في القرن الرابع لهم منا كل احترام وتقدير، ولكن هل نجد في صيدلياتهم حلولاً لمشكلاتنا؟ هل حقوق الإنسان؟ والحرية؟ والتنمية؟ ومنظمات المجتمع المدني؟ ودور المؤسسات؟ و ظاهرة الاحتباس الحراري والمحافظة على البيئة….إلخ. هل هذه العلل المعاصرة لها أدوية في صيدلياتهم؟
هل نجد لديهم استراتيجية لحل مشكلة البطالة التي قهرت أحلام شبابنا؟ أم نجد في كتبهم سياسة للقضاء على ظاهرة الفساد التي أصبحت ثقافة؟
إن مجتمعاتنا أصبحت مشحونة نتيجة مشاكلها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مما جعل فئة مهمة من الشباب تلجأ إلى العنف وثقافة الموت، لأنها لم تجد خطاباً يلامس همومها، ويوجد لها حلولاً لتطلعاتها الاقتصادية أو أحلامها السياسية.
التنوير الذي نريده
التنوير الذي نريده هو الذي يجمع بين القديم النافع والجديد الصالح، مع الثبات على الأهداف، والمرونة في الوسائل، والتشديد في الأصول، والتيسير في الفروع. وهذا يعني إيجاد الظروف وشروط البقاء؛ والاستمرار والتواصل لفكر وثقافة المسلم، لتثمر حركة صعود حضاري في فكر وسلوك وقيم الإنسان المؤمن، حتى يساهم في بناء الحضارة الإنسانية على أساس إيماني صحيح، يؤكد من خلاله أن هذا الدين العظيم هو طريق الخلاص للبشرية جمعاء. ولن يكون إطلاقاً معيقاً لها.
فالتنوير هو جسر يربط المسلم المعاصر والمجتمع الإسلامي المعاصر بالفكر والقيم الحضارية المعاصرة، ليكون الفكر الإسلامي بما احتوى من قيم وثقافة وحضارة عظيمة قادراً على البقاء والاستمرار في مواجهة التطورات والتحديات التي يفرزها الواقع.
إن الإصلاح والتنوير الذي نريده. حتى نحقق خطوتنا الحضارية الأولى: يشبه كثيراً الصناعة التحويلية لفكر وسلوك الأمة من خلال نقله من الجمود إلى الحركة ومن التخلف إلى التقدم ومن الهامشية إلى الفاعلية فهو يعتمد أساساً على قاعدة هي (الوحي) نقرأها جيداً، ونعمل بها فكراً وسلوكاً ثم ننطلق منها؛ ولكن من خلال قراءة الواقع قراءة علمية عملية ليحدث تآلف حقيقي بين النص والواقع.
التنوير الذي ندعو إليه يعتمد القرآن مصدراً، والتقدم العلمي والمعرفي منهجاً، لتتولد منه نظرية معرفية تحرك العقل الراكد، فينتج إبداعاً في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتنمية والعلاقة مع الأخر وأسلوباً علمياً عقلياً في كيفية التصالح مع العصر.
لذا يجب أن ينتج هذا التنوير حركة إصلاح ونهضة حضارية في كل مجالات الحياة، في الاقتصاد كما في الدين، في الاجتماع كما في السياسة، في التكنولوجيا كما في الإعلام.
ولنحذر من ربط فكرة الإصلاح والتنوير بفرد واحد، لأن مفهوم الفردية لا يعول اليوم عليه كثيراً، فعصرنا هذا ليس عصر الأفراد، بل عصر المؤسسات والجماعات والتكتلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وبقاء الأمل معقوداً على المجدد الفرد؛ مسألة فيها مثالية عالية، واستجرار لفكر العصور الخالية.
النتيجة
من مفهوم التنوير الذي قدمناه، نجد بأن الإنسان المسلم يجب عليه ألا يسير عشوائياً في حياته، بل هناك ضابط سماوي الواجب على المؤمن أن يلتزم به، حتى يكون مؤمناً مساهماً في بناء المجتمع البشري، لينهض به ومعه من خلال مشروع حضاري وإنساني؛ وعندما يكون للمجتمع منهج إصلاحي وتنويري يعمل به ممارسةً وتطبيقاً فهو بذلك يتخلص من:
- أسر الموروث المتخلف الذي قيد الأمة ووضع العصا في عجلاتها وحرف مسيرتها عن منهج النبوة.
- السحر والانبهار بالثقافة الهامشية التي تقدمها المدنية الغربية وإهمال الثورة العلمية التي يقدمها الغرب.
- الحلول الضيقة إنسانياً التي عمقت جراحات الأمة وزادتها تخلفاً وجموداً (كالقومية بمفهومها العنصري المتخلف لا بمفهومها الجبلّي).
يقول الدكتور طه جابر العلواني:
إن الإسلام لو قُدم بذات الشكل الذي يقدمه المسلمون اليوم، فإن نصيبه من العالم استمرار الرفض والمحاصرة والاضطهاد ولا شك…..الإسلام يقدم بشكل لا يتناسب وعظمته وقدراته، وذلك من خلال التراث والفقه الموروث الذي مثل محاولة فقهائنا العظام في معالجة مشكلات مجتمعاتهم الزراعية البسيطة أو الرعوية أو ذات التجارة الفردية المعتمدة على التبادل البسيط للمنافع في تلك المجتمعات……وحين يُراد لهذا التراث وهذا الفقه أن يستجيب لحاجات معقدة لهذا النوع من المجتمعات المعاصرة واقتصاداتها، فإننا نظلمه ونكلفه مالا يطيق، وهذا سوف ينعكس على الإسلام وعالميته سلبياً فلا ينفي عالميته وحسب؛ بل يظهره بأنه دين لا يصلح إلا لمجتمعات قروية رعوية بسيطة، وهنا يكمن الخطر. ([8])
مراجع
[1] ـ راجع في هذا الباب كتاب جودت سعيد. اقرأ وربك والأكرم.
[2] ـ مرصد الألكسو عدد الأميين في الوطن العربي سيضاهي المائة مليون شخص بحلول 2030:
[4] ـ مؤشرات الفساد بحسب (CPI) بالشرق الأوسط:
[5] ـ راجع في ذلك ما كتبه جودت سعيد بكتابه (سنن تغيير النفس والمجتمع حتى يغيروا ما بأنفسهم).
[6] ـ تبلغ عدد آيات العبادات في القرآن الكريم نحو (130) فيما وصل عدد الآيات التي تحث على الخلق الحسن والإنسان إلى نحو (1054) آية!!!
[7] ـ الشيخ محمد الغزالي: سر تأخر المسلمين. ص: 110. دار القلم. دمشق. الطبعة الأولى عام 2000.
[8] ـ الدكتور طه جابر العلواني: أبعاد غائبة. ص: 27. المعهد العالمي للفكر الإسلامي. واشنطن.
الآراء الواردة في هذا المقال هي للمؤلف شخصياً ولا تعكس بالضرورة رأي مركز أبحاث مينا.
جميع حقوق النشر محفوظة لصالح مركز أبحاث مينا.