عاشت تركيا في الفترة الماضية على وقع نزاعات خاصة أربكت كواليس السياسة الداخلية التي يسيطر عليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم “حزب العدالة والتنمية” المتحالف مع الحركة القومية التي يتزعمها “دولت بهتشلي” ما سمح لهذا التحالف بتجاوز أكبر العقبات الانتخابية سابقًا عبر تعديل الدستور وقضية الانتخابات الرئاسية – وإن تعثر التحالف في قضية انتخابات البلدية التي خسر فيها كبرى المدن رغم تقدمه في مدن أخرى- ما سبب نكسة قوية وتراجعًا ملحوظًا في شعبية تحالف السلطة.
التحولات الكبرى التي تعيشها تركيا انطلقت بعيد محاولة الانقلاب الفاشلة التي اتهمت فيها جماعة غو لن المحظورة بالترتيب والتدبير للقيام بتلك العملية مع السعي للسيطرة على مفاصل الحكم لكن فشل الانقلاب سمح بمزيد من السيطرة والتحكم للسلطة الحاكمة التي بدأت عمليات اجتثاث للمتهمين بالقيام بالعملية الانقلابية والذين تغلغلوا في مؤسسات الجيش والشرطة والقضاء وبعض المؤسسات الحيوية في البلاد.
وبذلك دخلت تركيا بعد عام 2016 مستويين من التغيرات؛ الاول داخلي انعكس على اجتثاث العناصر المناوئة المتهمة بالانقلاب بحيث تمّ – نظريًا – تنظيف أجهزة الدولة من الشخصيات التي تسبب قلقًا للسلطة الحاكمة وصولًا لتنظيف أهم مثله تعديل الدستور إلى نظام سياسي رئاسي يمنح صلاحيات واسعة وحقيقة للرئيس (الذي هو أردوغان حاليًا).. وهو الأمر نفسه الذي سيسبب جدلًا وانشقاقات كبيرة في فريق السلطة والحزب الحاكم نفسه (اعتراضات عبد الله غول وأوغلو وباباجان وغيرهم والتي انطلقت من قضية النظام الرئاسي مع بعض القضايا الأخرى).
التحرّك عبر تيارات إسلامية راديكالية
المستوى الثاني، مثله النقلة النوعية في النفوذ التركي الخارجي الذي عملت فيه أنقرة على توسيع أنشطتها وتدخلها الحقيقي عبر قواتها وأدواتها في مناطق مختلفة مشتعلة وذات أزمات كبيرة… فتدخلت في سورية تحت ذريعة حماية أمنها القومي من هجمات الإرهاب وتأمين أماكن تواجد للاجئين السوريين على أراضيها فكانت عمليات درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام التي سمحت بتواجد عسكري تركي “فعلي” في الشمال السوري في محافظات حلب وادلب ومحافظة الحسكة وغيرها بحيث باتت أنقرة فاعلًا حقيقيًا في المشهد السوري.
في الغرب، وإلى ليبيا.. تدخلت تركيا بقوة إلى جانب ما تعرف بحكومة “الوفاق” التي يسيطر عليها تيارات إسلامية راديكالية وتتحكم بها جماعة الإخوان المسلمين في مواجهات ضد برلمان طبرق في الغرب والجيش الوطني الليبي الذي يقوده الجنرال خليفة حفتر، المدعوم من قوى إقليمية ودولية أخرى.
قاد التدخل التركي في ليبيا لمتغيرات كثيرة في المشهد الليبي والمشهد الإقليمي شرق المتوسط الذي سبب اكتشاف ثروات الغاز الضخمة فيه بتضارب مصالح تيارات ومحاور سياسية مختلفة.. ما دفع بتركيا كذلك لمحاولة نيل نصيبها – ولو بالقوة – في تقسيم كعكة شرق المتوسط المهمة، انطلاقًا من تواجدها شمال قبرص وتحت ذريعة مظلومية ترسيم الحدود وصولًا لنقاط أخرى لعبت عليها تركيا في مواجهة خصوم أوروبيين وإقليميين.
أصدقاء أم أعداء
يعتبر كل من “أحمد داود أوغلو” و”علي باباجان” ومعهم الرئيس السابق “عبد الله غل” من أبرز القيادات السابقة للحزب الحاكم (العدالة والتنمية) فكانوا من طليعة المؤسسين وقيادات الصف الأول بجانب رئيس الحزب الحالي، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
اختلفت مراحل الشقاق وبوادر الفرقة بين القيادات تلك مع أردوغان رجوعًا إلى الوراء في حساب السنين، بدءً من عبد الله غل الذي اختفى من المشهد السياسي التركي – أو جرى إبعاده – ثم لحقه كل من داود أوغلو رئيس الوزراء الأسبق ومنظر سياسة تركيا الخارجية المعروفة بسياسة “صفر مشاكل” ووزير الاقتصاد ورحل الأعمال المهم ” علي باباجان” المقرب من أوساط الاقتصاد الأوروبية والعالمية.
أردوغان وأوغلو
برزت تساؤلات عديدة عن أسباب الخلاف الفعلي بين الصديقين السابقين، أحمد داود أوغلو والرئيس أردوغان.. فالعلاقة وحذرت سابقًا بينهما لمرحلة وصل فيها أوغلو لوزارة الخارجية ثم رئاسة الحزب والحكومة قبل أن يصل الخلاف لمرحلة القطيعة بل وتراشق الاتهامات العلنية.
صحيفة “زمان” المعارضة، أشارت أن ما يعرف بقضية “أكادميو السلام” هي من أبرز أسباب الخلاف مع الرئيس رجب طيب أردوغان.. بحسب أقوال داوود أوغلو نفسه.
وبحسب الصحيفة فإن”أكادميو السلام”، هي مجموعة من الأكاديميين الأكراد والأتراك، كانوا وقعوا في عام 2015 على عريضة طالبوا فيها الحكومة التركية بزعامة حزب العدالة والتنمية وأردوغان، باستئناف مفاوضات السلام مع حزب العمال الكردستاني (مصنف إرهابي في تركيا ودول أخرى) لتسوية الأزمة الكردية.
وذكر أوغلو في هذا السياق أن أردوغان أطاح بطاولة مفاوضات السلام الكردي بعد أن اتجه المواطنون الأكراد إلى دعم حزب الشعوب الديمقراطي بدلا من حزب العدالة والتنمية.
في حوار صحفي قال داود أوغلو: “إن موضوع أكاديمي السلام واعتقالهم ومعاقبتهم كان أحد أهم نقاط الخلاف الرئيسية مع رئيس الجمهورية أردوغان”.. ليشير إلى أن مثل هذا التصرف لا يتوافق مع مبادئ حرية التعبير بحسب قوله.
أما أبرز المآخذ انطلاقًا من الحادثة السابقة، فاختصرها أوغلو انطلاقًا الوضع القائم في بلاده بقوله: “طوال حياتي دافعت عن ضرورة التوازن بين الأمن والحريات. ولكن في السياسة التركية اليوم تجاوزت التدابير الأمنية الحريات. الكلمات التي تعبر عن الوضع السياسي الحالي هي: الأمن، والتضييق، والظلم، والفساد”.
ليتابع في التوجه ذاته، مبينًا أن “رئيس الجمهورية أردوغان الذي دفع بالبلاد نحو الديمقراطية في أول الألفينات، اليوم هو نفسه يتعاون مع القوى التي تحاول إدارة تركيا بأساليب ديكتاتورية”.
حيث رأى الحليف القوي السابق للرئيس التركي، أن أردوغان يعتبر “كل من يطالبه بالعودة إلى طاولة مفاوضات السلام الكردي إرهابيًا أو داعما للإرهاب، ما أسفر عن اعتقال عدد كبير من الأكاديميين منذ عام 2015 وحتى اليوم”.
وقال داود أوغلو عن الرئيس التركي إن “أردوغان نفسه هو الشخص الذي يمثل التصرفات المعادية للديمقراطية في السياسة التركية”.
وتطرق المسؤول التركي السابق الرفيع إلى قضية إسقاط الطائرة الروسية على الحدود السورية في نوفمبر 2015، مشيرا إلى أنه أكد “على رئيس أركان الجيش عندما أخطرني بالأمر، على ضرورة التواصل مع الجانب الروسي قبل إعلان الخبر على الرأي العام التركي. كان يجب التواصل مع الرئيس الروسي بوتين بشكل خاص، لأنني كنت أعرف أهمية تفعيل الدبلوماسية في هذه الحالات. ولكن لم يتم تنفيذ هذه التعليمات، وصدر بيان من رئاسة الجمهورية يعلن إسقاط القوات الجوية التركية طائرة حربية روسية. كان هذا البيان خاطئا، لأنه لو لم يتم إعلان الأمر بهذا الشكل لن يكون من الممكن السيطرة على الأمر بالطرق الدبلوماسية، كما حدث بالفعل”.
مغامرة شرق المتوسط
يسيطر المنهج اللا صدامي على تفكير مسؤول الدبلوماسية السابق ”أحمد داود أوغلو” الذي بات ينتقد بشدة تحركات بلاده في الملفات الشائكة حاليًا والتي يأتي على رأسها أزمة شرق المتوسط
في وقت سابق، قال داود أوغلو لوكالة رويترز إن تركيا تجازف بالدخول في مواجهة عسكرية بشرق المتوسط لأنها تعطي للقوة أولوية على الدبلوماسية..
ليجدد أوغلو، انتقاده لما وصفه بميل إلى الاستبداد في ظل نظام الرئاسة التنفيذية الجديد في تركيا حيث اتهم الحكومة بإساءة إدارة سلسلة من التحديات من بينها الاقتصاد وتفشي فيروس كورونا والتوتر المتصاعد في شرق البحر المتوسط.
لكنه لم يلغ مطلقًا دوافع وأسباب التحركات في المتوسط، فأكد أوغلو أن أنقرة لديها تظلمات حقيقية بشأن مطالب اليونان بالأحقية في عشرات الآلاف من الكيلومترات المربعة في البحر وصولًا إلى ساحل تركيا على البحر المتوسط؛ لكن النهج الذي يتبعه أردوغان ينطوي على مجازفات شديدة. وفق رئيس الحكومة الأسبق.
هجوم مباشر وتصعيد كبير
شهد مؤتمر الحزب الذي أسسه أوغلو (حزب مستقبل) في مدينة مرسين يوم الأحد الماضي، هجومًا حادًا جدًا من أوغلو على الرئيس أردوغان وعائلته، حيث أطلق أوغلو تصريحات جريئة قال فيها إنَّ: “الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وعائلته أكبر مصيبة حلت على تركيا”.. وفق ما نقلته صحيفة زمان وRT.
أوغلو اعتبر أن “حرص أردوغان على البقاء في الحكم جعله لا يتردد في عقد التحالفات السياسية غير الطبيعية مبدئيًا كتحالفه مع حزب قومي وآخر يساري هما الحركة القومية بقيادة دولت بهجلي وحزب الوطن بقيادة دوغو برينجك”.
وبحسب ما نقلته صحيفة “زمان” التركية، فإن المسؤول التركي أوضح خلال حديثه أن: “أردوغان أقام تحالفاً حتى مع انقلابيي نهاية تسعينيات القرن الماضي”.
حديث العتب والتعجب كان واضحًا في كلام أوغلو الذي اتهم أردوغان بترك الأصدقاء القدامى وبوضع العراقيل في وجه اوغلو، قائلاً: “أردوغان ترك أصدقاءه الذين كافحوا وناضلوا معه في مقابل رموز تركيا القديمة، ويحاول أن يعيقنا نحن الآن”.
أما عن دعوة أردوغان الأتراك للصبر على المصاعب التي يمرون بها، قال أوغلو “إن الأمة ستصبر. ولكن على أي مصيبة سيصبرون؟ ومن هم المتسببون في هذه المصيبة؟ إذا كان يقصد الصبر على الفقر والبطالة والتضخم والفساد والظلم، حسنا، فمن السبب في كل ذلك يا ترى؟ أنتم أنفسكم المصيبة. أكبر مصيبة حلت على هذا الشعب هو ذلك النظام الذي حول البلاد إلى شركة عائلية كارثية”.
باباجان يعلّق
السياسي والاقتصادي التركي والمسؤول الحكومي السابق، علي باباجان، جدد في مؤتمر حزبه (ديمقراطية وتقدم) انتقاداته للحكومة الحالية وقيادة الرئيس المشهد السياسي معتبرًا أنها لن تصمد حتى الانتخابات المقبلة في عام 2023.
باباجان اعتبر أن الحكومة الحالية في تركيا لن تتمكن من خلق البيئة الآمنة والمستقرة بالبلاد، وأن النظام الحالي لن يستطيع الصمود.
ليؤكد باباجان للصحفيين بعد مؤتمر الحزب في مدينة وان التركية: “الحكومة الحالية في تركيا لن تتمكن من خلق البيئة الآمنة والمستقرة بالبلاد مجددا، ولهذا بدأنا حركة سياسية جديدة. نرى أن النظام الحالي لن يستطيع الصمود حتى يونيو عام 2023، الموعد الرسمي للانتخابات البرلمانية والرئاسية”.
ثم أوضح : “البنية الاقتصادية والمالية تدهورت كثيرا، ولم يعد بحوزة السلطة الحاكمة أي موارد بالوقت الراهن”.. ليتابع شارحًا: “السلطة الحاكمة أنفقت الصناديق الاحتياطية المخصصة للأزمات، وتركيا تواجه مشكلة كبيرة حقًا، لكن بالإمكان إصلاح الوضع من خلال الإدارة الصحيحة”.
يذكر أن هيئة الإحصاء التركية ذكرت أنه “سجل التضخم النقدي في تركيا خلال شهر سبتمبر الماضي 11.75 % فقط”.. في حين تشكك أوساط المعارضة بأرقام بياناتها..
من جهته، برر المركزي التركي، أن “معدلات التضخم المرتفعة في تركيا نابعة من ارتفاع أسعار العملات الأجنبية أمام الليرة التي فقدت 25 % من قيمتها منذ مطلع العام الحالي”.
يذكر أن الخلاف بين داود أوغلو وحزب العدالة والتنمية الحاكم؛ اشتعل العام الماضي ليؤسس بعد ذلك حزب المستقبل، وهو واحد من حزبين انشقا عن حزب العدالة والتنمية. (الحزب الثاني أسسه علي باباجان)
حيث لم يحقق أي منهما نسبًا مهمة في الانتخابات التي جرت مؤخرا لكن ما حققه الحزبان من تقويض للدعم الذي يحظى به حزب العدالة التنمية يجعل سعي أردوغان لكسب الأغلبية في الانتخابات المقررة عام 2023 أكثر صعوبة.
في حين ترى أوساط مقربة من حزب العدالة والتنمية أن نواباً وقياديين من الحزب مازالوا غير مقتنعين بجدوى التحالف مع حزب الحركة القومية اليميني المتطرف بزعامة دولت بهجلي، حيث كثرت انتقادات قواعد الحزب لهذا التحالف، مع ظهور مشاكل وخلافات بين قواعد وقيادات الحزبين في أكثر من ولاية.