دراسات في تفكيك منهج التطرف (3)
ما وصلت إليه البشرية من الحداثة والتطور التقني والعلمي، لم ينزع الخوف، بل تَعمّد تدويره وتأميمه داخل فضاء بشري يُمسك في قبضته قنابل نووية وقنابل بشرية تتحصّن بإيديولوجيات صدامية تحاول إعادة “الفردوس المفقود” متجاوزة مسار الزمن الخطي، وخالطة الماضي بالحاضر وبالمستقبل، لتسحب التاريخ من نهاية الإيديولوجيات كصيغة للحكومة الكونية وتُدخله دائرة الصدام بين الحضارات، في عصر يتآزر العنف والخوف والأيديولوجيات مع العولمة، ليصنعوا معاً مجتمع المخاطر.
- الدين ينزع الخوف، التدين يزرعه
- صدمة الحداثة: أدلجة الدين والفردوس المفقود
- فوبيا الإسلام: أدلجة الدين كمشكلة معاصرة
- عولمة الخوف: الهلع مما لا يمكن إدارته
عالم المخاوف المتبدّلة
منذ بدء الخليقة لم تنغلق دائرة الخوف على ما يلازمها من أسباب، فالكائن البشري الذي دفعه خوفه من الطبيعة وهيجانها لتقديس تجلّياتها وعبادتها، هو نفسه الكائن الذي صنع آلهة لتحميه ثم خاف غضبها، وأوهمته رغبة الخلود أن للسحر والشعوذة قدرة عجائبية على ردع الموت، وتعلّم أدوات الصراع قبل لغة الألفة في عالم يتطلّب منه استعمال القوة كوسيلة تحميه من مخاوفه. وهو الإنسان الذي وضعت الأديان أسسها لتحويل خوفه نحو “مخافة الله” وخشيته وتوجيه أعماله نحو فعل الخير ليؤسّس عدلاً ينقذه من مشاعر الضعف والخوف ومن نزعة الشر التي تتجسد أمامه عن جهل بما يمكن له مواجهته أو تهذيبه والإفادة منه لاستكمال حياته، وفق قانون خاصية الوجود البشري الذي لم يتجاوز تعريفاً الشروط التي تعطى فيها الحياة للإنسان، فالبشر كائنات مشروطة، وكل ما يصادفهم يتحول إلى شرط لوجودهم(1).
لكن هذا الوجود الذي تطوّر ليبلغ حداً تجاوز فيه درجة استيعاب الكائن البشري العادي، جعل كل مخاوفه القديمة مجرد وهم، فالطبيعة رُوِّضت، والضعف والمرض محكومان بالسيطرة خارج حدود الدعاء لرفع البلاء، ورد القضاء والقدر، وقناعته البسيطة في احتمال الحياة كما صُوّرت له أو تصوّرها، صارت تتزعزع في عصر يبدو كالخرافات مع قفزات علمية تتجه نحو “تصنيع البشر” وعوالمهم المحتملة، والمتخيّلة للعيش، التي تزيده تخبّطاً في عالم وصل إلى امتلاك القوة وصهرها مع تكنولوجيا متطوّرة وأسلحة فتاكة وآلة إعلامية تُسوّق وسائل الحماية والخوف معاً. إنَّ ميزات الحماية التي قدمتها الحداثة من الحقوق إلى المهارات الطبية وصولاً إلى وسائل الحماية، جرّدت البشر من وسائلهم وخبراتهم الدفاعية، وغايتهم من هذا الوجود، وأدخلتهم في حالة تأميم الخوف (الخوف من/الخوف على). ففقدان الأمان الذي أنتجه اللايقين تجاه الوسائل وطرقها في التصدّي للخوف، وحالة الجهل تجاه دفاعات المستقبل(2)، ساهم في تصنيع عالم المخاوف المتبدّلة.
الدين ينزع الخوف، التدين يزرعه
شكلت قوننة الخوف البشري، وترشيده في إطار الأديان السماوية بداية نحو تحقيق حياة بشرية تمتلك قوة الإسناد والحماية الربانية على أنها هبة توجب المحافظة عليها، وكان مسعى الأديان لخلق التوازن بين نزعتي الخير والشر، وجعلها ضمن ميزان الحسنات والسيئات تضييقاً لهوامش الشر وحثّ البشر على فعل الخير لذاتهم ولبعضهم بعضاً، وتخفيفاً لهواجس الخوف من المُغاير والمختلف، وتجسير الروابط بين الناس، لتأسيس حياة بشرية أكثر اطمئناناً و”روحانية” وأقل تطيّراً في مجالات البحث الذاتي المتوتر واليقظ والخائف مما يمكن أن يقابل الإنسان في هذا العالم. فالأديان حتى يومنا، وبغض النظر عن موافقة العلم والعلماء والأطباء، علاجاً للعديد من هواجس الخوف والقلق، وملاذاً لسكينة الروح للكثير من المؤمنين.
حاجة البشر للأديان والإيمان لم تتغير بفعل الزمن أو التطور الذي بلغته البشرية، فتحييد الدين عن القوانين الوضعية وفصل “الغيب” عن مجريات الحياة اليومية، لم يهدف لعزل الأديان وتجريدها من قوتها الروحية، ولا يتنافى مع ارتباط المؤمنين بقوة عليا ترشدهم في إيمانهم وتعينهم على تعرُّف ذواتهم وعلى الأفكار وموجودات هذا العالم.
لكن، ما طاول “الدين” جرّاء اعتماده كسلطة دينية، تخضع لسلطان الأحبار والكهنة والفقهاء الشيوخ، جعل أي تقييد لتماهي الحدود بين الأديان ومحيطها وتاريخها، وعلاقتها بالمعتقد الموروث، هدماً “للدين” ولحدود التعبّد والعبادة بالنسبة لجماعات دينية حاولت تفسير الدين حسب مقاصدها، منتقلة من الإيمان الديني إلى التديّن الطقوسي، ومن تمتين مخافة “الله” وخشيته كمنطلق، إلى الخوف على “الله” والدين والطائفة والمذهب، ثم تحولت بتديّنها ورؤيتها الأمور طبقاً لدعواها، إلى تأويل الوقائع لتظهرها مطابقة لما تعتقد أنه الحق، جاعلة من “الدين” إيديولوجية دينية تقطع ما بين السياسة والفرد والمجتمع لتخلق تفكيراً وهمياً يتضمن تشريعات وأحكاماً للمجتمع ومحيطه(3) وتجهد في تحويلها إلى مجموعة من القيم والأخلاق والأهداف التي تنوي هذه الجماعات تحقيقها على المديين القريب والبعيد، حتى لو أعلنت الحرب على كل مخالف لأفكارها من الدين نفسه. فهذه الإيديولوجيات تعيد الارتباط بالماضي لردع حاضر الحداثة والعولمة وما يرافقهما من معطيات.
صدمة الحداثة: أدلجة الدين (الفردوس المفقود)
ساهم التطور بتفكيك العديد من ركائز النظم البشرية الأساسية المعتمدة على حاجات الحياة وضرورات الوجود المشترك، وأعلت الشعور بضياع نقطة الإسناد، فالدين تراجع دوره كضابط للمجتمع، في مسار الفردانية الحديثة. ويمكن تلخيصها بعدة نقاط أهمها:
أولاً: حطم ميلاد المدينة الميزة الخاصة للأسرة كقوة مسيّرة في الحياة، وألغى سلطة ما قبل السياسة لرب الأسرة التي ارتكزت عليها أساليب السيطرة والانتظام، مقابل اندماج الأفراد في سياق اجتماعي يمثلهم، لكنه لم يحدث. ففي المجتمع الطبيعي لا توضع القوة في خدمة المصالح المشتركة والرأي السائد والسليم، بل تخدم المكانة الاجتماعية، وفي مجتمعات الكثرة الحديثة ذوِّبت المجموعات البشرية في مجتمع واحد يترابط فيه الاجتماعي بالسياسي التي هي وظيفة المجتمع، ويبلغ المجتمع مداه الاجتماعي درجة التسيير الموحد لكل الأفراد. ومع بدء انتزاع الملكية والتكديس للثروة ونموها، والانفتاح الاقتصادي في مسارات العولمة بدأت تتضح معالم احتكار القوة والعنف (سلطة الخوف) في التسيير السياسي للأفراد ضمن عالم مشترك له معاييره لتشكيل منظومة كونية “محتملة” تتجاهل أن البشر لا يكونون مواطنين في العالم مثلما يكونون في بلدانهم، ولا يتملكون جماعياً كما يتملكون بعائلتهم(4).
ثانياً: التفاوت بين الدول، فبلدان الطغيان زادت انعزالاً (انعزال الحاكم عن المحكومين، انعزال أفراد المجتمع بعضها عن بعض) كونها لا تسمح بزعزعة البنى الثقافية المعتمدة، ليولد العجز وانعدام الاقتدار على السير ضمن هذه المنظومة الحداثية ومنعكساتها، لتعيش تناقضاً عميقاً مع روح العصر ومعاييره.
وهو ما أصاب المجتمعات العربية التي بقيت في آخر السلم، منذ إرساء قواعد الحضارة الحديثة من القرن الخامس عشر وحتى الآن، لا بسبب “الدين الإسلامي” كما يحاول بعضهم تصويره، بل لأن البلدان الراكدة لم تشهد ثورات معرفية واسعة، وأن حركة التاريخ جعلت الرأسمالية المتعولمة تخترق عالمهم دون تحطيم القيم السائدة. لتظهر الإسلاموية بكل أشكالها (الطالبانية والخمينية والداعشية وغيرها) كتجليات لعدم قدرة الثقافات المحلية على التلاؤم مع سرعة توحيد العالم عولمياً، وردود فعل سياسية عقيدية، على سرعة توحيد العالم ومعايير التوحيد بفعل الغرب وأميركا (5).
ثالثاً: توظيف اختلاف الثقافات بين الشعوب لتثبت ركائز التفوق ضمن نظريات مقولبة كـ(موت التاريخ والإيديولوجيا وصدام الحضارات) لاقت رواجاً، فاطمئنان فوكوياما لنهاية الإيديولوجيات مع استكمال دورة بناء الديمقراطية الليبرالية، والحكومة الكونية الواحدة.. قابلته مقولة “صدام الحضارات” في استعادتها لفكرة (الغرب والشرق) التي سادت ضمن مخططات تقاسم مناطق النفوذ بين القوى الاستعمارية الأوروبية وتوظيفها في قراءة السياسة والمتغيرات السياسية في العالم المعاصر، أعادت تقسيم العالم، وأعطت الإسلام موقعاً مركزياً في قلب الصراع حسب السياسة القائمة بعد الحرب الباردة، على أنه أحد أقطاب الجذب والطرد بالنسبة للدول الأخرى، رغم افتقاره لبنية سياسية مكتملة ولدولة مركز(6). وهذا عزّز المشكلات وخدم لاحقاً فكرة الإسلاموفوبيا.
ثالثاً: المسار الانتقائي للديمقراطية الليبرالية، فوعود المساواة والحقوق لا تمتد للجميع، فالمهمّشون والفقراء ازدادوا تهميشاً وفقراً في عالم عائم على هشاشة الروابط الإنسانية، وانتصار المساواة ليس سوى اعتراف حقوقي وسياسي يجعل التمايز الفردي شأناً خاصاً، يلغي معه قدرة الأفراد على إظهار ما كانوا فعلاً وما كان لهم، ولا يعوَّض(7).
وبهذا يصبح العالم المشترك الذي حاولت الحداثة صياغته والاعتماد عليه تهديداً بالنسبة للمجتمعات الدينية التي يتجاوز العالم المشترك فيها مدة حياتنا بالماضي والمستقبل، وتبني تصوّراتها في الحفاظ على عالمها المشترك من خلال وحدة المؤمنين التي تزداد تماسكاً في الأزمات. ففي العصور الوسطى التي حملت الكثير من التوتر وظلم الحياة كان الدين ملاذاً والانتقال من الزمني إلى الديني كان موازياً للانتقال من الخاص إلى العام والحفاظ على وحدة المؤمنين. وفي يومنا صار البحث عن نقطة الإسناد الاجتماعي بالعودة للديني هاجساً لمعظم الجماعات الإيديولوجية التي تمخّضت عنها العقائد ذات المنحى التاريخي. وظهرت في أدلجة الدين.
أدلجة الدين (الفردوس المفقود)
لكلّ مجتمع ما يبرّر عودته إلى الوراء، أو إقامته في الماضي كتعويض عن إخفاقات الحاضر أو غموض المستقبل، ومع ازدياد المشكلات الحياتية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية شرقاً وغرباً، صارت الدعوة إلى تقليد ديني أو قومي أُعيد تفسيره لجعله حلاً للمعضلات جزءاً من منظومة تزداد اتساعاً وتمدّ جذورها في تكوين الأفكار وصياغة الأيديولوجيات التي تكوِّن نسقاً يتّسم بالقطيعة مع المحيط وتبنّي “تابو” خاصاً من القيم والمعايير المختلفة. فخلخلة ميزان الارتباط مع الواقع والعصر شكلت صعوبة بالغة في المجتمعات الدينية التي زادت تمزقاً بين الحاضر والماضي، بين الأصالة والمعاصرة، بين التاريخ والمستقبل، باعتبارها لا تساهم في صياغة هذا الحاضر الذي تجاوزها ولن تشارك في صناعة المستقبل.
ومع شعورها بتهديد وجودي يصل حدّ الإلغاء صنعت انفجاراتها الإيديولوجية، في العودة إلى الماضي “المتماسك والبحث عن ركائز الوجود “الهوية” في الماضي، ومواءمة الماضي مع الحاضر باعتباره الفردوس المفقود. فهذه العودة ليست للاعتبار والمعالجة، إنما للبحث عن النقاء والطهرانية (القوة المفقودة) ومحاولة حثّها للظهور من جديد كقوة فاعلة، وهو ما حاول الإسلام السياسي في زمننا استجراره، عبر دمج الدين بالسياسة في حالة “زواج قسري مصلحي” وتحويله إلى إيديولوجية سياسية دينية مناقضة ومعاكسة لما يرونه في الواقع(8).
فإكراه الواقع للانسجام مع المعيار الحداثي كان سبباً لانتعاش التطرف، أما إكراه المعيار للانسجام مع الواقع عبر التّأويل خلق تطرّفاً أشدّ إذا فشلت تجربة الملاءمة والمواءمة، وهكذا يتحوّل الخطاب الأصولي إلى حاضنة وبيئة لإنتاج الوهم في استعادة الماضي بتفاصيله وحيثياته، كما يصير مدخلاً لصناعة أجهزة عقائدية لرعاية أشكال التطرّف والتشدّد والإرهاب والتخلّف(9) ما يجعل الأفراد ضحية لانتقائية التحول الإيديولوجي للفكرة التاريخية التي يراد تثبيتها قسراً. ولا تخدم “الدين” إنما تخدم فكرة “الخوف من الدين الإسلامي”، في المجتمعات البعيدة عن إدراك مقدار الترابط بين الأديان ككل، وعن إدراك أن ما يحدث من أدلجة للدين هو مشكلة معاصرة.
فوبيا الإسلام: أدلجة الدين كمشكلة معاصرة
ساهمت النظرة إلى الإسلام كأنموذج أُحادي منغلق غير قابل للانفتاح أو التغيير أو الإنتاجيّة، في زيادة الخوف، وهو ما اعتمده هنتنجتون في رؤياه للصدام، إذ بنى سياجاً وضع المسلمين فيه رغم التعدّد الكبير الموجود داخل المجتمع الإسلامي بمختلف تنوّعاته العرقيّة والأمميّة المترامية الأطراف متجاهلاً حقيقة الإسلام في وُسعه الجغرافي وامتداده الثقافي والتعددية الكبيرة للهويات داخله، ونافياً التأثير والتقارب الثقافي والحضاري بين الإسلام والغرب الممتدّ لعدّة قرون(10). وفعلياً هذا ما ثبت في مخيلة العامة الذين لا يفصلون بين الدين وأشكال التديّن، فالربط بين التطرف والأديان لا يعكس فحوى الأديان ككل، وكذلك الربط بين الإسلام السياسي والمسار التاريخي، لا يعكس تلازم الديني والسياسي في مسار الإسلام التاريخي لأسباب منها:
أولاً: استخدام المطلق الديني لتسيير السياسة الوضعية أو استثماره في الحروب كان سائداً في عصور التوسّع المسيحي، والإسلامي على حدّ سواء، لكنه لا يشير إلى التلازم، فالإسلام كغيره من الأديان مرّ بالاندماج والانفصال للسلطتين، واندماج السلطتين زمن الرسول(ص) إذ جمع بين السلطة الروحية والسياسة والاقتصاد مع أعراف المجتمع، لم تبق على ثباتها خلال الامتداد الواسع للإمبراطورية الإسلامية، فالخلفاء استمروا كسلطة دينية بينما الملوك والسلاطين والولاة كانوا السلطة السياسية، ثم تحولت السلطة الدينية إلى رمزية حاكمة منذ الخلافة العباسية وما تلاها، وكان العلماء لا يمتلكون سلطة خارج إطار الدين والشرعية الدينية التي يصادق عليها الخليفة(11).
ثانياً: الإيديولوجية الحالية مفارقة لما كان سائداً في صدر الإسلام، فالخوارج شكلوا إيديولوجيا “ثورية” نتيجة الصراعات السياسية والمشاكل الاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك، وكانت تلبية ووصفاً لواقعها في تحريك قوة المقدس الديني لضبط السياسة القائمة، وإصلاح الواقع الاجتماعي، بينما ما نشهده هو أدلجة تبتعد عن توصيف الواقع باسترجاعها لواقع ماضوي. ورفعها شعار الخوارج (أن لا حكم إلا لله) أخذ أبعاداً إيديولوجية سياسية كآلية تستخدمها في التعبير عن نفسها في شكل مطلق ديني يستوجب التصديق به، ومن ثمّ الطاعة والامتثال لمن يدّعون امتلاكه.
لكنّ عودة الديني بشكله الحالي لا تعبر عن صحوة دينية لإصلاح الواقع، عبر ممارسة مضادّة تجاه العلمنة، وللتفوق عليها، بل لتدمير التراث التاريخي لهذا الدين، لتحلّ محلها بنى تقليدية مشوّهة مؤسّسة على قيم تطمس حدود الدولة والقانون.
ثالثاً: لا يمكن النظر إلى الظواهر الإيديولوجية الإسلامية بمعزل عن التطورات السياسية والاقتصادية المعاصرة، ففي الربع الأخير من القرن العشرين بدأت حركات أصولية مختلفة بالصعود لسدّ الثغرة السياسية، كالمتطرفين الهندوس الذين كسبوا أرضاً في ظل إخفاقات حزب المؤتمر القومي العلماني، واليمين المسيحي الذي بدأ تأثيره منذ أواخر سبعينيات القرن المنصرم، كقوة ارتجاعية كسبت زخماً بتحويل معظم القضايا الاجتماعية إلى الوجهة اليمينية في ظل السياسة الأمريكية، والمنظمات القومية والأصولية اليهودية في إسرائيل ثبّتت تموضعها في ميزان القوى، فدخول التدين معترك السياسة في الدول الإسلامية كان له أسبابه الناتجة عن التقاء أزمة الدول العربية- أفول القومية العلمانية والفراغ الأيديولوجي وفشل الأحزاب الشيوعية في عرض بديل تقدمي، والأزمات الاقتصادية وتفاقمها في ظل الليبرالية الجديدة- بأزمة الوعي الديني – فشل حركة الإحياء الديني في سعيها للحدّ من سيطرة علماء الدين على النصوص الإسلامية، ثم إرساء رموزها “جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا” لركائز التيار السلفي ما سمح بظهور حركات الإسلام السياسي(12) التي تختلف في واقعها وتشترك بإعادة تفسير الإسلام وتكييفه لخدمة أهداف سياسية صريحة، بعد أن بقيت لفترة طويلة تنادي بعدم الخروج على الحاكم.
رابعاً: في عالم متداخل ومتشارك يحثّ خطاه نحو شراكات عالمية مختلفة، فيما يشهد كمّاً كبيراً من تشظّي الهويات، تضيع قدرة الحكام ورجال الفقه على السيطرة ليكون هناك جمهور عبادة بلا قيادة، وحين لا تملك الدولة ما تقدمه لحل ثالوث الأزمة (الاستبداد، الفقر، الفساد) فإن الجمهور يستعين بأيديولوجيته العامة (ثقافته الشعبية) لإنتاج بديل ملائم، وضمن حالة الانقياد التديني تتعمد جماعات دينية سياسية تتسلح بالعبادة لامتهان القيادة على استعادة مسار “الدين التاريخي” وتوظيفه في سياسة المجتمع(13)، فإضفاء المقدس الديني على السياسي الدنيوي يساهم في السيطرة على المجتمع الفاسد حسب ما يرونه، اعتماداً على وظائف الإيديولوجيا الثلاث( الإدماج، التبرير، التزييف) يكسبها مدّاً، كونها تمثل الوسيط الرمزي المسؤول عن دمج الجماعة في هويتها التاريخية، وتبرر وجودها بحاجة المجتمعات لاستعادة أمجادها الماضية، وكي تُنجز ذلك تلجأ لتزييف الحقائق التاريخية وإمكانية العودة إليها، عبر اختزال النصوص والحوادث التاريخية (14)، لنكون أمام ظواهر مركبة ومكثفة خارجة من تحت عباءة العقيدة الإسلاميّة أنتجتها جماعات تمارس السياسة بالاستناد إلى المقدس الديني والتاريخي، دون أن تمتلك أي فكرة محددة عن مستقبلها، ولاستكمال مشروعها المعلّق أو المستحيل، فإنها تسقط في فخ الهيمنة (هيمنة الأشخاص، الدول، المروجين لقدرتها)، وتصبح أداة بأيديهم في إعادة تصنيع الوهم.
عولمة الخوف: الهلع مما لا يمكن إدارته
ما شهده العالم من متغيرات قادتها سيرورة النزعة الفردية الحداثية واستبدال الجماعات والكيانات المحكمة التي كانت تحدد قواعد الحماية وما يتعلق بها، بالفرادنية المتمثلة بالمصلحة الذاتية والرعاية الذاتية والحماية الفردية، لم ينزع الخوف بل جرى تدويره وتعميمه، في وسط هشاشة الروابط الإنسانية يبقى الفرد مجرداً في مواجهة التهديديات والأزمات المختلفة، متمسكاً بوهم حماية فردية (وقائية أو دفاعية)، فالأمن المجتمعي الذي قدمته الحداثة أخضع لجملة متراكبة من حماية الدول إلى حماية السوق وأدوات الإنذار والحراسة المحكومة بتقلبات اقتصاد استهلاكي قائم أساساً على تغذية الخوف في إنتاج أدوات تتحدى الخوف ومستهلكين خائفين، ومراكمة الربح في تكرار دوراني يعيد صياغة الهواجس المخيفة باعتبارها واقعاً ليجسّد كلمة الخوف المجرد(15).
ويكفي معها توجيه الخوف حتى تتحول المخاوف المحتملة إلى واقع وتتداخل المخاوف الحقيقية بالمتخيلة. وهو ما جرى استعماله حين ربطت الأزمات (البطالة، الصحة، انتشار الجريمة) التي شكلت تهديداً داخلياً لدول الغرب بخوفين، ديموغرافي وأمني، فتحولت أزمة العجز الاقتصادي الذي أنتج مشكلة البطالة والتهميش إلى خوف ديموغرافي جرى فيه التركيز على الهجرات ومنها الهجرة العربية، ثم تحول إلى وجود ملموس عقب انتشار أيديولوجيا الإرهاب ومحطته الأساسية 11 سبتمبر 2001 إذ انتقل فيها الإرهاب إلى مرحلة تهديد القوى الكبرى المحتكرة للتهديد. وتم إثرها توجيه المخاوف وتجميعها في “خوف أمني” سببه العامل الخارجي والإرهاب المتعلق بالإسلام السياسي، وطغت على الخطاب العام التحذيرات المتكررة ضد “التهديدات الإسلاميّة ” لأمن الغرب وثقافته ما أنضج الخوف كفكرة موجهة ضد الآخر تحت مسمى الإسلاموفوبيا.
تعميم الخوف وعولمته
شكّل الخوف من الإرهاب الإسلاموي مفارقة كبرى في طرق معالجته، فبدل فتح آفاق الحوار لفك الارتباط بين الجهل والخوف، وإيجاد السبل السليمة لتحجيمه، تمّ تعميمه، وتوظيفه في مجتمعات متباعدة ومختلفة، باتت ترى في “المسلم” حدثاً طارئاً متجاهلة تراثاً دينياً وعقليّاً وتاريخياً زاخراً، حتى صار قاسماً مشتركاً على مستوى الشعوب المختلفة، يجري استخدامه لغايات أخرى وأهداف تتجاوز مواجهة المخاوف المعلنة على مستوى العالم ككل، فقد قدّم هذا الخوف فوائد سياسية متعددة للأنظمة الغربية والعربية معاً، إذ أزال عن كتف الحكومات الغربية إيجاد حلول مناسبة لأزمات شعوبها وتوجيهها نحو أزمة وحيدة خارجية متمثلة بـ ”الإرهاب الإسلاموي” تطلب القضاء عليه ومكافحته، إذ شلّ قدرة المسلمين بهذه الدول على المساهمة في صناعة رأي عام لصدّ مقولة الخوف من المسلمين. واستطاعت الحكومات العربية التبرؤ من إرهابها وحماية مصالحها، ومقايضة المطالب الاجتماعية الكثيرة، بمطلب وحيد لتقوي سلطتها وتبرئ ساحتها مما تقوم به من تدمير اقتصادي وسياسي واجتماعي لدولها.
الهلع مما لا يمكن إدارته
أدى تركيز الخوف من الإرهاب الديني “الإسلاموي”، وربط استتباب الأمن بزوال هذا التهديد في معظم دول العالم، لتوليد ظاهرة أخرى لا تقل خطراً، وهي (الخوف على المسلمين) التي شكلت منبراً للانتشار العقائدي والعاطفي، لإيديولوجيات العنف التي عملت على زيادة شعور المسلمين بضياع هويتهم الإسلامية داخل الغرب، وتضاعف وجودها بعدما اكتسحها مدّ العولمة تقنياً وإعلامياً، لتتحول تحت الضغط المستمر والمتصاعد إلى حركات تتآزر فيها السلطة الإيديولوجية الدينية والعولمة لصناعة جنود الخفاء (الذئاب المنفردة) الذين مهما اختلفت طرق تجنيدهم وظروفهم وغايتهم، فإنهم وقود جديد لحملة الخوف من المسلمين التي تعيد إنتاجهم، كضحايا لإيديولوجية فكرية تضع العالم ضمن استهدافها ولا يمكن إدارتها لتصنّف الأخطر بالنسبة إلى أجهزة الأمن والاستخبارات الغربية المتفوقة(16).
خاتمة
في عصر تجاوز درجة الاستيعاب البشري في تطوره، اختلفت المخاوف، وتماهت حدود الوجود الفعلي والمتخيل، لتدخل البشرية في حالة الوهم. وهم تحقيق المصالح المشتركة مع تفكك الوجود الجماعي، وهم الوجود الفردي والتمييز مع تباين الهويات بين الضيق والامتداد، وهم العودة بالزمن أو تجاوزه. مع هذا التيه يذهب مؤدلجو “الدين” لخلق حكوماتهم المتخيّلة المتعالية والشرعية، وتغيب الحدود الفاصلة بين المخاوف الحقيقية والمتخيّلة، فإنسان نيتشه الأخير لم يخرج من دائرة وهم الأيديولوجيا، وإنسان “هنتنجتون” لم يصل إلى حقيقة الحضارة في ائتلاف الثقافات وتآلف البشر، ليغذّوا بعضهم بعضاً في استراتيجية الهيمنة، في عالم المخاوف المتبدلة.
المراجع
- الوضع البشري، حنّة أرندت، ترجمة: هادية العرقي – دار الجداول، مؤسسة مؤمنون بلا حدود (ص 29)
- الخوف السائل، زيجمونت باومان، ترجمة: حجاج أبو جبر- الشبكة العربية للأبحاث والنشر(ص 173)
- مفهوم الأيديولوجيا، عبد الله العروي – المركز الثقافي العربي – الطبعة الثامنة 2012 (ص10)
- مرجع سابق الوضع البشري (ص62)
- لاهوت العنف استنقاع تاريخي، أحمد برقاوي، مجلة الجديد لاهوت-العنف-استنقاع-تار. aljadeedmagazine.com
- صدام الحضارات، إعادة صنع النظام العالمي، صامويل هنتنجتون، ترجمة: طلعت الشايب، تقديم: د. صلاح قنصوه، الطبعة الثانية 1999 (ص 170)
- مرجع سابق الوضع البشري (ص55)
- تسييس الدين وتديين السياسة.. الزواج القاتل، هوازن خداج، صحيفة العرب اللندنية تسييس-الدين-وتديين-السياسة- الز.. alarab.co.uk ›
- حصون التخلف: موانع النهوض في حوارات ومكاشفات، إبراهيم البليهي- منشورات الجمل، بغداد-بيروت، طبعة أولى، 2010 (ص149)
- الإسلام والغرب بعيون فلسفية، من منظور تفكيكية جاك ديردا، محمد بكاي- مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 9 ديسمبر 2019 (ص5)
- فوبيا الإسلام والسياسة الإمبريالية، ديبا كومار، ترجمة: أماني فهمي- المركز القومي للترجمة الطبعة الأولى 2015 (ص 126)
- مرجع سابق فوبيا الإسلام (ص 133)
- سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني في الشرق الأوسط المعاصر، د. خليل أحمد خليل المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى (ص61)
- من النص إلى الفعل أبحاث التأويل، بول ريكو، ترجمة: محمد برادة، حسان بورقية- عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الطبعة الأولى 2001 (ص308)
- مرجع سابق الخوف السائل (ص180- 183)
- الذئاب المنفردة.. انحناء الإرهاب أمام العاصفة | هوازن خداج | صحيفة العرب اللندينة alarab.co.uk › الذئاب-المنفردة-انحناء-الإرهاب-أمام- الع..
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.