سوف تجري الانتخابات العامة التركية في تاريخ 18 يونيو 2023، حيث ستحدد هذه الانتخابات الرئيس المقبل والحكومة في ظل البية الهشة القائمة حالياً. بعد أن بقي أردوغان في السلطة لمدة عقدين من الزمن، يواجه الانتخابات الأكثر تحدياً منذ أن فقد شعبيته بشكل كبير لا سيما بسبب تراجع الاقتصاد والتضخم المرتفع الذي يبلغ رسمياً 83.45٪، لكن ووفقاً لمحللون مستقلون فإن المعدل المحسوب يبلغ حوالي 186٪ يُظهر التناقض الصارخ نفسه ليس فقط في الأرقام المالية.
أصبحت تركيا “أكبر سجّان للصحفيين في العالم”، وفقاً لنادي القلم الدولي (PEN) ولجنة حماية الصحفيين، واعتُبرت “صحافة غير حرة” وفقاً لمؤشر فريدوم هاوس برصيد 32 نقطة.
وتشير استطلاعات الرأي المختلفة إلى أن المعارضة لديها فرصة جيدة لهزيمة أردوغان، مما يعطي بصيص أمل للمواطنين الأتراك المتعبين والغرباء على حد سواء. إنه لأمر جيد أن يكون لديك أمل، ومع ذلك فإن الأمل المفرط يولد خيبات الأمل ويحول دون إجراء تحليل سليم للحالة الراهنة، فالتخطيط للمستقبل بناء على التمني يشكل خطرا جسيماً.
يفشل معظم المعلقين في فهم مدى كون انتخابات 2023 ليست مجرد انتخابات في حد ذاتها ولكنها مسألة بقاء لأردوغان، الذي هو بلا شك أقوى رجل في تركيا اليوم، حيث أنه اكتسب هذه القوة من خلال خلال الهندسة العميقة للدولة والمجتمع التركي بعمق وبناء مجموعة أدوات فريدة لترسيخ موقعه. ومن دون فهم هذا التحول بعيد المدى والأصول المتاحة له لا معنى لتحليل مستقبل تركيا.
الطريق إلى واقع اليوم: كيف صمم أردوغان الدولة والمجتمع التركي؟
أشار أردوغان إلى أن فترة ولايته الثالثة بعد الانتخابات العامة لعام 2011 ستكون فترة سيطرته التي تبشر بعهد جديد.
عانى أردوغان في عام 2013 من حدثين مهمين هما احتجاجات حديقة جيزي وفضائح الفساد في 17/25 ديسمبر. ويظهر كلا الحدثين أوجه تشابه مهمة فيما يتعلق برد فعله، حيث اعتبرهما مؤامرة انقلاب ضده ورد عليهما بوحشية. فخلال احتجاجات جيزي، أصيب ما يقرب من 7500 شخص، ومن اللافت للنظر أن وسائل الإعلام الرئيسية تجاهلت الاحتجاجات واستمرت في جدولها المعتاد لبث الأفلام الوثائقية عن البطريق. وفي أعقاب فضيحة الفساد، أقال أردوغان الآلاف من ضباط الشرطة وغير المدعين العامين والقضاة.
عرف أردوغان قوة وسائل التواصل الاجتماعي بسبب هذه الأحداث المروعة، ففي عام 2014 تم حظر Twitter لبضعة أسابيع بعد أن قال: “سنقضي على تويتر وجميع البرامج، و لا يهمني ما يقوله المجتمع الدولي”. أنشأ حزب العدالة والتنمية في الوقت نفسه جيشاً من 6000 متصيد على وسائل التواصل الاجتماعي من الصفر. لقد ازداد العدد بمرور الوقت، ووفقاً لبيان صادر عن أحد كبار قادة عثمانلي أوكاكلاري، الذي وصفته وكالة الأمن القومي الهولندي ومنسق مكافحة الإرهاب (NCTV) بأنه “منظمة شبه عسكرية موالية للحكومة”، فقد ارتفع هذا العدد إلى 200.000 شخص في عام 2023.
تم ضبط أردوغان ودائرته الداخلية بشدة بأدلة جدية بعد فضيحة الفساد في 17/25. علاوة على ذلك أقر الرجل المحوري في التحقيق “رضا ضراب” بالذنب في الولايات المتحدة وقدم جميع الأدلة إلى المحاكم الأمريكية. لذلك يعرف العالم شبكته الإجرامية ولا توجد طريقة لإنكار الاتهامات.
بدأ أردوغان نتيجة لذلك في تغيير وسائل الإعلام والقضاء والشرطة، وكذلك مؤسسات الدولة الأخرى باستثناء القوات المسلحة التركية (TAF) حتى عام 2016. ومن المقرر أن يتعامل أردوغان مع آخر عقبة في هذا التحول بعد ما يسمى بمحاولة انقلاب 15 يوليو في تركيا والتي وصفها بـ “هبة من الله”، حيث كان الانقلاب مليئاً بالمخالفات، لا سيما وقت حدوثه في وقت مبكر من المساء، على عكس الأمثلة السابقة في البلاد التي تتمتع بذاكرة مؤسسية غنية بالانقلابات.
وصف النقاد الانقلاب بعدة صفات مثل: “انقلاب مسيطر عليه”، عملية علم زائف، حريق الرايخستاغ في تركيا، انقلاب مضاد أو “انقلاب ذاتي”، وهو المصطلح الذي دفع نظام أردوغان إلى حظر ويكيبيديا. لم يستطع أردوغان إقناع المجتمع الدولي ووكالات الاستخبارات الغربية وحتى صهره الذي كان يضحك أمام الكاميرات بينما كان يتحدث بشراسة عن محاولة الانقلاب.
كانت النتائج بالضبط ما كان أردوغان في أمسّ الحاجة إليه لتأسيس نظامه وجلب النظام الرئاسي على الرغم من العيوب العميقة. كما أشار مارتن شولتز، الرئيس السابق للبرلمان الأوروبي: “لم يكن الانقلاب معداً جيداً على الإطلاق، لكن الرد تم إعداده بدقة”.
في أعقاب الانقلاب، ألقي القبض على الآلاف من القضاة والمدعين العامين والمعلمين وحتى بائع البقلاوة للاشتباه في عضويته في منظمة إرهابية. وأغلقت مئات وسائل الإعلام والجمعيات والمؤسسات والمستشفيات الخاصة والمؤسسات التعليمية بموجب مراسيم، وصودرت أصولها دون تعويض.
كان أردوغان قد سعى بالفعل إلى الحصول على نظام رئاسي يتم فيه منحه كل السلطة كرئيس وقد نجح في تحقيق هذا الهدف، وقام بربط العديد من مؤسسات الدولة بنفسه بعد التغيير الدستوري المثير للجدل في عام 2017. ومن أجل إعادة التنظيم الضخمة هذه، قام ببناء ثالث أكبر قصر في العالم وهو أكبر ب 30 مرة من البيت الأبيض، وأنشأ أمناء داخل هذا المجمع، وزاد الميزانيات بشكل كبير خاصة للمؤسسات الحيوية. وحدثت أبرز التغييرات في الرئاسة والاستخبارات الوطنية ورئاسة الشؤون الدينية (ديانت) والجيش، ولم تعد هذه منظمات مستقلة بل جزءاً لا يتجزأ من رئيس يتمتع بسلطة فائقة.
وكان التحول الثاني الأكثر أهمية في القوات المسلحة التركية والبيروقراطية الأمنية هو قيامه بحملة تطهير واسعة النطاق ابتدءاً من الجنرالات رفيعي المستوى إلى ضباط الجيش ذوي الرتب المنخفضة وصف الضباط، وقام بإغلاق المدارس العسكرية، وتم فصل جميع الطلاب و استبدالهم بأشخاص مخلصين تم اختيارهم من أعضاء حزبه والطوائف الدينية القريبة منه، والجمعيات التي تمولها وتديرها دائرته المقربة وابنه، ولا سيما TUGVA.
كما أجريت المقابلات أثناء التجنيد في المدارس العسكرية من قبل سادات جيش أردوغان الموازي والخاص، على غرار مجموعة فاغنر التابعة لبوتين، أو الحرس الثوري في إيران. ولعبت المنظمة نفسها دوراً في تدريب ونقل الجهاديين إلى ليبيا وكاراباخ ودول أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالتعاون مع المخابرات التركية (MİT)، التي وثّقتها وزارة الدفاع الأمريكية وإسرائيل والأمم المتحدة.
أعاد هيكلة الجيش وعيّن خلوصي أكار وزيرا للدفاع، الذي فشل في إعطاء الأوامر اللازمة كقائد عسكري في وقت الانقلاب. وعلى الرغم من أنه وزير، إلا أنه يتصرف كقائد أعلى للقوات المسلحة، بل إنه يرتدي زياً عسكرياً خاصاً برتب مختلفة، لا سيما في
الاحتفالات العسكرية ويقوم بزيارات إلى قواعد عسكرية مختلفة. ونتيجة لذلك، خططوا لكل تجنيد وتعيين في كل ركن من أركان البلاد على كل المستويات وحولوا تركيا بالكامل إلى دولة حزبية.
غيّر أردوغان توجه السياسة الخارجية التركية طويل الأمد من الغرب إلى الشرق واتبع سياسة خارجية عدوانية. تم تطهير كبار ضباط الجيش بعد بضعة أشهر من الانقلاب، وبدأ التوغل الأول في سوريا، وهو موضوع مؤثر لانتقادات خطيرة من قبل البيروقراطية الأمنية ولا سيما الجنرالات في الجيش. تورطت تركيا منذ ذلك الحين في العديد من الصراعات والأزمات من ليبيا إلى القوقاز وأصبحت مثيرة للمشاكل الإقليمية. حتى أن القوات المسلحة الجديدة لأردوغان سهّلت تجارة النفط مع داعش وعالجت مقاتليهم في المستشفيات التركية. أصبح شراء S-400 مظهراً بارزاً لإعادة التوجيه هذه وتسبب في إزالة تركيا لبرنامج F-35 وتنفيذ العقوبات الأمريكية بموجب CAATSA.
تم بالفعل تعديل إدارة قسم الشرطة عدة مرات منذ قضايا الفساد 17/25. واستمرت عملية التطهير بعد 15 تموز. وكما قال لي ضابط شرطة مسؤول عن احتجاز الجنود شريطة عدم ذكر اسمه: في الصباح غادرنا مركز الشرطة لاعتقال الناس، في المساء اعتقلنا زملائنا الذين احتجزناهم في الصباح.
لم يكن هذا التحول كافياً بالنسبة لجنون العظمة لدى أردوغان، ف بالإضافة إلى إنشاء جيش خاص، شكل أيضاً ميليشيات موالية للحكومة من خلال تسليح المدنيين وإعادة إحياء الحراس في عام 2016، وفرع الشرطة الذي تم حله في عام 2008 والمعروف باسم Bekçi باللغة التركية. تلقى 21000 رجل تعليمهم في 60 يوماً فقط، وتم منحهم صلاحيات واسعة مثل حمل الأسلحة وتفتيش المشتبه بهم في عام 2020.
علاوة على ذلك، تُركت وزارة الشؤون الداخلية بإدارة ” سليمان صويلو” ذلك الشخص المثير للجدل، الذي يمتلك صور مع العديد من قادة العصابات والمافيا ويُزعَم أنه أصبح من أباطرة المخدرات، ويتهم أردوغان وشركاؤه حاليا بتهريب المخدرات.
يبدو واضحاً حتى الآن أن الأجهزة الأمنية في تركيا والهياكل الموازية لن تكون موالية لأردوغان إلا في حالة خسارته.
ما نوع الأدوات التي استخدمها أردوغان في الانتخابات السابقة؟
كانت هناك مزاعم تزوير واسعة النطاق في الانتخابات في تركيا في وقت مبكر من عام 2014. في انتخابات هذا العام، حدث انقطاع التيار الكهربائي في المناطق ذات الهوامش الضئيلة، و ألقى وزير الطاقة في ذلك الوقت باللوم على قطة تدخل وحدة محولات.
في عام 2017، اتخذ المجلس الأعلى للانتخابات قراراً غير مسبوق يقضي بفرز الأصوات غير المختومة على الرغم من ان القوانين تملي خلاف ذلك. أشعل هذا القرار احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء تركيا، وتم اعتقال بعض المتظاهرين. أصدرت الحكومة التركية في عام 2018 قانوناً ينص على اعتبار بطاقات الاقتراع غير المختومة صالحة، مما يقوض الجهود المبذولة لمنع التزوير خلال الانتخابات.
أجريت الانتخابات الرئاسية لعام 2018 التي أعدها أردوغان بدقة في السنوات الأخيرة قبل موعدها المعتاد، حيث قامت قبل خمسة أشهر. دخلت تركيا الأجواء الانتخابية في حالة طوارئ، وأعربت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة عن مخاوفها بشأن الانتخابات الشفافة والنزيهة والحرة.
صلاح الدين دميرتاش، الرئيس المشترك لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي، سجن من قبل أردوغان واضطر إلى تنفيذ حملته من سجنه من خلال إيصال رسائله إلى المحامين، وليس مباشرة إلى أي وسائل إعلام. قبل يومين من الانتخابات، تم إنشاء منشورات مزيفة في أنقرة نيابة عن أحزاب المعارضة، ولكن من المثير للاهتمام أنه لم يتم تحديد من قام بإعدادها أو توزيعها.
كانت هناك رقابة شديدة ضد المعارضة في الدولة ووسائل الإعلام الرئيسية. على سبيل المثال، خصصت قناة TRT الحكومية 37 ساعة لأردوغان وحليفه، في حين أن مجموعة أحزاب المعارضة فقد غطت مدة تقل عن 4 ساعات. كما يشار إلى أن قناة TVNET الموالية للحكومة بثت فجأة نتائج الانتخابات من وكالة الأناضول (AA) مع نسب التصويت المكتوبة عليها قبل أربعة أيام من الانتخابات، بعد ذلك ذكروا أن هذا كان بثاً تجريبياً ونفوا مزاعم أخرى.
كانت هناك أدلة ومقاطع فيديو حول التزوير خلال هذه الانتخابات، مثل الإشارة إلى موظفي مراكز الاقتراع الذين أدلوا بأصواتهم فارغة لصالح أردوغان، وبطاقات الاقتراع المسروقة، والأصوات الزائدة لكل صندوق وبطاقات الاقتراع الباطلة.
في الانتخابات البلدية لعام 2019، عندما خسر حزب أردوغان الانتخابات لصالح مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو الذي حكم عليه نظام أردوغان اليوم، قرر المجلس الأعلى للانتخابات إعادة انتخابات المدينة فقط مع الإبقاء على نتائج الانتخابات المحلية التي تم الإدلاء بها على نفس الأصوات. ومن اللافت للنظر أن تدفق البيانات من المجلس الأعلى للانتخابات إلى أحزاب المعارضة ومن وكالة الأناضول إلى القنوات التلفزيونية قد تعطل.
وعلى الرغم من هذه المخالفات والسلطة التي يتمتع بها حزب أردوغان داخل الدولة، ادعى أن المعارضة سرقت بطاقات الاقتراع وأجرت عمليات تزوير منظمة في الانتخابات. وفي الجولة الثانية، تفوق إمام أوغلو بنسبة 10٪ على مرشح أردوغان.
واجهت تركيا العديد من المخالفات والانتخابات في العقد الماضي، واتخذت الفروع القضائية المشرفة على هذه العملية قرارات مثيرة للجدل لصالح أردوغان. تحدث الاضطرابات والتلاعب في تدفق البيانات، فضلاً عن انقطاع التيار الكهربائي بالرغم من وجود الرقابة الشديدة.
بالنظر إلى حقيقة أن أردوغان يسيطر بالفعل على القضاء وقوات الأمن في البلاد وأنه بمجرد الانفصال عن الحكومة، ستظهر الأشياء غير القانونية التي ارتكبها هو ودوائره المباشرة، فليس من الصعب معرفة أنه سيستخدم كل أداة تحت تصرفه حتى لا يخسر الانتخابات.
في المقال التالي، سوف أتعمق أكثر في الأصول التي يمكن لأردوغان توظيفها في الخارج وتداعيات الانتخابات على تركيا وأوروبا.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.