دير الزور المحافظة الأولى التي استولت عليها داعش؛ ولم تتركها إلا بعد أن تسببت في تدميرها. يقدم الباحث -وهو مختص في التاريخ- من خلال هذا البحث مدينته منذ ولادتها وما قاله عنها المستشرقون؛ والدور التاريخي لهذه المدينة المظلومة من خلال محاور عدة:
- دير الزور في عيون المستشرقين.
- الدير الحديثة ودور العثمانيين فيها.
- الدير العتيق حكاية طمس تاريخ المدينة في حكم البعث.
- مواقع حضارية عالمية شهدتها خريطة المحافظة.
- مملكة ماري في دير الزور.
- مدينة دورا أوربوس الفينيقية.
- الحقب التاريخية لمدينة أوربوس من الآشورية إلى الإسلامية في دير الزور.
جغرافية المدينة
تقع محافظة (دير الزور) السورية على نهر الفرات العظيم، في شرق البلاد، بالقرب من الحدود العراقية، ومركزها مدينة دير الزور، مساحتها حوالى 33 ألف كم مربع، أي إنها تساوي ثلاثة أضعاف مساحة دولة قطر ومثلها لبنان، وبلغ عدد سكانها قبيل الثورة السورية 2011 حوالى مليون ونصف المليون نسمة، وكان يقطن ما يقرب 470 ألف نسمة في المدينة.
تقع المدينة على مسافة 432 كم شمال شرق دمشق، و320 كم جنوب شرق حلب، ويخترقها الفرات بفرعين: كبير على طرف المدينة، وصغير يمر من وسطها تقريباً ويقسمها إلى جزيرة نهرية عائمة وهي منطقة (الحويقة)، وتمتاز بكثرة جسورها، وأهمها: الجسر المعلّق بناه الفرنسيون على الفرات في أوائل عشرينيات القرن العشرين.
دير الزور المدينة في عيون المستشرقين:
وتدعى أيضاً (الدير) في العامية السورية، ذكرها الرحالة الإيطالي (كاسبارو بالبي) وهو يصف رحلته التي بدأها بحلب متوجهاً إلى الهند عام 1579م، حين قال: (في المساء توقفنا عند الضفة اليمنى لنهر الفرات في مدينة تدعى (الدير)، وكانت تسمى قديماً (ميناء السلسلة) ويقيم في هذه المدينة سنجق تركي وقاضٍ، وهي عامرة بالسكان من رجال أشراف ونساء بارعات الجمال لهنّ بشرة بين بيضاء وسمراء، وهنّ أكثر جمالاً من أي موضع آخر في تلك الأرجاء)[1]، ويذكر أهلها أيضاً المؤرخ والرحالة (راوولف) بأنهم (جميلو الصورة)[2].
وكانت الدير تسمى قديماً بميناء السلسلة، وهذا الاسم اتخذ معناه من الصخور العظيمة التي تقطع النهر في أكثر من موضع، وهي أشبه ما تكون بالحواجز، ومن المؤكد أن هذه الحواجز قديمة، (ويوجد في مواضع عدة من تلك الصخور مسامير مثبتة فيها، لها رؤوس متجهة عكس مجرى الماء، وبعض تلك المسامير كانت كبيرة جداً، وهي مغمورة تحت الماء بمقدار ذراعين، وهي من عمل الأقدمين الذين إذا داهمهم الأعداء في سفن منحدرة مع مجرى الماء تصطدم بهذه الحواجز المخفية ولا بد لها أن تغرق)[3].
ومن خلال التوصيف الأخير الذي جاء به كاسبارو الذي تحدّث فيه عن المسامير العملاقة المغروزة في قاع النهر لأغراض دفاعية، يمكننا القول إن تلك التحصينات العسكرية تعود إلى عصر الدولة الآشورية الحديثة (930- 612 ق.م) التي تميّزت بنشاطها العسكري الواسع وإنشاء التحصينات الدفاعية النهرية، وقد خلّدتها رسومات الآشوريين النحتية المكتشفة في عاصمتهم (نينوى) وعدد من المدن التي خضعت لهم.
المدينة الحديثة
معظم من كتب عن تاريخ المدينة، وعلى الأخص السوريين، تحدّث عن المرحلة التي تكوّنت فيها مظاهر المدينة الحديثة من حيث الاستقلال الإداري والسياسي والجغرافي، ونظام الحكم، وارتباطه بالحكومة المركزية، وما إلى هنالك من المعايير الجيوسياسية إن صح التعبير.
لذلك يتفق الباحثون معظمهم على أن مدينة (الدير) الحديثة قد أسست على يد العثمانيين[4] عام 1876 وذلك قبل أن تفصل سياسياً وتنظيمياً عن ولاية (حلب) عام 1881م، لتغدو بعدها (متصرفية) تتبع مباشرة لإسطنبول (الأستانة)، فكانت مركزاً ومحطة مهمة عهد بشؤونها بادئ الأمر إلى (خليل بك ثاقب الأورفلي) بوصفه قائم مقام لدير الزور، فأنشأ فيها داراً للحكومة، وثكنة عسكرية ومستشفى. استمر هذا العهد 54 سنة تعاقب فيها 29 حاكماً، أو متصرفاً. ثم احتلتها فرنسا عام 1921 وجعلتها مقراً لحامية عسكرية كبيرة. وأصبحت في عام 1946 جزءاً من الدولة السورية المستقلة.
التلّ التاريخي و(الدير العتيق)، حكاية طمس تاريخ المدينة
كانت مدينة دير الزور القديمة، محوطة بسور مبني من الحجارة والطين، وهذه الطريقة في التحصين تشبه الطريقة التي حصن بها الآشوريون مدنهم، ومن بعدهم (الفرس)، وكان السور يحمي المدينة من غزوات البدو المستمرة.
ولم تنقطع غزوات البدو إلا بعد أن أصبحت (الدير) (متصرفية) مرتبطة بالباب العالي في (إسطنبول) وخُصصت حامية عسكرية في المدينة، ما أدى هنا إلى الاستغناء عن السور ومن ثم إلى توسع المدينة ونشوء الأحياء الأخرى.[5]
دُمّرتْ المدينة مرات عدة قبل ميلاد السيد المسيح وبعده، حتى تكوّن منها تل أثري، أقيم فوقه ما سمّي لاحقاً بـ(الدير العتيق) المبني على أنقاض المدن التي كونته.
وذكر الأب متري حاجي اثناسيو[6] أن (آوزارا) أي دير الزور، كانت تعرف في العصر الروماني باسم (آزورا) وهي تقع شمال شرق سورية على نهر الفرات بنيت هذه المدينة الكبيرة والقديمة على نهر الفرات باسم (زعورا) وأطلق عليها اليونانيون اسم (آزوارا).
وبعضهم أرجع نشأة الحقب المتعاقبة التي كوّنت التلّ الذي شيّدت عليه أبنية (الدير العتيق) إلى العصر (السومري- الأكادي) واستمرارها خلال الممالك الآرامية، ومنهم الباحث (عباس طبال) الذي ذكر أن الأبنية مشيدة فوق تل اصطناعي، كان يضم في داخله أنقاض خمس مدن متراكبة آثارها الواحدة فوق الأخرى، ويتمثل موقعها في مدينة (شورا) التي كانت في الألف الثالثة قبل الميلاد وكانت جزءاً من مملكة زوحي الآرامية، ومن يحلل صور رفع أنقاض بيوت الدير العتيق ويدقق فيها، يرى الطبقات المكونة للتل بوضوح[7].
ويرى (مار اغناطيوس يعقوب الثالث) بطريرك أنطاكية والمشرق، أن كلمتي دير الزور مأخوذتان من التسمية السريانية (دير زعور) وأنه عرف بـ(الدير الصغير) تمييزاً له عن الدير الكبير الذي كان بجواره[8]، فالدير الصغير بني على الفرع الصغير لنهر الفرات وهو باق، وقامت على أطلاله مدينة دير الزور، المتمثلة سابقاً بالدير العتيق، أما الدير الكبير فربما دمره نهر الفرات مع ما دمر من المدن التي قامت على ضفافه وبقي أحد جدرانه حتى نهاية القرن التاسع عشر، وزاد على جداره ليصلح لحمل نواعير ما زالت آثارها باقية إلى اليوم على الفرع الكبير من نهر الفرات، في موضع يسميه الديريون اليوم (المعبار).
عام 1967، وبحجة إعمار المدينة الحديثة، جمع محافظ دير الزور آنذاك (أسعد صقر) مسؤولي المدينة ومهندسيها لإيجاد حلّ يتعلّق بمنازل الدير العتيق وأبنيته والتل الأثري القابع تحتها، فأشار المجتمعون معظمهم إلى إبقائها كما هي، مع تسويرها وبناء الأحياء الحديثة حول التل، تيمناً بقلعة حلب وحمص وحماة، أو إجراء عمليات تنقيب أثري دقيقة بإشراف المديرية العامة للآثار والمتاحف، مع المحافظة بقدر الإمكان على المنازل التاريخية الموزّعة فوق التل، إذ تضم جدرانها معظمها أعمدة وتيجاناً حجرية وأقواساً صخرية نحتت بعناية، وتعود إلى عصور متفاوتة في القدم.
إلا أن الخيار الأخير كان للمحافظ، الذي أصدر قراراً بهدم المنازل وإزالة التل الأثري وتسويته بالأرض، وإنشاء مبانٍ حديثة تعود معظمها إلى دوائر الحكومة.
ويذكر أغلب سكان الدير الذين عاصروا مرحلة الهدم، كيف خُرّبت آلاف اللقى والمباني الأثرية وطُمست بوساطة الجرافات التي شاركت بهدم طبقات التلّ. ويؤكّد عدد منهم أن جزءاً يسيراً من اللقى الأثرية جرى التعتيم عليها واغتنامها من كبار المسؤولين الحكوميين والعسكريين في المدينة.
ومع الانتهاء من عملية الهدم والترحيل، وإنشاء المباني الحديثة، عام 1968، لم يبق ما يدلّ على تاريخية المدينة القديمة سوى بعض الأجزاء الحيوية، والحديثة نسبياً، التي شيّدت على أطراف التل القديم، ولم يكن بإمكان الحكومة المساس بها، كجامعي (العمري) و(السراي) والسوق العثماني المقبي، ومبنى الشرطة القديم (السراي) وقليل من البيوت المتطرفة والموزّعة بين حيي (الرشدية) و(علي بيك- العرضي).
مواقع حضارية عالمية شهدتها خريطة المحافظة
عندما نتطرق إلى ذكر الحضارات التي شهدها حوض الفرات الأوسط، وعلى الأخص التابعة جغرافياً وإدارياً لمحافظة دير الزور، فنحن نتحدث هنا عن عشرات المواقع الأثرية المنتشرة على طول مجرى النهر، ابتداءً من آثار (حلبية وزلبية) شمال غرب المحافظة وانتهاءً بآثار مملكة (ماري- تل الحريري) الشهيرة، جنوب شرق المحافظة، إذ تعدّ آخر المواقع قبل دخول النهر إلى الأراضي العراقية. وبقليل من الإيجاز، نستطيع ذكر أسماء أهم المواقع الأثرية التي اشتملت عليها خريطة المحافظة، المسجلة ضمن لائحة الآثار الأكثر أهمية في سوريا والعالم لدى منظمة (اليونسكو) والجامعات العريقة.
وتحتل آثار مملكة (ماري) رأس قائمة المواقع التاريخية من حيث القدم وأهمية النتاجات الحضارية التي قدمتها للبشرية، وسنمر عليها في بحثنا هذا. وتساوي مملكة ماري في الأهمية التاريخية والحضارية، مدينة (دورا أوروبوس- الصالحية اليوم)، تلك المدينة التي شهدت عدداً من الحضارات المتعاقبة خلال أكثر من 3 آلاف عام قبل الميلاد وبعده، وكذلك سيكون لها حصتها في هذا البحث.
ولدينا أيضاً مواقع (دور كاتليمو- تل الشيخ حمد)، و(قرقيسيا- البصيرة)، ومملكة (ترقا- العشارة)، وآثار بلدة (بقرص)، و(الطريف) و(حلبية وزلبية)، وقلعة (الرحبة).. وعدد من المواقع التاريخية المهمة الأخرى، بعض منها جرى اكتشافه لكن لم تجرِ حتى الساعة أعمال التنقيب فيه.
ونظراً إلى اتساع الحديث عن الأسماء التي أوردناها كاملة في حال الكتابة عنها، فقد خصصنا هذا الباب للحديث عن أهم اسمين جاءا فيها، مملكة ماري ومدينة دورا أوروبوس:
مملكة ماري
يقع (تل الحريري) الأثري، الذي ضم آثار مملكة ماري، على بعد 11 كم شمال غرب مدينة (البوكمال) الواقعة على الحدود السورية الشرقية مع العراق، وأسست ماري في العصر السومري أواسط الألف الثالثة، وخضعت للحكم الأكادي في الربع الأخير من الألف الثالثة قبل الميلاد، ثم سكنتها القبائل العمورية التي أسست فيها مملكة ذاع صيتها، وامتد نفوذها السياسي وعلاقاتها التجارية مع بلاد الرافدين، ومدن البحر الأبيض المتوسط، وتعرضت للسيطرة البابلية، التي قادها الملك حمورابي في القرن 18 ق.م، إذ كانت تنازع عاصمته (بابل) تجارياً وثقافياً.
اكتشف آثار المدينة، العالم الفرنسي (آندريه بارو) في أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، وقد اقترن اسمه باسمها، وكان اكتشافه لآثارها وقيمتها الحضارية الإنسانية، وقعاً عظيماً على عالم الآثار (بارو) ليطلق جملته الشهيرة التي ظلّت مدوّية طوال العقود الماضية: (لكل إنسان متمدّن في العالم وطنان، وطنه الذي ولد فيه، والثاني سوريا) وكان يقصد بذلك الحضارة التي منحتها تلك المدينة السورية للإنسانية. ولم يطل الأمر حتى أصبح بارو مديراً لأهم المتاحف وأعرقها في العالم، متحف (اللوفر) في باريس، نظراً إلى أهمية اكتشافاته في ماري.
من أشهر معالم ماري وآثارها، كان قصر الملك (زمرليم)، وهو من أروع قصور الشرق قاطبة، ودرة عمارة الشرق القديم. ورد ذكره في نصوص العراق القديم و(أوغاريت) ومملكة (يمحاض- حلب)، وأيضاً في نصوص مصر القديمة. تبلغ مساحة القصر حوالى هكتارين ونصف هكتار، ويضم حوالى /300/ غرفة وباحة، فكان يؤلف مدينة داخل مدينة، وهو محوط بسور ضخم أبعاده 200 / 120 م.[9]
أهمية القصر المكتشف لم تكن لتنال هذا القدر لولا توفّر عنصرين حضاريين احتواهما بين أروقته، وكان لهما الأثر الفاعل في الإنسانية منذ ما يزيد على 4 آلاف عام مضت، أولهما المكتبة الملكية التي ضمت حوالى 25 ألف رقيم مخطوط بالكتابة المسمارية[10]، تناولت جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وكانت نموذجاً مثالياً للمكتبات في العصور اللاحقة، من حيث طريقة الأرشفة، وحفظ المعلومات وتدوينها، وتنظيم الرّقم (المخطوطات الطينية) كلّ بحسب محتواه العلمي، وحجمه، وأهميته.
العنصر الثاني الذي يفوق أهمية المكتبة الملكية، هو (مدرسة القصر)، وهي أول مدرسة عرفت التنظيم في التاريخ، فقد تميزت بمصاطب مرتبة كترتيب مقاعد الصف مع وجود فواصل بينها لتسهيل مرور الطلاب، وهناك قاعتان للدراسة تضم الأولى /24/ مقعداً والثانية /25/ مقعداً، والأرضيات مبلطة بالآجر، والجدران مطلية بالطين. وعثر بين المقاعد على الألواح الطينية والرقم التي كانت تستخدم في المدرسة، وأهم ما كان يتعلمه الطلاب في المدرسة الكتابة والتعاليم الدينية والحساب، وقد دل على ذلك العثور على أعداد كبيرة من الصدف يتعلمون بوساطتها الأرقام وبعض العمليات الحسابية البسيطة مثل الجمع والطرح [11].
والحق يقال، لم يخلُ ركن من أركان القصر من إبداع فني أو تحفة معمارية، بدءاً من جدرانه المزينة بالرسوم الملونة (الفريسكات)، مروراً بالأرضيات المبلّطة بالطوب المشوي، وانتهاءً بالحمامات التي كانت أعجوبة زمانها والأزمنة اللاحقة، فقد كانت مزودة بقنوات تصريف معقّدة تصب في نهر الفرات.
أما ما يتعلّق بفن النحت الذي يُعدُّ عماد الفنون التشكيلية في العصور القديمة، فقد وهبتنا ماري ثلاثة تماثيل من أجمل ما أنتجته حضارات الشرق القديم، تمثال (أورنينا) مغنية المعبد، وربة الينبوع، وتمثال (إيكو شاماغان).
وما يؤلمنا اليوم، هو تعرّض موقع مملكة ماري وأوابدها للنهب والتعدي من عصابات سرقة الآثار، وبخاصة بعد سيطرة تنظيم (داعش) على المنطقة، كما حصل لكثير من المواقع الأثرية السورية، بسبب الأوضاع التي تتعرض لها البلاد. وقد تركز النهب والتخريب على القصر الملكي والحمامات ومعبد (عشتار) ومعبد (داجان) ومعبد ربة الينبوع، بحسب شهود من أبناء المنطقة.
مدينة (دورا أوروبوس)
يطلق على البلدة الملاصقة لموقع (دورا أوروبوس) القديم، (الصالحية) أو (صالحية البوكمال) لتمييزها عن (صالحية دير الزور) الملاصقة لمركز المحافظة. وتبعد عن مدينة دير الزور 90 كم وعن البوكمال 40 كم، وحوالى 700 متر عن ضفة الفرات اليمنى.
واستمدت دورا أوروبوس تسميتها من الأميرة (أوروبا) ابنة (أجينور) ملك مدينة (صور) الفينيقية، وشقيقة (قدموس)، ليطلق اسمها لاحقاً على قارة أوروبا بعد أن خطفها (زيوس) كبير آلهة الإغريق، إلى اليونان، بحسب الأسطورة الشهيرة.[12]
وأول من أطلق تسمية (دورا أوروبوس) على المدينة هو سلوقوس الأول نيكاتور، وتعني (حصن أوروبا) لما كان لها من مركز استراتيجي وعسكري مهم، في أواخر القرن الثالث قبل الميلاد.[13]
وأهم السوّيات الأثرية والتاريخية التي ضمتها (دورا) تعود إلى الحقب:
- الآشورية
- البابلية الحديثة
- الهلنستية
- الرومانية
- البارثية (الفارسية)
- الإسلامية[14]
وما دفعنا إلى تخصيص جزء من هذا البحث للحديث عن (دورا) لا يتعلّق بأهميتها السياسية أو العسكرية، أو موقعها الاقتصادي والاستراتيجي المهم خلال تلك الحقب، وإنما يكمن بما حوته أسوار هذه المدينة، وما قدّمته للإنسانية، خلال العصور التي عاشتها، وهو (التجانس الاجتماعي)، العرقي والديني والثقافي، لتغدو دورا أوروبوس نموذجاً فريداً، وخالصاً، للتعايش البشري منذ ما يزيد على ألفي عام مضت.
فلأن المدينة استفادت من وجود كل من اليونان والفرس والرومان، والعناصر المختلفة التي قدمت مع الجنود الرومان، وحضارات الشرق الأقصى، من خلال وقوعها على طريق (الحرير) التجاري الشهير، ومن وجود ديانات عدة، بدءاً بالإله (بعل) والآلهة السورية المحلية ومن ثم الآلهة اليونانية والفارسية والرومانية، ومروراً باليهودية، إذ تمتع اليهود بعيش كريم في هذه المدينة بعد السبي البابلي، وأنشأوا فيها أقدم كنيس يهودي ما يزال قائماً حتى اليوم، وقد أعيد تشكيله ونقلت رسوماته الجدارية إلى متحف دمشق الوطني، وتتناول الرسومات أهم الحوادث التي جاء بها العهد القديم (التوراة). ومن ثم المسيحية التي أنشأت في دورا أوروبوس أول كنيسة لها في التاريخ. وتدل التنقيبات على وجود 18 معبداً بين جدران المدينة، هذا التنوع الهائل الذي جمع ما في العالم القديم كله من ثقافات مختلفة، خلق حالة فريدة من نوعها في هذه المدينة. هذه الحالة يمكن أن نطلق عليها بحق أنها كانت مجتمعاً عالمياً أو قرية عالمية لما تميزت به من غنى التعددية والاختلاف. وبخاصة أن أغلب أبناء تلك الديانات كانوا يعيشون جنباً إلى جنب في آنٍ واحد.
التسامح الكبير الذي تمتعت به هذه المدينة، وهذا ما يظهر في جدارياتها التي تصور الحياة اليومية لأهل هذه المدينة، جامعة بين مختلف الثقافات والأديان في بوتقة واحدة، جعلها نموذجاً مصغراً لحال سوريا التي تُعَدّ نموذجاً حياً للتعددية والعيش المشترك خلال تاريخها العريق.
عام 230م دمّر (الفرس) دورا أوروبوس تدميراً كاملاً، وقد دلت الحفريات على أن حصار الفرس للمدينة وضرْبها بالنار والحجار أدى إلى تهدم عدد من المنازل والمباني، من بينها المعبد اليهودي والكنيسة المسيحية الأولى. ومع ذلك لم تنهَر المدينة، فباشر الفرس بحفر خنادق تحت الأرض أدّت إلى خلخلة سور المدينة وأبراجها، ما أدّى إلى هزيمة الرومان واستسلامهم، لتصبح دورا أوروبوس منطقة مهجورة منذ ذاك التاريخ حتى عام 1920 تاريخ بدء التنقيب عن آثار هذه المدينة.
واليوم، يذكر تقرير صدر عن منظمة اليونسكو، تناول أعمال النهب والتخريب الأخيرة، أن عدد الثقوب الناتجة عن أعمال الحفر والتنقيب غير القانونية بلغ حوالى 300 في مختلف أنحاء الموقع. وتسبّبت هذه الأعمال في موقع دورا أوروبوس الأثري في تخريب ما يفوق ثمانين في المئة من التل الأثري، وانتزعت بعض الأحجار من المعابد وهُرّبت إلى خارج الموقع[15].
ختاماً
على الرغم مما حصل لدير الزور من هدم ممنهج وطمس تاريخي أزلي، لا يمكن للمجتمعات المتمدّنة تجاوزها حين تتناول التاريخ الإنساني بجوانبه كافة. وما طُرِح في هذا البحث الموجز ليس إلا سطراً صغيراً من تاريخها، لتسليط بقعة من الضوء على ما قدّمت، وما جرى، ويجري لها اليوم.
الهوامش
[1]– رحلة الإيطالي كاسبارو بالبي سنة 1579- تعريب الأب بطرس حداد- الدار العربية للموسوعات- الطبعة الأولى 2008- ص39
[2]– ترجمة سليم طه التكريتي- ص142- ليونهارت راوولف- رحلة المشرق إلى العراق وسوريا وفلسطين سنة 1573 م
[3] – رحلة كاسبارو بالبي- المرجع السابق- ص40
[4] – رامي الظلّي- دير الزور خلال العهد العثماني- دمشق- دار التكوين 2008، إضافة إلى عمر صليبي- لواء الزور إدارياً وسياسياً- دمشق- دار العلم 1996
[5]– لمياء سليمان- موقع إي سيريا- 16 شباط/ فبراير 2011
[6] – متري حاجي أثناسيو- موسوعة بطريركية أنطاكية التاريخية والأثرية- سورية المسيحية في الألف الأول الميلادي، مجلد 3- 1997- ص338
[7]– علاء الخضر، الدير العتيق في سوريا مدينة تحت الأرض- صحيفة إيلاف- 6 تموز/ يوليو 2009.
[8] أيوب بوصوم- الاصول السريانية في اسماء المدن والقرى السورية وشرح معانيها، دار الماردين- 2000- ص249
[9] ـ آندريه بارو- ماري- ترجمة رباح النفاخ- دمشق 1979- المديرية العامة للآثار- ص72-73
[10] ـ عيد مرعي- التاريخ القديم- كتاب جامعي، جامعة دمشق- ط3- 2001- ص84
[11] جان كلود مارغرون- السكان القدماء لبلاد ما بين النهرين وسورية الشمالية- ترجمة سالم سليمان العيسى- دار علاء الدين- ط 2، دمشق 2006- ص 126
[12] – يحيى أبو شقرا- أسطورة أوروبا وقدموس- دار العائدي- دمشق 2001- ص5-6
[13] – سوزن داوني – هرقل في شرقي سورية ، دورا أوروبوس صالحية الفرات وتل شيخ حمد – الحوليات الأثرية السورية- م 44، وزارة الثقافة، المديرية العامة للآثار والمتاحف، دمشق 2001، ص 211.
[14] – أسعد المحمود العلاقات بين تدمر ودورا اوروبوس، الحوليات الأثرية السورية ، م41 وزارة الثقافة، المديرية العامة للآثار والمتاحف، دمشق، 1996، ص 199 – 206
[15] – حضارات تنهب من دير الزور- تقرير مصور لقناة العربية- 6 حزيران/ يونيو 2014
هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.