رسائل في العقد الاجتماعي ( 2)
مع الاستنقاع التاريخي للعنف وتكريسه في عالم تأسّس على القتل والقتال وتعمّد في حقول الدماء، تخرج مقولات التسامح والتعايش لتشكّل مرفأً صعب الوصول إليه. فما بين حروب صليبية ومحاكم تفتيش وهولوكست وقتال المرتد، وبين مظلوميات الشعوب وتمزّقات الهوية والإرهاب الحالي المرتبط صورياً بالدين، يسقط التدين في فجوة العجز من أن يكون متسامحاً حتى مع أبنائه في كثير من الحالات، ويسقط البشر في عجزهم عن التعايش ما داموا يتحركون عن طريق عاطفتهم المتطرّفة، والأنا الديكارتية. فالحيادي منهم لن يكون ضمن القطيع العاجز عن إيجاد الخط الفاصل بين الدين وبين استثمار أفعال البشر في قيمة مطلقة تجعل “التدين” قاتلاً، ولن يكون ضمن من ينشدون فضيلة التسامح والتعايش المشترك كأساس إنساني لبشرية تائهة.
- مقدّمة
- اللاتسامح.. المبدأ وعكس المبدأ
- مفهوم التسامح ودائرة الجدل
- التسامح من الديني إلى المجتمعي
- التسامح والتعايش كقاعدة مجتمعية
- البلدان العربية تأصيل اللا تسامح واللا تعايش
- خاتمة
مقدّمة:
اللا تسامح.. المبدأ وعكس المبدأ
منذ الاجتماع البشري وتنظيمه أخلاقياً عبر سلطة المقدّس، بدا “اللاتسامح” ظاهرة أساسية للتعامل مع خطايا البشر ونقصان واجباتهم تجاه الإله الذي يتطلّب ردّ فعل مُرضياً ومتوازناً وأخلاقياً. فالتسامح المنصوص عليه كفضيلة يدعو إليها الدين والأخلاق وشرعة حقوق الإنسان والعقل أو على الأقل الفطنة، لم يشكّل قاعدة، وإلى يومنا هذا ما يزال التسامح مفهوماً ضبابياً وحلماً طوبياً، لكسر “التابو” وما ولّده من حالة المنع والإرباك، وللانعتاق من “لاهوت المقدس” وما شكّله من قناعات قيمية مطلقة تسوّغ المواجهة مع الآخرين، وتجعل ممن يقرّون أن الدين ليس مسؤولاً عن كل العنف والحروب التي قام بها الجنس البشري، يرون استحالة الوصول إلى تسوية أو حلّ وسط مع الذين يعتقدون أن الله يقف في صفهم، لتخلق تحدّياً لا يمكن الإجابة عنه انطلاقاً من القيم المشكوك فيها، ومن دوران التسامح في فلك اللاتسامح وعدِّه “وسيلة” لردع “الرذيلة” الإقصائية وضيق الأفق بـ “الفضيلة” التسامحية والعيش المشترك، لأن كل هذا لا يجعله مبدأ أساسياً في التفاعل البشري.
مفهوم التسامح ودائرة الجدل
في تاريخ المفهوم كما في حاضره، لم يكن معنى التسامح ضبابيّاً فقط، بل موضع خلاف بشكل عميق، فالارتباط بين متناقضين شكّل تحدياً لدعاة التسامح الإصلاحيين كافة منذ القرن السادس عشر وصراعهم ضد أباطرة الدين، الذين وصل بهم الأمر إلى بتر التراث الديني الذي صاغته “الدوغما” الدينية في المجامع المسكونية الكبرى، والصراع بين الكنيسة والدولة، وحصر مفهوم التسامح في حريّة اختيار الأفراد أنفسهم لمذهبهم وبعد ذلك توسّع هذا المفهوم ليشمل الأفكار كافة ويشق طريقه إلى كل الطوائف دينيةً وسياسيةً ويخضع لنزعات المذاهب الفردية، كالاتّجاه الإنساني، والمذهب الفردي، والعقلانية، وتبنّته هيئة الأمم المتحدة في إعلانها لحقوق الإنسان إذ أعلن أن يوم 16تشرين الثاني/نوفمبر هو يوم عالمي للتسامح، واعتمد المؤتمر العام لمنظمة التربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) في دورته الـ (28) في باريس سنة 1995 تعريفاً شاملاً للتسامح معتمداً على جملة بنود ومسلّمات لتعزيز وجود التسامح وإقراره ضرورة للسلام وللتقدم الاقتصادي والاجتماعي ولتعايش الأفراد والجماعات والشعوب(1) بالتالي لتعايش الأديان والحضارات والقيم.
لكن هذه المحاولات لم تلغِ الجدل بين التسامح واللاتسامح لما يحمله التسامح من بذور اللاتسامح في مسألة التفاضلية، إذ يرى بعضهم أن التسامح موقف متعجرف وأبوي وقمعي بالقوة، ويراه آخرون تعبيراً عن اليقين الذاتي وقوة الشخصية. ويرى بعضهم الآخر أنَّ مصدره عدم الشعور بالأمان، والإذعان والضعف، ويمثل للكثيرين تعبيراً عن احترامهم حق الآخر بالاختلاف(2) الذي يدخل مساحات جدل أخرى كموقف ينمّ عن اللامبالاة والجهل والانغلاق على الذات. فالتسامح ينطوي على نقيضة وهو عدم التسامح، وهذه إشكالية التسامح. فلا يمكن الحديث عن التسامح إلا إذا عانينا كثيراً من قضية اللاتسامح الديني والصراع الاجتماعي والتكالب على السلطة والاستغلال الاقتصادي واضطهاد الأطفال والأقليات والأجناس، حتى يشكِّل الاعتراف بالتسامح قاعدة ويزرع ثقافة وعي بين الدول ويعيشه الأفراد في الواقع الملموس ممارسة لا مبدأً أخلاقياً عاماً.
التسامح من الديني إلى المجتمعي
الإشكاليات المرافقة لمفهوم التسامح على المستوى الديني كثيرة ومتشعّبة، خصوصاً مع ما رافق انتشار الأديان من عنف وعدائية تجذّرت ضد الآخر فبلورت عدم التسامح في أذهان الكثيرين، وهو ما غُطِّيت أهم جوانبه في (بحث العنف المقدّس.. الموت باسم “الله”)(3)، فما يعنينا بالتسامح ليس الوقوف عند حدود العنف إنما تلمّس مفهوم التسامح ودلالاته الفكرية على أنه مسألة ذات صلة وشيجة بالقضية الدينية، وقد حملت الأديان الثلاثة نصوصاً تلامس التسامح والإنصاف فمن سفر طوبيا (كل ما تكرهُ أن يفعلهُ غيرك بك فإياك أن تفعلهُ أنت بغيرك) (طوبيا 4: 16) إلى (أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم..) (متى 5: 44) وصولاً إلى “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ”. (البقرة آية 256).
ولكن وجود “الشيء وضدّه” في الفهم البشري للنصوص الدينية، يجعل خطاب التسامح قابلاً للجدل والخلط والتشكيك، خصوصاً أن مسألة التسامح كانت مرتبطة كلياً باللاتسامح المتشكّل عبر القرون للأنظمة الدينية التقليدية المرتكزة على أجهزة سلطة الدولة، سواء أكان يقف على رأسها إمبراطور أم خليفة أم سلطان أم ملك. فمن المعروف أن كل هؤلاء كانوا يستمدّون شرعيتهم من الذرا الدينية، والواقع أن وضع المسيحية والإسلام متشابه جداً من هذه الناحية، لأن توسعهما كدينين مرتبط بتشكّل الإمبراطوريات أو الممالك الخاضعة كلياً للتحديد اللاهوتي “الأرثوذكسي” ولما يمكن أن ندعوه بالقانون/الحقيقة، أو بالحقيقة/القانون (الحق بحسب اللغة القرآنية ذاتها) مع اختلاف طرق التدخّل الإلهيّ في الشؤون البشرية من دين لآخر(4).
كما أن اليهودي المتفوق بالمعنى الوجودي على غيره، والمسيحي الذي يرى أن دينه هو النور والحق، والمسلم الذي يتبنّى أنه من خير أمّة أخرجت للناس، فهؤلاء لن يتقيدوا بما دعت إليه الأديان، وهذا يجعل الحديث عن التسامح قضية جوهرية من صميم الأديان وهي مسألة صعبة التحقق وخاضعة للعديد من الإشكاليات أهمّها:
أولاً: تبلور ما يسمى علم العقيدة الذي ألغى أهمية النص الديني واحتوى كل ما يلزم المؤمن بعقيدة معينة، إذ بات علم اللاهوت في المسيحية وعلم الكلام في الإسلام يتحكَّمان بتحديد بنود الإيمان وتوجيه السلوك، ووظيفة كل منهما لا تقتصر على شرح الدين إنما على إلزام أفراد الجماعة الدينية بالدين، وإن لم يلتزم فهو كافر يستحق التأديب وقد يكون القتل، ومارس كل منهما وظيفته في التكفير فكُفّر غاليليو وقتل جيورادنو برونو وكُفّر ابن رشد وقُتل الحلاج، وكَفّرت المذاهب من مسيحية وإسلام بعضها بعضاً(5). وغيّبت الفوارق بين الدين وفكره ووسطه المجتمعي.
ثانياً: عدم وضوح فحوى مفهوم التسامح يجعل الحديث عن تسامح الأديان بين بعضها ضرباً من التفاضلية التي تحتوي على مدلولات تتراوح بين الشفقة واللامبالاة وبين الازدراء والتعالي وفي أحسن الأحوال يدلّ على “عدم الموافقة مع التفّهم”(6)، وجميعها تغيّب الندية بين الأديان وتلغي ملكيتها للحق بالتساوي والمماثلة، وهذا يوجب عدم التركيز على مفهوم التسامح إنما على إمكانية التعايش ضمن النواظم الأخلاقية الدينية والإنسانية، التي تجعل مفهوم التسامح بين الأديان خاضعاً لـلانفتاح الفكري تجاه الذين يمارسون ديانات وعقائد دينية مختلفة عمّا نمارس، واحترام حريتهم الدينية.
ثالثاً: عدم إبعاد الأديان عن مستوى إدارة البشر، فالآراء والمعتقدات المتصوّرة في عالم التدين وكتبه المقدّسة بالنسبة لأتباعه، لا تتقيد بأي معاهدة اجتماعية وبالتالي لا تخضع للحقوق والواجبات، وأن الجماعات الدينية كلها لا تمتلك حقوقاً قانونية لممارسة القوة القسرية. والهدف وراء الدين هو تنوير الناس، وهدايتهم بالإقناع لا بالإجبار على فعل ما(7)، فالدين بحدّ ذاته لا يطالب بمنافع دنيوية وليس معنياً بكثرة المؤمنين أو قلّتهم، إنها مشكلة الجماعات الدينية ومسَيِّري شؤون الأديان الخائفين على غياب سلطتهم المقدّسة التي يمكن تجاوزها على أنها تسامح ليس دينياً فحسب بل هو قاعدة مجتمعية عامة يجب العمل عليها.
التسامح والتعايش كقاعدة مجتمعية
ارتباط مقولة التسامح بالقضية الدينية منذ عصر التنوير، بوصفها الحلّ العقلاني للمشكلات الدينية السائدة التي نشأت بفعل اللاهوت الكنسي، لم تكن تهدف إلى حثّ الأديان على التسامح والحدّ من اللاتسامح بل إلى ضمان سلامة النظام في المجتمع، وتوازن الأفكار، وتحديد دور الكنيسة والدولة، فأمثال جون لوك وفولتير وجون ستيورات مل وديفيد وهيوم ويورغن هابرماس وغيرهم الذين قاموا بالنقد المزدوج، نقد العقل لتحريره من ميراثه التقليدي والآلية العقلية المنتجة والمكررة لهذا الميراث، ونقد نظام الاستبداد بتحويل جذري للمبادئ التي يقوم عليها مفهوم السيادة والمشروعية ومصدر السلطة والقانون وإعادة ضبط القيم المرافقة لهذا النظام الديني كالحرية والتسامح الذي أكسب التسامح قيمته المعنوية العليا وفق المعايير الإنسانية(8).
فاعتماد الدين وحده يبقي اللاتسامح قائماً والتسامح قلقاً يجاور الامتناع بالإكراه ويحاكي أزمة الأديان بامتلاك الحقيقة المطلقة التي تغفل مطلب الحقيقة الجامعة بالمعنى الأرسطي للكلمة إذ “لا أحد يدرك الحقيقة إِدراكاً كاملاً، ولا أحد يجهلها جهلاً كاملاً”(9)، ومن جهة ثانية يدخل في أزمة “الكجيتو” الديكارتي بتوظيف الشك خارج نطاق الميتافيزيقيا مصحوباً بصورة خرافية تتوهمها الأنا، فقد جعل ديكارت الذات محور الحقيقة في هذا الوجود أو سر الارتباط بالوجود(10)، فأنا ديكارت سعت لتبلغ التأسيس المطلق والنهائي، لكنها افتقرت حدّين أساسيين لا بد للوعي البشري أن يقع بينهما وهما العالم الطبيعي والعالم المجتمعي(11).
ومع ما بلغته الأديان من تشويه للرؤى الدينية كنواظم أخلاقية لحياة البشر، على أيدي أتباعها، تجعل من إعادة مأسسة التسامح والتعايش بين البشر على قواعد إنسانية جامعة هو الحلّ لمأساة البشرية التي أُدخِلت عنوة في سوق المزاودات الدينية والغيرة على الدين ومصادرة الحقوق باسم الأديان كافة التي تزداد صعوبة مع بزوغ نجم جماعات التكفير (الأصوليات الدينية) وسياسة التمييز العنصري، والتفضيل الطبقي، وهذا لا يتعارض مع الأديان كأديان لكنه يقونن “المتخيّل التديُّني” الذي مهما بلغ ارتباطه بالنص فإنه يستمدّ أسسه من مكونات ومرجعيات ثقافية وأعراف اجتماعية، واقتصادية تتجاوز حدود النص في العادة(12) وتقولبه لخدمتها، مُحولة النص/القانون إلى النص/المُعتقد، ليبدو وكأن “غياب التسامح والتعصّب يشكّلان المرافق الطبيعية للعاطفة الدينية”(13). وهذا لا يقتصر على دين بعينه أو طائفة أو مذهب.
ولكي يتخلص أتباع الأديان من “وثن” المُتَخيَّل التديُّني لا بد من التخلّي عن التفسير الديني الكلاسيكي الذي تعتقده بعض الطوائف الدينية والذي يصوّر التعددية الدينية مظهراً للانحراف السلوكي أو العقائدي أو تكبراً على اتباع الدين الحق، والفرقة الناجية، وهو ما يولّد الكراهية بين الأديان والطوائف الدينية، ويُكثر التناحر والتقاتل بين البشر(14). وقد تكون البلدان العربية المثال الأعمق:
البلدان العربية تأصيل اللاتسامح واللاتعايش
في هذا الصدد قد يبدو التوجه نحو بلدان الشرق والعالم العربي أكثر صعوبة فالتسامح يلفت النظر بغيابه نتيجة وحشية الأنظمة واستبدادها، وغياب القانون ومظاهر الحيف والتهميش والإقصاء والتأطير الفكري بين إيديولوجيات متعددة من القومية العربية، إلى الأصوليات الدينية المختلفة، إلى الشيوعية والاشتراكية العربية، وصولاً إلى الطوائفية والمذهبية، وكلها لم تمتلك فضيلة التسامح(15). ويضاف إليه تأصيل النظرة المسبقة السلبية للجميع ضد الجميع الناتجة عن ضيق الأفق الذي تزداد أزمته وانفجاراته في المجتمعات المتنوعة، بحيث لا يكفي معه تحريض فضيلة التسامح لعدم كفايته لصون المجتمعات، خصوصاً أنّ الكثير من الأفكار تعمّدت في أخاديد الإنغلاق الفكري والإقصاء والتهميش كبنية تحتيه لحكومات الاستبداد العاجزة عن إدارة التنوع وتثبيت قوانين المواطنة والعمل على مسألة الحقوق والحريات من حرية التفكير إلى حرية المعتقد. ما يوجب الانتقال من قدرة النصّ على تغيير قوائم اللاتسامح، إلى العمل على القناعات الشخصية وعلى البناء المجتمعي الفكري للانتقال من الانغلاق والدين السكوني نحو الانفتاح الأخلاقي والديني من خلال حلول سياسية واجتماعية وثقافية وحقوقية قانونية وأخلاقية، بعضها يمتلك صفة الإلزام المستمدّ من الدولة والمجتمع والهيئات المدنية والأهلية، وبعضها الآخر يبقى في إطار الإلزام الأخلاقي، والموقف الخاص بالضمير الإنساني.
وهذا يستوجب النظر إلى عدة نقاط:
- التسامح ليس منّة أو هبة يتفضل بها أحد على غيره، إنه حقّ تنتزعه المجتمعات، حينما تنخرط بفعالية الاختلاف متعدد المستويات والمعاني، وعلى الأساس نفسه من الاختلاف والتنوع، فـإننا كبشر لا نمتلك الحقيقة المطلقة، وتكمن فكرة التسامح في قبول اعتبار الآخر صاحب حقّ كامل في أن يكون مختلفاً(16). وهذا لا يمكن تحقيقه خارج دولة القانون التي تصون فلسفة الاختلاف والتسامح الحقّ باعتباره مظهراً للاعتراف بالآخر بصورته القانونية الذي يضمن حرية الأفراد واستقلالهم الذاتي، ويحميهم من الحرمان من الحقوق كمظهر من مظاهر اللاتسامح السياسي.
- ألا تنحصر فكرة الاهتمام بطرح قضية التسامح والتعايش ومحاولة إيقاظه على فترات المحن كما حدث تاريخياً في صراع الكنيسة وحرب المئة عام أو في المسألة اليهودية أو حالياً مع ظهور الجماعات الدينية المتشدّدة، التي تجعل من التسامح ردّاً هزلياً على اللاتسامح، فالقضية ليست قضية حركات إسلاموية تقطع الرؤوس، فقطع الرؤوس ظاهرة توحّشية وجدت في كل الحضارات، إنما يكمن العمق الفعلي برفضنا أن يتمتع الذين لا يفكرون مثلنا بحقوق مماثلة في إعلان قناعاتهم وعيشها لاعتقادنا أننا نمنح الحق نفسه “للحقيقة وللضلال”(17)، ما يجعل الاعتراف بالحرية الدينية والعقدية واعتبارهما حقوقاً جوهرية وكأنهما استجابة متوافقة مع مواجهة الصعوبات والتحديات التي تتمخَّض عن التعددية الدينية فلا وصاية أحد على آخر فيما يريد الاعتقاد فيه، وكذلك فإن على المسلمين أنفسهم أن يجدوا الصيغة العملية للحدّ من تكاثر هذه الجماعات وتعمّقها لما تسببه من أزمة للمسلمين قبل غيرهم في مسألة التسامح وغيرها. كما تُشكِّل إساءة لسمعة دينهم؛ وهذا استجابة ضرورية لإرساء الأمن الاجتماعي.
- التركيز على خطاب التسامح والتعايش لا يلغي الأنماط المتعددة من اللاتسامح أيّاً كان منبعها (ديني، عرقي، اجتماعي، أخلاقي..) أو يخفّف حدّة أثرها، ولا يلغي كذلك الأحكام المسبقة التي تأسّست خلال التاريخ تجاه بعض الفئات المجتمعية كالزنوج في أمريكا أو المهاجرين إلى الغرب التي تركزت حالياً نحو المسلمين أكثر من غيرهم “الإسلام/فوبيا”، عقب ظهور حركات الإسلام السياسي التي عبّرت عن اللاتسامح الديني، والرد المقابل بعدم المسامحة في الحرب على الإرهاب الإسلاموي، وظهور الحركات الشعبوية، وتوجه بعض دول الغرب نحو سنّ قوانين تعارض مبدأ حرية المعتقد كقانون متأصّل، مثل نزع الحجاب، بدعوى التعايش والإندماج والتي تغيّب التسامح في دفعها الآخر للتنازل عن خصوصياته، كل هذا يستوجب قبل إغلاق الدائرة على “اللاحلول” السعي الجاد نحو استنباط حلول على مستوى العالم ككل لإقامة قانون ملزم للجميع، دولاً وجماعات وأفراداً يجعل من التسامح ثقافة مجتمعية وأساساً لخلق الإنسان المسؤول مجتمعياً فهو القادر على تثبيت التعايش السلمي وتفعيل التضامن الاجتماعي داخل نسيج العلاقات بين البشر عامة بعيداً عن التصورات الواهمة.
- الأزمات التي تعيشها البشرية في مسألة التفكك الهويّاتي وسياسات الهويّة التي تجعل من الهويّات مجرد انحيازات عمياء، للطائفية أو للمذهبية أو للقومية أو للوطنية أو للأيديولوجية، وجب أن نتعلم التسامح كبقعة تتشارك فيها الذات والآخر وعلامتها الإنسانية كقيمة رمزية دالة على الحضور والبقاء والانفتاح والمغايرة حيث الأنا كما الآخر طرفاً أصيلاً في الوجود وأساساً واجباً في الاعتراف دون اعتقاد واهم بالكمال والتعصّب الذي يكون إقصائياً عنيفاً في كل تعبيراته(18).
خاتمة
في وقت من الأوقات، كان لكل أمة دين، وكان لكل حضارة تاريخها الديني الخاص، وكان التسامح والتعايش ممكنين، وفي أوقات أخرى، وحين تحوّل التسامح إلى مفهوم أخلاقي على يد سقراط جرّعته أثينا السم، واليهودية التي قالت “بيتي بيت الصلاة لكل الشعوب” من أسّسوا دولة إسرائيل الحديثة لم يعيروا اهتماماً للتسامح والتعايش بين الشعوب رغم “الهولوكست”، والمسيح الذي نادى بالمحبة تأسّست بعده محاكم التفتيش وشُنّت الحروب الصليبية لنصرة دينه، والإسلام الذي أقام فلسفة الدين كلها على قضية التسامح انقسم إلى فرق وكل فرقة كفّرت الأخرى، وخرجت من رحمه جماعات الجهاد والتكفير، أما الزعيم الهندي غاندي الذي أسس فلسفة التسامح غير المشروط رافعاً شعار “العنف واللاتسامح صفقة خاسرة لأنهما ضد الفطرة الإنسانية” قتل بسلاح “هندوسي” متعصّب، وفي عصرنا الذي شهد كمّاً كبيراً من دعاة التسامح فلاسفة ومفكرين ومجموعات وأفراداً وشهد نهاية الاختزالات التبسيطية للظواهر المعقّدة يبقى السؤال فيه عن إحقاق التسامح والتعايش كقيمة عليا ومبدأ أخلاقي عام مفتوح على فراغ.
المراجع
1- إعلان مبادئ بشأن التسامح – جامعة منيسوتا، مكتبة حقوق الإنسان
hrlibrary.umn.edu › arab › tolerance
2- الفيصل – التسامح في النزاع.. فضيلة تدعو إليها الأخلاق أم موقف متعجرف؟- رشيد بوطيب – 31/ 8/ 2017
3- مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – العنف المقدس.. الموت باسم “الله”- هوازن خداج- 16/ 8/ 2019
https://www.mena-monitor.org › articles › view › ال…
4- القدس العربي- الإسلام ومفهوم التسامح في الغرب – محمد أراكون 5 /10/2015
\www.alquds.co.uk › الإسلام-ومفهوم-التسامح-في-ال…
5- جون لوك رسالة في التسامح- الناشر المجلس الأعلى للثقافة- الطبعة الأولى 1997 ترجمة منى أبو سنة – مراجعة مراد وهبة صفحة 8
6- مؤسسة مؤمنون بلا حدود- العدد 29- جدل التسامح والحرية بين الفكر الأوروبي والفكر الإسلامي- بقلم حمّادي ذويب سبتمبر 2013
www.mominoun.com › articles › جدل-التسامح-والح..
7- مجلة مركز دراسات الأديان التوحيدية- بحث اليهودية الحديثة والتسامح الديني حول الظاهرة الاقصائية في التنوير -ماساهيدية غوتو- صفحة 16
CISMOR › jp › uploads › sites › 2014/11
8- في شرعية الاختلاف – علي أومليل – دار الطليعة بيروت – الطبعة الثانية 1993- صفحة 106
9- (أرسطو – رؤية بيديا)
www.roayapedia.org › wiki › index.php › أرسطو
10- كتاب مبادئ الفلسفة، رونيه ديكارت، ترجمة: د. عثمان أمين، دار الثقافة للنشر والتوزيع، صفحة 58
11- مؤسسة مؤمنون بلا حدود-بحث محكم- 5/ أبريل/ 2016– الذات المتعددة لدى بول ريكو- مصطفى بن تمسك – صفحة 6
12- مؤسسة مؤمنون بلا حدود – بحث محكم-6/ أغسطس/2018- التسامح التديني في التدين الشعبي بالمغرب- صفحة 8
13- سيكولوجيّة الجماهير، غوستاف لوبون، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، طبعة أولى 1991 صفحة 92
14- مؤسسة مؤمنون بلا حدود العدد 18 – فلسفة الاختلاف والتسامح- بقلم كمال طيرشي- مارس 2015
Mominoun › articles › فلسفة-الاختلاف-والتسامح-2..
15- التسامح بين شرق وغرب- كارل بوبير – ترجمة إبراهيم العريس- دار الساقي، الطبعة الأولى 1992 المقدمة صفحة 7
16- مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 44 الصفحة 89. التّسامح : المصطلح، المبدأ في الإسلام و الديانات الأخرى د. وريدة دالي خيلية/جامعة الجزائر – 13/8/ 2018
https://jilrc.com › التّسامح-المصطلح،-المبدأ-في-الإ..
17- معابر- التسامح المبدأ ومراجعة المبدأ- نورس سمور
maaber.50megs.com › perenial_ethics1
18- كتاب إلكتروني- بول ريكور والفلسفة- مجموعة من الباحين -إشراف نابي بوعلي – دار الأمان الرباط، منشورات الاختلاف – الطبعة الأولى 2013 صفحة 52
https://books.google.fr/books?id=
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.