رسائل في العقد الاجتماعي (4)
منذ القدم كانت العلاقة بين الحاكم والمحكومين شغل الفلاسفة والمفكرين، هذه العلاقة التي غَدت جوهر نظرية العقد الاجتماعي كنظرية فلسفية، أخلاقية وسياسية، ولم تكن هذه النظرية جديدة إذ نرى ملامح تلك النظرية عند أفلاطون في الكتاب الثاني من جمهورية أفلاطون، ومن ثم أخذت ظهوراً أوضح عند أبيقور (341_270 ق.م) الذي رأى في العدالة أنها ليست صفة طبيعية ولا علاقة للآلهة وتعاليمها فيها، وكان في كتاباته التي وصل القليل منها ذكْرٌ واضح لذلك في (المذاهب الرئيسة، الرسائل والحكم) (1). وفي الفلسفة الرواقية والحضارة الرومانية كان هناك حضور للنظرية، لكن الفضل الأكبر يبقى لأوروبا في عصر التنوير، وبالتحديد في القرنين السابع عشر والثامن عشر عن طريق الفلاسفة الذين ساهموا في بلورتها وهم توماس هوبز 1651 م، جون لوك 1689 م، جان جاك روسو 1762م.
أولا: نشوء النظرية
أ_ توماس هوبز (1588 _ 1679 م):
قدم هوبز نظريته معتمداً على افتراض سيكولوجي للإنسان قبل تَكّون المجتمع أو نشوء الدولة (الحالة الطبيعية) حيث يتركز اهتمام الفرد في مصلحته الذاتية، وتكون تلك المصلحة هي المحرك الأساسي للسلوك الإنساني، أي أن الإنسان بحد ذاته كان في (حالته الطبيعية) أناني وهمجي وفقير، لذلك كان لا بد من تخلي الأفراد عن إرادتهم مقابل إرادة الحاكم.
نجد في كتاب هوبز (مبادئ القانون الطبيعي والسياسي) تبريراته وفرضياته التي اعتمد عليها لاحقاً في كتابه الأشهر leviathan التنين الذي صدر سنة 1651م وفيه طرح فكرة السلطة المطلقة.
أهم ما قدمه هوبز:
- كان الإنسان في الحالة الأصلية (الطبيعية) مدفوعاً برغبته وشهواته، ولم يوجد معايير أخلاقية الفعل أو عدم أخلاقيته، الإنسان ذئب لأخيه الإنسان.
- لا يوجد معنى للعدالة في الحالة الأصلية (الطبيعية) فلم يُوجد القانون بعد، والعدالة والظلم ليست من ملكات الإنسان والعدالة ليست طبيعية مثل الإحساس والانفعال.
- عدم وجود محددات لملكية الفرد، بل تعتمد الملكية على مدى قدرة الفرد في المحافظة عليها، وهذا كافٍ لوجود مبرر حرب الجميع ضد الجميع.
- توجد العدالة عن طريق الدولة المشرِّعة للقانون.
- يتنازل الجميع عن إرادتهم لصالح إرادة الحاكم الذي يتمتع بالسلطة المطلقة.
- الحاكم ليس تجسيداً لرغبة الآلهة، بل هو نتيجة تعاقد الأفراد فيما بينهم، ولا توجد شرعية في توريث الحكم لابن الحاكم.
- يستمد الحاكم سلطته المطلقة من العقد ذاته بين الأفراد، وتكون حدود تلك السلطة حدود أمن الفرد على حياته.
لعل هوبز تأثر تأثراً شديداً في الواقع الأوروبي حينها وفي إنكلترا تحديداً لبناء فرضيته وتصوراته للمشكلة وحلها، حيث كان فقيهاً قانونياً، وعاصر صراع شارل الأول والبرلمان الذي أدى إلى الحرب الأهلية 1642 – 1647م، وكان من المدافعين عن السلطة المطلقة للملك، وعبر عن ذلك مراراً بأن السلطة المطلقة أمر لا غنى عنه من أجل الوحدة الوطنية طرح ذلك في كتابه (مبادئ القانون الطبيعي والسياسي).
تنقّل في أرجاء أوروبا، والتقى أبرز مفكري عصره وعلمائه فقد انتقل إلى فرنسا في 1610م، وكان الصراع الفكري ضد فلسفة القرون الوسطى على أشده والتقى مرسين وكسندي وديكارت وغاليليو وكبلر(2).
ربما تكون أصالة هوبز نابعة من مسايرته للحراك الفكري والسياسي الذي عاشه، وقدم فكرة العقد الاجتماعي في كتابه التنين بناء على ذلك، أي أن مساعي هوبز في إرساء نظرية العقد الاجتماعي نابعة من البحث للوصول إلى حلول جذرية لصراعات عصره السياسية، وكان خصومه المتمثلين ببرلمان شارل الأول(3) يمثلون السلطة الإلهية للكنيسة وإدراكه لضرورة هزيمة الحق الإلهي في السلطة وانتقاله للأرض جعل دفاعه عن الملك الذي يعد صاحب الملكية الأكبر انتصاراً لتوجه جديد تحرري بالمعنى السياسي على السلطة الإلهية، وبالمعنى الاقتصادي ظهور ملامح الليبرالية. وبهذا يكون قد وضع حجر الأساس للقضاء على الكنيسة، وفي الوقت ذاته رسم ملامح نشوء الليبرالية، وبدأ جدلاً هاماً في الفكر السياسي حول العقد الاجتماعي.
ب_ جون لوك (1632 -1704 م):
فيلسوف التجريبية والجد الأعلى لليبرالية ولد في عائلة مرموقة والده كان حقوقياً بارزاً، عاصر الصراعات التي تعرضت لها عائلة ستيوارت المالكة مع رجال الدين، وقدم فكرته حول العقد الاجتماعي في مقالته الثانية من كتاب (في الحكم المدني) الموسومة بـ: (نشأة الحكم المدني الصحيح ومداه وغايته) 1689م.(4)
اتفق مع هوبز بالمنهجية، لكنه اختلف معه حول (الحالة الطبيعية) ورفض رفضاً قاطعاً لمبدأ السلطة المطلقة.
اعتمد لوك العقد الاجتماعي كآلية عمل يؤصل من خلالها فكراً جديداً لعصر جديد يمكن الوقوف عليه.
أهم النقاط في نظرية لوك حول العقد الاجتماعي:
- الحالة الطبيعية (الأصلية) ساد فيها السلام والمساواة والحرية.
- ساد الحالة الطبيعية قانون طبيعي يحكمها، ويلزم الفرد ويدعو الجميع إلى المساواة والحرية.
- الإنسان محكوم بالعقل والمعونة المتبادلة، فقد كانت القوة موزعة بين الأفراد، أي إن الأفراد من نفس النوع والرتبة ولدوا شركاء في كل المميزات الطبيعية.
- شعر الناس بضرورة تنظيم حياة الفطرة تلك إذ لا يوجد تحديد واضح للقانون، ولم تتكوّن بعد أي منظمة أو هيئة لتنفيذ القانون.
- الأفراد بكامل حريتهم قرروا التنازل عن بعض حقوقهم بالقدر الذي يسمح للسلطة أن تقوم بواجباتها.
- الحقوق الأساسية للفرد هي حق (الحياة، الحرية، الملكية).
- رضى الأفراد وقناعتهم هما أساس قيام الحكومة، وليست أي سلطة أخرى.
- أحقية الأفراد في مقاومة أي سلطة مستبدة، وغير قادرة على حماية الحقوق الأساسية للفرد.
مما تقدم يتضح تركيز لوك على حق الملكية الخاصة، ويشرح ذلك أن الأرض كانت مشاعاً، وتحولت نتيجة جهد الفرد وعمله إلى ملكية خاصة، ويعزز حق الملكية بأنه كان سابقاً على وجود المجتمع، والمجتمع نفسه لا يخلق ذلك الحق، بل المجتمع والحكم قائمان لحماية حق الملكية الذي لا يسلب ولا ينتقص من أي حكومة أو سلطة.
وعدَّ لوك قيام السلطة الزمنية لحماية حق الملكية من غير المنتجين وحق الملكية بحد ذاته هو العامل الأساسي لانتقال الإنسان من حالته الطبيعية إلى حالة المجتمع المدني.
هكذا يكون لوك قد ساند البرجوازية الناشئة، وقدم لها أيديولوجية بقائها من خلال القضاء على منافسيها ووضعها بالقانون الطبيعي والحقوق الطبيعية.
حرية البرجوازية الناشئة التي كانت تمثل الطبقة الوسطى بانتشارها العريض والواسع والمحرومة من حريتها بدفاع لوك عنها دافع عن الغالبية العظمى.
هنا لابد أن نلاحظ وندرس التطور الجلي بين ما قدمه هوبز وما قدمه لوك، فقد انتصر لوك لكون الإنسان اعتمد عقله في الحالة الطبيعة بعكس هوبز تماماً، وجعل الإنسان هو من سعى لإقامة العقد لإدراكه ضرورة ذلك بعد أن أصبح يلاحظ دور ملكيته الخاصة على حياته، بالإضافة إلى أنه توجّه لإنصاف الشريحة الأوسع من المجتمع والأكثر تأثيراً (الطبقة الوسطى). والعقد عند لوك لا يسمح بأن تنتقص حرية الفرد وحقوقه إلا بالقدر اللازم لنشوء السلطة وبعد نشوئها. وتبقى حدود سيادة تلك السلطة في إطار قدرتها على حماية حق الفرد في الحرية والملكية والحياة. هذا كله جعل من نظرية لوك أفقاً جديداً للغالبية المحرومة من حريتها الاقتصادية (البرجوازية الناشئة) ما فرض قبولاً واسعاً لها وشكّل حالة توازن بين سلطة ذات سيادة وحرية فرد.
بهذا يكون لوك حدَّ من سلطة “تنين هوبز” لكنه لم يعدمها، وجعل الحرية، وبالذات في الملكية الخاصة تتناول الغالبية العظمى لا الملك وأقرانه فحسب. هكذا يكون قد أشرك مصالح الغالبية في الصراع مع الكنيسة وفي الوقت ذاته وسع نطاق الحرية الاقتصادية بما يفرض على العقد أن تكون سلطته رضائية مع الغالبية العظمى.
ربما لذلك كان لفلسفة لوك أثر بالغ على مؤسسي أمريكا الأوائل، وتكمن فلسفته في صميم إعلان الاستقلال الأمريكي 1776 م.
ج– جان جاك روسو (1712- 1778م):
عاش روسو حياة شاقة، وكان يدرس الموسيقى، ثم انطلق باتجاه اهتماماته الفكرية(5)، وقدم مفهوم العقد الاجتماعي في كتابه الموسوم بالنظرية (العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق الاساسية) طرح فيه تصوراً مغايراً لـ “هوبز ولوك” في حالة الإنسان الطبيعية فلم يرها قاتمة وشريرة كـ “هوبز”، ولا متفائلة جداً كـ “لوك”، بل كانت حياة فطرية لا تستند إلى العقل بل لمشاعر فطرية بسيطة تحقق شيئاً من السلام والمساواة في ظل مبادئ أخلاقية.
ويرى روسو أن اجتماع البشر كان بسبب عوامل عدة ليس قراراً منهم ولا بسبب الملكية الخاصة؛ إنما هي العوامل الاقتصادية والاختراعات وتطور موارد الإنتاج، ما أدى إلى نشوء قيم جماعية أو جماهيرية كـ (الفخر، الخجل، الحسد) وهذا أدى لظهور الملكية الخاصة التي عدَّها “روسو” منحى هاماً جداً في تطور مسيرة البشرية، إذ انقسم منها الناس إلى أصحاب أملاك وعاملين لديهم، ثم نشأ نظام الطبقات وكان أصحاب الأملاك يمتلكون القوة لإيجاد الحكومة الضرورية للمحافظة على مصالحهم. لكن تأسيس الحكومة من خلال عقد ينص على أن يوفر أصحاب الأملاك العدل والحماية والمساواة للجميع هو تكريس حقيقي لـ “اللا مساواة” وهو السبب في معاناة المجتمعات.
لهذا كان روسو يسعى في نظريته لجعل الأفراد أصحاب السيادة، فبحث أصل التفاوت بين الأفراد في مقالة خاصة ذكر فيها ضرورة التمييز بين الحالة الطبيعية وحالة المجتمع، وركز على العلاقة المباشرة بين الترف والمطالب المتزايدة والازدهار والتطور، وبين اضمحلال الأخلاق من ناحية أخرى،
لهذا رأى روسو أن اجتماع البشر شرٌّ فلم توجد قبل ذلك (الأنانية، الفنون، الرق، الرذيلة، الحروب) لكن ذلك لا يعني هدم المجتمع المدني بل القياس على الحالة الطبيعية (التي هي افتراض) وجعلها معياراً لبناء مجتمع يسوده السلام.
عرّف روسو الإرادة العامة في كتابه الاقتصاد السياسي أن للمجتمع شخصية معنوية ذات إرادة هي الإرادة العامة التي تسعى دائما لتحقيق الرفاهية للمجتمع، وهي مصدر القوانين وتتكون من الأفراد كلّهم، وعلاقاتهم ببعضهم وحكمها عادل بالضرورة.
أهم نقاط نظرية روسو في العقد الاجتماعي:
- الحالة الطبيعية حالة فطرية لا تستند إلى العقل ويسودها سلام وحرية.
- العقد الاجتماعي هو ميثاق يتنازل فيه الأفراد عن حقوقهم وحرياتهم لصالح المجتمع.
- السيادة والسلطة من حق المجتمع ككل، لا من حق فرد واحد.
- يسهم كل فرد وبكامل قدرته تحت إدارة الإرادة العامة، إذ تلتقي على شكل هيئة الفرد جزءاً لا يتجزأ منها.
- عندما يقدّم الأفراد تنازلاً كلياً عن حقوقهم وحريتهم يتساوى الجميع، فطاعة الفرد للإرادة العامة هي طاعة لما يريده هو نفسه.
- المجتمع هو المسؤول عن التشريع، والحكومة لتنفيذ القوانين لأن الحكومة لا تحتاج عقداً، فالعقد أساس لقيام المجتمع.
هكذا نرى أن روسو يتفق مع هوبز في تنازل الفرد عن كامل حقوقه، إلا أنه لا يتنازل عنها لفرد بل للمجتمع كله (كل فرد يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأي أحد)، هنا تكمن مغالطة أو إشكالية ليست بسيطة فما الفرق بين “تنين هوبز الملك” و”تنين روسو المجتمع”؟.
لعل روسو حاول المزج بين حريات لوك وسيادة هوبز، فقد رأى روسو الشعب هو السيد بالتعريف وسلطته لا تنتقص ولا تتجزأ، ووضع حداً لتلك السلطة هو حد الفرد في التملك والحرية.
أي أن روسو دعم الفكر المطلق والمطلق ضد طبيعة السياسية ليس في مسألة السيادة وحسب، فأبسط تعريفات السياسة هي فن الممكن، وما إن تتمكن السياسة من السلطة المطلقة تتحول لدكتاتورية، وهنا تقع غاية نظرية العقد الاجتماعي في مغالطة كبيرة.
ثانيا: نتائج نشوء النظرية
من الموجز البسيط لنظريات الفلاسفة الأبرز في العقد الاجتماعي نركز على أهم نتائجها:
أ- القضاء على حكم الكنيسة، ونقل السلطة من السماء إلى الأرض كما رأينا في دفاع “هوبز” عن الملك وسلطته المطلقة إذ تحالف مع السلطة الزمنية ضد الكنيسة، وعارض بشدة الحق الإلهي للحكم ورفض مبدأ التوريث ما جعله من أوائل الليبراليين برغم أن “تنين هوبز” يهدد بدكتاتورية ملكية نرى نماذج منها في عصرنا الراهن.
ب- الحد من السلطة الزمنية لصالح البرجوازية الناشئة كما قدم “لوك” وبذلك دافع عن الطبقة الوسطى والغالبية العظمى، ربما يرى بعضهم أنه قدم دعماً للرأسمالية لكن في ذلك الحين كان من غير الممكن تصور التضخم بشكله الحالي، وبالرغم من ذلك يقدم توجهاً ليبرالي أنضج من “هوبز” فترك السلطة مقيدة لصالح هامش أوسع في الحريات، ربما هذا هو سبب تضمين أفكار لوك في إعلان الاستقلال الأمريكي.(6)
ج- التحول إلى الشعب، وانطلاقة الديمقراطية كما عبر “روسو” من خلال نظرية الإرادة العامة رغم التخوف من السلطة المطلقة للمجتمع التي قد تتحول إلى دكتاتورية يوجد نماذج كثير منها حالياً، لكن هذا كله لا يلغي ولا يقلل من أهمية ما قدمه فلاسفة العقد الاجتماعي الأبرز في الفكر السياسي، وتقديم رؤى تحررية هامة ساهمت في التغيرات اللاحقة خاصة الثورة الفرنسية على وجه التحديد.
ثالثا: انتقادات النظرية.
من أبرز منتقدي النظرية.
المؤرخ النمساوي “موراي روثبارد” الذي قال: الدولة نشأت من خلال الاستغلال والغزو وليس عن طريق هذه النظرية.وكذلك الفيلسوف البريطاني “برتراند راسل”: لا وجود للنظرية حيث لا خيار للفرد بين الدولة والحالة الطبيعية. بالإضافة إلى كون النظرية انتقدت بأنها افتراض غير واقعي، فقد وصفها “إيمانويل كانط” صاحب الكتاب الكنز (نقد العقل المحض) بأنها خرافة منهجية؛ أي يهاجم تصورها الافتراضي دون الاستدلال عليه ضمن منطق أو تجارب واقعية سابقة، ويثني على منهج الفكرة وما يحققه على صعيد الفكر السياسي وما يتيحه من أفق تحرري حينها.
النظرية ذاتها اندثرت تماماً في بداية القرن التاسع عشر، وظهرت نظريات أخرى كـ “النفعية والهيغلية والماركسية” وما رافق هذه النظريات من منطق ومناهج جديدة في التحليل والبحث في مجال علم الاجتماع والسياسة، لكن الفيلسوف “جون رولس” ساهم بإعادة نظرية العقد الاجتماعي عن طريق تجربة ذهنية في القرن العشرين.
فكرة العقد ذاتها كأساس لنشأة المجتمع هي فكرة غير سليمة من الناحية القانونية، العقد من وجهة نظر أصحاب النظريات سالفة الذكر هو الذي أقام السلطة في المجتمع، فهو أساس وجود هذه السلطة وبدونه لا تنشأ ولا تتحقق. وهذا القول يخالف الناحية القانونية السليمة، ذلك لأن فكرة القوة الإلزامية للعقد لا توجد إلا بوجود المجتمع وقيام سلطة فيه تحمي العقود وتطبيق الجزاءات اللازمة لضمان احترامه.
لعل رصد النظريات التعاقدية من وجهة نظر الدارسين والمختصين في القانون حديثاً ستكون مليئة بالثغرات التي قد تطول نظرية العقد لأن النظرية بحد ذاتها ناشئة من افتراض سيكولوجي، وهذا يوفر لمختصي القانون والحقوق حالياً نموذجاً من السهل التعامل معه، فلن يرصدوا النظرية بعين الفيلسوف، إنما كرجال قانون. نرى أمثلة عديدة لذلك في محاضرات الحقوق في جامعة دمشق وبغداد.(7)
هناك الكثير من الفلاسفة والكتّاب قدموا الكثير في مجال العقد الاجتماعي لكن يعد أبرزهم “هوبز ولوك وروسو” ربما بسبب المرحلة التاريخية التي ظهرت فيها أعمالهم وطبيعة صراعاتها الفكرية والسياسية.
فهناك “هوغو غروتيوس” (1625)، و”صموئيل فون بوفندورف”، و”فرانشيسكو سواريز” (1548 – 1617)
ولعل الأهم صاحب كتاب روح الشرائع أو روح القوانين لمؤلفه “مونتسكيو” عام 1748م الذي لم يستطع “روسو” الاستفادة منه في حينه، ومع ذلك فإن هناك عدة فصول في العقد الاجتماعي تعكس بشكل صريح تأثير “مونتسكيو” في مؤلفات روسو اللاحقة، حيث كان “مونتسكيو” أول من فصل السلطات في كتابه لسلطة تشريعية وسلطة قضائية وسلطة تنفيذية.
رابعا: العقد الاجتماعي وإمكانية صياغته في الحالة السورية
نظرية العقد الاجتماعي تاريخياً كانت أداة فكرية لتفسير نشوء الدولة والبحث عن العدالة والمساواة وبناء مجتمعات تنعم بالسلام والحرية، ولتجاوز الصراعات والابتعاد قدر الإمكان عن احتمالية الحروب التي تنشأ نتيجة معاناة المجتمع أو تعدي مجتمعات أخرى، أي أنها تسعى لرفاه الإنسان والمضي به قدماً مهما فرض تطور جنسه من تغيرات.
كما رأينا فقد قدم الفلاسفة والمنظرون للنظرية تصوراتهم لها متأثرين بصراعات عصرهم فكرياً وسياسياً وجل مساعيهم في سبيل سلام مجتمعاتهم والخروج بها من صراعاتها أو تجنبا لتلك الصراعات، على هذا يمكن أن يكون الطريق باتجاه عقد اجتماعي سليم ومعافى من تراكمات المراحل السابقة عبر خطوات ضرورية كبداية سليمة منها:
1- وعي أن العقد الاجتماعي هو نتيجة لمشروع فكري يبحث في صميم أسباب المشاكل، والصراعات في المجتمع وينطلق منها لإيجاد الحلول.
في الحالة السورية حتى اللحظة لا توجد أي بوادر لأي مشروع فكري يحدد أساسيات أو أوليات العمل السياسي.
2- العقد الاجتماعي بالضرورة عليه هدم الأنماط السابقة للسلطة التي كانت سبباً رئيساً لتراكم مسببات الصراع بمعنى أن يتضمن نزعة تحررية عن السائد قبل الصراع أو حتى خلاله.
الصراع في سورية بدأ نتيجة استبداد ممتد لعقود وبعد الثورة السورية وتأخرها في حصد نتائجها ظهرت أشكال شبيهة لاستبداد النظام كان الاستبداد الديني أحدها.
3- العمل لإرساء عقد اجتماعي يمكنه الاستفادة من التطور التكنولوجي الحالي إذ لا تقتصر المشاورات والندوات على من يحضرها بل الاستفادة قدر الإمكان من تجارب حديثة في علم الاجتماع استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي وحققت تقدماً هائلاً في النتائج وبفضاء تجريبي واسع جدا (8).
خامساً: خلاصة
إذا حاولنا الاستفادة من النظريات الأبرز في العقد الاجتماعي لعل منهج “لوك” هو الأنسب كإطار عام لما في منهجه من هامش واسع للحريات لا يوجد لدى “هوبز” وروسو” ذلك فإذا استحال الأهم والأكثر جدوى في الحالة السورية وهو الدعوة لإطلاق مبادرات تجمع المفكرين والكتاب المختصين لتشكيل فهم ووعي جامع يخدم الفرق السياسية المشتتة، ويمهد للخطوات اللاحقة في أي حالٍ كان وسيكون العقد الاجتماعي أحدها كنتيجة. فالعقد الاجتماعي مسألة تعني المجتمع ذاته الذي يعاني صراعات، فلا يمكن أن يكون ضمن أجندات خارجية ولا يفرض من الفرق الأقوى في المجتمع لكي لا يكون سبباً لصراعات أخرى مستقبلاً إذا اختلت موازين القوى في المجتمع، لذلك سيكون من الضرورة بمكان أن يكون العقد الاجتماعي السوري القادم محتوياً مضامين الاتفاقيات والقوانين العالمية التي تعنى بحرية الفرد وحقوق الإنسان بالدرجة الأولى ويستفيد قدر الإمكان من التجارب السابقة للمجتمع ذاته وللشعوب المجاورة.
المراجع
- https://ar.m.wikipedia.org/wiki/%D8%B9%D9%82%D8%AF_%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A
- جورج زيناتي: رحلات داخل الفلسفة الغربية ، ط 1 ( بيروت : دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، 1993 ) ص: 138 – 139
- ول ديورانت: قصة الحضارة ، عصر لويس الرابع عشر، المجلد السابع عشر، ترجمة فؤاد أندراوس ومحمد علي أبو درة ص3
- عبد الفتاح غنيمة: نحو فلسفة السياسة، النظم والنظريات والمذاهب السياسية، أصولها وتطورها التاريخي ص:183
- أميرة حلمي مطر: الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس، ص99
- مي حسين النظرية الماركسية ونشأة الدولة
- النظريات التعاقديةhttp://www.uobabylon.edu.iq/uobColeges/lecture.aspx?fid=7&lcid=1500
- تجارب الفيسبوكhttps://www.forbes.com/sites/kashmirhill/2014/07/10/facebook-experiments-on-users/
- العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق الأساسية. “جان جاك روسو” ترجمة عادل زعيتر.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.