تمهيدا لإجراء تدقيق جنائي للبنك المركزي، يطالب به المانحون كأحد الشروط لتقديم المساعدات الخارجية إلى لبنان، أقر البرلمان اللبناني يوم الاثنين الفائت، قانونا يقضي برفع السرية المصرفية لمدة عام واحد فقط، في خطوة ليست بالجديدة لتدارك الوضع الاقتصادي المنهار في لبنان، الذي يشهد حسب مراقبون أسوأ أزمة تشهدها البلاد منذ استقلالها 1946.
البرلمان اللبناني سبق وأصدر أواخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قرارا أقرب إلى التوصية بإخضاع حسابات مصرف لبنان المركزي والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة، للتدقيق الجنائي دون التذرع بالسرية المصرفية، بهدف الكشف عن هوية المتسببين في إهدار المال العام، لمعالجة الفساد، السبب الأساسي للأزمة المالية التي أدت إلى انهيار العملة المحلية والتخلف عن سداد دين الدولة.
ثلاثة أنواع من ردود الفعل بين المسؤولين اللبنانيين ظهرت ضمن قضية التدقيق الجنائي لحسابات المصرف، فبينما دعا بعضهم إلى رفع السرية او إلغائها بالكامل، متهمين حاكم مصرف لبنان المركزي “رياض سلامة”، بالتذرع بها لتسويغ حجب المعلومات، ليصرح أي “سلامة” مؤخرا أنه مستعد للتدقيق لكن الكشف عن حسابات البنوك المحلية يتطلب تعديل القانون، كما تعهد بتسليم حسابات الدولة، قال آخرون إن إلغاء السرية المصرفية بصورة كلية يُلحق ضررا كبيرا بالقطاع المصرفي اللبناني وسمعته، ولا سيما أن القضاء لديه بالفعل الصلاحية في رفع السرية المصرفية عمن يُتهم بارتكاب أية جريمة مالية، فيما كان القسم الثالث مستسلما فاقدا للأمل كليا، ويرى العبرة في التنفيذ وعدم التهرب أو الالتفاف على القانون كما حصل في كل المحاولات السابقة لمنع كشف الحقائق.
ثغرات التطبيق..
السرية المصرفية كانت الحجة الرئيسية التي قدمها المصرف المركزي كسبب لتأخر البيانات التي طالبت بها شركة التدقيق الجنائي “ألفريز ومرسال”، قبل انسحابها شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الفائت.
يرى محللون مختصون في الشأن الاقتصادي، أن مشكلة لبنان الرئيسية في هكذا قوانين هي التنفيذ، الذي يزرع في مساره دائما أشواك عبر النفوذ والنزاعات الحزبية والطائفية، مع كل قانون جديد قد يمس بالساسة.
مصدر مختص في الشأن الاقتصادي “طلب عدم الكشف عن اسمه” أفاد مرصد مينا بأن” السؤال الأهم هو هل سيشمل القانون المؤسسات والمصارف الخاصة، لاسيما التي يسيطر عليها حزب الله مثلا، والمنتشرة في أماكن سيطرته ولا تتبع حساباتها للدولة اللبنانية، ولا تخضع أرقامها لتدقيق من قبل المصرف المركزي، والتي “باتت تشكل اقتصادا مضاهيا لاقتصاد الدولة”، حسب قوله.
ووصف المختص القانون بالخطوة الإيجابية لكنها تحتمل التلاعب والالتفاف من قبل المؤسسات الخاصة، مالم تخضع المؤسسات والمصارف الخاصة للتدقيق ذاته.
في خلل آخر، نقلت صحيفة النهار اللبنانية عن الدكتورة “سابين الكيك”، أستاذة محاضِرة في الجامعة اللبنانية وباحثة في القانون المصرفي، قولها إن “التعديل الذي قضى بتعليق احكام السرية المصرفية جاء محدوداً بإطاره الزمني والموضوعي، بمعنى أن مفاعيل السرية المصرفية تعود مطبقة فور انتهاء مهلة السنة وأي تمديد اضافي يتطلب إعادة التصويت عليه من مجلس النواب، أما موضوعياً، فتعليق مفاعيل السرية المصرفية يرتبط بشروط دقيقة منها: أن يكون ضمن حالة التدقيق الجنائي المقررة من قبل الحكومة، ولغايات هذا التدقيق ولمصلحة القائمين بالتدقيق حصراً، ويسمع من ذلك أن الأمر لا يمتد إلى الأجهزة الرقابية وإلى السلطة القضائية صاحبة الصلاحية بالمحاسبة والمساءلة”.
واستهجن آخرون القرار بأنه يرفع السرية عن الوزارات والإدارات العامة دون أن يشمل حسابات مؤسسات المتعهدين والمتعاملين مع الوزارات والإدارات، والتي ستبقى «مستورة» لن يعرف التدقيق الجنائي شيئا عن خفاياها ودهاليزها والطرق التي أمكن بها تحقيق مكاسب ومنافع في ظل محاصصات سياسية أوصلت البلاد الى كوارث مالية وفواجع اقتصادية.
“شراء للوقت” اعتبر مغردون لبنانيون القرار بسبب تحديد مدة رفع السرية المصرفية سنة واحدة فقط، متسائلين عما سيحصل إذا انتهت السنة “دون أن تكون الاجراءات الأولية للبدء بالتدقيق الجنائي قد أنجزت”.
محاولات سابقة..
على خلفية ثورة تشرين العام الماضي عقد مجلس النواب اللبناني جلسة في مايو/ أيار الفائت بقصر الأونيسكو، وأقر حينها قانون يتعلق برفع السرية المصرفية كمطلب شعبي، يمكن بموجبه رفع السرية المصرفية عن الوزراء والنواب ورؤساء البلديات وجميع الموظفين وحتى المرشحين السابقين واللاحقين للانتخابات النيابية وصولاً أيضاً الى رؤساء مجالس المؤسسات الاعلامية.
أقر القانون حينها مع تعديل يُفيد بأنّ الجهة المنوطة برفع السرية المصرفية محصورة بجهتين : هيئة التحقيق الخاصة بمصرف لبنان وهيئة مكافحة الفساد بعد اعتراض عدد من النواب.
وفي حين طالب الجميع باستقلال القضاء كشرط أساسي للتنفيذ، إلا أن شيئا لم يكن وذهب القرار وكأنه ضحك على اللحى وإسكات للشارع المنتفض.
شعب فقير ودولة تنحدر..
يخيم شبح الفقر على اللبنانيين، في ظل أزمات تحيط بهم من كل جانب، وتتحكم بمفاصله قوى داخلية وإقليمية من دون أفق للحل، وآخرها انتظار مساعدات خارجية يعيق تقديمها ساسة لبنان، الذين يتلاعبون بالوقت ويسيطر الفساد على أجوائهم.
كانت كالصاعقة على اللبنانيين الأرقام الصادرة عن المرصد الاقتصادي للبنان في البنك الدولي، الذي توقع أن يصبح أكثر من نصف السكان فقراء بحلول 2021، وأن تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 194بالمئة، ارتفاعا من 171بالمئة نهاية 2019، ورجّح تراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بشكل حاد إلى (-19.2) في المائة عام 2020، بعد انكماشه بنسبة (-6.7 ) في المئة عام 2019، معتبرا أن انهيار الليرة أدى إلى معدلات تضخم تجاوزت حد 100بالمئة.
وسؤال الشارع الذي يفرض نفسه، هل يتمكن الساسة غير المرغوب فيهم من استرجاع الثقة الدولية بعصب الاقتصاد اللبناني متمثلا بالنظام المصرفي اللبناني، وهم الذين ينتهكون اغتصابا حرمة أموال البلاد، عبر قرار شهد في اليوم ذاته تجريم التحرش الجنسي بالنساء.