عبد المنعم الشوماني: كاتب من ليبيا
منذ مرحلة ما بعد الحرب الأفغانية والعالم الإسلامي بعامة والعربي بخاصة يعاني موجة إرهاب لم تنضب روافده، وكلما انتهت جماعة إرهابية خرجت من رحمها جماعة أشد تطرفاً. فمن أين يستمد الإرهاب قوته في إقناع مزيد من الشباب؟ وهل هناك قواسم مشتركة بين الإسلام الوسطي والإسلام المتشدد؟ هذه الورقة تناقش روافد الإرهاب التي تجعله موجوداً بقوة في الأزمات الاجتماعية والسياسية من خلال ما يأتي:
- عدم الاجتهاد في فهم النص الشرعي والاكتفاء بفهم السلف.
- عودة الخلافة وارتباطها بالدين.
- المعارضة السياسية والفكرية في عهد السلف.
- المشتركات بين الإسلام الوسطي والمتشدد.
- حالة العدائية وتعميق الإحساس بالمظلومية.
المدخل
تذهب لتصلي الجمعة فتسمع خطبة مجلجلة عن التآمر على الإسلام والمسلمين ويردد الخطيب على مسامعك عبارة (الغرب الكافر) مرات عدة حتى تتعود مسامعك على تقبلها، ويختم الخطبة بالدعاء على المجتمعات والدول بالهلاك دونما أدنى تفكير في تبعات استجابة هذا الدعاء.
ماذا لو أهلك الله غيرنا ولم يستبق سوانا؟ هل نحن قادرون على العيش في هذا الكون بمفردنا؟
هذه الأسئلة لا تعني الخطيب ولا تهمه، فهو يعيش حالة بكائية ومظلومية يحشد بها عدداً كبيراً لسماع خطبته والانضمام إلى الحشد الذي يقوده إلى المجهول.
المحور الأول: العودة إلى نهج السلف
يستعرض الخطيب الحالة التآمرية التي تحاك لنا من دون أن يكلف نفسه عناء إيجاد الدليل، وهل التآمر متبادل بيننا وبينهم؟ الخطيب غير محتاج إلى آليات الاستدلال والإقناع المنطقي، فهو يعتمد على أمرين، الأول هو السيطرة وجدانياً على الحشد بإدخاله في حالة الإحساس بالمظلومية، والثاني هو طبيعة خطبة الجمعة التي لا تسمح بمناقشته أو الاعتراض عليه.
ولكن الخطيب لا يترك حشده بلا حل بل يقدم لهم الوصفة السحرية لعلاج واقعه وبعبارات حاسمة لا تقبل الشك الحل هو العودة إلى نهج السلف. ولأن كلام الخطيب حاسم فهو غير معني بإيضاح لماذا لم يرد اتباع السلف في القرآن على سبيل المدح؟ وغير معني أيضاً بتفكيك عبارة (السلف الصالح) وهل هناك سلف غير صالح؟ وكيف نعرف هذا من ذاك؟
ولكن الخطيب يدل قطيعه فقط على المرعى، ولا ينبهه إلى وجود أعشاب سامة، أو ذئاب فتاكة.
ولو تأملنا في النص القرآني لوجدنا أن اتباع (السلف) لم يأتِ إلا على سبيل الذم قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ 170 وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ. [البقرة: 170-171]
وقوله تعالى:
قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشُّعراء: 74].
بل وينبه القرآن إلى تبرؤ المتبعين من التابعين يوم القيامة فيقول:
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ 166 وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ. [البقرة: 166-167].
ولكن نتيجة لترك ما جاء به القرآن واتباع كتب التراث التي شكلت ديناً موازياً بل مصادماً لما نص عليه القرآن الكريم لهذا نجد أن الجماعات المتطرفة كلها مرجعيتيها سلفية تراثية، ترى الحل لمعاناة مجتمعاتنا في العودة إلى ذلك العصر. وهي تعتمد ركنين في أديباتها.
الأول: عدم الاجتهاد في فهم النص الشرعي والاكتفاء بفهم السلف.
على الرغم من أن القرآن أورد اتباع السلف وعدم التدبر والتفكر في سياق الذم، وكتب التراث تجاوزت ذلك ودعت إلى اتباع السلف.
ولكن لو أمعنا النظر في المقصود بمصطلح (السلف) لوجدنا أنه يذهب بنا إلى الاصطفاف القديم بين مدرستي (النقل والعقل) التي انتهت بمذبحة مدرسة (العقل) على يد (المتوكل العباسي)[1]، ومثال ذلك ما ورد عن قول أبي حاتم الرازي: (مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ومَن بعدهم بإحسان، والتمسك بمذهب أهل الأثر مثل أبي عبد الله أحمد بن حنبل) [شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة للالكائي (ج1/ص180)].
والثاني: عودة الخلافة وارتباطها بالدين
ومفاد هذا الأمر هو عدم جواز معارضة الحاكم لأن مخالفته مخالفة للدين، فالخليفة يحرس الشريعة في نظرهم التي يمثلها رجال الدين وهم من يقررون ما المخالف للدين وما الموافق له، ويجعل من وحدة الديار الإسلامية ضرورة دينية، والمتأمل في كتب التراث والمرويات يجد أن ما يطلق عليه (البيعة) للخليفة هي أمر متعلق بالإيمان وقد يدخل المسلم النار إن مات وليس في عنقه بيعة، فقد رُوي عن نافع قال: قال لي عبد الله بن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، رواه مسلم.
وهنا تبرز تساؤلات عن خطورة تشبع أجيال من المسلمين بهذه الأفكار الداعية إلى ربط الخلافة بالدين، وتخلو كتب التراث من الإشارة إلى موضوع التداول السلمي أو الديمقراطي للسلطة، وإن كان ذلك مبرراً في ذلك الزمان إلا أن استمرار الدعوة إليه وعدم مراجعة ما ترويه كتب التراث يدعو إلى نبذ ثقافة التداول السلمي للسلطة، وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه فيلطِعه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر». فالأمر بطاعة الإمام أمر بـإقامته، والأمر بقتال من ينازعه قرينة على الجزم في دوام إيجاده خليفة واحداً وربما لم يشذ عن وجوب وحدة الحاكم للمسلمين كافة، وعدم الاعتراف بتعدد الدولة الإسلامية إلا الشوكاني في كتابه نيل الأوطار.
المحور الثاني: المعارضة السياسية والفكرية في عهد السلف
الجعد بن درهم؛ كان مفكراً ومعارضاً سياسياً في زمن بني أمية، ظفر به والي الكوفة (خالد القسري) وفي يوم عيد الأضحى صعد القسري المنبر وختم خطبته بأن قال: يأيها الناس ضحوا فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، وتذكر كتب التاريخ[2]، أن أعلاماً من ذلك العصر فرحوا بذبح الجعد بن درهم فقد كان معارضاً فكرياً لهم، ولم يشفع له أنه كان معارضاً مدنياً، فلا مكان عند السلطة المتحالفة مع رجال الدين للخلاف[3].
وكان من الفرحين بمقتله ابن القيم إذ قال:
شكر الضحية كل صاحب سنة/لله درك من أخي قربان.
في قصيدته (الكافية الشافية)
هذه الحادثة المروعة التي لا تخلُو كتب التراث من الحديث عنها عادة، شكلت وما زالت رافداً مهماً في استمداد ممارسة القمع الفكري والتنكيل بالمخالفين من دون أي اعتبار للقيم الإنسانية، وخطورة هذه الحادثة من دون غيرها من الحوادث المروعة في التاريخ الإسلامي، أنها كانت بمباركة بعض رجال الدين وأيضاً كونها وقعت على معارض مدني.
وما تزال هذه الحادثة يعاد الحديث عنها على المنابر في سياق المدح. فهي تأتي في سياق نهج السلف في المحافظة على السلم الاجتماعي من مثيري الفتن والشغب، ولا شك في أن هذه الحادثة وغيرها تشكل صورة نمطية للقارئ حول المجتمع الإسلامي ترتكز على ركنين:
- طاعة القيادة السياسية وعدم معارضتها.
- طاعة رجال الدين وعدم مخالفتهم في فهمهم للدين.
وهناك حادثة اخرى تشير إلى تعامل السلطة السياسية مع المعارضة الداخلية، وهي قصة أبي ذر الغفاري مع الخليفة الثالث (عثمان بن عفان) ونفيه خارج المدينة، ويرى بعض المشككين في حادثة (النفي) أن هناك مرويات أصح تؤكد أن أبا ذر استأذن الخليفة في الخروج إلى الربذة[4]، وهذه الحادثة -سواءً كنا مع المرويات التي تؤكد النفي، أم التي تؤكد أنه اختار الخروج خارج العاصمة- تؤكد أنه لا مكان لأي صوت يعارض سلطة الحاكم في الدولة في الإسلام.
المحور الثالث: المشتركات بين الإسلام الوسطي والمتشدد
إن عدم وضوح حجم المسافة بين الإسلام الوسطي والمتشدد أحرجت كثيراً من المدافعين عن براءة تراثنا الإسلامي من التطرف والإرهاب، غير أن وجود منابر إعلامية للجماعات المتطرفة كداعش والقاعدة من قبلها واستخدامها في بيان استدلالهم على جواز أفعالهم الإرهابية بينت الحاجة إلى مراجعة هذا التراث ووضع إجابات مقنعة لجيل جديد من الشباب الباحث عن الحقيقة.
إن الجيل الذي نغرس فيه خير اتباع السلف وشر مخالفتهم، لهو جيل مهيأ للانضمام إلى أعتى الجماعات المتطرفة متى ما ثبت عنده قيامهم بمثل هذه الأفعال.
فغرس قداسة كتب التراث، وتقديس بعض الشخصيات، توسع من مساحة المشتركات بين الإسلام الوسطي والإسلام المتشدد، بل إن منابر الإسلام الوسطي تعد رافداً مهماً للإسلام المتشدد.
فالجماعات المتطرفة التي تبنت العمليات الانتحارية والمفخخات استمدت شرعية إجرامها من كتب التراث ومن هذه المبررات ما يعرف بجواز تبييت ذراري الكفار[5]، وهي تشترك مع الداعين إلى السلفية في قداسة أفعال السلف وقداسة كتب التراث.
والمعُتقد بقداسة كتب التراث ووجوب اتباع السلف تتشكل عنده صورة نمطية عن المجتمع الإسلامي القويم ترتكز على نبذ الحوار وتسميته بالجدال والفتن، والثاني عدم الاعتراف بالديمقراطية والانصياع التام للحاكم الذي يتولى قيادة المجتمع من دون معارضة من أحد، ولا شك في أن العالم قد هزته حادثة إحراق تنظيم داعش للطيار الأردني (الكساسبة)، والصدمة كادت تكون أكبر لو أدركوا أن داعش قد استمد شرعية فعلته من كتب التراث والمرويات، وعلى سبيل المثال سوف نأتي بما أورده ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري (6/150) وهذا النهي العام عن العقوبة بالتحريق بالنار استثنى منه جمهور أهل العلم التحريق بالنار على سبيل القصاص، والمعاقبة بالمثل؛ فمن حرَّق غيره، يجوز على هذا القول أن يعاقب بالحرق قصاصاً.
إن الذي يربي جيلاً على قداسة كتب التراث ولا يربيهم على إعمال العقل بالتدبر والتفكر، هو في حقيقته يقدمهم إلى التطرف بصورة غير مباشرة.
المحور الرابع: حالة العدائية وتعميق الإحساس بالمظلومية
يرتكز الخطاب الديني في أغلبه على تعميق حالة القهر لدى المتلقي عبر استعراض قصص من التآمر الأممي على الإسلام والمسلمين، والتآمر المستمر الذي لولاه لكان المسلمون الآن يقودون العالم.
ولا يؤمن الخطاب الديني بالتعايش السلمي ودولة المواطنة، فهو يعتبر كراهية الآخر المخالف من صميم العقيدة، بل يعتبر المواطنة ومشاركة الآخر مساساً بالدين وتورد كتب الحديث أن الرسول علي الصلاة والسلام قال: (لا تَبْدَؤوهُمْ بِالسَّلامِ، وَإذَا لَقيتُموهُمْ في الطَّرِيقِ، فاضْطَّروهُمْ إلى أضْيَقِ الطَّرِيقِ) رواه مسلم، على الرغم من أن القرآن أمرنا في حق أهل الكتاب:
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ. (الممتحنة 8).
ولكن هذا الخطاب الإقصائي يُنشَر في قنوات تلفزيونية حكومية تدعي حكوماتها محاربة الإرهاب والتطرف، وهو يعكس حالة التوهان وعدم الإحاطة بمعنى كلمة تطرف ولا روافد التطرف، فالملاحظ أن هناك اتجاهاً في منطقتنا العربية على اعتبار الإرهاب والتطرف هو ما كان موجهاً إلى أمن الدولة وعساكرها، أما تقسيم المجتمع إلى طبقات تراتبية على أساس ديني فهو أمر يكاد يكون غير مستهجن، بل التحريض على بعض مكونات المجتمع يجري عبر منابر وزارات الأوقاف علنياً. وهكذا يكون المتلقي للخطاب الديني مقتنعاً بأن النجاة في اتباع السلف، وأن كتب التراث مقدسة، وأن ما نعانيه من تخلف هو نتاج تآمر أممي علينا. وعندما يصل المتلقي إلى هذا الحد يكون قد تحول إلى متطرف ساكن يحتاج فقط إلى من يكتشفه ويأخذ بيده إلى ممارسة الإرهاب المادي.
المراجع:
[1] الطبري، تاريخ الأمم والملوك.
[2] الطبري، تاريخ الأمم والملوك، محمد بن جرير الطبري، دار الكتب العلمية بيروت.
[3] البيهقي، سنن البيهقي.
[4] ابن سعد، الطبقات الكبرى، ص 4 وما بعدها.
[5] راجع صحيح البخاري وصحيح مسلم وكتاب نيل الأوطار وغيرها من كتب التراث.
هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.