إعداد وحدة الدراسات الاستراتيجية
تناقش هذه الورقة، في سياق تحليلي، عسكري واستراتيجي، العلاقات الثنائية بين تركيا وروسيا، والتداعيات المتوقعة لهذه العلاقات، وتأثير ذلك على مجموعة من القضايا الدولية والإقليمية، بينها سورية والقوقاز وليبيا والقرم وأوكرانيا. وتشرع الورقة بمدخل تاريخي لفهم طبيعة العلاقات الثنائية التركية الروسية وحدودها، فضلاً عن النظر في العلاقات التي يحافظ عليها كلا البلدين إزاء القضايا الإقليمية الأخرى، ثم إبراز أهمية التنافس الاستراتيجي، وأهدافهما في كل قضية، والمحطات والأدوات والآليات التي اتبعتهما موسكو وأنقرة، من خلال منهجية وصفية تحليلية، تستشرف مستقبل العلاقات الثنائية في سياق تفاعلات هذا الصراع وموازين القوى الإقليمية والدولية الراهنة. وفق الخطوات التالية:
- أولاً، الصراع العسكري الروسي/ العثماني
- ثانيا: ما بعد تحطم الإمبراطوريتين ومحركات التنافس الجيوسياسي
- ثالثاً، العلاقات خلال الحرب الباردة وتأثيرها الجيوسياسي
- رابعاً، تركيا وروسيا الاتحادية، التقارب والتباعد
- خامساً، أردوغان وبوتين، هواجس التاريخ وقضايا الخلاف الجيوسياسي
- سادساً، أهم الخلافات الجيوسياسية في استراتيجية (أردوغان-بوتين)
- المسألة السورية واستراتيجية بوتين-أردوغان
- الصراع الأذري الأرميني على إقليم ” ناغورني قره باغ “
- القرم وشرق أوكرانيا صراع تاريخي متجدد:
- بوتين واستراتيجيات الانقضاض على القرم
- أردوغان والاصطفاف خلف الموقف الغربي
- التدخل الروسي التركي في الحرب الليبية
مقدمة
سيطرت على العلاقات الثنائية بين تركيا وروسيا مظاهر العداء والتوتر، ولم تزل منذ تأسيس ” القيصرية الروسية” و”السلطنة العثمانية”، فطوال أكثر من 400 عام خلال نشأة الدولة العثمانية في تركيا؛ لم تهدأ الحروب سواء العسكرية أم السياسية بينها وبين روسيا المنافسة لها على منطقة آسيا الصغرى، وشرق أوروبا، إذ بدأ تاريخ العلاقات بينهما في العام 1492، حين كان لإمارة موسكو والسلطنة العثمانية أول اتصال دبلوماسي على مستوى السفراء. ليدخل الطرفان بعدها في صراعات وحروب أسست لعلاقات قائمة على الشك وعدم الثقة لا التعاون والصداقة. ما يجب أن يشار إليه؛ لفهم ما يدور اليوم من علاقات بينهما، هو انعكاس للهزائم التي منيت بها “السلطنة العثمانية” خلال (13) حرباً ضخمة. خلقت ضغائن وثارات وجروحاً عميقة متبادلة، ولّدت خطاباً سلبياً يشير إلى صراعات مستمرة لأجل الهيمنة والنفوذ بين “السلطنة والقيصرية”. ارتكزت على حالة من “العداء” تشكلت من خلالها المنافسة التي كانت ضد المصالح التركية بشكل عام.
يلاحظ متتبع أحداث تاريخ العلاقات بين البلدين أن روسيا كما تركيا دولة حديثة المنشأ، أسسها مايكل رومانوف (1596-1645)، وهو أول من حمل لقب “قيصر”، تيمناً بلقب الحاكم البيزنطي الذي تداعت دولته بعد “فتح” القسطنطينية على يد العثمانيين، استمرت سلالة رومانوف في الحكم حتى الثورة الشيوعية في 1917، ولكن المطور الحقيقي لهذه السلالة كان بيتر الكبير (حكم 1672–1725) الذي عمل على بناء روسيا وفق النمط الأوربي، وأهم أعماله تأسيس مدينة سان بطرسبورغ واتخذها عاصمة لدولته، وباتت روسيا في عهده نواة الإمبراطورية التوسعية في سيبيريا والباسيفيك ونحو وسط آسيا والقوقاز والبحر الأسود.
في هذه الفترة المبكرة من تنامي القوة الروسية خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر لم يول رجال الدولة العثمانيون اهتماماً كثيراً لروسيا، ونتيجة لذلك، لم يتمكنوا من الحصول على ما يكفي من معلومات عنها في الوقت الذي بدأت الأمور تتغير في القرن السابع عشر عندما نزل الروس إلى البحر الأسود وسيطروا على أجزاء واسعة من منطقة القوقاز.
وكما العثمانيون الأتراك يعرِّفون روسيا على أنّها قوة توسعية تعمل للهيمنة على مساحة واسعة من البحر الأسود إلى القوقاز، ومن البلقان إلى شرق أوروبا وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط في محاولة “للوصول إلى المياه الدافئة”. فإن الروس يرون في “السلطنة العثمانية” دولة توسعية مستبدة، ولابد بحسب الخطاب الروسي من “إنقاذ” القسطنطينية” والسيطرة على المضائق وتحرير منطقة واسعة تعدُّها روسيا مجال توسعها الطبيعي.
يحرك هذا العداء وقود ثأري وديني، يتقاسمه الطرفان باجترار مشهده التفاعلي، ومواجعه الملتهبة من صراعات خمسة قرون، في إطار “القيصرية والسلطنة”، ونتيجة للتقلبات السياسية الكبيرة التي تحكمت بالعلاقة بين الدولتين فإن سياسة تركيا المضطربة مع دول الأطلسي جعل الأمن الإقليمي، وملَفَيْ الطاقة والتجارة في جدول أعمال روسيا. التي ترى في تركيا قوة دافعة لتحقيق التوازن مع أوربا.
وتركيا التي توشك على إتمام السبعين عاماً من الاتفاق مع أمريكا؛ وتعدُّ جزءاً لا يتجزأ من المظلة الأمنية للعالم الأوربي الأطلسي. كان حلفاؤها ينظرون إليها على أنها دولة محورية في حلف “الناتو”. وبسبب اختلاف وجهات النظر الكبيرة في حل المشاكل الإقليمية بين تركيا وأمريكا والاتحاد الأوروبي، وخصوصاً قضايا حوض البحر الأسود والعراق وسورية والبحر الأبيض المتوسط، وبسبب سياسة تركيا الخارجية، واستقلالها باتخاذ القرارات في هذه القضايا جعلها وجهاً لوجه مع روسيا، إلا أن التوازنات الإقليمية غير المستقرة جعلت العلاقة الثنائية تأخذ منحى غير مستقر وخصوصاً في الثلاثين سنة الأخيرة. ونتيجة اختلاف وجهات نظر الطرفين في القضايا الإقليمية، يؤججها التنافس التاريخي بينهما، ما أضعف ثقتهما ببعض، وبالتالي ولّد عجزاً في اتخاذ قرار مشترك لمواجهة المشاكل على المستوى الإقليمي والدولي.
أولاً، الصراع العسكري الروسي/العثماني
اتسمت العلاقات التركية – الروسية منذ القرن السادس عشـر، وحتـى الحرب العالمية الأولى بطابع العداء والتوتر، نظراً لطموحـات القياصـرة الروس في التوسع جنوباً للوصول إلى المياه الدافئة حيث جعلت الدولة العثمانية من البحر الأسود بحيرة عثمانية، وعلى أثر ذلك حاول القياصرة الروس الخروج عن سياسة العزلة التقليدية، والتوسـع غربـاً للسيطرة على بحر البلطيق وجنوباً علـى البحـر الأسـود ومضيقي البوسفور والدردنيل، ومن ثم الوصول الى المياه الدافئة، فنشبت بين الدولتين سلسلة من الحروب الكبرى، يمكن إجمالها بالآتي:
الحرب الأولى (1568-1570)
كانت محاولة عثمانية للسيطرة على أستراخان على نهر الفولجا وانتصرت فيها روسيا وهزمت فيها الدولة العثمانية. وكان هدف الأخيرة، الحفاظ على الهيمنة على البحر الأسود الذي بات بحيرة عثمانية(1) وأيضاً على دول الشمال كخانية القرم ذات الموقع الاستراتيجي التي كانت تحت الحماية العثمانية.(2)
الحرب الثانية (1571-1574)
في هذه الحرب استطاع الجيش العثماني، وجيش القرم عام 1571 هزيمة الروس هزيمة منكرة، ودمر جيش تتار القرم، الموالي للعثمانيين الأراضي الجنوبية الغربية لروسيا، ووصل إلى موسكو، وأحرق قرى العاصمة. وأقرت بعدها ضريبة على روسيا تدفعها للقرم، وكرر دولت كراي حاكم القرم حملته على روسيا لكنه هزم في موقعة مولودي 1572. أضعفت هذه الهزيمة خانية القرم وسمحت لروسيا بالتوسع في اتجاه الجنوب الشرقي .(3)
الحرب الثالثة (1676 – 1681)
في القرن السابع عشر، دخل القوزاق الذين كانوا يعدُّون رعايا روسيين، في اشتباكات مستمرة مع الأتراك والتتار(4) كانت بسبب الصراع بين القوتين على أوكرانيا واستطاع السلطان محمد الرابع الاستيلاء على قلعة جهرين بأوكرانيا وكرر حملته مرة أخرى لتنتهي باتفاقية “باهشة سراي” الموقعة في 3 يناير 1681، وكانت الاتفاقية الرسمية الأولى بين الدولة العثمانية وروسيا. ووفقاً للاتفاقية قسمت أوكرانيا بين الروس والعثمانيين، وأقيم سلام مدة 20 عاماً بين الطرفين. وكان من المقرر اعتبار نهر دنيبر على أنه الحدود بين “روسيا وتركيا”، وانتهت هذه الحرب بغلبة العثمانيين.(5)
الحرب الرابعة (1686-1700)
شنت روسيا الحرب بالاشتراك مع النمسا وبولندا وليتوانيا والبندقية وهزمت في حملاتها على القرم 1687 -1689 وأطلقت روسيا حملات آزوف في 1695-1696(6)، ونجحت في تلك الحملات. ولاستعدادها لحرب الإمبراطورية السويدية وقعت مع الدولة العثمانية معاهدة “فارلوجة” وانتهت الحرب. لكن قيصر روسيا بطرس الأول استطاع بفضل القوة العسكرية الهائلة التي حشدها السيطرة على حصن آزوف المطل على نهر الدون خلال عامي 1695 و1696(7).
لم تتمكن روسيا القيصرية في ذلك الوقت من تحقيق أهدافها نتيجة الردع الذي كانت تواجهه من العثمانيين الذين استمروا في التوغل شرق أوروبا ووسطها، لكن طول أمد الحرب، وتحقيق الروس عدد من الانتصارات على الدولة العثمانية، أثار كلاً من انكلترا وهولندا اللتين تخوفتا على مصالحهما التجارية والملاحية في البحر الأسود, فتدخل كل من اللورد باجت Paget السفير الانكليزي في اسطنبول وكوليرColler السفير الهولندي بوساطة بين الأطراف المتحاربة وتمخض عنها التوقيع على هدنة بين العثمانيين والروس في الرابع والعشرين من كانون الثاني 1699 أمدُها سنتان ثم أعقب ذلك التوقيع على معاهدة كارلو فتز Karl Ovitz في 26 كانون الثاني 1699، التي تنازلت فيها الدولة العثمانية عن بعض مقاطعاتها الأوروبية للنمساويين والبنادقة مقابل تحييد هؤلاء في الصراع العثماني الروسي, وحصلت روسيا بموجب كل تلك الترتيبات الدبلوماسية على مدينة آزوف والمناطق المحيطة بها(8).
الحرب الخامسة 1710 -1711
كانت بسبب دخول الروس الأراضي العثمانية أثناء مطاردتهم للملك شارل الثاني عشر ملك السويد بعد هزيمته، وهذه مجرد ذريعة لاستعادة الأراضي التي ربحها الروس في معاهدة فارلوجه وانتهت الحرب بمعاهدة فلكزن بالسماح للملك الروسي وجيشه المحاصر بالعودة مقابل تركه الأراضي التي ربحها من معاهدة فارلوجه.
في عام 1711 نجحت تركيا في إرغام القيصر على إعادة منطقة آزوف إلى تركيا بعد أن أخفق قيصر روسيا في مساعيه لإنهاء السيطرة التركية على منطقة البلقان بعد خسارته المعركة الكبيرة على ضفاف نهر بروت الذي يفصل حالياً بين مولدافيا ورومانيا عام 1710(9). حصلت الدولة العثمانية بموجب معاهدة بروث التي وقعت في 21 تموز 1711 على حق استعادة آزوف والمنطقة المحيطة بها مع تدمير جميع القلاع الروسية التي أنشئت فيها، وتنازلت روسيا عن حقها في دخول سفنها إلى ذلك البحر.(10)
الحرب السادسة 1735 – 1739
وفي عام 1735 تحالفت الإمبراطوريتان الروسية والنمساوية واندلعت حرب بين الحليفين من طرف وتركيا من طرف آخر ونجحت روسيا في السيطرة على مولدافيا التي كانت واقعة تحت السيطرة التركية.(11) وقد شنت روسيا هذه الحرب بسبب تكرر هجمات القرم على القوزاق في أوكرانيا ودخل الروس القرم 1736 لكنهم اضطروا للانسحاب بسبب نقص الإمدادات وفي عام 1737 اشتركت النمسا في الحرب ضد الدولة العثمانية، وانتهت الحرب بمعاهدة بلغراد في 18أيلول 1739(12) التي تنازلت فيها كلا الدولتين روسيا والنمسا عن كل مكاسبهما الإقليمية على الأراضي العثمانية، وألا تقوم روسيا مجدداً ببناء السفن الحربية في بحر آزوف.(13)
الحرب السابعة 1768-1774
سببها اجتياح روسيا لبولندا والانتصار فيها وتحطيم الأسطول العثماني بالكامل في ميناء جشمه في أزمير 1770 والاستيلاء على القرم بالكامل وفصلها عن الدولة العثمانية التي اضطرت لتوقيع هدنة مع الروس 1772(14).
وبرزت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الإمبراطورة كاثرين التي تصدر عهدها احتدام الصراع الروسي العثماني، في 1768، وبدافع ديني تبنى الروس الحماية للأرثوذكس العثمانيين في الشام والأناضول والبلقان لأسباب متداخلة ومتباينة الغايات، لكون الإمبراطورية الروسية تسعى للوصول إلى المياه الدافئة وتحاول السيطرة على إسطنبول والمضايق العثمانية، وفي عام 1768 طلب السلطان العثماني من إمبراطورة روسيا كاترين الثانية الكف عن التدخل في الشؤون الداخلية لبولونيا، فخاض البلدان حرباً استمرت ست سنوات ما بين 1768 و1774 حققت فيها روسيا انتصارات كبيرة واستولت على شبه جزيرة القرم نهائياً وبحر آزوف ومنطقة بيسارابيا. لتفرض على العثمانيين في نهاية الحرب في 1777 التوقيع على معاهدة كوجك كينارجي Kutchuk Kainarge في 10/تموز1774(15). نسبة إلى بلدة صغيرة تقع حالياً في بلغاريا عام 1774. ومن أبرز بنود المعاهدة إقرار تركيا باستقلال القرم عن تركيا ووصول حدود الإمبراطورية الروسية إلى نهر بو في أوكرانيا حالياً. لكن أهم مكسب لروسيا كان الإقرار بحقها في الاحتفاظ بأسطول بحري دائم في البحر الأسود. والسماح لها بالمرور التجاري الحر عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، وحماية الكنيسة الأرثوذكسية في المشرق ومدينة القدس(16).
ويتجلى لمتتبع أحداث تلك الحقبة أن اتفاقية كوتشك كينارجه تجتر المشهد التفاعلي داخلها من مواجع عشر سنوات من الحرب الملتهبة التي أفضت في بعدها الديني إلى الوصاية الروسية الأرثوذكسية على مسيحيي بلاد الشام والمشرق وإرساء وجودها في المياه الدافئة. وأصبحت روسيا في موقع أقوى بكثير من السابق، بينما كانت السلطنة العثمانية تواجه الكثير من النكسات والتراجعات في أكثر من جبهة. أعلنت الإمبراطورة الروسية كاثرين عن ضم منطقة القرم إلى روسيا نهائياً.
الحرب الثامنة 1787 -1792
اندلعت الحرب بين الطرفين عام 1787 وقفت فيها الإمبراطورية النمساوية إلى جانب روسيا. فتمكنت القوات الروسية بقيادة الجنرال سوفوروف من السيطرة على نهري دنيستر والدانوب وأرغمت انتصاراته اللاحقة تركيا على إبرام معاهدة ياسي في 9 كانون الثاني 1792التي حققت فيها روسيا مكاسب جديدة على حساب الدولة العثمانية، إذ تم الاتفاق على ضم منطقة القرم وبسارابيا وكوبان والأقاليم الواقعة بين نهري بوج والدنيستر لروسيا، وعلى أن يكون النهر الأخير حداً فاصلاً بين البلدين، وتنازلت بموجبها السلطنة العثمانية عن كل الساحل الغربي لأوكرانيا على البحر الأسود(17). طوت معاهدة ياسي معها آخر حلقة من حلقات الصراع الروسي/العثماني حول البحر الأسود في القرن الثامن عشر، ذلك الصراع الذي بدأ مع إطلالة ذلك القرن بقوة وهيمنة عثمانية مطلقة على ذلك البحر، ووصل مع نهاية القرن المذكور إلى حالة عكسية تماماً بضعف عثماني وهيمنة روسية مطلقة على البحر الأسود, فانفتحت الأبواب على مصاريعها للتدخل الروسي المستمر في الشأن الداخلي العثماني الأمر الذي شكل ذريعة مستمرة لسلسلة دامية من الحروب التي شهدها الطرفان طوال القرن التاسع عشر وحتى سقوط الدولة العثمانية في الثلث الأول من القرن العشرين(18).
الحرب التاسعة 1806 – 1812
في عام 1811، وبينما كانت روسيا تتأهب لحرب طاحنة ضد قوات نابليون، شن الجنرال الروسي الأشهر كوتوزوف هجوما خاطفاً على الجبهة التركية ونجح خلال عامي 1811 و1812 في إلحاق هزيمة ساحقة بالجيش التركي وأرغم السلطنة العثمانية على إبرام معاهدة بوخاريست عام 1812 تنازلت بموجبها تركيا عن منطقة بيساربيا برمتها لروسيا(19).
وبعد أن ضمنت روسيا سيطرتها على كل الساحل الشمالي للبحر الأسود كان هدف حروبها اللاحقة يتمثل في تعزيز نفوذها في منطقة البلقان والحد من نفوذ تركيا والسيطرة على مضيق الدردنيل والبوسفور والتوسع في منطقة البلقان.(20)
الحرب العاشرة 1828 – 1829
قامت بسبب سخط العثمانيين على الروس لمشاركتهم في موقعة نافارين(21) البحرية التي دمر فيها الأسطول العثماني والجزائري والمصري وانتهت باتفاقية سلام 1829. وخلال الحرب بين الطرفين في عامي 1828 و1829 سيطرت روسيا على بلغاريا والقفقاس ووصلت إلى شمالي غربي منطقة الأناضول التركية فسارعت تركيا إلى طلب إبرام معاهدة سلام فتوصلا إلى معاهدة أدرنة عام 1829(22) وضمنت روسيا بموجبها السيطرة على الساحل الغربي أيضا من البحر الأسود كما اعترفت تركيا بالسيادة الروسية على جورجيا وجزء من أرمينيا الحالية.(23)
الحرب الحادية عشرة 1853 -1856
بعد أن أصبحت روسيا الأرثوذكسية قوة أوروبية تنافس الدول الكبرى في أوروبا أرادت أن تصبح هي الأخرى حامية الأرثوذكس، وهذا ما تحقق لها بعد هزيمة الدولة العثمانية أمامها في الحرب السابعة 1768-1774، وبموجبها عقدت معاهدة كجك كينارجة عام 1774. تحول التنافس الروسي/الفرنسي عام 1850 إلى نزاع بين رجال الدين الكاثوليك ورجال الدين الأرثوذكس في فلسطين حول إدارة الأماكن المقدسة وحق حمايتها، فكانت كل جهة تدعي حقها في الحماية(24). لكن الأسباب الحقيقية للحرب تجلت في توطيد أركان حكم نابليون في فرنسا، لاسيما بعد نجاح انقلابه وإعلان إمبراطوريته عام 1852 ومحاولته زج الشعب بصراعات خارجية وظهوره محامياً عن الكاثوليك وبذلك حصل على دعم رجال الدين الكاثوليك في فرنسا الأمر الذي سهل له حكم فرنسا بحرية مطلقة وبدعم من رجال الدين.(25)
أما الجانب الروسي فقد رأى القيصر نيقولا الأول في النزاع بشأن الأماكن المقدسة حجة ملائمة ومقبولة لتأمين نفوذ روسيا وتوسعه في الدولة العثمانية باتخاذ الأرثوذكس وسيلة لتحقيق هذا الهدف(26). وفي تلك الحرب التي تسمى حرب القرم شاركت فيها الدولة العثمانية بتحالف مع فرنسا وبريطانيا وسردينيا ضد روسيا التي دخلت الحرب كحامية للأرثوذكس الواقعين تحت الحكم العثماني، وهُزمت روسيا، وتحطم أسطولها، وفقدت سيطرتها على البحر الأسود وسوِّيت حقوق الأرثوذكس وانتهت الحرب باتفاقية سلام في باريس 1856(27). وبعدها باثنين وعشرين عاماً اندلعت حرب القرم الثانية آخر الحروب بين روسيا والسلطنة العثمانية، وأهمها على الإطلاق، وانتهت بهزيمة مدوية للأخيرة. وكان الهدف استقلال دول البلقان عن الدولة العثمانية بمساعدة الروس الذين كانوا راغبين في استرداد ما فقدوه في حرب القرم، وإعادة نفوذهم إلى البحر الأسود.. وأدت الحرب إلى استقلال بلغاريا وتقدم كبير للصرب(28).
الحرب الثانية عشرة (الحرب المقدسة) 1877 -1878
أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية في 24 أبريل/نيسان عام 1877 وقفت روسيا وحليفتها صربيا إلى جانب المحتجين على السلطنة العثمانية في البوسنة والهرسك وبلغاريا فهاجم الروس بلغاريا ووصلت قواتهم إلى مدينة أدرينابول (أدرنة) الواقعة حالياً على الحدود بين اليونان وبلغاريا وتركيا، وفي العام 1878 وكالعادة أبرمت تركيا معاهدة جديدة من موقع المهزوم والضعيف، وعرفت بمعاهدة سان ستيفانو(29). وبموجب المعاهدة الجديدة تنازلت تركيا عن رومانيا وصربيا والجبل الأسود لتستقل هذه الدول، بينما حصلت البوسنة والهرسك على الحكم الذاتي. كما حصلت بلغاريا على الحكم الذاتي وتمتعت بالحماية الروسية. وهي معاهدة فرضتها روسيا على الحكومة العثمانية بتاريخ 3 آذار/مارس 1878 في قرية سان ستيفانو (يسيلكوي حالياً) بالقرب من إسطنبول، وبذلك وضع حد للحرب الروسية-العثمانية التي بدأت في نيسان/أبريل 1878. وكانت روسيا بواسطتها ترمي إلى إنهاء أي حكم فعلي للدولة العثمانية في البلقان.
ولم تقبل إنجلترا والنمسا بمعاهدة سان ستيفانو لأنها لا تخدم مصالحهما بل تخدم روسيا لأنها منحتها نفوذاً واسعاً في البلقان، وكذلك تمكنت من التغلغل داخل الدولة العثمانية بالإضافة إلى سيطرتها على مناطق مهمة في آسيا وأوروبا فخشيت إنجلترا والنمسا، وصول الروس إلى المياه الدافئة فتدخلت ألمانيا إذ دعا المستشار الألماني بسمارك الدول العظمى إلى مراجعة معاهدة سان ستيفانو وعقد مؤتمر آخر في برلين وعُقِد المؤتمر بزعامة بسمارك في 13 حزيران 1878(30).
لم تشارك روسيا مباشرة في حرب البلقان الثانية 1912-1913، ولكنها لعبت دوراً غير مباشر في تشجيع بلغاريا وصربيا واليونان ومونتينغرو على التحالف، وبذلت كل الجهد لمحاولة وضع نوع من التوازن بين المتحالفين، وانتهت الحرب بخسارة الدولة العثمانية معظم ما تبقى من ممتلكاتها في أوروبا.(31)
الحرب الثالثة عشرة 1914 -1918
تُعرف بـ “الحرب العالمية الأولى” كان هدف الروس فيها السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل وسواحل البحر الأسود وكان هدف العثمانيين من دخول الحرب العالمية الأولى في الأساس هو استعادة الأراضي التي فقدوها في حرب 1877-1878 وفي حرب البلقان 1912-1913 التي ساعد فيها الروس الصرب على الاستقلال عن الدولة العثمانية.. دخلت الدولة العثمانية الحرب مع ألمانيا، وكانت على دراية بنيَّة دول التحالف وروسيا بتقسيم أراضيها فيما بينها، وكانت روسيا ستسيطر على إسطنبول ومضائقها كما ستسيطر فرنسا وبريطانيا على بقية الدولة. لكنّ روسيا خرجت من الحرب بسبب قيام الثورة البلشفية عام 1917 التي اتخذت موقفاً من الحرب ضد العثمانيين، وبعد الحرب العالمية انتهت الإمبراطورية الروسية، وكذلك الدولة العثمانية، وولد من كلٍ منهما: الاتحاد السوفييتي والجمهورية التركية الحديثة(32).
ثانياً: تحطم الإمبراطوريتين ومحركات التنافس الجيوسياسي
مع الدخول إلى القرن العشرين ظلت أثقال الصراع بين (روسيا وتركيا) راسخة في ذاكرة الأنظمة المتتابعة، وكذلك في الوجدان الشعبي، حيث يثير الوجود العسكري الروسي في الفضاء الجغرافي التركي، ذكريات مؤلمة تجرَّعت فيها تركيا مرارة التمدد الروسي في البحر الأسود والبلقان وجزيرة القرم، والشرق الأوسط. وقد دفع هذا التمدد لأن تنظر أنقرة إلى ما يجري بالقرب من حدودها بوصفه تهديداً تقليديّاً لأمنها القومي، لم يخفف وطأته التقارب مع موسكو بدءاً من العام 1920، فسعت لوضع نفسها تحت المظلة الأمريكية الأوربية للضغط على روسيا في قضايا كثيرة، أقلها إعادة النظر في عملية ترسيم الحدود المعقَّدة مع أرمينيا واليونان وسورية، التي تحيط بتركيا جغرافيًّا، وكانت تخضع للسيادة التركية، وحملها على وقف مطالباتها بالمضائق البحرية.
وفي مقاربة جيوسياسية للعلاقات الثنائية بينهما إثر تحطم القيصرية الروسية ونظيرتها العثمانية التركية. وبدايات قيام الجمهورية التركية، وفي الطرف الآخر انتهاء الحكم القيصري على يد البلاشفة أخذت العلاقات تتحسن تدريجياً، ووقّع البلدان معاهدة موسكو أو “معاهدة الأخوة” وهي معاهدة صداقة وقعت بين الجمعية الوطنية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، وروسيا البلشفية بقيادة فلاديمير لينين في 16 مارس/آذار 1921(33) ثم تلتها معاهدة “الصداقة والحياد” عام 1925(34) التي تعدُّ بداية العلاقات الثنائية المبكرة بين الدولتين الناشئين فكانت الأوليَّات الرئيسة تتمحور حول ضمان سلامة الأراضي، وإقامة علاقات سليمة، ومستقرة على صعيدي السياسة والاقتصاد، ورغبة الطرفين في الامتناع عن التسبب في مشاكل لكل طرف.
في الوقت الذي كانت لتركيا مشاكل في علاقاتها مع بريطانيا بشأن الموصل، ومع إيطاليا حول أمن البحر الأبيض المتوسط وجزر بحر إيجة، ومع فرنسا حول الخلافات الحدودية مع سورية، وعلى الأخص إقليم لواء اسكندرون “هاتاي”. لذلك، كانت المعاهدة المذكورة ذات مغزى مهم لجمهورية تركيا الفتية لجهة أنها تمثل الخطوة الأولى لبناء توازن في العلاقات الدولية حينذاك.
و”تجدر الإشارة إلى أن الحكومة السوفييتية استهدفت من وراء ذلك كله منع تحول المشاعر التركية باتجاه الغرب، ولكن ذلك لم يمنع تركيا مـن إعـادة النظر في علاقاتها مع الدول الغربية بخاصة بريطانيا، نظراً للشكوك التـي كانت تساورها بشأن استمرار المطامع السـوفيتية فـي المضـائق التركيـة وإستانبول من جهة، وكذلك القلق التركي المتزايد من الدعاية الشيوعية التي كانت تقوم بها مكاتب التجارة السوفيتية داخل الأراضي التركية مـن جهـة أخرى، وأبرز دليل على تقارب تركيا مع الغـرب هـو قبولهـا فـي 8 حزيران/يونيو 1932 عضواً في عصبة الأمم، رغم المحاولات السوفيتية إقناع تركيا بعدم الإقدام على تلك الخطوة”(35).
وعلى ضوء هذا التقارب بـين الـدولتين قـام وفـد سـوفيتي برئاسـة فوروشيلوف Voroshilov (وزير الدفاع السوفييتي) آنذاك بزيارة إلى تركيا في 29 تشرين الأول 1933 للمشاركة في الاحتفالات هناك بمناسبة مرور الذكرى العاشرة لإعلان الدولة التركية وفي غضون ذلك تطرّق إلى العلاقات التي تربط الـدولتين (تركيـا والاتحاد السوفيتي) والمستوى الذي وصلته، وما قاله بهذا الصـدد “يطلـق على صداقة شعبينا بالصداقة المجربة، وهذا يبدو لي أنهـا الكلمـة الأكثـر ملاءمة، وبدأت هذه الصداقة في سنوات كان فيها بلدانا يواجهـان تجـارب تاريخية كبرى، جربت واختبرت تلك الصداقة في سنوات النضال المسـلح، في سنوات إعادة البناء السلمي الذي أعقبها. وفي جهود شعبينا وحكومتينا لأجل حماية السلام من كل المخاطر التي تهدده، إنها صـداقة لا تخشـى الاختبارات” واستطرد قائلاُ: “إن الشراكة العميقة في المصالح تواصـلت عبر سنوات البناء الذي اكتنفته العواصف، وعندما وجهنا جهودنا لتقويـة وتطوير بلدينا انعكس ذلك في العلاقات الاقتصادية والسياسية بـين شـعبي الاتحاد السوفيتي وتركيا.(36)
غير أن “إرث” العداء ظل أحد ملامح عدم الثقة المتبادلة بين الجمهورية التركية وجمهوريات الاتحاد السوفييتي، فانعكس سلباً على العلاقات السياسية الثنائية، حيث تفاقمت الخلافات عندما طالبت روسيا السوفييتية بمراجعة وضع المضائق ونشر القوات العسكرية السوفييتية في المنطقة على أساس أن اتفاقية مونترو عفا عليها الزمن. تلك الاتفاقية دخلت حيز التنفيذ يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1936، وهي تنظم حركة المرور عبر مضايق البحر الأسود للسفن التجارية في أوقات السلم والحرب. وتتضمن 29 بنداً وأربعة ملحقات وبروتوكول.(37)
وبناء على التهديد الروسي في أربعينيات القرن الماضي عززت تركيا علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وكان الهدف الرئيس لأنقرة في تلك الفترة أن تصبح عضواً لا ينفصل عن العالم الغربي، واتخذ الصراع بعداً أيديولوجيا، اقترن مع مناهضة الشيوعية، فخضعت تركيا لسلسلة من التغييرات في هيكلها السياسي الداخلي، بما يتماشى مع خيارات سياستها الخارجية بدءاً من مايو 1950، عندما وصل الحزب الديمقراطي إلى حكم البلاد. حيث انتقلـت تركيـا الحديثـة مـن الحـزب الواحـد الـذي أسسـه أول رئيـس تركـي، مصطفـى كمـال أتاتـورك، إلـى التعدديـة السياسـية بعـد عـام 1945، إذ جرت أول انتخابـات برلمانيـة تركيـة يخوضهـا أكثـر مـن حـزب، مـع ظهـور الحـزب الديمقراطـي عـام 1946، لتصبـح دولـة متعـددة الأحزاب، مـع بدايـات عـام 1950 ولتشـمل القائمـة 25 حزبـا.(38)
هذه السلسلة من التغييرات والتحولات أدت إلى التقارب مع الولايات المتحدة والتحالفات العسكرية الأوروبية الأطلسية.
ثالثاً: العلاقات خلال الحرب الباردة وتأثيرها الجيوسياسي
أكسبت الأهمية الجيوستراتيجية تركيا تأثيرًا جيوسياسياً طوال تاريخها السياسي والعسكري، وانعكس ذلك على علاقاتها مع روسيا سلباً، علاوة على تأثير ذلك في المستويين الإقليمي والدولي، ومن ذلك ما شهدته الفترة من 1945 إلى 1952 من تدهور شديد في العلاقات بين البلدين. بعد خروج روسيا منتصرة من الحرب العالمية الثانية وبروزها على الساحة كقوة عظمى تعد جارة لتركيا وتهدد استقرارها.
وقامت روسيا بإلغاء “معاهدة الصداقة والحياد” مع تركيا وطالبتها بإعادة منطقتي قارص وأردهان شمال شرقي تركيا، كانت قد تخلت عنهما بموجب الاتفاقية المذكورة. كما طالبت روسيا بالحصول على قواعد عسكرية بمنطقة المضائق.(39)
وتعمَّق التباعد مع انضمام تركيا إلى الحلف الأطلسي “الناتو” في 1952، الذي كان بمثابة تخندق في المعسكر المقابل للسوفييت الذين كانوا يقودون حلف وارسو، في إطار الحرب الباردة. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي تباينت المواقف التركية والروسية بشأن قضايا إقليمية كثيرة على غرار مسألة إقليم ناغورني كاراباخ والمسألة الجورجية والتقارب الروسي- الإيراني المثير لقلق أنقرة.(40)
أتاح وقوع تركيا على قطاع جغرافي واسع على سواحل البحار والمضائق المتميزة (البوسفور والدردنيل)، التحكم في معادلات التوازن الجيوستراتيجي والجيوسياسي، بين القوى الدولية والإقليمية المتنافسة في منطقتي الشرق الأوسط والقوقاز، عسكرياً، واقتصادياً، وتجارياً، وسياسياً، ولا سيما في ظل اشتداد التنافس الدولي والإقليمي أثناء “الحرب الباردة. التي تمثل امتداداً طبيعياً لتنافس تاريخي بين روسيا وتركيا ساد لفترة أربعة قرون، للوصول إلى المياه الدافئة، وبالتالي السيطرة على ثروات الشرق ومصادرها.
رابعاً: تركيا وروسيا الاتحادية، التقارب والتباعد
عقب تفكك الاتحاد السوفيتي سارعت تركيا للاعتراف بروسيا الاتحادية؛ وأجرت العديد من الزيارات الرسمية المتبادلة على مستوى الوزراء؛ توجت بزيارة لرئيس الوزراء آنذاك سليمان دميرال إلى موسكو وقّع خلالها مع الرئيس الروسي بوريس يلتسن معاهدة “مبادئ العلاقات بين الجمهورية التركية والاتحاد الروسي” عام 1992. وكانت تلك المعاهدة بمثابة فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين .(41)
بالنظر إلى جملة التوترات بين الأتراك والروس الناجمة عن خلافات الطرفين في أواخر تسعينيات القرن العشرين، تبرز مشكلة إقليم “ناغورني كاراباخ”، ذلك الجيب الجبلي الواقع داخل جمهورية أذربيجان ليبدو أن الصراع الذي يمتد عمره لأكثر من ثلاثين عاماً قد يكون بؤرة جديدة للصراع الإقليمي، إذ تدعم روسيا أرمينيا وتُغذّي الطرفين بالأسلحة، في حين تدعم تركيا أذربيجان، رغم أزمتها التاريخية مع أرمينيا المتعلقة بمذابح الأرمن عام 1915 فيما تحرص الدول الغربية التي تُعنى في المقام الأول بحقول النفط والغاز الأذربيجانية في بحر قزوين على حل النزاع عبر عملية المفاوضات الممتدة منذ عقود في إطار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.(42).
وفي بداية القرن الحادي والعشرين شهدت العلاقات بين الطرفين تقارباً تاريخياً، لعب البعد الاقتصادي دوراً حيوياً، في تخفيف حدة التوترات فيما بينهما، من خلال التعاون الثنائي في مجال الطاقة وتكنولوجيا الفضاء والتبادلات التجارية.(43)
وقد نجحت تركيا وروسيا في فصل روابطهما التجارية ومجالات الصراع بينهما عن العلاقات الثنائية منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وحققتا تقدماً كبيراً في نواح كثيرة. في بداية الحرب الأهلية في سورية وبخاصة ما أدّت إليه حادثة الطائرة التي سببت ضرراً في العلاقة، وكان يمكن أن تكون مسوِّغاً لتضارب المصالح، ولكن بتعاون الدولتين في حل الأزمة أُعِيدت العلاقات مرة أخرى؛ لإنتاج مستوى أكبر من التعاون. ويتوقف استمرار مجالات التعاون في الأعمال التجارية التي تتميز بها العلاقات بين تركيا وروسيا لكلا الجانبين على الإدارة المنسقة لهذه العلاقات من جانب صانعي القرار مع مراعاة المخاطر المحتملة.(44)
خامساً: أردوغان وبوتين، هواجس التاريخ وقضايا الخلاف الجيوسياسي
بعد وصول فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم في روسيا قبل 20 عاماً من اليوم، ووصول رجب طيب أردوغان إلى ابلحكم في بلاده عام 2003، تزامن انطلاق مشروع الرئيس الروسي بوتين عام 2000 لاستعادة قوة روسيا الاقتصادية ونفوذها الخارجي، مع مشروع حزب العدالة والتنمية عام 2002 لإحياء المكانة الإقليمية والدولية لتركيا.
من هذا المنطلق شكّل مطلع القرن الواحد والعشرين انطلاقةً فارقةً للدولتين معاً على صعيد النهوض السياسي والاقتصادي.(45). والهدف الرئيس من هذه الرؤية هو تحقيق استراتيجية تركيا الكبرى Grand Strategy، بالتحول إلى قوة دولية مؤثرة بحلول 2023 (الذكرى المئوية لاستقلال تركيا)، وفاعل رئيس ومؤثر في خريطة الشرق الأوسط التي قد يتزعمها من جديد، ذلك حسب توقع الباحث الاستراتيجي الأمريكي “جورج فريدمان” في كتابه “مئة العام المقبلة: توقّع للقرن الواحد والعشرين”.(46)
تعد تركيا بمكانتها الاقتصادية المتقدمة، ودورها السياسي الفاعل، وموقعها كمدخل للغرب وللشرق الأوسط هدفاً مهماً لتوسيع نفوذ روسيا الخارجي، وتفعيل مكانتها الدولية. أما تركيا، فتشترك مع روسيا في تطلعها إلى إحياء مكانتها الإقليمية والدولية التي تليق بإرثها التاريخي، وموقعها الجغرافي، وإمكاناتها الاستراتيجية الكامنة. فهي ترى أنها كانت ولا تزال دولة مركزية فاعلة؛ إذ يقول رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو: إن الدول المركز مثل تركيا التي تحتل موقعاً مركزياً في القارة الأم أفروأوراسيا لا تقبل أن تظل منحصرة في منطقة بعينها، وتغرق بها بل لديها القدرة على النفاذ إلى مناطق أخرى متعددة في آنٍ واحد”. لذا، فهو يرى أنه لا بد من النظر إلى هذا الوضع الجيوبولتيكي كأداة للانفتاح على العالم ضمن خطوات مرحلية من أجل تحويل التأثير الإقليمي إلى تأثير دولي، وبما يسمح لتركيا بصنع سياسات دولية، ومن هنا تعمل تركيا من أجل إحياء مكانتها للحضور السياسي والاقتصادي في العديد من المناطق شرقاً وغرباً، وعلى عقد شراكات مع عدة قوى دولية وإقليمية كبرى، ومنها خصمها التاريخي روسيا.(47)
هناك مصالح عديدة تتطلع روسيا إلى تحقيقها عبر علاقاتها المتطورة الجديدة مع تركيا، منها: مواجهة المخاطر الاقتصادية: إثر مرور الاقتصاد الروسي بفترة صعبة بفعل العقوبات الغربية الصارمة بعد أزمة أوكرانيا، وفاقم مشكلاتها انخفاض أسعار النفط بوصفها أكبر المنتجين في العالم، وفي ظل هذه الظروف تتطلع روسيا إلى تركيا كشريك اقتصادي قد يساهم في إعادة التوازن للاقتصاد الروسي.(48)
ومن هذه الرؤية الجديدة المشتركة بينهما، بدأ العامل الاقتصادي يلعب الدور الفعال في التأسيس لعلاقات استراتيجية تؤدي إلى تقارب سياسي بين الطرفين وتخفيف حدة التوترات فيما بينهما، من خلال التعاون الثنائي في مجال الطاقة وتكنولوجيا الفضاء والتبادلات التجارية(49).
يمكن القول إنه رغم المنافسة الجيوسياسية فإن روسيا تحاول جهدها الاستفادة من العلاقة الجيوسياسية مع تركيا نظراً لأهمية الموقع الجغرافي لتركيا بالنسبة لروسيا فهي ممر إجباري إلى المياه الدافئة، كما أصبحت ممراً برياً للصادرات الروسية لا سيما الغاز إذ إن 19% من تجارة روسيا الخارجية تمر عبر المضائق التركية(50)
من هنا، فإن التحولات الجيوسياسية التي شهدتها دول الجوار الجغرافي، فضلاً عن التطلعات التركية والروسية في منطقة الشرق الأوسط، أعادت قضية التنافس بين الدولتين: الانتفاضات العربية، الحرب الأهلية في سورية، إسقاط الطائرة الحربية الروسية، كلها معطيات كانت نذيراً بمخاطر استراتيجية.(51)
سادساً: أهم القضايا الجيوسياسية في استراتيجية (أردوغان-بوتين)
وقفت موسكو ضد “الربيع العربي” وعدت الثورات العربية مؤامرة من الدول الغربية ضد المصالح الروسية في المنطقة، وعدَّ الكرملين أن الربيع العربي مصدر للفوضى وعدم الاستقرار، وأنه جاء إلى الشرق الأوسط عن طريق أيدي أجنبية متمثلة في الغرب وإثباتاً لهذا قال وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” في شهر أكتوبر 2012″ كان الربيع العربي حصاداً للبذور التي زرعها جورج بوش الابن مع مفهومه “الشرق الأوسط الكبير” و”دمقرطة المنطقة كلها”.(52)
بينما شكّل الربيع العربي اختباراً أو تحدياً كبيراً للسياسة الخارجية التركية القائمة على استراتيجية “صفر مشكلات” مع جوارها الجغرافي. فمن حيث المبدأ، رحب صناع القرار السياسي التركي بتحدي الأنظمة الشمولية. لذا يمكن القول: إن الربيع العربي كشف طبيعة الانقسامات التاريخية بين روسيا وتركيا – بخصوص توسيع مناطق نفوذهما في الجوار الجغرافي، والتأثير في منطقة الشرق الأوسط – الذي ظهر مجدداً.(53)
ومن أهم القضايا الخلافية سورية وليبيا فضلاً عن أوكرانيا وجورجيا وأذربيجان وأرمينيا وصربيا وكوسوفو.
المسألة السورية واستراتيجية بوتين- أردوغان
يمكننا تحديد استراتيجية البلدين فيما يخص المسألة السورية، وفقا للمعطيات الجيوسياسية التي دفعت روسيا لمساندة نظام الأسد بكل ثقلها السياسي والعسكري الذي يعد آخر حليف لها في المنطقة، لأن سقوطه يعني فقدان نفوذ موسكو في المنطقة، لذا استخدمت روسيا أوراقها السياسية كلها لمنع الإطاحة بنظام الأسد حفاظاً على مصالحها ومكانتها الاستراتيجية في سورية، وكذلك للحفاظ على قاعدتها البحرية في ميناء طرطوس على البحر المتوسط، وحسب صحيفة “روسيا اليوم”، وقعت روسيا وسورية في 18 كانون الثاني 2017 على وثيقة تسمح للقوات الروسية باستخدام قاعدة “حميميم” الجوية في اللاذقية لمدة 49 عاماً. هذا يعني نفوذ جيوستراتيجي لروسيا في الساحة السورية.
يشكل موقع سورية أهمية كبيرة لتركيا، فيما يتعلق بعملية السلام في الشرق الأوسط، وكذلك مخاوف أنقرة من النشاط المستمر لحزب العمال الكردستاني في شمال سورية، وتنامي النزعة الانفصالية الكردية، بعد أن أصبحت القضية الكردية عنواناً للعلاقات العدائية بين الدولتين، وصلت عدة مرات الى حالة الصدام.
ومع انطلاقة الثورة السورية، أعلنت تركيا دعمها للمعارضة السورية، وقامت بإيواء آلاف اللاجئين الفارين عبر الحدود. واستضافت اجتماع “أصدقاء سورية” الثاني في إسطنبول في شهر أبريل/نيسان. وفي أغسطس/ آب2011، حذر أردوغان، قائلاً: “وصلنا إلى نهاية صبرنا”. اذ فقدت الكثير من مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في الساحة السورية إثر اندلاع الثورة، والوقوف إلى جانب المعارضة. كما تراجع الدور التركي في سورية مع تعقّد المشهد السياسي، وتدخّل الأطراف الإقليمية والدولية على خط الأزمة، مثل روسيا وإيران وقطر والسعودية، وكذلك “داعش”؛ ما أجهَضَ الاستراتيجية التركية في المنطقة، وأبانَ ضعف سلوكها السياسي مع جوارها الجغرافي، وبالتالي تراجع دورها ونفوذها الإقليمي.(54)
استند الجانب التركي لدى تدخله في سورية والقيام بعمليات عسكرية إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على أنه: “ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينقص الحق الطبيعي للدول فرادى أو جماعات في الدفاع عن أنفسهم في حال اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير لهذه الأزمة لحفظ الأمن والسلم الدوليين”.
وفي هذه الحالة يقوم الجانب التركي بإبلاغ مجلس الأمن بطبيعة هذا التدخل الذي يسعى من خلاله للدفاع عن الأمن القومي التركي، وكانت انطلاقة هذا التدخل بتاريخ 24 أغسطس/آب 2016 بعملية “درع الفرات” بمدينة جرابلس الحدودية حيث دخلت من معبرها الدبابات التركية كقوة دعم لمختلف فصائل المعارضة السورية؛ وقد استطاعت هذه الأخيرة طرد تنظيم الدولة من بلدة الراعي. وفي 2 يناير/كانون الثاني 2018 قامت بعملية في عفرين أطلق عليها اسم “غصن الزيتون” وبالضبط في ريف حلب الشمالي عل مرأى من قوات نظام الأسد. وقد بررت تركيا هذا السلوك أيضاً بالاستناد إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن الهادفة إلى مكافحة الإرهاب الدولي، مع احترام الأراضي السورية التي لا تعمل من خلال هذه العمليات للسيطرة على جزء منها.(55)
في هذا السياق، فإن رؤية تركيا الاستراتيجية المتمثلة في السعي إلى مجال نفوذ عثماني جديد على أساس أن تصبح رائدة في إضفاء الطابع الديمقراطي على دول الربيع العربي، أو الإطاحة بالأسد، أدت إلى سوء تقدير استراتيجي.(56)
وفي هذا الصدد يذهب بعضهم إلى أنه ليس بمقدور تركيا تحقيق النتائج التي تتطلع إليها. وفي الحقيقة، لا يمثل هذا مشكلة لتركيا فحسب؛ إذ تثبت المتغيرات الدولية، والآليات الإقليمية الجديدة أنه لا يستطيع أي طرف إقليمي أو دولي بمفرده – بما في ذلك الولايات المتحدة – أن يقود التحولات بأمان. ولذلك، فإنه إذا كان يعيب تركيا قدراتها المحدودة في هذا الصدد، فإن الشيء نفسه ينطبق على الأطراف الأخرى بالمثل.(57)
من هنا، فإن دعم تركيا للجماعات المعارضة ضد نظام الأسد تتعارض مع مصلحة روسيا في المنطقة، فالأخيرة تدعم المحور الممتد من إيران والعراق مروراً بسورية، على أمل حمايتها من الدعم المقابل لشمال القوقاز المسلمة. هذا يعني اختلاف المصالح والأوليات فيما يخص الصراع السوري. كذلك الحال في القضية الكردية التي تعد نقطة ضعف الأتراك، لجهة العلاقة مع الروس، فبسط أكراد سورية سيطرتهم على شمال سورية من خلال “وحدات حماية الشعب” “YPG“، التي تأسست عام 2011، وأقامت الأخيرة علاقات جيدة مع الروس والأمريكان في محاربة داعش، واستخدم الروس الملف الكردي ورقة ضغط ضد تركيا في الساحة السورية. كلها عوامل قد تصعّد من وتيرة الخلاف بين روسيا وتركيا في المنطقة مستقبلاً.(58)
مع ذلك، يبدو أن هذا التقارب الروسي التركي يمثل زواجاً اقتصادياً أكثر منه تحالفاً سياسياً، لذا، فمن المرجح أن يستمر التقارب بين تركيا وروسيا في المجال الاقتصادي، ولا سيما في مجال الطاقة، لكن من غير المرجح أن يتطور إلى أبعد من ذلك بكثير على الصعيد السياسي، لأن موسكو تعمل للاستحواذ الكامل على سورية، منفردة، أما شراكتها مع تركيا، فقد كانت سياسية بحتة تتعلق بسحب الملف السوري من أدراج جنيف الذي تديره الأمم المتحدة بإشراف أمريكا. أي إلغاء العملية السياسية في سورية، فأسست بالاشتراك مع تركيا عملية أستانا بحجة وقف الأعمال القتالية بين الأطراف المتحاربة، ومراقبة مناطق خفض التصعيد، التي حددت واتفق عليها بين الدول الضامنة لعملية أستانا، روسيا وتركيا ثم التحقت بهما إيران.
وبالنتيجة، فاستمرار الخيار العسكري، وتوسع رقعة الصراع، وتعدد المشاركين فيه، وانتقاله من الاشتباك بين العناصر المحلية إلى صراع مباشر بين القوى الإقليمية والدولية عوامل أصبحت تشكّل خطراً كبيراً على السلم الإقليمي والدولي، وهذا يجعل من الصعب بناء علاقات وثيقة بين موسكو وأنقرة على المدى البعيد.
الصراع الأذري الأرميني على إقليم “ناغورني قره باغ”
يعود الخلاف في هذه المنطقة إلى العام 1988، حيث انهيار الاتحاد السوفيتي وتركه المنطقة في حالة صراع مستمر، ومنطقة “ناغورني قره باغ” الجبلية معترف بها دولياً على أنها جزء من أذربيجان، لكنها تخضع لسيطرة الأرمن منذ توقف الحرب في عام 1994.(59)
تحول الصراع في هذا الإقليم بعد ثلاثين عاماً إلى صراع إقليمي، إذ تدعم روسيا أرمينيا، وتُغذّي الطرفين بالأسلحة، في حين تدعم تركيا أذربيجان، لكن تجدد القتال في نيسان/أبريل 2016، أوقع مواجهات بين الطرفين 18 قتيلاً في صفوف القوات الأرمينية و12 لدى القوات الأذربيجانية بحسب ما أعلن الطرفان اللذان تبادلا الاتهامات بالمسؤولية عن التوتر.(60) ما دفع السكان في مناطق دائرة الاشتباكات إلى النزوح.. وفي غضون ذلك، ظهرت روسيا، فنشر كلا الجانبين أنظمة أسلحتهما على الخط الأمامي للمعركة؛ كواحدة من أبرز الأصوات الدولية التي تدعو إلى وقف القتال بين الجانبين والالتزام بقرار وقف إطلاق النار الموقّع عام 1994، وهو موقف قد يبدو غريباً في إطار مواصلة الروس عمليات بيع الأسلحة لكلا الجانبين اللاهثين وراء امتلاك أسلحة أكثر فتكا تُحقِّق توازن قوى لكلٍّ منهما ضد الآخر، فأذربيجان تريد إنهاء “احتلال” أرمينيا للإقليم، بينما تسعى أرمينيا للاحتفاظ بالوضع الراهن على الأرض. ويُقرأ الحرص الروسي على تزويد خصمَيْ جنوب القوقاز بالأسلحة واحتلالها مرتبة المورد الرئيس لهما رغبة روسية في خلق أداة مهمة تعمل على تعميق النفوذ العسكري لموسكو في المنطقة ومن ثم السياسي، فالروس معنيون لدرجة كبيرة في أن يكونوا قوة رئيسة في السلم بين متنافسي جنوب القوقاز، كما حدث في تفاهمات ما بعد نزاع العام 2016.
أنقرة تضع دعم أذربيجان على سلم أولياتها، فالإشارات القوية لهذا الدعم متواصلة منذ وقع الصراع حول إقليم “ناغورني كاراباخ”، وفي آخر تلك الإشارات تسجل التصريحات القوية التي أكد فيها وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار” رفض بلاده للاشتباكات الأخيرة بين الطرفين إذ قال: “إن ألم الترك الأذربيجاني هو ألمنا، نريدك أن تعلم أن أي نوع من الصعوبات التي تشعرون بها هناك (في أذربيجان) نشعر بها هنا (في تركيا) بعمق شديد.. إن دماء إخواننا الأذربيجانيين لن تبقى بدون انتقام”(61)، واضطر الرئيس الروسي إلى التزام موقف محايد من هذا الصراع. ووصف القتال بين البلدين اللذين كانا جمهوريتين تدوران في فلك الاتحاد السوفياتي قبل عام 1989 بأنه “مأساة” وقال في مقابلة تلفزيونية: “نأمل أن ينتهي القتال في المستقبل القريب جداً، فهناك سكان يموتون، وخسائر ثقيلة في الطرفين”.
ويكمن مأزق موسكو الذي يحول دون تدخلها لصالح أي من الطرفين إلى ارتباطها بتحالف عسكري مع أرمينيا، ولها قاعدة عسكرية في البلاد. في الوقت نفسه تحتفظ بعلاقات وثيقة مع حكومة أذربيجان، ولها مصالح اقتصادية معها، بما في ذلك صفقات كبيرة من السلاح الروسي.(60)
وفي 27 سبتمبر/أيلول 2020، أطلق الجيش الأذربيجاني عملية في إقليم “قره باغ” المحتل، رداً على هجوم أرميني استهدف مناطق مدنية، وتمكّن إثرها، من استعادة السيطرة على خمس مدن آخرها شوشة، وثلاث بلدات وأكثر من مئتي قرية، فضلاً عن تلال استراتيجية.(61)
وبعد أربعة وأربعين يوماً من القتال، أعلن الرئيس الروسي، توصل أذربيجان وأرمينيا إلى اتفاق ينص على وقف إطلاق النار في “قره باغ”، مع بقاء قوات البلدين متمركزة في مناطق سيطرتها الحالية، على أن تتسلم أذربيجان ثلاث محافظات محتلة خلال فترة زمنية لا تتجاوز الأول من ديسمبر/كانون أول، من جانبها قالت عضو الهيئة التدريسية في كلية العلاقات الدولية بجامعة نيشانطاشي التركية، نورشين آتش أوغلو كوناي، إن “توصل تركيا وأذربيجان إلى صفقة مع روسيا التي ترى جنوب القوقاز حديقة خلفية لها في المنطقة، يعبر عن نجاح دبلوماسي مهم، لذلك فإن قبول روسيا وأرمينيا المصادقة على اتفاق وقف إطلاق النار يعدُّ تطوراً هاماً للغاية”. واستطردت قائلة: “وبهذا الاتفاق، أعطت روسيا أيضاً أرمينيا رسالة مفادها: أنا من أنقذك لا الغرب”. وأضافت: “رغم أننا ما زلنا في مواقف متعارضة مع روسيا في ليبيا وسورية، إلا أن التوصل إلى اتفاق حول قضية قره باغ يعدُّ نجاحاً كبيراً ونقطة تحول في دبلوماسية أنقرة”(62).
وخلال السنوات الماضية، سعت تركيا لبسط نفوذها الخارجي بتوغلات في سورية والعراق المجاورتين ودعم عسكري قدمته للحكومة المعترف بها دولياً في ليبيا. وأرسلت بعض مقاتلي المعارضة في سورية إلى أذربيجان ما زاد من تصاعد التنافس الجيوسياسي بين أنقرة وموسكو.
القرم وشرق أوكرانيا صراع تاريخي متجدد
لم تكن الأحداث المتجددة في شبه جزيرة القرم وأوكرانيا، منطقة “البحر الأسود” سوى محصّلة لصراعات دامية سابقة ومتعددة في حقبة “السلطنة العثمانية” و”القيصرية الروسية”، لتكتمل لوحة الصراع الروسي التركي البارد في إعادة تشكيل الخارطة المستقبلية لمجمل القضايا الجيوسياسية في جنوب القوقاز ومنطقة الشرق الأوسط.
تقع جمهورية القرم، وهي رسمياً لم تزل جزءاً من أوكرانيا، في شبه جزيرة تمتد من جنوبي أوكرانيا بين البحر الأسود وبحر آزوف. ويفصلها عن روسيا من الشرق مضيق كيرش. في أوائل عام 2014 أصبحت شبه جزيرة القرم محور أخطر أزمة بين الشرق والغرب منذ الحرب الباردة، وذلك بعد الإطاحة بالرئيس الأوكراني المنتخب (والموالي لروسيا) فيكتور يانوكوفيتش باحتجاجات شابها العنف في العاصمة كييف. عند ذلك، قامت قوات موالية لروسيا بالسيطرة على القرم، وبعدئذ صوّت سكان المنطقة، وغالبيتهم من ذوي الأصول الروسية، في استفتاء عام للانضمام إلى روسيا الاتحادية. لكن أوكرانيا والدول الغربية قررت أن الاستفتاء غير شرعي.(63)
وكانت القرم في الأصل وطنًا مسلمًا تعيش فيه قبائل تركية تعرف باسم تتار القرم. هذه القبائل تابع حكامها الذين أُطلق عليهم اللقب التركي “خان” أي ملك سلاطين الدولة العثمانية، وشاركوهم مغامراتهم العسكرية في البلقان وشرق أوروبا. ولكن في القرن الـ 18 الميلادي، ومع ضعف العثمانيين، وتنامي نفوذ القياصرة الروس، ورغبة الأخيرين في حجز مكان لدولتهم على المياه الدافئة، أصبح القرم بموانئه المطلة على البحر الأسود، محور الصراع الرئيس بين الدولتين العثمانية والروسية. وفي العام 1783، نجح الروس في ضم القرم بصورة نهائية، وكسروا الشائع حتى ذلك التاريخ من أن البحر الأسود بحيرة عثمانية.(64)
وبعد سقوط روسيا القيصرية وقيام الثورة البلشفية في العام 1917 أُنشئت جمهورية القرم الاشتراكية ذاتية الحكم والتابعة للاتحاد السوفيتي. منحت تتار القرم ستة أعوام من الاستقلال الذاتي لشبه جزيرة القرم، وحصلت المرأة التترية على حق التصويت في العام نفسه 1917، وكان ذلك أول بلد مسلم يحقق تلك الخطوة، وكان عدد تتار القرم قد تناقص من نحو ستة ملايين مع غزوة الملكة كاترين إلى أقل إلى ثلاثمئة ألف نسمة مع اندلاع الثورة البلشفية.(65) أي 39% من السكان كانوا من التتار في بداية الحرب العالمية الثانية. وبعد انتهاء الحرب عزز جوزيف ستالين إضفاء الطابع الروسي على شبه جزيرة القرم من خلال ترحيل السكان التتار جماعياً إلى المناطق الداخلية في الاتحاد السوفيتي إلى جانب جماعات مستهدفة أخرى، تحت زعم أنهم تعاونوا مع ألمانيا النازية.(66)
بوتين واستراتيجيات الانقضاض على القرم
وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينيات من القرن الماضي، مُنحت القرم من جديد الحكم الذاتي، ولكن بحدود أبقتها تابعة للحكومة الأوكرانية في كييف. ومع مطلع الألفية الثالثة ووصول فلاديمير بوتين إلى رئاسة روسيا الاتحادية، بات واضحاً أنه راغب في استعادة مزايا القرم الاستراتيجية التي تجعل له نافذة دائمة على البحر الأسود ومن ثم العالم المتوسطي والشرق الأوسط.
وفي أواخر نوفمبر 2013، بدأت في عاصمة أوكرانيا كييف موجة من الاحتجاجات الشعبية عُرفت باسم حركة الميدان الأوروبي، اعتراضاً على إيقاف الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، توقيعَ اتفاقية الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي. وهو ما عدَّه المعارضون ميلاً بالبلاد من يانوكوفيتش المعروف بولائه لبوتين نحو روسيا. في هذا الوقت، أبدى المواطنون الروس في القرم إدانتهم لتلك الاحتجاجات، وتأييدهم سياسات الرئيس الأوكراني. ثم في خطوة تصعيدية، عبرت رئاسة المجلس الأعلى لجمهورية القرم ذاتية الحكم بتاريخ 4 فبراير/شباط 2014 عن رغبتها إجراء استفتاء على وضع شبه جزيرة القرم، تكون الحكومة الروسية هي الضامنة خلاله لحق التصويت.(67)
ولما اشتعلت الثورة الأوكرانية في كييف أواخر فبراير 2013، اعتراضاً على إيقاف الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش توقيعَ اتفاقية الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي. وهو ما عدَّه المعارضون ميلاً بالبلاد من يانوكوفيتش، والمعروف بولائه لبوتين نحو روسيا. وجد يانوكوفيتش نفسه مجبراً على الهرب من العاصمة ناحية موسكو، فانفجرت الأوضاع على نحو كامل في القرم. ووصفت الحكومة الروسية ما جرى لرجلها في كييف بالانقلاب. ثم اندلعت مظاهرات في القرم ضد الحكومة الأوكرانية الجديدة. وفي ليلة 22 فبراير/ شباط 2014، عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اجتماعاً مع رؤساء أجهزته الأمنية اختتمه بإصدار أمره باجتياح القرم عسكرياً وإعادتها إلى روسيا.(68)
أردوغان والاصطفاف خلف الموقف الغربي
أما تركيا، فقد بقيت على الهامش من تلك الأحداث الساخنة، واصطفت كما كان متوقعاً خلف الموقف الأمريكي/ أوروبي المناهض للاجتياح الروسي للقرم. وقد مثلت مسألة تتار القرم، بحمولاتها القومية بالنسبة لتركيا، إضافة إلى العلاقات التركية الأوكرانية، البوابات التي تمكن أنقرة من ذلك النفاذ إلى القرم.(69)
يؤسس خطاب أردوغان لرفض تركي لغزو روسيا القرم، على أساس المخاوف من اضطهاد موسكو للتتار المسلمين الراغبين في البقاء ضمن حدود الجمهورية الأوكرانية. وقد وسع أردوغان هذه السياسة إلى أقصى مدى في العقد الأخير، نافخاً فيها من روح العثمانية الجديدة، وجاعلاً منها الحُجة التي تقفز على الدوام إلى الواجهة لتبرير تحركاته العسكرية في دول الإقليم. وقد استخدمها مثلا في الحالة الليبية، عندما أشار إلى عدم قدرته على السكوت عن نصرة الكراغلة، وهم ليبيون من أصل تركي، بعد أن استنصروه ضد خصومهم في البلد العربي.(70)
قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف: إن موقف تركيا من شبه جزيرة القرم هو أحد الخلافات الكبيرة بين موسكو وأنقرة، مشيراً إلى أن روسيا تنقل وجهة نظرها بصبر إلى الأتراك حول هذا الموضوع. وأضاف بيسكوف للصحفيين إن “العلاقات الروسية التركية مفيدة للطرفين، وتستند إلى مبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام مصالح بعضنا بعضاً”. وأوضح “هناك خلافات في علاقتنا، القرم خلاف كبير، وهنا لدينا وجهة نظر معاكسة تماماً.. سنواصل إبلاغ نظرائنا الأتراك بموقفنا الثابت بشأن شبه جزيرة القرم”. وكان رئيس إحدى لجان المجلس التشريعي المحلي في شبه جزيرة القرم، يوري غيمبيل، قد كشف في وقت سابق، السبب الرئيس الذي يجعل السلطات التركية لا تعترف بالجزيرة على أنها أرض تابعة لروسيا.
وقال غيمبيل خلال مقابلة خاصة مع وكالة “سبوتنيك” إن “السلطات التركية لا تعترف رسمياً بانتماء القرم لروسيا لا لأنها تتضامن مع أوكرانيا الرافضة لقرار عودة الجزيرة إلى روسيا، بل لأن لها أطماعاً في هذه الجزيرة”(71).
لا يمكن القول إن السياسة التي اتبعتها تركيا خلال التوترات التي عاشتها روسيا مع أوكرانيا والمجموعة الغربية من جرائها كانت تشكل تحدّياً للكرملين. فقد عززت تركيا علاقاتها التجارية مع أوكرانيا في هذه العملية، ودعمت تتار القرم في الأوساط الدبلوماسية الدولية. ولاسيما أن ضمَّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا يجعل اليد العليا في حوض البحر الأسود لمصلحة روسيا وضد أمن تركيا، وعلى الرغم من أن الخطوة تهدد بتغيير قواعد اللعبة في المنطقة وتؤثر في التجارة إلا أن تحولها إلى مسألة ذات أبعاد عالمية في التوترات الحاصلة بين الولايات المتحدة وروسيا حال دون ارتفاع صوت تركيا ضد روسيا فيما يتعلق بأوكرانيا.(72)
وبالنتيجة، ازداد التقارب بين تركيا وأوكرانيا، من خلال الزيارات المتبادلة بين الرئيسين التركي والأوكراني خلال العامين الأخيرين ما أدى إلى تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين. ومكَّن تركيا من الضغط على الروس في سورية وليبيا، وإقناعهم بضرورة قبول الوجود التركي في تلك البلدان المنهارة، واقتسام غنائمها. إلا أن عدم اكتراث روسيا بما تثيره تركيا كل فترة حول عدم نيتها أبداً الاعتراف بضم موسكو للقرم، أو إثارتها لقضية الأقلية التترية، لأن ذلك لا يغير شيئاً من حقيقة الوضع على الأرض في شبه الجزيرة. كما أنه يتفهم الأغراض البعيدة لنظام أردوغان من وراء هذه المسألة أو تلك، في الميادين الشرق أوسطية في سورية أو ليبيا. وما دامت تلك قواعد الحرب الباردة، حيث تجنيد المرتزقة، واصطناع الحكومات، والتمترس خلف القوميات، والتلويح بالتحالفات، تساير جنباً إلى جنب حركة تبادل البضائع، وإمدادات الطاقة، وصفقات الأسلحة، فلتستمر إلى النهاية، حتى يستقر المتحاربان على الحصص التي يراها كل طرف منهما عادلة ومرضية.(73)
التدخل الروسي/ التركي في الحرب الليبية
بعد الإطاحة بمعمر القذافي، انجرّت ليبيا إلى حرب أهلية. وظهرت حكومتان متنافستان للسيطرة على ليبيا: الجيش الوطني الليبي في طبرق، بقيادة المشير خليفة حفتر، وحكومة الوفاق الوطني بقيادة رئيس الوزراء فايز السراج. فتدخلت، مصر، والإمارات العربية المتحدة، وفرنسا في أتون هذه الحرب، كما دخلت دول مثل روسيا وتركيا.(74)
وفي أبريل من العام 2019، كثَّف خليفة حفتر تحركاته الهجومية للسيطرة على طرابلس عاصمة الحكومة المعترف بها دوليا برئاسة فايز السراج. بدعم من روسيا عبر شركة واغنر العسكرية الخاصة المملوكة لرجل الأعمال يفغيني بريغوزين وهو من الدائرة المقربة من بوتين. والواضح أن روسيا منذ البدايات تدعم سراً خليفة حفتر.(75) إذ أعلنت تحالفها معه بعد عدة أشهر من إطلاق الأخير عمليته العسكرية على طرابلس، رغبة من موسكو في تأمين موطئ قدم جديد لها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي يتيح لها المزيد من التأثير على سياسات دول الاتحاد الأوروبي. وللحفاظ على دورها في صنع النظام الليبي، كما بدأت مؤخراً بتجنيد مقاتلين سوريين من مناطق سيطرة نظام الأسد وإرسالهم للقتال في ليبيا إلى جانب قوات حفتر.(76)
فيما أرسلت تركيا مستشارين عسكريين مع طائرات مسيرة متذرعة أن مشاركتها المباشرة في الصراع لصالح حكومة السراج جاء بعد توقيع اتفاقية عسكرية تسمح لتركيا بإرسال جنود(77) لتكون هذه الاتفاقية غطاء شرعياً للتحركات التركية العسكرية والسياسية الحالية في ليبيا(78). وقد أشرفت أنقرة على نقل الآلاف من المقاتلين السوريين المتحالفين مع أنقرة إلى محاور القتال حول العاصمة طرابلس، وقد انعكس الدعم بوضوح على واقع الميدان.(79)
في هذا السياق، تلعب أبعاد الأمن والطاقة للمشاركة الروسية والتركية. إذ وجد الأتراك والروس أنفسهم على طرفي نقيض، وكان تدخلهما في ليبيا مع الأطراف الأخرى من أحدث الأمثلة على فشل الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار في ليبيا.
وفي هجومه الأخير، تلقى الجنرال حفتر دعماً عسكرياً من مرتزقة فاغنر الروسية الخاصة، لكن انخراط تركيا النشط في الحرب الليبية إلى جانب حكومة السراج، أعاق آمال حفتر في الاستيلاء على طرابلس. لأن بقاء حكومة السراج يعني مفتاح الوجود التركي في شرق البحر المتوسط، واستفادت تركيا من الوضع الشرعي لحكومة السراج على الساحة الدولية ما يسمح لها بالمطالبة بشرعية الاتفاقات الثنائية التي أبرمت مع حكومة الوفاق الوطني.
لذلك، تعمل تركيا للحفاظ على حكومة السراج في ليبيا بأي ثمن. ومن ناحية أخرى، يبدو أن روسيا تقف إلى جانب خليفة حفتر وتقدم له الدعم في مساعيه للسيطرة على طرابلس. إذ ظهرت مؤشرات على زيادة التدخل العسكري الروسي، عبر “إدخال روسيا طائرات مقاتلة إلى ليبيا لقلب موازين القوى في الحرب الأهلية فيها”، حسب ستيفن تاونسند، قائد القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، الذي عدَّ ذلك خطوة “تمثل تهديداً أمنياً محتملاً لحلف الناتو”. رغم المخاطرة بعلاقاتها مع تركيا، إلا أن روسيا تنأى بنفسها رسمياً عن حفتر وتحافظ على اتصالاتها مع السراج. ويهدف دعمها للجيش الوطني الليبي التابع لحفتر إلى تعزيز موقفه على طاولة المفاوضات. ويُفهم كذلك في إطار الهدف الخارجي الروسي التقليدي، وهو الوصول إلى المياه الدافئة، وبالتالي توسيع دائرة نفوذها في القارة الأفريقية.(80)
ويبدو أن الطرفين، الروسي والتركي، لا يريدان حدوث أي مواجهة عسكرية بينهما في ليبيا، ولو بطريقة غير مباشرة، ولذلك يركزان على كيفية التوصل إلى التهدئة وخفض التصعيد، وإلى توافقات تفضي إلى وقف إطلاق النار في ليبيا، في إطار مخرجات مؤتمر برلين الذي عقد في 19 يناير/ كانون الثاني 2020. ولذلك أكد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ونظيره التركي مولود جاويش أوغلو، على “ضرورة مواصلة تبادل الآراء، حول سبل تطبيع الوضع في ليبيا، ووقف إطلاق النار، وعقد الحوار الليبي بمشاركة الأمم المتحدة”، حسبما أعلنته الخارجية الروسية. وعلى هذا الأساس، جدّدت كل من تركيا وروسيا “التزامهما القوي بسيادة ليبيا واستقلالها ووحدة أراضيها، وأهداف ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه”، وذلك بعد مشاوراتٍ أجراها وفد روسي مع نظيره التركي في أنقرة في 22 يوليو/ تموز 2020 تمخض عمَّا يمكن تسميته توافقاً تركياً روسياً على “تشكيل مجموعة عمل مشتركة حول ليبيا.(81)
ومع ذلك، فإن تأكيد تركيا المتزايد دعم حكومة الوفاق ينطوي على تقليص سيطرة حفتر على ليبيا. علاوة على ذلك، فإن تدخل الإمارات ومصر يعني أن روسيا ليست القوة الوحيدة للتأثير على قرار حفتر. وهذا يقلل من دور روسيا في السيطرة على حفتر الذي لا يزال يعتمد على مصر والإمارات. وبالتالي، فإن تدخل العديد من الدول الأجنبية هو عامل مساهم في إطالة أمد الصراع الليبي.
أخيراً، ما صح في سورية سابقاً يصح في ليبيا حالياً ومستقبلاً، وهو أن جملة المصالح التي تجمع روسيا وتركيا قادرة على تجنيبهما المواجهة، إذ أثبت أردوغان وبوتين أكثر من مرة قدرتهما على المناورة، والتوصل إلى تفاهمات رغم تعارض الرؤى، مع أن ذلك بات أصعب نسبياً من ذي قبل لعدة اعتبارات تتعلق بالعلاقات التركية -الأمريكية والتركية -الأوروبية المتحسنة مؤخراً، وحرص أنقرة على استمرارها بهذا الشكل.(82)
الخلاصة
يبدو أنّ الصراع التاريخي الذي طحن روسيا وتركيا خلال ثلاثة قرون من عمر الإمبراطوريتين، تكاد ظروفه ووقائعه أن تتطابق مع الوضع الراهن، حيث أخذت العلاقات الثنائية التركية الروسية محوراً غير مستقر في الثلاثين سنة الماضية، والسبب الرئيس لعدم الاستقرار يحركه صراع الجذور التاريخية الثنائية بما يحمل من ضغائن وثارات وجروح عميقة متبادلة، خلقت مناخاً يسوده الشك وعدم الثقة بين الطرفين. تحاكي أحداثه أحداثاً سابقة، سياسية، أو عسكرية، مع اختلاف في توصيف قدرة، ودور كل طرف وموقعه. هذا ما دفع الدولتين لينتقلا من حالة الحروب المقدسة إلى حالة المصالح المدنسة.
وعلى الرغم من وجود الأسباب التاريخية الكافية لعدم الثقة بين الطرفين. فإن رغبتهما في التأثير على التوازنات الإقليمية والعالمية المأزومة مع هشاشتها تجبر الطرفين على تعاون إلزامي، وتخلق ملامح التعاون في العلاقات الاقتصادية والتجارية تقارباً بين البلدين.
ومن المتوقع أن تستمر العلاقات باتجاه التهدئة؛ لأن التجاذبات بينهما حول القضايا الجيوسياسية من شأنه زعزعة الأمن الإقليمي والدولي الذي يعاني تصدعاً؛ منذ حادث إسقاط الطائرة الروسية في 24 أكتوبر/تشرين الثاني 2015، ومذبحة الجنود الأتراك في بليون بريف إدلب الجنوبي عام 2020، وأثبتت التجارب أن لدى الطرفين القدرة على ضبط العلاقات الثنائية، وعلى الرغم من التدابير التي اتُّخذت لخفض حدة التجاذب، إلَّا أنَّ بواعث ذلك لا تزال قائمة؛ فتطلعات الطرفين لتحقيق أهداف جيوسياسية، لن تتراجع، وتوجّسُ تركيا إزاء أمنها القومي، لا يزال قائماً؛ ولذلك فإنَّ ما يمكن أن يقوما به يتمثل بالعمل على تهدئة أطول في بؤر الصراع التي تحولت بين الطرفين إلى ساحات مواجهة مثقلة بأعباء التاريخ الدامي والتنافس الجيوسياسي.
ولعل عدم تحول العلاقة بين الطرفين إلى علاقات طبيعية مؤسساتية تعود إلى نزعة كل من بوتين وأردوغان العدائية المتأثرة بتطورات الصراع، فالمنافسة في آسيا الوسطى، والقوقاز أدت إلى نتائج سلبية، وعدم الوصول إلى رؤية مشتركة. أما اضطرابات حوض البحر الأسود وتطورات أوكرانيا والقرم وسورية وليبيا فقادت إلى انهيار النجاحات والأعمال المشتركة المتحققة في السنوات السابقة، لأن العلاقة بينهما تقف على أرضية هشة.
أمام هذه التطورات في العلاقات التركية الروسية، وزيادة نفوذ روسيا وإيران في الشرق الأوسط، إشارات إلى أن المرحلة القادة ستكون صعبة. ويمكننا القول إن تركيا ستحتاج إلى حلفائها الغربيين من أجل تحقيق التوازن.
المراجع
- عبد العزيز محمد الشناوي، أوروبا في مطلع العصور الحديثة، ج1(القاهرة: دار المعارف، 1191) ص (992،995). https://www.kafkas.edu.tr/dosyalar/KAUIIBFD/image/C%C4%B0LT%209%20SAYI%2017/13.pdf
- “ما الدور الذي لعبه الانتصار على الأتراك في حرب 1768-1774 في تاريخ روسيا؟”. https://russian.rt.com/science/article/651788-rossiya-turtsiya-pobeda-dogovor
- المرجع السابق.
- https://dergipark.org.tr/en/download/article-file/406708
- RUSYA’NIN KIRIM’I İŞGAL TEŞEBBÜSLERİ KARŞISINDA ARŞISINDA KIRIM HANLIĞI KUVVETLERİNİN UVVETLERİNİN PEREKOP ZAFERİ (1689).
- )6) https://www.rusempire.ru/rossijskaya-imperiya/vojny-rossijskoj-imperii/449-azovskie-pokhody-1695-1696.html حملات آزوف (1695 -1696)
- المرجع السابق
- مجلـة كليـة التربيـة / جامعة واسط، العـدد العشرون، البحر الأسود بين السيادة العثمانية والتهديدات الروسية في القرن الثامن عشر، م.د فهد عويد عبد، (ص 302)
- S.Creasy,History of Ottoman Turks,P,333-334
- نص المعاهدة C.Hurewitz,The Middle East and North Africa in World Politics, Adocumentary Record ,Second Edition,Volume I European Expansion1535-1914,Yale University Press,1975, P55-56
- العلاقات الروسية -التركية: ثلاثة قرون من التنافس والحروب https://www.bbc.com/arabic/middleeast-51590820
- R.Rywikin, Russia Colonial Expansion to1917,Newyork,1965,P 159
(13) نص المعاهدة J.C.Hurewitz,The، the Middle East and North Africa in World Political Adocumentary Record, P71-75
(14) احمد عبد الرحيم مصطفى، في أصول التاريخ العثماني، بيروت, 1982، ص 164؛ يلماز أوزتونا، المصدر السابق، ج1، ص (624-625).
(15) علي رشاد وعلي سيدي، تاريخ عثماني، إسطنبول , 1327، ص 91-92.
(16) نص المعاهدة M.S.Anderson،The Great Power and the Near East 1774-1923,Document of Modern History, London,1979,P9-14.
(17) علي حسون، تاريخ الدولة العثمانية، المكتب الإسلامي، ص (149) https://archive.org/details/20190915_20190915_2031/page/n3/mode/2up
(18) مجلـة كليـة التربيـة / جامعة واسط، العـدد العشرون، البحر الأسود بين السيادة العثمانية والتهديدات الروسية في القرن الثامن عشر، (ص 309)
(19) HUDÛD: OSMANLI’NIN RUSYA İLE İMTİHANI (1812-1818) HUDÛD: OSMANLI’NIN RUSYA İLE İMTİHANI (1812-1818) https://dergipark.org.tr/en/download/article-file/527078
(20) العلاقات الروسية – التركية: ثلاثة قرون من التنافس والحروب https://www.bbc.com/arabic/middleeast-51590820
(21) НАВАРИ́НСКОЕ СРАЖЕ́НИЕ 1827 https://bigenc.ru/military_science/text/2243202
(22) 190 ЛЕТ НАЗАД БЫЛ ПОДПИСАН АДРИАНОПОЛЬСКИЙ МИРНЫЙ ДОГОВОР https://www.prlib.ru/history/619539
(23) العلاقات الروسية -التركية: ثلاثة قرون من التنافس والحروب https://www.bbc.com/arabic/middleeast-51590820
(24) عبد الكريم غرايبة، سورية في القرن التاسع عشر 1840-1876، معهد دراسات العربية العالية، القاهرة 1962، ص131.
(25) ما كولم ياب، نشوء الشرق الأدنى الحديث، ترجمة خالد الجميلي، ط1 ،1998، ص (.91).
(26) J.C. Hurewitz: The Middle East and north Africa in World Politics; A Documentary Record Vol. I, European Expansion, 1535-1914, 2 ed., London 1975, pp. 315-318،
(27) يبيفانوف فيدوسوف، تاريخ الاتحاد السوفيتي، دار التقدم، موسكو، د.ت، ص341-349.
(28) العلاقات الروسية -التركية: ثلاثة قرون من التنافس والحروب https://www.bbc.com/arabic/middleeast-51590820
(29) أورخان محمد علي، السلطان عبد الحميد الثاني حياته وأحداث عهده، ط4، دار الوثائق، إسطنبول، 2008، ص (96).
(30) محمود ثابت الشاذلي، المسألة الشرقية دراسة وثائقية عن الخلافة العثمانية، 1299-1923م، ط1، مكتبة وهبة، القاهرة، 1989 ص (137).
(31) “محطات رئيسة في العلاقات الروسية–العثمانية والعلاقات الروسية-التركية” https://studies.aljazeera.net/en/node/2565
(32) تاريخ الحروب الدموية بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية https://arabicpost.net/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/history/2020/10/23/
(33) معاهدة موسكو بين روسيا وتركيا في 16 مارس 1921 http://www.doc20vek.ru/node/4149
(34) “العلاقات التركية الروسية.. تقارب وتباعد تفرضهما الظروف الإقليمية والمصالح المشتركة” https://www.dailysabah.com/arabic/politics/2019/01/23/
(35) العلاقات التركية – السوفيتية 1935 – 1925 الدكتور: حنا عزو بهنان، مركز الدراسات الاقليمية / جامعة الموصل.
(36) المرجع نفسه. وانظر أيضاً https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/19448953.2018.1556453?scroll=top&needAccess=true
(37) اتفاقية مونترو https://www.aljazeera.net/encyclopedia/events/2015/12/8/
(38) الأحزاب السياسية والحالة الديمقراطية في تركيا 2002 – 2018، مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات، ص (6).
(39) العلاقات التركية الروسية.. تقارب وتباعد تفرضهما الظروف الإقليمية والمصالح المشتركة https://www.dailysabah.com/arabic/politics/2019/01/23/
(40) الأزمة الروسية-التركية: محددات التاريخ والجغرافيا والتطلعات لأدوار جديدة https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2015/12/20151216184249253628.html
(41) العلاقات التركية الروسية.. تقارب وتباعد تفرضهما الظروف الإقليمية والمصالح المشتركة https://www.dailysabah.com/arabic/politics/2019/01/23/
(42) أرمينيا وأذربيجان.. هل تصبح “قره باغ” بؤرة صراع تركي روسي جديدة؟ https://www.aljazeera.net/midan/reality/politics/2020/7/23/
(43) تركيا وروسيا: التنافس الجيوبوليتيكي والتعاون الاقتصادي في الشرق الأوسط، http://mjais.uomustansiriyah.edu.iq/index.php/mjais/issue/view/2/
(44) العلاقات التركية الروسية https://rouyaturkiyyah.com/research-articles-and-commentaries
(45) القيصر والسلطان.. ما بين الإرث التاريخي والحلم المرتقب https://www.noonpost.com/content/36346
(46) تركيا وروسيا: التنافس الجيوبوليتيكي والتعاون الاقتصادي في الشرق الأوسط، http://mjais.uomustansiriyah.edu.iq/index.php/mjais/issue/view/2/
(47) روسيا وتركيا: علاقات متطورة وطموحات متنافسة في المنطقة العربية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. https://www.dohainstitute.org/ar/lists/ACRPS-PDFDocumentLibrary/document_A1DE8BFA.pd0f
(48) القيصر والسلطان.. ما بين الإرث التاريخي والحلم المرتقب https://www.noonpost.com/content/36346
(49) ملف العلاقات التركية الروسية.. صراع تاريخي ومصالح مشتركة https://www.noonpost.com/content/35971
(50) زيدان ناصر، دور روسيا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من بطرس الأكبر حتى فلاديمير بوتين، بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 0213 ص (411 -411).
(51) تركيا وروسيا: التنافس الجيوبوليتيكي والتعاون الاقتصادي في الشرق الأوسط، http://mjais.uomustansiriyah.edu.iq/index.php/mjais/issue/view/2/
(52) السياسة الخارجية الروسية تجاه العالم العربي على عهد الرئيس فلاديمير بوتين: دراسة حالة الأزمة السورية، نصيرة كريم https://pmb.univ-saida.dz/budspopac/doc_num.php?explnum_id=2447
(53) تركيا وروسيا: التنافس الجيوبوليتيكي والتعاون الاقتصادي http://mjais.uomustansiriyah.edu.iq/index.php/mjais/issue/view/2/
(54) المصدر السايق
(55) فريدة حموم، التدخل العسكري التركي في سورية اللجوء إلى القوة العسكرية في العلاقات الدولية، مجلة اتجاهات سياسية، عدد آذار 2018، برلين المركز الديمقراطي العربي، ص(4-3-2).
(56) تركيا وروسيا: التنافس الجيوبوليتيكي والتعاون الاقتصادي http://mjais.uomustansiriyah.edu.iq/index.php/mjais/issue/view/2/
(57) السياسة الخارجية التركية في ظل التحولات الإقليمية https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2013/12/20131216103336330486.html
(58) تركيا وروسيا: التنافس الجيوبوليتيكي والتعاون الاقتصادي http://mjais.uomustansiriyah.edu.iq/index.php/mjais/issue/view/2/
(59) أذربيجان وأرمينيا: ناغورني كاراباخ وسر الصراع المستمر بين البلدين https://www.bbc.com/arabic/middleeast-54316136
(60) ما هي أسباب النزاع بين أرمينيا وأذربيجان على منطقة ناغورني كاراباخ؟ https://arabic.sputniknews.com/world/201604031018168850/
(61) أرمينيا وأذربيجان. هل تصبح “قره باغ” بؤرة صراع تركي روسي جديدة؟ https://www.aljazeera.net/midan/reality/politics/2020/7/23
(62) لماذا ألقت تركيا بثقلها في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا؟ https://www.bbc.com/arabic/interactivity-54477709
(63) انتكاسة أرمينيا.. قضمت أكثر مما تستطيع مضغه 2047620https://www.aa.com.tr/
(64) بعد انقطاع طويل.. كيف سيعيد ممر ناختشيفان ربط تركيا بدول العالم التركي في آسيا الوسطى؟ https://www.turkeytodey.com/drama/29444/
(65) القرم.. ساحة جديدة في الحرب الباردة بين تركيا وروسيا https://www.turkeynow.news/ottomans/2020/10/28/14474
(66) تتار القرم المسلمون من ستالين إلى بوتين. هل يعيد التاريخ نفسه؟ https://www.noonpost.com/content/27043
(67) ردود فعل تركيا الخافتة على أزمة جزيرة القرم https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/turkeys-muted-reaction-to-the-crimean-crisis
(68) القرم.. ساحة جديدة في الحرب الباردة بين تركيا وروسيا https://www.turkeynow.news/ottomans/2020/10/28/14474
(69) الكرملين يكشف سبب الخلافات الكبيرة بين روسيا وتركيا https://arabic.sputniknews.com/world/202012041047401234
(70) العلاقات التركية الروسية https://rouyaturkiyyah.com/research-articles-and-commentaries
(71) القرم.. ساحة جديدة في الحرب الباردة بين تركيا وروسيا https://www.turkeynow.news/ottomans/2020/10/28/14474/
(72) العلاقات التركية الروسية https://rouyaturkiyyah.com/research-articles-and-commentaries
(73) القرم.. ساحة جديدة في الحرب الباردة بين تركيا وروسيا https://www.turkeynow.news/ottomans/2020/10/28/14474/
(74) الفوضى في ليبيا منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي https://www.france24.com/ar/20190228
(75) المرتزقة الروس “يدعمون حفتر في شرق ليبيا” https://www.bbc.com/arabic/middleeast-49689866
(76) خريطة الصراع في ليبيا المكونات والمستقبل https://www.jusoor.co/public/details/ar
(77) تفعيل” الاتفاق العسكري” مع تركيا.. وتلويح بتدخل مباشر في ليبيا https://www.alhurra.com/libya/2019/12/19/
(78) بنود الاتفاق التركي الليبي في المجال العسكري والأمني، وكالة أنباء تركيا، 21/12/2019 https://tr.agency/news-73374
(79) المونيتور: المساعدات العسكرية التركية قلبت ميزان المعركة في ليبيا لصالح الحكومة الشرعية https://www.turkpress.co/node/70386
(80) عندما تجتمع روسيا وتركيا في ليبيا https://www.alaraby.co.uk/
(81) هل من توافق روسي تركي بشأن ليبيا؟ https://www.alaraby.co.uk/
(82) حدود العلاقة بين تركيا وروسيا في ليبيا https://www.trtarabi.com/opinion3423711/